«في كهف الجنون تبدأ الحكاية» هو العنوان الذي اختارته زوينة الكلبانية لروايتها الثانية، أقامت الكاتبة روايتها المكونة من (13) جزءًا على ثنائية (الجمال والقبح). لم تُبدِ الكاتبة – شأن الكثيرين – تعاطفًا مع بطل روايتها، فصدمت القارئ بدمامته وقبح شكله مرسخة عقدة النبذ له من قبل كل من يحيط به، مسجلة بذلك موقفًا من أمثال حالته فهو نتاج زواج من أب عماني وأم إيرلندية، وأكدت ذلك في خطبة فارس التي ألقاها أمام حشد المجانين هل أحدثكم عن أمي الأوروبية التي تخلت عني باحثة عن أهوائها وحرياتها المزعومة..؟ وبرغم ذلك لا أحمل لها حقدا قدر حنقي على والدي الذي ضنَّ علي بأم من جلدته « وقوة الموقف لا شك فرضته قوة القناعة.. ولكي تعيد الكاتبة لبطلها بعض التوازن النفسي وتوفر له بعض القبول الاجتماعي نرى البطل يخوض مغامرة غريبة في كهف الجن، وسط شخصيات تنافسه في القبح والدمامة لم تحل أفعالها الغريبة وتصرفاتها الخيالية دون إحساسه بالقبول الاجتماعي بينهم بل وذهبت شوطا بعيدًا في هذا التفاعل والقبول حين وجد البطل «فارس» ضالته الرومانسية في «ميديا» تلك الشخصية الممزوجة من متضادي «الواقع والخيال» والتي رأت جمال فارس داخله لا خارجه، وكأن الكاتبة ترمي إلى أن المتضادات قد تعيش في وفاق بينها إذا وجدت في بيئة غير البيئة الأصيلة التي وجدت فيها أصلا متنافرة متضادة. ولا أدل على نجاح البطل في هذه التجربة وخروجه منها قويًّا مما ورد في آخر الرواية حيث تفاجئنا الكاتبة برفض فارس بعد سفره إلى إيرلندا بناء علاقة مع بنت صديقة أمه رغم جمالها مما يؤكد أن عقدة النبذ لم تعد موجودة وأنه تجاوزها. كشفت مغامرة الكهف عن طاقات إبداعية لدى الكاتبة وقدرة على التصوير والخيال استطاعت من خلاله أن تعقلن الجنون – إذا صح التعبير- وإن جاء ذلك على حساب القارئ. الرواية وخاصة الجزء المتعلق بمغامرة الكهف مرهقة للقارئ مستنزفة لطاقاته التخيلية لدرجة لا يستطيع معها متابعة الأحداث التي تجري على عكس توقعات القارئ فهي تعتمد على عنصر المفاجأة، مما يستدعي التوقف المتكرر – كما هو شأني معها – خلال القراءة. تتكون الرواية من (13) جزءًا،لقد دخل فارس الكهف ليعيش المغامرة في الجزء الرابع وينتهي في الجزء العاشر، إيماء من الكاتبة أن المغامرة هي جسد الرواية وما سواها أطراف ملحقة بها، وإن لم تقل عنها أهمية.أما لماذا كهف الجن ؟، وبتعبير أدق لماذا الجنون؟فلا نرى مبررًا سوى أن كسر الحاجز المتجذر بين الجمال والقبح في إطارهما الشكلي كمتناقضين، لا كقيمتين مجردتين، يحتاج إلى أن نعيش الجنون – أي كي ينزل الجمال من برجه العاجي ويقبل القبح يحتاج أن يعيش الجنون، وكي يقتنع القبح أنه قد يتضمن بعض جمال غير مرئي فيثق في قدراته يحتاج أن يعيش الجنون أيضًا. لا يحتاج القارئ إلى إجراء مثل هذه الإحصائية كي يدرك أهمية مغامرة الكهف في البناء الشكلي للرواية ولن يشكل له هذا تحديًّا، ولكن ما قد يشكل له تحديا هو إدراك علاقة هذه المغامرة بالمضمون العام للرواية أو فهمها من خلال ثنائية (الجمال والقبح) التي بنت عليها الكاتبة – من وجهة نظرنا – روايتها. تكشف نهاية المغامرة عن نوع من القبح يمكن أن نسميه بـ(القبح الأخلاقي) تمثل في الاستغلال السيئ للكهف من قبل مجموعة من العلماء الأجانب يتسمون بالعلماء، هذا القبح يقابله جمال لم تصرح به الكاتبة لكنه يفهم ضمنا من خلال ما يتوقع أن يستغل لأجله هذا الكهف من سياحة وجوانب أخرى.