توفه ديتلفسن
كانت تمشي نحو الباب لتجيب على الهاتف حينما سمعت صوت زوجها -ظنته غافيًا على الأريكة، ربما أيقظه الهاتف- وهكذا استدارت لتعود إلى المطبخ. تناهى الحديث إليها من بعيد كأنما جاء عبر باب زجاجي. «شكرًا جزيلًا، هذا من لطفك، ولكن زوجتي لا ترقص».
توقفت لتصغي وقد احمّر خدّاها، ودقّ قلبها كما لو أن الخطر يتربص بها. ما الأمر؟ تساءلت في اضطراب. لم يحدث شيء. لا شك أنه يعرف أنها لا ترقص. الجميع يعرف أني لا أرقص. إذا دُعينا للرقص فمن الطبيعي أن يخبرهم بذلك.
تابعتْ عملها في المطبخ يملؤها التشوش والارتباك. لم تحاول أبدًا إخفاء ذلك عنه. وما كان بوسعها أن تفعل. لا بد أنه قد عرف عندما قبّلها أول مرة، أو حتى قبل لقائهما. إنه أمر يذكره الناس حين يظهر اسمها. «المسكينة، تشكو من شلل الأطفال». لم يكن يهمه فيما يبدو ذلك، ولعل هذا السبب وراء حبها له. لم ترَ في عينيه قط تلك الشفقة المروّعة.
شرعتْ في تقشير البطاطس على نحو ميكانيكي وسريع، وراحت تهدئ نفسها في الوقت ذاته. لم يحدث شيء. سمعتهُ بالصدفة وهذا كل ما في الأمر (تراهُ يقولها هكذا لو كنتُ معه في الغرفة؟) من كان يكلم في الهاتف؟ ربما كان زميل دراسة قديم لا يعرفها. أحاطت بها كآبة فارغة، وظلمة عنيفة لا مفر منها. شيء ما تغير فجأة، وإن لم تدرك كنهه تماما.
الجميع يرون ذلك بأنفسهم فما الذي سيختلف حين لا يتحدثون عنه؟ فالأمر يتبعها في كل مكان، كل يوم، كل دقيقة، في الباص، والترام، والمتاجر، وفي الطرق الطويلة الطويلة حيث يستحيل في الغالب ألا يلحظها الناس وهي تعبر في ميدان عام أو ناصية يجتمع فيها الشباب بعد الخروج من العمل -وذلك أسوأ- فيتفحصونها بأعينهم ويعذبونها أكثر من أي شيء آخر، وإن لم تُعانِ بالقدر نفسه بعد زواجها إذ نالت اعترافًا عامًا بكونها امرأة مرغوبة ومحبوبة وشريكة لرجل مثل أي امرأة أخرى. هل يخطر ذلك في باله حينما يخرجون معا؟ طوال الوقت؟ تراها ركنت إلى أمانٍ زائف بين جدران هذا البيت الذي ابتدعاهُ معا؟ عاودها حلم الطفولة، أن تكون مثل الأخريات أو تكون لها عاهة جسدية أخرى لا تُلحظ من اللمحة الأولى -ساقان طويلتان ونحيلتان، يدان بشعتان، مرض جلدي-. هذا مما يمكن إخفاؤه لبعض الوقت حتى عن زوجها الذي تحبه. وعندما يتجادلان في أحد الأيام قد يخطر لها أنه كان يعلم طوال الوقت فتشعر أن سرّها انكشف، وتشرع في البكاء كأنما قُضي على حياتها وسعادتها إلى الأبد، مع أنها ما تزال قادرة على إخفاء عاهتها عن أولئك الذين تلتقيهم قليلًا أو صدفة. لكن المرأة العرجاء يُفضحُ أمرها بطريقة مختلفة. هي لا تعرج قليلًا أو كثيرًا وفق ما يراه الناس، إنما هو أمرٌ واقعٌ ومرئي للجميع مثل شعرٍ أحمر أو شفةٍ مشرومة. لم تحاول حتى الآن أن تخفي ذلك ولو مرةً واحدة. وإذا ما دعاها أحدهم إلى الرقص فمن الطبيعي أن يقول زوجها إنها لا ترقص. قد يقولها ببرود ومن غير عاطفة كمن يجيب على سؤال قائلًا: «غرفة نومنا زرقاء، والجدران رقيقة، وقد تزوجنا قبل ستة أشهر». لا يغير ذلك ما هو معلومٌ سلفا. الأطفال وحدهم من يصيحون «عرجاء ظلعاء» ويفعلون ذلك فقط حين تكون طفلًا مثلهم.
