الفنانة سامية أنجنير تعود الى الساحة الفنية للمرة الثانية ضمن ربيع الثقافة إلى الإفصاح عن زواياها الحميمة في قاعة مركز الفنون في منتصف مارس الحالي بالمزيد من التألق الذي بهر جمهورها, نظرا للحميمية الشديدة التي يلمسها المتذوق في جميع لوحاتها. الدكتورة سامية أنجنير أول استاذة بحرينية تحصل على الدكتوراة في مجال الفنون التشكيلية, فبعد غياب حوالي 30 عاما عادت بقوة الى الساحة الفنية من خلال معرض منفرد في العام الماضي تحت عنوان « الكشف والاخفاء» طرحت فيه رسالة فنية حول الجسد الأنثوي, والأن تعود للكشف عن المزيد من زواياها الحميمة في معرض منفرد تحت عنوان « زوايا دائرية». كان رجوع الفنانة سامية أنجنير إلى الساحة الفنية يعلن عن تجربة فنية فلسفية متفردة. لقد ترددت الفنانة سامية كثيرا قبل أن تفاجىء الجمهور البحريني بموضوع بفكرتها الفنية الجريئة, فبعد نجاح معرضها, تم اختيارها من قبل إدارة الثقافة والتراث في مملكة البحرين لتشارك بلوحاتها في معرض عالمي بباريس في العام الماضي وأعقبته بالمشاركة في المعرض السنوي للفن التشكيلي في البحرين, ثم بمعرضها الحالي «زوايا دائرية» الذي تابعت فيه الفنانة أسلوبها المبتكر في توظيف خامات جديدة من البيئة المحلية بأسلوب في غاية التفرد. فلقد وظفت الفنانة خامات تراثية توظيفا إبداعيا جديدا.. لقد فاجأت جمهورها باستخدام الحناء والزعفران في التلوين عاكسة بذلك طبقات من المعاني الفلسفية التي تبوح بقوة برسالتها الفنية في هذا المعرض. زوايا دائرية عبارة عن نوع من البوح الروحي بزوايا حميمة حملتها الفنانة بين جنحيها منذ سنوات الطفولة, وصاغتها شعرا في لوحاتها الدائرية. لوحات الفنانة معظمها عبارة عن جدل بين الداخل والخارج (داخل النفس البشرية وخارجها). المعرض يعكس زوايا نراها وزوايا مراوغة لا نراها, ولكن الفنانة تختار لها اسما يعكس حقيقتها المراوغة… فهي زوايا دائرية…. كل يراها بمنظاره.. يطل المتفرج على الجسد المحاصر داخل الأنابيب الزجاجية الشفافة من خلال زوايا دائرية, وبالرغم من شفافية الأنابيب فالمتفرج لا يستطيع الا أن يرى الجسد المراوغ الذي لا يفصح عن حقيقته, بينما تبوح اللوحات المختلفة بالزوايا الخفية لهذا الجسد, فنرى الزوايا الخفية مرسومة بالحناء والزعفران تفصح عنها النساء في أكفهن وأزياؤهن, حيث تنتقل تلك الزوايا السرية من دهاليز النفس والجسد لتنساب بأسلوب فني جميل منقول عن البيئة المحلية بذكاء من خلال فن تشكيلي جميل عكسته الفنانة في لوحاتها ببراعة شفافة كالشرائح الشفافة التي وضعتها عند باب المركز ليكتب فيها زوار المعرض انطباعاتهم حول المعرض.. هذا الأسلوب الذكي يمثل دعوة من الفنانة لعشاق الفن لممارسة الشفافية والكشف في ممارسة الفن وفي التلقي…
برعت الفنانة في تجسيم الجسد بطريقة رائعة استخدمت فيها الكانفاس والقماش المقوى وقماش التور أو الدانتيل الاسود والأبيض والورق والخيوط الملونة والإبر.. رسمت الفنانة بالخيوط رسالتها المعبرة التي تعكس إبداعات جديدة لم يتعود عليها الجمهور البحريني في المعارض الفنية السابقة. استخدمت سامية انجنير مجددا الدمية البحرينية «الكردية» وألبستها زي أمهاتنا وجداتنا ما قبل السبعينات, فتجلى ثوب «الشيت» على جسد المرأة البحرينية التقليدية في لوحات سامية انجنير كترنيمة طقسية تكررت في سلة «العويزة» أو الهدية من كلمة عازة وتعني حاجة صغيرة تقدم للطفل.. عويزة