هنا تحاول الكاتبة تسجيل موقف رسمت ملامحه من خلال النهاية التجريمية لهؤلاء العلماء الذين استغلوا الحرية والثقة التي أعطيت لهم، وهذا ملمح آخر من ملامح موقف الكاتبة يظهر في إصرارها على أن يخوض فارس ابن البلد وبطل الرواية هذه المغامرة، ليكتشف أن أحد أساتذته الأجانب المفقود منذ فترة قد سبقه إلى هناك، ويستند موقف الكاتبة على بعدين، الأول: إن أبناء البلد أولى بالتصدي لمثل هذه الأعمال وعلى الدولة مساندتهم، أما البعد الثاني :يتعلق بالقيم الأخلاقية التي يلتزم بها أبناء البلد بحكم وطنيتهم وعقيدتهم. وفي محاولة لتتبع صراع قطبي ثنائية (الجمال والقبح) في تسلسل الأحداث الكبرى في الرواية، يتكشف لك أن الرواية بدأت بالقبح (دمامة فارس وظروفه الصعبة)، ثم تبدى بعض جمال (فارس يحرق نفسه ونجاته لأنه حلم)، تكرر الجمال في (إصرار فارس على المغامرة)، المغامرة التي احتضنها الكهف بحد ذاتها مزيج من قبح وجمال، فأحداثها ومضمونها قبح بينما نهايتها جمال، كذلك تجربه فارس مع ميديا واكتشافه بأنها خدعة قبح، لكن جماليته في تأثيره على بطل الرواية وارتفاع مستوى ثقته بنفسه من حيث التقبل خاصة بعد الهالة الإعلامية التي عاشها، كذلك هناك جمال يتجلى في لقاء فارس بأمه واندمال هذا الجرح المفتوح منذ بداية الرواية، لكن هذا الجمال عكره قبح المفاجأة التي تمثلت في مرض أخيه (آدم) بمرض متلازمة داون (منغولي)، وتتجلى الروعة في الحبكة الأدبية من خلال النهاية المفتوحة التي مزجت بين احتمالية بقاء فارس في إيرلندا أو لنقل البقاء المفتوح على كل الاحتمالات وبين أمل الكاتبة بعودته يوما ما للوطن، تقول : «لا يدري إلى متى سيظل في هذا المكان (إيرلندا).. ؟ شهرا.. شهرين…. ثلاثة، أم سنة أم سنتين، أم ثلاثا؟لا يدري، لكن حتما سيعود إلى أرض الوطن.» وهو نتيجة متعادلة لهذا الصراع، ولعل النتيجة جاءت لتتناغم وتتوافق وتتطابق مع واقع مثل هذه الصراعات التي لا تنتهي وتدوم مادامت مبرراتها. أراني مضطرًا في هذا التحليل إلى أن أقف على أعتاب الجزء الثاني في الرواية جزء (الحلم)، لأتناوله من حيث علاقته بصلب الرواية أي المغامرة وعلاقته بشخصية (فارس) بطل الرواية، وأخيرًا علاقته بثنائية (الجمال – القبح) التي بنت عليها المؤلفة روايتها لأن القراءة الأولى للرواية توهم بأن هذا الجزء من الرواية إضافة غير ذات علاقة بالبناء العام للرواية، أو أنه أملته الفترة الزمنية التي كتبت فيها الرواية. إن خوض فارس للمغامرة مباشرة في الجزء التالي للجزء الخاص بالحلم ما هو إلا تهيئة نفسية لبطل الرواية في مجال زرع الثقة بالنفس وأنه قادر على اتخاذ القرار الخطير والصعب فقرار دخول الكهف أقل خطورة من قرار حرق نفسه، كذلك توافق النهاية السعيدة للحلم بالنهاية السعيدة للمغامرة يدل على هذا التوافق بينهما، ولو كانت نهاية المغامرة قد جاءت على عكس ما جاءت عليه نهاية الحلم الذي بدوره سبق المغامرة لخلق عبثية في الحبكة الروائية تُساءل عنها الكاتبة، ولصح للقارئ أن يتساءل ما الغاية من جزء الحلم في بناء الرواية؟! إن الظروف التي يعيشها فارس أهلته دون صاحبيه شهاب وصالح لخوض مغامرة الحلم قبل مغامرة كهف الجن، تلك الظروف التي تترجم في واقعه على شكل رغبة كبيرة للهروب من الواقع الذي يعيشه إلى واقع آخر ليس شرطا أن يكون الأفضل، ويتضح ذلك من خلال السبب الذي صرح به في رسالته لأمه، ويتلخص مضمون الحلم حول إقدام فارس على إشعال النار في جسده بعد أن كتب رسالة إلى أمه. قال فيها : « إن إقدامي على حرق نفسي ما هو إلا محاولة لاسترعاء الانتباه (عقدة النبذ)، وإثبات لإنسانيتي وحقي في تقرير مصيري.. (أزمة القمع الاجتماعي)». حاولت الكاتبة – لاشعوريًّا – إبقاء الحلم ضمن دائرة وفلك ثنائية (الجمال – القبح)التي ضبطت أحداث الرواية، وإن تبدو محاولتنا لتفسير هذه المحاولة يشوبها شيء من التعقيد. يحضر القبح ويتجلى في اختيار الحلم بحد ذاته كإطار اختارته الكاتبة لعرض الأزمة التي يعيشها بطل الرواية وهو في الوقت نفسه محاكاة أو استلهام – ربما يعكس بعض تأثر– لما أقدم عليه (بوعزيزي) ملهم الثورة التونسية؛ والذي نفسره هروبا من التصادم مع قيم المجتمع العماني وتحايلا عليها مارسته الكاتبة بذكاء، لأنه مستقبح ومستنكر أن يقدم فرد في المجتمع العماني على ما أقدم عليه (بوعزيزي) من حرق نفسه في تونس سخطا على واقعه. أما الجمال فيظهر في أمنية الكاتبة أن يفجر خوض البطل لهذه التجربة – رغم كونها مجرد حلم – وقد حصل ما فجرته نار بو عزيزي في جسده من شرارات تطايرت فأطلقت ثورات أخرى في أقطار عربية. تقول الكاتبة في نهاية الجزء الأول من الرواية كنوع من الاستشراف لهذه الغاية من الحلم «وستظل النفس الإنسانية شرارة تتقد كلما ذكرت مفردات العدل والحرية والكرامة على ضوئها تلج حلكة العتمة ؛ لتصل إلى شمس العدالة والحرية الافتراضية». لم تسلم الرواية كأي عمل أدبي رصين غير متكلف لثنائية واحدة، أو لنقل أن الثنائية الرئيسية تضمنت ثنائيات أقل حضورًا ولا نقول أقل شأنا. كثنائية (الموروث والقيود والجديد والانعتاق) في صراع أفكار الجد مع أفكار الابن (أبو فارس)، وثنائية (الوطني والأجنبي) في قناعة الكاتبة بقدرة الشباب العماني يمثله فارس وصاحباه، أمام ما تراه من اعتماد على الأجنبي فيما يستطيع عليه شباب الوطن، حيث يرفض فارس عرض أمه عليه البقاء في إيرلندا والتجنس بجنسيتها : « خمس سنوات يا فارس تحصل بعدها على الجنسية،وتعود إلى بلادك تعمل كخبير أجنبي، وسيتضاعف راتبك عشرات المرات». هناك أيضا ما جسده موت ميمون من حضور للموت والفرح يموت ميمون ويتزوج فارس من حبيبته ميديا، ويموت ميمون وتنفتح أبواب البرج وتفك طلاسمه «- اصغ إلي يا بني، إني أشعر بدنو أجلي، إنه سر هذا الكهف، في هذه الليلة يقترب القمر من الأرض..اليوم يتعانق الفرح والحزن،اليوم قد تشرع أبواب ذلك البرج الموصد منذ حقب..ستنفك الطلاسم وتتبدد الحجب، وتعود الحياة إلى أدمغة هذه الكائنات،ستنار بصيرتهم، ويتبدد الهذيان..