“… لماذا يمصُّ الشقيقُ دمَ شقيقه بلا رحمة؟ ”
( غرف متهاوية: ص 245 – 246)
1 – من عقدة أوديب إلى عقدة الأخوة:
في دراسة سابقة ومنشورة1، انطلقت من افتراض أنه على عكس أسطورة أوديب، يبدو أن علاقة الطفل بأبويه ليست هي العلاقة التي تبوؤها القصة الدينية الصدارة، وأن ثالوث: الطفل / الأم / الأب ليس هو الثالوث المستهدف في قصة النبي يوسف. وإذا كان صحيحا أن العلاقة بالأبوين حاضرة في هذا المحكي، فإن الأبوين معا( الأم / الأب) يشكلان عنصراً واحداً لا عنصرين كما في أسطورة أوديب، وأن هناك عنصراً ثالثاً آخرَ لابد من أخذه بعين الاعتبار، وعلاقة الطفل بهذا العنصر الثالث هي العلاقة التي يبوؤها المحكي الصدارة. وهكذا، فإن عناصر الثالوث في قصة النبي يوسف أعم وأشمل، إذ لا يحصرها في علاقة الطفل بأمه وأبيه، بل يوسعها لتشمل عناصر أخرى، العلاقة بها أخطر وأهم في الوقت نفسه، فالثالوث الأكبر، وربما الأصلي، لابد أن يتألف من هذه العناصر: الطفل / الأبوان / الإخوة. وواضح في هذا الثالوث الجديد أن النزاع أو الصراع واقع بين يوسف وإخوته، لا بينه وبين أبيه، فلابد أن نلاحظ أن محكي يوسف يبدأ بحدث عنيف، ولم يكن مصدر هذا العنف إلا الإخوة..
2 – من سؤال الأخ إلى سؤال الأخت:
وخلصت في تلك المحاولة إلى أن العنف مصدره ليس شيئا آخر غير الإخوة: هؤلاء الذين يرغبون في الشيء نفسه، ويتصارعون من أجله، وقد يمارسون القتل أو الإبعاد ضد بعضهم البعض. وهنا لا بد أن ننتبه إلى أن موضوع الحب في قصة يوسف ليس هو الأم، بل إنه الأب، رب العائلة : فقد لاحظ الإخوة في البداية أن يوسف وأخاه أحب إلى أبيهم منهم، ثم قرروا بعد ذلك أن يقتلوه أو يقوموا بإبعاده من أجل أن يخلو لهم وجه أبيهم، وأن ينفردوا بحبه بعيدًا عن هذا المنافس القوي، الطفل المحبوب، الذي أبوا إلا أن يدفنوه، ولو رمزيا، في غياهب جبّ بعيد.. وسجلنا أن مفهوم ” عقدة الأخوة ” مفهوم مستبعدٌ أو ثانوي في الفكر النفساني، على الرغم من وجود العديد من النصوص السردية، من مختلف أجناس السرد وأنواعه، التي تضع الصراع بين الإخوة في مركز الصدارة..
