كان الذي قادني إلى الروائي الاديب جبرا ابراهيم جبرا، سؤال حائر لم أجد له جواباً، مفاده، كيف يمكن لكاتب أن ينجز كل تلك الكتابات المترجمة والمؤلفة في وقت واحد؟
كنت قد قرأت ترجماته لشكسبير ورواياته وقصصه وترجماته للكتب النقدية ومقالاته وأشياء كثيرة أخرى ينجزها وكأنه يملك عشرة أذرع وعشرة عيون، وصرت أتحرق لمعرفة السر .
وذات يوم، رأيته مصادفة يتجول قرب بيته في المنصور، سلمت عليه بحرارة وقدمت له نفسي، كان ذلك في أوخر السبعينات على ما أظن، وأتيح لي أن أسأله من فوري :
ـ ألديك وقت للراحة ؟
فضحك وقال :
ـ لكل شيء وقت، ومع ذلك فأنا خرجت لدقائق لاشتري بعض المخللات (الطرشي)، لكن ليس الطرشي هو غايتي وانما التغيير !
وكأنه شعر بأنني قطعت عليه مشواره قال :
ـ زرني في مقر عملي واجلب معك قصة قصيرة غير منشورة،لأنشرها في مجلة (العاملون في النفط) التي اشرف على اصدارها .
زرته بعد أسبوع، فوجدته في غرفة صغيرة جدا ولكنها أنيقة، كان يعمل ويتحدث معي، وبسرعة التهم قصتي كأنها قطعة حلوى، وضعها جانبا وقال :
ـ جميلة، سر جودة الكتابة يكمن في التجربة والقراءة !
لكنني لم أعثر على جواب مقنع لسؤالي الحائر، فالرجل يعمل في دائرة ويتحدث ويقرأ فكيف لا نجد متسعاً لإنجاز أعمالنا بينما يجدها هو ؟
ثم تواصلت معه عبر القراءة دون اللقاء، حتى بداية الثمانينات حين كان حكما في رواية لي مرشحة للفوز في مسابقة محلية، وكان جبرا منحازاً لها، بالنسبة للتكنيك واللغة، وبعد الاجتماع، مال عليّ وسألني :
ـ من أين أتيت بالتكنيك والعنوان ؟
لم أفهم ملاحظته، وخمنت أنه يشير الى التشابه في البناء بين روايته (السفينة) وروايتي وبين عنوان(الصخب والعنف) التي ترجمها لفوكنر ورواية (صخب البحر) التي جعلها تفوز بالجائزة، وكبرالرجل في نظري فلم يكن أنانيا فيمنعه رأيه هذا عن تأييد روايتي او يخفي اعجابه بها ، الى جانب ملاحظته التي ساقها مازحا ً.
بعد أعوام، التقينا مصادفة، فجمعنا حوار طويل امتد لساعات، في غرفة السيد فيصل العباسي مدير السينما في مبنى السينما والمسرح، وتحدثنا مطولا عن بعض الروايات العربية ومنها روايات نجيب محفوظ، وكان يسألني وكأنه يمتحن قدرتي على التمييز، وفي اليوم الثاني اتصل بي الزميل ماجد السامرائي من جريدة الجمهورية العراقية وقال لي :
ـ ما الذي قلته البارحة لجبرا ؟
ـ لماذا ؟
ـ لقد حدثني معجبا بآرائك حول بعض الأعمال العربية المعروفة .
سررت جدا بتلك الملاحظة، وكأنها شهادة من كاتب كبير لكاتب اصغر سنا وتجربة، وطوال الحديث لم يقل لي جبرا كيف انجز ذلك السيل المتدفق من الاعمال (عرق وقصص اخرى)، (صراخ في ليل طويل)، صيادون في شارع ضيق)، (السفينة)، (البحث عن وليد مسعود)، (الغرف الاخرى)، (البئر الاولى) وكتب النقد، وتراجيديات شكسبير، وقلعة اكسل والشعر في التموزيات، والنقد التشكيلي، والرسم، والسفر وحضور المؤتمرات، وقراءة كل ما يقع تحت يديه، وغير ذلك مما لا تحصيه الذاكرة ؟.
كنت قد تعرفت الى جبرا ابراهيم جبرا، من خلال قصة أعجبتني كثيرا، كان عنوانها (ملتقى الاحلام) وهي ضمن مجموعته الاولى (عرق وقصص اخرى) ولا أدري لماذا ظلت تلك القصة ـ كما اعتقد ـ هي الاساس لأدب جبرا الروائي كله، من دون ان يشعر، ومع انني حدثته في هذا فأنكر واستغرب، على اعتبار ان التجربة في اتساع دائم، لكنني بقيت مصرا على رأيي، إذ ان الابطال الرومانسيين الذين يخوضون التجارب في خيالهم وهم يحملون افكار جبرا ابراهيم جبرا ونظرياته ورؤيته للحياة وللسياسة وللبشر نساء ورجالاً هي هي في كل ما أقرأ له.
كتب جبرا قصة (ملتقى الاحلام) في الخمسينات، إذ ضمها الى مجموعته (عرق وقصص اخرى) التي صدرت عام 1956، وقد كتبت بضمير المتكلم، وبدا وكأن جبرا ابراهيم جبرا يتحدث فيها عن نفسه، فالمفردات الثقافية والفنية التي يبتدئ بها القص في ذلك الوقت المبكر تبدو وكأنه كتبها قبل وفاته بايام وليس بعقود بعيدة، ولكي نضع القارئ في صورة النص، دعنا نقتبس المقطع الاول :
ـ (عندما عدت من انجلترا الى القدس عام 1946،بعد غياب سنوات كثيرة،سألت عن صديقي القديم أنور كريم، فقيل لي إنه في أثناء غيابي قد حصل على شيء من الشهرة بثلاثة كتب أو اربعة عدها البعض فتحاً جديداً في الادب العربي، وإنه يسكن الآن داراً منعزلة، بعيدة بعض الشيء عن المدينة، في الضاحية الغربية، فما كان مني إلا ان استقللت سيارة وذهبت لزيارته . فوجدته في غرفة جلوسه محاطا برفوف من الكتب وقد اكتست الجدران بصور زيتية كبيرة .وكان سروري برؤيته عظيماً، وقضينا ذلك النهار في حديث لم ينقطع إلا عند انتصاف الليل، وفي الصباح التالي التقينا ثانية ودعاني للغداء معه في فندق الملك داود، ثم قال :
ـ اتصلت تلفونيا بصديقي سليم الجابي، وأعلمته بوصولك، وقد طلب إلي ان نذهب معا الى منزله عصر اليوم للشاي، لأنه سمع الكثير عنك ويود مقابلتك، فهل من مانع ؟) المجموعة ص 19.
هنا نجد، ان جبرا ابراهيم جبرا، يتحدث عن كاتب ورسام ومثقف فيه شبه كبير بشخصه هو، ثم يفيد من انجازات الادب الغربي، وسنرى لاحقا وفي القصة ذاتها كيف يوظف انجازات الادب العربي أيضا، وفي المقدمة منها (الف ليلة وليلة) لينجز بها معظم اعماله التي قرأتها بعد ذلك .
ولنمض في اختصار القصة، إذ يمضيان الى سليم الجابي ويسرد انور كريم على صديقه العائد من السفر قصة تعرفه الى سليم الجابي الذي جاء اليه لائذا ببيته في ليلة عاصفة ممطرة،ثم جاء اليه معرفا بخطيبته رباب راسم، ومنذ اللحظة الاولى يقع حب الفتاة في قلب السارد، كما يقع حبه في قلبها، فتأتيه وحيدة بعدئذ، وتساكنه ليالي ثلاث، وحين يأتيه خطيبها سليم الجابي يكتشف وجودها عنده، عندما تخرج من غرفة نوم السارد، وتقول له إنها لم تسافر الى بيروت، بل ادعت السفر، وعاشت هنا لياليها الفائتة برفقة السارد الكاتب والرسام، وعندئذ تدور مناقشة صاخبة بين الثلاثة حول من تختاره رباب وقد أحبت الاثنين، واحبها الاثنان .المفزع أن سليم الجابي يدخل ومعه كلبه الشرس مما يجعل الكاتب في خوف شديد، وفي تلك الذروة نكتشف ان النهاية لم تكن حقيقية وان الرجل لفقها من خياله وقال موضحا ً:
(ياعزيزي ان رباب التي حدثتك عنها مزيج من اثنتين الواحدة حقيقية والاخرى خيالية .)
هذا القص الذي ينطوي على بعدين واقعي في بداية القصة وخيالي في نهايتها، هو ما عبر عنه جبرا بعد عقود من ذلك بقوله ان الرواية يجب ان تنطوي على بعدين اسطوري وواقعي .
واذا تأملنا شخصياته الروائية لوجدنا انها شخصيات يعرفها جبرا في الواقع ولكنه اضفى عليها سمة ادبية خيالية عميقة ومشوقة .
الاغرب من ذلك، هو حياته نفسها، التي انطوت هي الاخرى على بعدين واقعي وخيالي، الواقعي فيها هو ولادته ودراسته ونشأته الاولى في فلسطين و نزوحه الى بغداد هربا من الموت، والخيالي هو ان يأتي ارهابي بسيارة ملغمة لتفجير مقر عربي فيضطر تحت ضغط الحواجز الكونكريتية، الى اقتحام بيت جبرا ابراهيم جبرا فيفجره كله، في نهاية تبدو فيها حياته كلها في مستويين هي الاخرى واقعي واسطوري .
اما بالنسبة لي، فقد كان الواقعي في حياة جبرا أنه كاتب ممتلئ مبدع، أما الخيالي فهو كيف استطاع إنجاز ما أنجز وسط مشاغله وحيرته وعنائه ؟
العجيب أن جبرا لم يهمل سؤالي ذاك، فقد كتب مقالة عنوانها (كلمات .. كلمات) كان يناقش فيها موضوعة غزارة الانتاج، وقد اتخذ من (ديسويفسكي) مثالاً للغزارة، معللا ذلك بان الكاتب الكبير لديه ما يقوله، مما كان ذكاءً منه في الالتفاف على سؤالي حين اجاب بتواضع العلماء مقدماً جهود الاخرين على جهوده .
نعم، إن جبرا ابراهيم جبرا، كاتب ممتلئا ولديه ما يقوله، وقد قال الكثير وأشهد أننا أفدنا من تجربته الثرة تلك، على نحو أو آخر، فلقد أغنى ثقافتنا بترجماته، اما رواياته فلقد ألهمتني ـ شخصيا ـ سر المهنة، ذلك أنه كان يقول دائما :
ـ «إن الرواية لعبة سحرية».
وأشهد أنني أكتبها على النحو الذي تعلمته منه، رحمه الله .
علي خيون
قاص وروائي من العراق