كانت قد أفلتت من عذابات الطفولة حين كبرت وصارت في العالم المهذب والمتفهم للكبار. تغلبتْ على التفكير فيما كانوا يقولون في الصغر عنها. كما تمكنت من البروز بطرق أخرى. بوسعها أن تتحدث عن الأدب، والسياسة، والفن، والبلدان الأجنبية مثل أي رجلٍ في محيطها. عاشتْ عامين في فرنسا تصبغ قليلًا وترسم. تعلمتْ مخاطبة الناس بمختلف أنواعهم، وضبط نفسها في كل حفل. لكن أكان يهمها أن تفعل ذلك حقًا، أم فعلته لتصرف انتباه الناس عن النساء اللاتي يمتلكن سيقانًا جميلة، ويمشين بطريقةٍ طبيعية؟
فرغتْ من تقشير البطاطس بينما هي واقفة، يدها على الصنبور، والأخرى تحرّك ما في القدر. بدت عاجزة عن غسل البطاطس ووضعه في الفرن. جلست على كرسي المطبخ ومسحت يديها بالمريلة. ظلت هناك ثابتة تماما، تحدق أمامها مباشرةً مثل آلة يمكنها بعد انقطاع الكهرباء مواصلة العمل دقيقة إضافية قبل أن ترتعد وتتوقف، غير مكترثة ببقايا العمل الناقص الدائر بين تروسها وأسطواناتها المبتكرة.
لا يخفى حقًا عرجها على أحد. كان بوسعها التنفيس، بين الحين والآخر، بالحديث عن ذلك إلى صديقتها المقربة، وفي بيت أبويها بالطبع، حيث استحال ذلك إلى أمرٍ حتمي مثل مفاصل أمها الملتهبة وصداع أبيها الدائم.
ولكن بالنسبة لزوجها فلم تشر إلى ذلك أبدا. شعرت أحيانًا -خصوصًا في مقتبل علاقتهما- أنه على وشك أن يذكر ذلك، ربما ليساعدها، فنهضت لتُقبِّلهُ أو تسأله عن شيء ما لتنعطف أفكاره نحو اتجاه آخر. لعله تنبه بمرور الوقت ألا يشير إلى ذلك أبدًا حتى لا يبطل سحرها، فهي على الأقل بالنسبة إلى رجل واحد امرأة كاملة، بل الأجمل والأحب في العالم كله. نجحتْ بتلك الطريقة أن تفصل هذه اللعنة عن زواجهما، عن عيني زوجها، ووعيه، وبالتالي عن أفكار الزوجة الجديدة وعن بيتهما السعيد الأول -على الأقل في الوقت الذي تقضيه هنا في المطبخ والغرف الأخرى-. كانت قد تركت يأس حياتها الأعظم خارج الباب، حتى إذا غادرت البيت هبّت إليها رياح الحزن السوداء. إذ لم يتغير شيء في الخارج، لا نظرات الشبّان الباردة، ولا تحديق الأطفال الصفيق.
والآن فتح أحدهم الباب، واندفعت نحوها رياح خفية جليدية، نحوها فقط، وهي وحدها من تشعر بذلك. لا تعرف ما الواجب فعله، ولماذا عليها أن تفعل شيئا. لكنها فعلت. ما زال صدى كلماته يتردد في سمعها: «زوجتي لا ترقص». شعرت بالوهن والوجع كأن زوجها كان يكذب بالنيابة عنها، كأنه خائن. وإن كانت الخيانة أهون عليها إذ يمكنها احتمالها لأنها تحدث لأي أحد، أمر يمكن حكيه للأخريات، ومناقشته واستيعابه. ولكن هذا الأمر لا تستطيع مشاركته مع أحد، وخصوصًا زوجها الذي يجلس الآن في الصالة ويقرأ الصحيفة في انتظار العشاء.
اعترتها كراهية باردة. كان يجلس هناك غير مدرك لأي شيء، ينتظر المساء الهادئ. بريئا. ولكن عندما تشعر بالخيانة، فقد حدثت بالنسبة لك وانتهى الأمر.
نهضت وعادت لتحضير الأكل. راحت تقطّع اللحم وتعد الصلصة. تغلغلت الكراهية في عقلها كأن شعلة شديدة اللهب تجرف أفكارها بعيدًا عن قنواتها المعتادة، كأن امرأة أخرى تمامًا تقف هناك غير من كانت قبل نصف ساعة أو أقل ذاهبة إلى الصالة لتجيب على الهاتف. وتحت ضوء هذه الفكرة الفظة رأت هيئة رجل غريب عديم الشأن، معجب بذكائها، يتمتع بطبخها ويبجل طبقتها الاجتماعية، الأعلى من طبقته. كيف تقرّب بدماثة إلى منزلة أبويها الكبيرة والراسخة ذلك الطالب العامل مجاهدًا لدخول الثقافة التي ولِدتْ وترعرعتْ فيها. ألم تكن غير وسيلة ينفصل كليًا بها عن الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها؟ وهكذا رضي بساقي في الصفقة! من الواضح أنه لم يستطع الظفر بامرأة مثقفة وجميلة في الوقت نفسه.