وسجلنا أن سؤال الأخوة الذي لم نلتفت إلى أهميته في التراث السردي( الديني، الأدبي..)، حاضرٌ في الآداب الحديثة، وخاصة في جنس الرواية الذي يحتل الصدارة اليوم: نستحضر رواية الكاتب الفرنسي دو موباسان: بير وجان، ورواية مواطنه ألكسندر دوما: السيدة الشاحبة، ومواطنهما اليوم ماكس جالو في روايته: قايين وهابيل، الجريمة الأولى، ورواية الكاتب اليوناني كازانتزاكي: الإخوة الأعداء، ورواية الروائي المصري نجيب محفوظ: أولاد حارتنا؛ ورواية الكاتب الجزائري محمد ديب: هابيل، ورواية الكاتب البرتغالي ساراماغو: قايين، ورواية الكاتب السوري فواز حداد: السوريون الأعداء…
لكن بقي هناك دوماً سؤالٌ مؤجَّل: ماذا عن الأخت في كلِّ هذا التراث السردي؟ ولاحظت أن لا حديث عن أخت أو أخوات في قصة النبي يوسف، لكن بالمقابل، يمكن أن نسجل أن الأخت كانت موضوع الصراع في حكاية قابيل وهابيل، تبعاً لبعض التفسيرات، وأنه من الضروري أن ننتبه إلى دور الأخت في التراجيديا الإغريقية (أنتيغون أفضل مثال)، وهل يمكن أن نغفلَ ذلك الدور الخطير الذي تؤديه أخت شهرزاد في ألف ليلة وليلة؟ وكنت دائما ما أسأل أصدقائي من أهل الأدب والفلسفة: هل تحولت علاقة الفيلسوف نيتشه بأخته إلى عملٍ روائيٍّ؟
وحتى في الرواية العربية الحديثة التي جعلت من الصراع بين الإخوة موضوعتها المركزية، لم ألاحظ حضوراً لافتاً للأخت، على الأقل في النصوص التي قرأتها: ففي دراسة ستنشر قريبا، أحاول النظر إلى رواية: أولاد حارتنا( 1959)، للروائي المصري نجيب محفوظ، من منظور آخر؛ فهي موضوع العديد من القراءات والدراسات والتعليقات، لكنها في أغلبها، إن لم يكن في كلها، لم تلتفت إلى أن نجيب محفوظ ينتقل بنا من سؤالٍ كان مركزيا في رواياته السابقة: سؤال الأب(وثلاثيته أفضل مثال) إلى سؤالٍ آخر أضحى، ربما، هو الأكثر أهمية: سؤالُ الأخ. ففي هذه الرواية، يتعلق الأمر بعائلة مصرية، عائلةٌ ربُّها هو السيد الجبلاوي، والصراع الأساس الذي يميز هذه العائلة لم يكن بين الأب والأبناء، بل الصراع بين الأبناء، وإن كان الأب/ رب العائلة هو سبب هذا الصراع، لأنه فضَّلَ الابنَ الأصغر على الابن الأكبر. فالصراع لم يعد بين الأب والابن، ولم يعد موضوع الصراع هو المرأة / الأم، بل إن الصراع الأساس هو بين الأخ وأخيه، وموضوع الصراع هو الأب: مَن مِنَ الإخوة يستحق أن يكون وريثاً للأب، وأن يتولى بالإدارة والرئاسة إرثَه المادي والرمزي؟
وهكذا، فالصراع في هذه الرواية العربية كان بين الإخوة من الذكور، وأساساً بين أدهم وإدريس، وكأن لا دور أو مكان للأخت في هذا الصراع. ولكن ماذا عن الأخت في عوالمنا التخييلية؟ ماذا عن صراع الأخوات في رواياتنا العائلية؟ ماذا عن سؤال الأخوة في الرواية النسائية العربية التي عرفت نمواً كبيراً، على مستوى الكم والكيف، في العقود الأخيرة؟
3 – الرواية النسائية: من سؤال الرجل إلى سؤال الأخت
