حين وطئت قدماه أرض تلك البلدة الصغيرة , المجاورة للجبل . كانت الشمس قد غربت , والطرقات المتشعبة بداية ليل طويل , والخريف الباهت الحزين فضاءات ممتدة الشحوب.
لا أحد يعرف من هو هذا المتشرد ؟ ولا من أين جاء؟
كل الذي كان يعرف عنه , أنه رجل تجاوز نصف القرن بقليل , بيد أنه يتمتع بحيوية شاب , وانه انحدر من الجبل المجاور للبلدة .
حتى اسمه وهو (أيوب) قالوا: – « هو ليس اسمه الحقيقي « . نام على طرقات الليل , افترش الأرض تلحفّ الخريف , توسد الغبار .
(أيوب) هل لك نسيان الجبل , ؟ حين ضجيج الشمس يرميك بصخب سياطه الحادة , وحين البرد يندغم في خافقك الحائر , حين الفضاء ذئبا مريب , والأشباح الهلامية تمطرك باللعنات , والدروب اللزجة تتقيؤك جثة متحركة في مغارة رطبة .
هل هذه الطرقات في هذه البلدة أرحم من الجبل ؟ )
قسوة العزلة ومرارة الأيام أيقظا في أعماق ( أيوب) رغبة العمل , فامتهن عدة مهن وفرت له كسرة خبز وعلبة تبغ رديء , ونوما بائسا في فندق البلدة الوحيد.
(أيوب) يقف في أولى الصباحات على ناصية رصيف الشارع العام ,مع ثلة عمال يقتاتون الصبر والانتظار المر .
(أيوب) لايطول انتظاره فمن كان لديه حمّام متعطلة مجاريه فعليه بـ(أيوب) ومن أراد تصليح الأبواب أو النوافذ فعليه بـ ( أيوب) .
كان وهو يعمل يغني بصوت جبلي مشوب ببحة حزن . ومن جرب أن يسأله عن ماضيه أو ما شابه تهرب بكياسة وروى له طرفة .
إثر سنة أو أقل تحول ( أيوب ) إلى مالك لمحل صغير يصنع فيه التوابيت , ومع مرور الزمن أصبح يجيد صنع التوابيت تماما . بعض الأحايين يطالبه ذوو الميت بمقاييس للتابوت , وأحيانا كثيرة يصنع بعضها ضمن مقاييس يعتقدها مناسبة لميت طارئ , يغطي بعضها بألوان بيضاء , سوداء , خضراء , رمادية , ينفث فيها بعضا من أساه المثقل بالجموح .
الصيف رطب وحرون , في الظهيرة يغفو داخل أحد التوابيت إغفاءة مضطربة , ينشله منها وقع خطى النساء العابرات , يرفع رأسه قليلا يتأملهن ويمضي في مج لفافته , يعاود الانشغال بتأمل التوابيت , يبدل أمكنتها وألوانها , ثم يتعالى نشيج صخب روحه بصمت صاعدا باتجاه ما .
كان يدرك أن هذا النشيج صعودا يناديه وأنه ربما لن يتوقف , فيبدو كأنه منذور لدهشة التساؤل , عن الذين كانوا ثم تواروا , بعد أن بعثرهم زحام الوقت , وتناهبت العواصف بقايا ملامحهم ؟
وكيف بات الجلوس معه بين توابيته البلهاء يثير فزع أهل البلدة , فيرمونه بالتحيات المختصرة ويميطون بوجوههم .
كل غروب يغلق عفان الباب الخشبي العتيق على التوابيت , ويمضي يعبر دروب الليل الفارغة إلا من الجرذان والغبار , مهموما مثقل الخطى كسير الفؤاد , يدخل غرفته المجاورة للمقبرة . وحيدا إلا من ظله الذي يتوارى رويدا رويدا , حتى الطيور المهاجرة ليلا تعبر سردابه دون نعيب أو هديل صمت جارته المقبرة يزيده بؤسا ويأسا ووحشة وعزلة مدمرة .
(وحيد أنت (يا أيوب), معظم من هنا ينعم بالطمأنينة , الأموات يغفون برقاد مريح , والأحياء يحلمون بقمر أرجواني , والقبل العذبة تمنحهم الدفء , وحدك (يا أيوب ) عالم من ازدحام الوحشة , والهذيان المتقطع , نزفك منهمر أمام بوابة موصدة فالعق جراحك وحيدا ) .
وسط وحدته المروعة تلك يبحث ( أيوب ) عن وليف أي وليف , كلب ينبح , هرة تموء .. تغير إيقاع قلبه المهدود من التعب , أو صوت إنسان ما , قد ينشله من هذياناته , أو يوقظه من كوابيسه .