اليوم،وبعد خطبتك التي لامست قلوب مستمعيك، رشحوك لتكون بعلا لميديا..». وثمة تضاد وصراع آخر نراه محتدمًا في نفس بطل الرواية المتمزقة بين حنينه لأمه وعدم تقبله لفكرة رحيلها عنه وتركه يقاسي وحده تبعات دمامته. تطل عليك الكاتبة من بين ثنايا الرواية بما يشبه الهمسات أو انبجاس الوميض في حلكة الليل، أو قل كالتوقيعات الموجزة غاية الإيجاز في صياغتها بذيل رقعة قديمة. تحمل تلك التوقيعات والوميض قناعاتها، فمن حيث طريق ورودها في ثنايا الرواية فتدل قلتها على أنها كانت لعفويتها تفرض نفسها، وثمة دليل آخر على عفويتها أنها تأتي ملتصقة بما سبقها، ملخصة له، وكأن الكاتبة استشعرت ثمة صعوبة ستواجه القارئ في استيعاب تفاصيل الرواية وخاصة الأجزاء الخاصة بالمغامرة لكثرة مشاهدها وغرابة مضمونها على القدرة التخيلية للقارئ ناهيك عن قدرته على استيعابها. ففي بداية الرواية وفي الصفحة (13) منها، في نهاية ذلك الموقف الذي اضطر فيه جد فارس إلى ادعاء جنون ابنه (أبو فارس) كي يخلصه من تهمة الإرهاب التي ألصقت به بعد أن قام برمي – وكان ثملا – زجاجة ناسفة على السفارة البريطانية بعد أن رفضت السفارة فتح أبوابها له في محاولة منه لاستعادة زوجته الايرلندية وابنه (آدم) أخو فارس بعد أن هربت به. وقد نجح الجد في مسعاه. هنا تطل علينا الكاتبة بهذه العبارة « وحده الجنون الذي يستطيع تجاوز الحدود التي يوهم الآخر بوجودها» وأن تأتي مثل هذه العبارة في بداية الرواية لا شك إرهاص لما هو آت. فهي تمهد لذلك الجنون الذي ستسافر بنا الكاتبة من خلاله في مغامرة الكهف، وربما تمهد لتلك النتيجة التي تحاول أن تقودنا إليها الكاتبة وهي أن الجنون هو الحل لفهم عالمنا المجنون، ويؤكد ذلك إشارة شبيهة وردت في الصفحة (68) «الحياة لا تحلو إلا إذا كانت جنونًا». ومما يستحق الوقوف تلك الإطلالة التي أطلت بها الكاتبة من خلال عبارة « الحرية لا تكون إلا عربية « نعم هي كذلك ولا تحتمل معنى آخر عندما يبعثها فارس إلى والدته الأجنبية التي رحلت وتركته، يكتبها في رسالته الأخيرة إليها بعد أن عزم على حرق نفسه – في الحلم – احتجاجا !! فالغرب لم يفهم بعد لماذا أقدم «بو عزيزي» على حرق نفسه في تونس، والدليل واضح في تباين مواقفهم من ثوراتنا حسب أجنداتهم الخاصة. في نهاية الجزء الثامن يموت (ميمون) تقول صفحة (96) « وفي عرس أسطوري، توارى العم ميمون، أهالوا على جسده التراب !. كل شيء يحكمه العقل، توارت تلك الهلوسات، والنداءات المستنكرة، وحالات الهذيان..!» فماذا يمثل ميمون الذي بموته ينتهي الجنون وتنفك كل الطلاسم؟هل يمثل القيود التي قيدنا بها عقولنا؟، أم يمثل من خلال سيطرته – كما في الرواية – على كل صغيرة وكبيرة في كهف الجنون أولئك الذي يتصدرون بدون تخويل من أحد وينصبون أنفسهم حماة للقيم والتقاليد وأشياء أخرى من اختراعهم؟(شيء ما شبيه بواقع أوطاننا كل أوطاننا). وفي الجزء التاسع يكتشف بطل الرواية من خلال مغامرة يخوضها في البرج الذي فتحت أبوابه بموت ميمون سر كل الشخصيات الغامضة التي عايشها في الكهف (ميمون، وميديا، والبروفسور الذي اختفى من الجامعة منذ فترة في ظروف غامضة)، والجزء التاسع يلفظ أنفاسه تطل علينا الكاتبة بهذه العبارة صفحة (117) «جل الذنوب قديمة وطلب الغفران غير منقطع أبد الدهر» وهل يطلب الغفران مجنون ؟، أم هي دعوة مبطنة للعودة إلى العقل؟ولماذا التعقل إذا أوصلنا الجنون إلى غاياتنا ؟.
سبيت سعيد الغيلاني
كاتب من عُمان