غُرف متهاوية، عنوان الرواية التي نشرتها مؤلفتها الكاتبة الكويتية الدكتورة فاطمة يوسف العلي سنة 2018، وهو عنوان يبدو لي مضلِّلا، لأنه أوحى لي في البداية بأن الأمر يتعلق، كما في العديد من الروايات النسائية، بتلك الفضاءات الحميمية التي تربط بين المرأة والرجل، وبالتالي، فالسؤال المركزي لن يكون إلا سؤال الرجل، وأن العلاقات الحميمية المتهاوية هي موضوع هذه الرواية. وهذا صحيح إلى حد ما، فقد بقي سؤال الرجل حاضراً في هذه الرواية، والانحياز إلى قضايا المرأة قد لا تخلو منه فقرات مهمة من الرواية، وإن كانت لا تخلو من نقد للمرأة نفسها، والمثقفة أساسا، وخاصة عندما يتعلق الأمر بحياتها / بحكايتها العائلية: ” المثقفات فاشلات في الحياة الأسرية “3؛ ومع كل ذلك، فإني أفترض أن هذه الرواية تنتقل بنا، ربما لأول مرة في الروايات النسائية، وخاصة ذات النزعة النسوانية، من سؤال الرجل، ذلك الخصم التاريخي، إلى سؤال الأخت؛ فلم يعد الصراع بين المرأة والرجل هو الذي يتصدر المشهد، بل هو: صراعٌ بين أختين، وموضوع الصراع هو الأب، هو ميراث الأب، المادي والرمزي، تماما كما في رواية نجيب محفوظ، لكن الصراع هنا هو بين أختين لا بين أخوين. ومرة أخرى، فالصراع هنا أيضا بين الأخت الصغرى والأخت الكبرى، لكن الأولى هي التي تسعى إلى تدمير الثانية من أجل أن تستفرد بالميراث المادي للأب، في حين تحرص الأخت الكبرى على النظر إلى الأب باعتباره قيمة عليا، وميراثا رمزيا لا ينبغي لنا تشويهه أو تدميره: ” كيف يصل الابن إلى الجحود بأبيه من أجل المال؟ “(4).
كانت نجمة، الكاتبة الروائية المتألقة، تعيش حياة الرفاه والهناء والنجاح، إلى أن حدث ما لم يكن في الحسبان: قدوم أختها من تركيا تطالب بحقها من ميراث أبيها الثري؛ وهي أختها غير الشقيقة التي أنجبها أبوها من امرأة أخرى، وكان حريصا على أن يرسل إليها، هي وأمها، مبلغا ماديا محترما بداية كل شهر.. حلت الآن بأرض الكويت لتطالب بحقها من ميراث أبيها المادي، من أجلها ومن أجل أمها المسنة. وهي من أجل ذلك كانت مستعدة لاستعمال كل الوسائل، لأن الغاية تبرر الوسيلة في نظرها. لم يكن يهمها الأب باعتباره ميراثا قيميا ورمزيا، بل جاءت أساسا لتحجر عليه ولتقاضيه في المحاكم على غير عادة الأبناء: تتساءل نجمة: ” كيف نطالب والدنا بالميراث وهو على قيد الحياة؟ “(5)؛ وإذا هي فشلت قضائيا، فإنها كانت مستعدة من أجل قتل الأب وتصفيته، ونفذت فعلا محاولة باءت بالفشل. ولم تكن تهمها الأخوة بوصفها قيمة عليا، وهي مستعدة لتدمير أختها نجمة من أجل الوصول إلى هدفها: الاستيلاء على ميراث الأب؛ ولذلك ستحاول إغواء زوج أختها وتدميرهما عائليا، وستستخدم إحدى صديقات أختها من أجل الانتقام منها، كما ستشجع مستخدميها في التجارة على الفساد من أجل تدميرها اقتصاديا.. وبالجملة، ” ارتدت أرشيدان قناعاً من أخوة، وأخفتْ به عداءً سافراً، الطعنة ستكون لا شك غادرة وغائرة ومن حيث لا تحتسب.”(6).
ولا بد في هذا الإطار من تسجيل ملاحظة تتعلق بمعنى الأخوة في هذه الرواية، فالأمر لا يتعلق بالأخوة في معناها الضيق فحسب: فإذا كان صحيحا أن الصراع الأساس هو بين الأختين غير الشقيقتين( نجمة / أرشيدان )، فإن هناك حكايات متوازية توسع من معنى الأخوة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالصداقة، فلم تكن نجمة تتصور أن تتحول صداقتها مع نوال التي عمرت سنوات غير قليلة إلى عدوانية وعنف وإرادة في القتل والتدمير. ولذلك خلصت الشخصية المحورية في الرواية، نجمة، إلى ” أنها على يقين بأن ما يحاك ضدها ليس وراءه إلا مصدر واحد، نبع واحد، هو العداء الخفي وراء ستار صداقةٍ أو أخوة( التشديد هنا من عندي)”(7).