يود (أيوب) زيادة عدد الموتى لا لبيع التوابيت ولاحبا في موت الناس, بل لأن فرصته الوحيدة في التحدث إلى الناس , كانت في السير مع الجنازات حيث يفتعل الأسئلة كأن يقول : – «هل كان المرحوم يعاني من مرض ما ؟ …, كم لديه من الأولاد ؟ … ».
أما الأعراس فلا أحد يدعوه إليها , وهو يكابر في الذهاب دونما دعوة , رغم شوقه الجارح لرؤية امرأة ما , تهز أردافها إذ ربما بادلته ضحكة , أو ابتسامة ما .
(لو أن امرأة معك الآن يا أيوب , لوسدتها ذراعك وقصصت عليها الحكاية , وقبّلتها بعمق ودفنت رأسك في صدرها وبكيت , وربما ضحكت طويلا , امرأة يا أيوب امرأة , تمنحك رقة الدفء والأمان , تعيد لخافقك بهجة الحبور به , تهبك متعة لعبة الحياة , وتنهي خيبة الصحوة من رجفة ليلية تأتيك مرة أو مرتين في الأسبوع , تطلي جدران سردابك المعتم بابتسامة ندية , تعيد لحلقك طراواته بشهد رضابها ) .
تنهد … امرأة …, ؟ تناول كوب ماء, خلسة انتفضت أوصاله أو كادت .
بغتة داهمته صورة الأرملة (ليلى), فتذكر رؤيته لها .. , حين كان في أيامه الأولى في هذه البلدة , وكان قد ذهب لإصلاح باب بيتها الخشبي العتيق حينها قالت له : – «أرجو أن تحكم إصلاحه , أنا امرأة وحيدة يا أيوب , والدنيا خوانة» .
ثم قدمت له كوب شاي وقالت : – « تعال أقرأ لك كفك , على الرغم من أني لا أقرأ أكف الرجال , إلا أكف النسوة , تعال لنجرب ( الودع )» .
بأصابعها الناعمة رمت حبات (الودع) فوق البساط الأحمر , وانبعثت رائحة البخور الممزوج بوريقات الدفلى اليابسة , ورأت ما رأت , لكنها أبت أن تحدثه عن نجمة قلقة في سماء حياته لا تأفل أبدا .
بعض ماقالته علق في ذاكرته والآخر غاب , لكن الأهم أن صوت (ليلى) وجه (ليلى) الحنطي , بحة صوتها المميزة , قامتها الممشوقة بعينيها السوداوين , ثم تذكر مرورها شبه اليومي , من أمامه حين تميل برأسها متوارية خلف حياء غامض .
لام ذاته كثيرا وغمغم : – «كيف لم انتبه لذلك , حسنا سأجرب صباحا اقتراح الزواج , ستوافق حتما , هي امرأة وحيدة وأنا رجل وحيد» .
دب خدر هادئ عذب في جسده , خدر لم يألفه من قبل.
احتضن الحلم ونام , كان ذاك الحلم أعذب حلم يندس معه , فيما مضى كانت أحلامه من زبد وسراب وخيبات , وطيور مهاجرة لجهات مجهولة العناوين . ليست هذه الليلة ثقيلة أو رتيبة كما اعتاد عليه من ليالي سابقة , وليس ثمة ما يستدرج الكوابيس . لعّلها الليلة الوحيدة التي ينام فيها بعمق منذ الخطوة الأولى التي وطأت بها قدميه أرض هذه البلدة .
في الصباح قرعوا بابه , قرعوه طويلا , ثلاثة رجال طوال , فضوا بكارة حلمه اليتيم , سلبوه لذة الرقاد .
قال أحدهم : – « ليست عادتك أن تنام إلى هذا الوقت يا ( أيوب ) , أمشِ معنا نريد تابوتا .
همهم ( أيوب ) : « من الذي مات هذا الصباح ؟»
فيما مضى لم يكن يسأل عن الميت وهكذا طلب لايهزه , إلا انه حينها وفي تلك اللحظة شعر بساطور حاد يشطره شطرين .
بصوت شبه متحد قال الثلاثة : – «هيا يا أيوب نريد تابوتا لليلى».
: – «ل ..ل.ي… ى» . وبالكاد رمى جسده على الجدار , وانهمر من عينيه الدمع حارقا .. حادا .. مخذولا , ناح طويلا فأثار دهشتهم .
( أيوب أيها الغريب .. الطريد .. المنسي .. المهزوم .. المأزوم , ليس لك أي شيء في هذا العالم ولن يكون , حتى توابيتك ليست لك . )
بصعوبة اتجه نحو المحل , حمل فجيعته , وتلاشي رمقه الأخير , وبدا كأنه واقف على برزخ الروح .
إلا أنهم حين حاولوا وضع ليلى في التابوت كان التابوت محكم الإغلاق ومن جميع الجهات .
أحمد عساف / قاص من سورية