ولكن الكراهية تفتقر إلى البصيرة كالحب بالضبط. نارٌ باردة وقودها الشر. كان هناك رجل غيره، ظله، وعليها الآن أن تبذل جهدًا ليظهر في عقلها ذلك الرجل الذي حملها إلى النور بنبرته المهذبة، ويديه الحانيتين الدافئتين، وحماها، وجعلها تنسى. لا يجب أن يدرك شيئا. ربما (ببصيص من الأمل) تعود الأمور إلى مجراها قريبا. ستحمل الطعام إليه وتسأله بنبرة طبيعية جدًا من كان على الهاتف. سيكون من الغريب ألا تسأل إذ سيدفعه ذلك إلى الشك. أيّ شك؟ يمكنها أن تبتسم قليلًا وتقول: «لقد سمعتك تقول إنني لا أرقص، ولكن في الحقيقة يمكنني الرقص حتى بساقي الضعيفة». ربما، ربما يعود بعدها كل شيء أفضل مما كان عليه، فلا يحول بينهما بعد ذلك ما لا يمكنهما الخوض فيه.
ثم قالت لنفسها إنه لن يحبها أكثر أو أقل من السابق. فقد تزوجها في النهاية -والكل يعلم- بالرغم من إصابتها. تلاشت الكراهية، وألمها، ورؤيتها الخادعة ببطء. ربما قالها بصوتٍ عالٍ ليساعدها فعلا. لعله كان يعرف من البداية فزعها من ذلك الموضوع. ملأها ذلك بخزيٍ يتعذر فهمه واحتماله.
تركت ما في يديها حين شعرت بأن عدوها اللدود ينتظرها في تلك الصالة الدافئة. كان عليها أن تدخل لتحضير الطاولة. ولكن كيف تنظر إليه وتحافظ على هدوئها؟
وفي ذعر، وضعت اللحم في الطبق، وجهزّت الصحون في الصينية، ونسيت الملح والفلفل، وسارت في الردهة وهي تسمع خطواتها، خطواتها العرجاء، التي بات الآن يسمعها هو أيضًا تقترب مثلما يسمعها في كل مساء، وإن كانت هذه المرة تختلف تماما.
وضعَ الجريدة وابتسم لها قائلًا: «ما أطيب الرائحة». شرعت في تحضير المائدة دون أن تنظر إليه. كانت قد حضّرت جملتها في السرّ، جملتها الصعبة، والهامة: «سمعت صوت الهاتف، من المتصل؟».
حاولت أن تكسب بعض الوقت. خطر في بالها أنهما حين يتناولان الطعام لن ينظر إليها إذ سينشغل بالأكل.
راحت تحضر الكؤوس فشعرت بنظرته تنزلق بلا رحمة فوق جسدها جاعلةً حركتها متصلبة وخرقاء، فعرجت ساقها القصرى النحيلة في الردهة على نحو أوضح من المعتاد. أحرقت الدموع عينيها، دموع الكراهية والخزي، التي لا يخفف من حدتها البكاء.
ما إن جلسا قبالة بعضهما حتى تنحنح زوجها كأنه يوشك أن يقول شيئًا ما، نظر إليها مستفهمًا ومتفاجئا. وبدون أن تفكر، دفعتْ إبريق الماء في هلع فأسقطته وانسكب الماء على غطاء الطاولة.
ماذا تفعلين؟ انتظري لحظة، دعيني أساعدك. كان صوته ودودًا وغريبًا بعض الشيء، فظلت ثابتة تشاهده يأتي بالممسحة لتنشيف البلل بحذر بينما تقلص قلبها إلى قطعةٍ صلبةٍ صغيرة. قالت لنفسها إنه لا يعرف. إنه لا يعرف شيئًا مما يعتمل في صدرها. شعرت فجأة أنه غريب تماما، تصادف وجوده معها في الغرفة، وشعرت بقدرتها على أن تنفصل عنه، عن حبها له وارتباطها به، ثم عادت عازمةً من أعماق وحدتها على أن تسأله عن المتصل. ما إن فتحت فمها حتى التقت عيناها بعينيه. كانت عيناه طيبتين وحزينتين وذكيتين. كانتا تنقبّان بحثًا عن شيء ما، أو ربما لتأكيد شيءٍ ما. أي شيء؟ توقفت الكلمات في فمها. لن تنطق أبدا.
ابتسمتْ حزينةً وبعيدة. فكرت أن ما بينهما انتهى. ربما لم يعرف بعد، ربما لن يعرف غدًا أو إلى الأبد.
قالت معتذرةً: «أشعر اليوم ببعض التعب»، وشرعا في تناول الطعام، حريصين كل الحرص ألا ينظر أحدهما إلى عينَي الآخر.