والأوسع من معنى الصداقة، تلك المكانة التي احتلتها مسألة العراق والكويت في هذه الرواية، كأن هذه المسألة السياسية هي الوجه الآخر لتلك المسألة العائلية بين الأختين: نجمة وأرشيدان.ففي نظر إحدى شخصيات الرواية: ” لم ينس صدام أن يؤكد لضيوفه الأجانب…، قبل قيامه بغزو الكويت، أنه ظل طوال السنوات الثماني درعاً حقيقياً يحمي الاخوة العرب من الخطر الفارسي، وأنه ينتظر من أثريائهم أن يساعدوه على سداد ديون بلاده”(8)؛ لكن نجمة، الشخصية المحورية في الرواية، تعبِّر بشكلٍ أفضل، وفي سياقٍ آخر، عن هذه العلاقة الأخوية، وعن الأصول المشتركة بين العراق والكويت، عندما تقول: ” إني أحب العراق منها أمي وخالتي، إني أحب العراق كما أحب الكويت.”(9).
وهكذا، يبدو كأن الأخوة هي المسألة الأساس، هي المُرَكَّبُ العٌقَديُّ الذي يتكون من هذه العناصر كلها، فردية وعائلية واجتماعية وسياسية..، وإذا كانت نجمة هي الوجه الأكثر تعبيراً عن وحدة الأخوة وتضامنها، فإن شخصية أرشيدان قد تكون هي الوجه الأكثر تعبيراً عن ذلك الوجه المتفكك للأخوة: ” أرشيدان تعيش مع والدتها المسنة في تركيا، لا تتبادل الزيارات مع أفراد عائلتها المتناثرة كشظايا الريح في الكويت والعراق وتركيا، والدها وأسرتها الصغيرة في الكويت، أعمامها بالعراق، ووالدتها بتركيا.”(10).
4 – الأخوة هي تلك الغرف المتهاوية في الداخل:
تلك الغرف الداخلية التي ترمز إلى الصداقة والأخوة هي التي يبدو لي أنها تتهاوى بداخل الشخصية المركزية في هذه الرواية: نجمة؛ فالآثار النفسية للطعنات التي تلقتها نجمة من أختها أرشيدان ومن صديقتها نوال هي التي كادت تدمر غرفاً في الداخل هي الأكثر أهمية وخطورة: تلك الغرف الداخلية التي نحتفظ فيها بالإخوة والأصدقاء، لأنهم يمثلون بالنسبة إلينا شيئا غاليا وثمينا. ولأن الأمر يتعلق بهذا العداء غير المفهوم وغير الطبيعي الذي تتلقاه أخت من أختها ومن صديقتها، فلذلك سيحتل التحليل النفسي للشخصيات وتقنيات تمثيل الحياة الداخلية مكانة مهمة في هذه الرواية، على مستوى السرد والكتابة.