سامية انجنير المحملة بعبق الزمن الماضي عبارة عن صرة صغيرة من قماش الشيت الملون بلوني الزعفران الأصفر والاحمر. (ثوب الشيت هو نوع من الثياب الفضفاضة المصنوعة من القماش القطني الرقيق الملون بالأحمر منقوشا عليه نمنمات صغيرة على شكل سعفة النخيل المدورة الاطراف كالوريقات الصغير). أهدت سامية أنجنير جزءاً من تاريخ طفولتها في صرة صغيرة مربوطة بخيط الخيش, حملت صرتها نتفاً من طفولة توارت في الماضي, طفولة كانت فيها السيدات كبار السن يحملن الفرح في صرر صغيرة يوزعنها على أحبائهن الصغار من نساء العائلة.. فتحت صرة سامية انجنير ووجدت فيها تينة مجففة وحبة هيل وكسرة صغيرة من علك اللبان وأخرى من الشبة وخوصة فضية كانت تستخدم لتطريز ثياب النقدة وهي رموز تلاشت من ذاكرة الجيل الجديد الذي صار يفوق الغرب في تمجيد ثقافة الجينز, وثقافة «الباربي».. ذكرتني رائحة صرة العويزة برائحة المرحومة جدتي, وربما ذكرت معظم الزوار البحرينيين بتلك الحقبة الجميلة المرتبطة بثقافة الغوص واليامال.
تواصل الفنانة سامية انجنير طرح رسالتها الفنية المشوقة عبر إضفاء عنصر تراثي فريد على الساحة الفنية البحرينية يذكرنا بالثراء الفني لرموزنا الثقافية التقليدية.. ففي جرأتها التي أفصحت عنها في معرض «الكشف والإخفاء» رأينا كيف كانت جدلية الجسد, وكيف كان الجسد يئن بألم واضح تحت رزح العين المحدقة فيه. أرتنا الفنانة بذكاء كيف يمكن للجسد أن يكون طليقا ومكشوفا وعاريا بالرغم من الأسمال التي تخنقه, وكيف يكون محاصرا ومخنوقا, رغم تحرره من القيود, أما في «زوايا دائرية» فبالرغم من إننا نرى الجسد قد تخلى عن إثارته لحواسنا وبات شديد الشفافية والرقة, إلا انه لا يزال شديد المراوغة لدرجة انك لا تستطيع أن تتبين إذا كان الجسد هو لذكر أو لأنثى, إلا إذا كان الجسد مرتديا زيا ما يدل عليه.
توظيف التراث المحلي في الفن التشكيلي هو رسالة فنية جديرة بالتوقف عندها.. وعلى الرغم من أن كلمة كردية قد تفيد بالتلاقح الثقافي الذي عاشته البحرين مع الشعوب المختلفة التي وطأت أرضها، أو الشعوب التي اختلط العرب الرحالة بها, إلا أن فن صناعة العرائس من القماش المحشو بالقطن هو من صميم البيئة البحرينية. فالسيدات والصبايا البحرينيات كن يتباهين بإتقان هذه الصنعة الحميمة التي كانت تمتزج بالمحبة والدفء والجمال كونها تجسد علاقات المجتمع المتماسكة, وكانت تصقل القدرات الفنية والحرفية لصانعيها من الصبايا , وتشغل أوقات السيدات كبار السن اللواتي يوثقن علاقتهن بالصغيرات عن طريق إهدائهن هذه الدمي الجميلة. ورغم إن هذا الفن استبدل بالدمى البلاستيكية التي تجسد الصبية الأمريكية الشقراء «باربي» أو «ساندي» مع كل مفردات حياتيهما التي لا تنتمي للثقافة البحرينية المتراكمة عبر قرون , إلا إن سامية انجنير تظهر إصرارا أكبر على إيقاظ مفردات الماضي في هذا المعرض أيضا وكأنها تشير الى المتعة الساحرة التي فقدها أطفالنا , تلك المتعة التي تشكل بعض المفردات الحميمة التي ترتبطهم ببيئتهم, حميمية «العويزة» و«الكردية» تشير الى البهجة التي طرحت من طقوسنا وتراثنا.. تشير الى انتزاع البهجة من جداتنا وعلاقتهم بالأطفال بشكل خاص.. تلك البهجة التي كن يستشعرنها عند قيامهن بصنع مثل هذه الدمى الجميلة التي يلبسنها أزياءهن التقليدية باستخدام البقايا من الأقمشة الملونة الزاهية لإهدائها إلى الحفيدات أو الصغيرات من بنات الأقارب والجيران.