وكما في كل رواية تستهدف تمثيل الحياة النفسية لشخصياتها التخييلية، نجد في رواية فاطمة يوسف العلي أحلاماً ومحكيات نفسية ومونولوجات داخلية، من مختلف الأشكال والأنواع، لكني سأقف قليلا عند شكلين أساسيين في هذه الرواية:
أ – المحكي النفسي: هو خطاب السارد بضمير الغائب عن الحياة الداخلية للشخصية الروائية، وهو تقنية سردية ضرورية للسارد في استكشاف الحياة النفسية للشخصيات التخييلية. ويعني هذا من جانب أن المحكي النفسي هو محكي الأنشطة النفسية لهذه الشخصيات، كما يعني من جانبٍ ثانٍ أن المحكي ينتسب في صياغته الخطابية إلى السارد لا إلى الشخصية. ومحكي الأنشطة النفسية غير اللفظية هو أحد أهمّ أنماط المحكي النفسي، لأنه محكيّ الأنشطة النفسية التي لا تستطيع الشخصية نفسها أن تصوغها صوغا لفظيا، فهي تعرف هذه الأنشطة لكنها لا تستطيع أن تعبّر عنها، لأنها أنشطة صامتة وملتبسة وغامضة، ذات طبيعة غير لفظية، تعيشها الشخصية ولا تعبّـر عنها لفظا، تعبّر عنها بلغة أخرى غير لفظية، قد تكون لغة الحركة والجسد.. وهكذا، فإن أهمية هذا المحكي النفسي تعود إلى أنه يأتي ليؤدي دور الوساطة السردية بالنسبة إلى مجال في الحياة الداخلية للشخصية يحتاج إلى هذه الوساطة، خاصة وأنه في هذا المجال المنفلت المجهول تتواجد الدوافع السّرّية لسلوك الأفراد والجماعات، فهو محكي نفسي يؤدي دوراً هامّـاً في رسم شخصيات قدراتُها في القول والتعبير غير ممكنة أو محدودة ومقيَّـدة، وتحتاج إلى وساطة سردية في شكل تحليل متقطّع للدوافع السرية التي تفسّـر حركات الشخصية وكلماتها ومشاعرها.
ومحكي الأنشطة النفسية غير اللفظية حاضرٌ في هذه الرواية باعتبار أن ما تتلقاه الشخصية المحورية من أقوال وأفعال عدوانية من أقرب الناس إليها( الأخت / الصديقة)، هو شيء يصعب تصديقه، ويتعذر التجاوب معه بواسطة الأقوال والألفاظ، وقد يكون مستحيلا التعبير عنه قولا ولفظا، ولا بد من سارد وسيط ينقل كيف يتفاعل الجسد مع أقوال وأحداث غير قابلة للتصديق( مطالبة الأب بالميراث، وهو حيٌّ يُرزَق؛ محاكمة الأب من أجل الميراث؛ محاولة قتل الأب والأخت؛ سقوط الزوج في شباك العوتين: الأخت والصديقة؛ موت هاتين الأخيرتين في حادثة سير..).
وهذه نماذج من تلك المحكيات التي تنقل أنشطة نفسية غير لفظية يجري التعبير عنها جسديا، فالشخصية لم تجد كلمة للتعبير عمّا يحدث في عالمها الداخلي، لكن حركاتها وأفعالها الخارجية تفضح ارتباكها واضطرابها، والسارد حاضر هنا ليلتقط من الأنشطة الحركية الجسدية ما يعكس تلك الأنشطة النفسية الداخلية:
– ” نجمة مشحونة بألم من نوع خاص، بدا في نظرتها إلى السماء التي يحجزها سقف الصالة بالبيت، فركت أصابعها ومسحت بها عينيها، كأن دموعا في طريقها للسقوط، لكن لم تكن هناك دموع، بسطت كفيها وقبضتهما، تحسست وجنتيها، كانت كمن يبحث عن لكمة ضغينة، تركت أثرها البالغ في بياض الوجه، أو كمن بات على حافة الغثيان من كرب لا يفارقه..”؛(11)
– ” بكت نجمة صداقة عمرها من عمر النضوج والاكتمال، بكت أخوة شاردة لم يلم شملها ود أو صلة رحم، بكت زمنا من الوجع..”(12)؛
– ” ركلت نجمة بطرف قدمها منضدة كانت أمامها، خبطت بقبضة مغطاة بالعناد والتحدي جدار الحائط بشدة..”(13).
ب – المونولوج المسرود: هو خطاب الشخصية الذهني الذي تكفّل به خطاب السارد، فهو من التقنيات الأساس المستعملة في تشخيص الحياة الذهنية و النفسية للشخصية الروائية في سياقٍ بضمير الغائب، وهو أكثر أشكال المونولوج الداخلي تعقيدًا، لأنه يشير إلى انتماء الكلام إلى المحكي – كلام السارد – كما ينتمي إلى الاقتباس – كلام الشخصية.
وإجمالا، يسمح المونولوج المسرود بالحدّ من سلطة السارد بضمير الغائب وهيمنته، ويحوّله إلى سارد أكثر قرباً من الشخصية، وأكثر تعاطفـًا معها، وهو ما يجعل الخطاب يأتي مزدوجاً متداخلا، يجمع بين السارد والشخصية في الوقت نفسه، كأن الخطاب لا يمكن أن يكون إلا ثنائيا لا أحاديا، أي مزدوج الصوت.؛ كما في هذه الفقرة الجديدة التي، من دون أي كلمات تمهيدية، تنقل خطابا يتداخل فيه صوت السارد وصوت الشخصية:
“هل كان ما فعله سالم بنجمة صفعة لا تغتفر؟ كيف سقط في براثن تلك الخائنة للصداقة والعشرة؟..”(14).
ويسمح المونولوج المسرود بنقل الحياة الداخلية كما تجري بالضبط، فيترابط ما تقوله الكلمات والتراكيب مع الطريقة التي تقال بها، كأنما هو نقل موضوعي للأفكار الداخلية، للإيقاع الداخلي الذي يكسو الكلام؛ كما في هذا المقطع:
” .. كيف تغفو عيناه على سنة من غفلة، فيروم الى امرأة متورمة بالشر؟ كيف لرجل يجمع بين نصفين، نصف من رقة ونصف من رقي أن ينطلق الى نزوة عابرة مع صديقتها؟ ألم يكن يسأل نفسه ماذا لو افتضح أمره؟ لماذا سمح لنفسه بأن يخونها مع صديقتها؟ كان الأمر أهون إذا كانت الخيانة مع غيرها.”(15).
ويتميّـز المونولوج المسرود ببنيته الانفعالية، ولهجته الحميمية، ولغته المضطربة المتقطعةّ، فهو يقدم فيضاً من الاستفهامات والتعجبات والتكرارات والبياضات والانقطاعات المفاجئة والتلميحات والإضمارات… وهو بهذا يسمح بإبراز النفس المضطربة والفكر المبلبل والشرخ الداخلي؛ كما في هذا المثال:
“استجمعت نجمة قوة أعصابها.. كانت الدموع تتساقط من عينيها وهي تركب السيارة وعلياء تتبعها، لماذا يمص الشقيق دم شقيقه بلا رحمة؟ التهديد بالقتل واضح، لكن من المقصود؟ من الهدف؟..( التشديد من عندي).”(16).
5 – ما نريد أن نسجله في نهاية هذه المحاولة هو أن سؤال الأخوة، الذي نفترض أنه جديد في الرواية النسائية العربية، هو سؤال يستحق، من منظور النقد النفسي، الاهتمام والدرس، لأنه يجعلنا نلتفت إلى خصائص أخرى في النصوص الروائية خاصة، والنصوص السردية عامة، سواء على مستوى الحكاية أو على مستوى السرد والكتابة.
الهوامش
1 – حسن المودن: ” قراءة نفسانية في قصة النبي يوسف، عقدة الأخوة أولى من عقدة أوديب”، العدد 10، المجلد الثالث، خريف 2014، ص ص 37-47.
2 – فاطمة يوسف العلي: غرف متهاوية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2018.
3 – نفسه، ص278.
4 – نفسه، ص 238.
5 – نفسه، ص 120.
6 – نفسه، ص 245.
7 – نفسه، ص 266.
8 – نفسه، ص 64.
9 – نفسه، ص 287.
10 – نفسه، ص12.
11 – نفسه، ص120.
12 – نفسه، ص 284.
13 – نفسه، ص 269.
14 – نفسه، ص 233.
15 – نفسه، ص 226.
16 – نفسه، ص 243 – 244.
حسن المودن