الجمهور البحريني المتذوق للفن العالمي في حاجة الى أن يرى تجربة سامية انجنير كتجربة رائدة للكشف عن مواضيع وقيم يتردد الكثير من الفنانين المحليين في طرحها أمام الجمهور المحافظ. لقد تجاوزت الفنانة سامية انجنير في معرضها الحالي الصدمة الأولى التي خلقها معرضها الأول في نفس المتفرج. لقد انحسرت المرارة التي رأيناها في لوحات المعرض الأول وحل محلها زخم من الحنين والشوق إلى ماض مدفون في زوايا فضلت الفنانة على أن تطلق عليها «زوايا دائرية» لتحتفظ بالحنان الشفيف الذي يميز الدائرة عن الزوايا وما تحمله من حدة. لقد انتصرت الفنانة على المرارة التي جعلتها تبتعد عن الساحة الفنية لأكثر من ثلاثين عاما, حيث تحولت المرارة إلى حنين جارف إلى الخروج من الشرنقة تماما والتوحد مع الآخر, بل هو نوع من الخروج من حصار الذات وخلق ذاكرة مشتركة مع الآخر بحيث لا يكون هناك مجال للإخفاء, فالجرح قد تحول الى عشق والخوف من الرفض تحول إلى هدنة لعقد صداقة جديدة مع كل شيء, استخدام الحناء والزعفران في التلوين والتشكيل هو بداية مرحلة جديدة ليست على المستوى الفني في حياة الفنانة فقط , ولكن على المستوى النفسي الخفي أيضا. معرض زوايا دائرية يعكس جدلية الخارج والداخل, فما نخبئه في سرائرنا يمكن رؤيته من خلال منظار شفاف يمثله توظيف الأنابيب الزجاجية التي يتدلى منها بكل وضوح قطرات الدم والدمع والحزن والفرح, بينما تتألق الأجساد بيضاء رشيقة, منهمرة , أبدية, قادمة من أزمنة غير محددة.. أجساد نحملها هذه المرة كأقدار جميلة ولا يهم أن تكون مذكرة أو مؤنثة.. أجساد جميعها مشدودة بخيوط مرئية أو غير مرئية الى قدر ما.. أجساد متكيفة مع أوضاع وأقدار ما… أجساد تحمل حميمية الزمان والمكان وشروط البيئة دون تذمر, وأجساد تتوارى وراء خيوط متشابكة ولا يبقى منها سوى أسماء.. أمينة, عائشة, فاطمة… ووجوه تتلون وتتشابك في الذاكرة البشرية, وقد تختفي هذه الوجوه ولا تترك وراءها إلا ذكرى حميمة, تماما كالعويزة أو صرة الهدية التي تتركها معنا سامية انجنير ونحن نغادر معرضها الذي زينته لوحات الحناء والزعفران والزوايا الدائرية التي تضم فرحنا وأحزاننا وحنيننا وشهواتنا العارمة أو الحيية وشوقنا الجارف إلى الحياة..معرض الفنانة سامية انجنير تجربة مثيرة تعتبر إضافة للفن التشكيلي في الخليج,وهي دعوة مفتوحة لقراءة تراثنا, حاضرنا وماضينا, من خلال عيني فنانة رقيقة كشفت عن نفسها بقوة لا تقبل المساومة…
هدى المطاوعة
كاتبة وأكاديمية من البحرين