وبعد أن شربَ الشَّاي استلقى على ظهرِهِ، واستغرقَ في نومٍ عميقٍ؛ يسحبُ الهواءَ بقوَّةٍ حتَّى عمِلَ لنفسِهِ مجرىً هوائيًّا يتدفَّقُ حتَّى يكاد يراه وهو يدخل إلى أنفِهِ،يسحبُ روائحَ الزُّهورِ والأعشابِ،ويحلمُ بجبالٍ ضِخامٍ؛ جبالٍ عصيَّةٍ،كائنٍ حيٍّ،مروجٍ من الكائناتِ المتدفِّقةِ كأنَّها بساطٌ يتقلَّبُ بألوان الطَّيفِ الفِيراني،جلد النَّمِرِ الذَّهبي،الأبيض،الأخضر،الأصفر،الأسود. قام من النَّومِ وهو يشهقُ وينتحبُ،عاريًا في الصَّحراء،يجري،يصدر صوتًا أشبه برُغاءِ الجَمَلِ،عاريًا يتمرَّغُ في الرِّمالِ كأنَّه مسعورٌ يريدُ أن يلتحِفَ بالرِّمال،كان في قمَّةِ اليأسِ،يقعدُ على ركبتيهِ ناظراً إلى الصَّحراءِ الموحِشةِ،الصَّحراءِ الخاليةِ من الحياةِ،مُهتزاً،مشوَّشَ الذِّهنِ،يتكلَّمُ عن أبوابِ الصَّحراءِ المغلَقةِ،والطُّرقِ المتاهةِ،والدُّروبِ الشِّراكِ، والسُّهولِ الخادعةِ،يصرخُ بصوتٍ حيوانيٍّ مريعٍ، أنا وحيدٌ؛ بلا دليلٍ،بلا ذاكرةٍ أو عقلٍ يُدركُ أنَّني في الجحيمِ،ثم سقطَ مغشيًّا عليه وظلَّ على هذهِ الحالِ..تتابعُ عليهِ برودةٌ،وحرارةٌ،وأوراقٌ تذبلُ، وأوراقٌ تزدهرُ،وأصواتٌ مختلفةٌ تتدفَّقُ داخلَ أذنِهِ؛ كأنَّها أصواتُ موسيقى كونيَّةٍ،حفيفُ الشَّجرِ،فحيحُ الثَّعابين،هديلُ الحمامِ،طنينُ أجنحةِ البعوضِ،عواءُ الذِّئبِ،نعيقُ البومةِ ،مواءُ الهرَّةِ،وجَلْجَلَةُ السَّباعِ ،وزمْزَمَةُ لهبِ النَّارِ، وهزيم الرعودِ ، ونباحُ الكلبِ، وهَمْسُ أخفافِ الجِمالِ ،وتغريدُ الطُّيورِ،وخفقُ النِّعالِ،وزقزقةُ العصافيرِ ،وحنينُ النُّوقِ،وثُغاءُ الماعزِ،وطنينُ النَّحلِ ،وصَرْصَرةُالبازيِّ،وصريرُ الجَرادِ ،ونزيبُ الظَّبي، وصفيرُ النِّسرِ،وحفقُ النَّملِ،وطنينُ الأرانبِ ،وغقغقةُ الصَّقرِ ،وسجعُ القمريِّ، وزَخَّات المطرِ، وكانت أصواتُ الحَشَراتِ وَالزَّواحفِ السَّامَّةِ والعقاربِ تُمثِّلُ له متعةً ولذَّةً رُوحيَّةً، تأخذُهُ في حالةٍ نشوةٍ،هبَّتْ ريحٌ عاتيةٌ أهالت الرِّمالَ عليه، حتَّى اختفى تحتها ، ثم انتبه على شيءٍ أخرجَهُ منْ مصيرِهِ السَّرمديِّ،انتفضَ، ليتساقطَ الرَّملُ من عليهِ،ومضى عائدًا إلى الخُصِّ؛ مُنهكًا؛ يلتفُّ حولَ نفسِهِ يتوجَّعُ،وصوتُهُ يترقرقُ في الجبلِ،حتَّى انتبه فجأةً وارتدى جلبابَه الكشميري على اللحمِ، وغادرَ الخُصَّ نازلاً إلى البلدةِ ؛ حيثُ حدثتْ كارثةٌ؛ فقد قُتِلَ ابنُ عمٍّ له رميًا بالرّصاصِ؛ بسببِ التَّنافسِ على بنتٍ جميلةٍ،كانت تعشقُهُ،ويُقالُ إنَّها كانتْ تُقابله بين أشجارِ التِّينِ،والبنتُ من عائلةِ أبوزيد الثَّريَّةِ ،وعندما انتشرتْ الإشاعةُ في البلدةِ، ووصلتْ إلى صاحبِهَا،خرج أخو البنتِ،من البيتِ جامحًا،غاضبًا، ونظراتُ الجنونِ تُطلُّ من عينيه،يحملُ على كتفِهِ سلاحًا آليًّا، ولا يلتفتُ إلى النَّظراتِ المتسائلةِ،أو إلى العيونِ الشَّامتةِ،حتَّى وَصَلَ إلى الجامعِ الكبيرِ،وعندما رآه يخرجُ،عاجله بدفعةٍ من النِّيرانِ أردتْهُ قتيلاً،ثم اقتربَ من الجسدِ المسجى ، ورشَّ جسَدَهُ بـ 36 طلقةً جعلتْهُ غِرْبالاً، وسارَ في الشَّارعِ يتيه بالفَخَارِ والعزَّةِ،اجتمعتْ عائلةُ أبو حامض وتداول الشّيوخُ الأمرَ،وكانَ قراراً لا رجعةَ فيه؛ الثَّأر،ولم يعلمْ أحدٌ،حتَّى الآنَ مِنْ أينَ عرِفَ سالم بالموضوع؟، ولكنَّ الذي حَدَثَ أنَّهم وجدوه جِوارَهُمْ؛ لابِدًا في نهايةِ التَّجمُّعِ الذي احتشدتْ له عائلةُ أبو حامض ، وعندما تقرَّرَ أن يتمَّ الهجومُ على عائلةِ العدو،كانَ يسبقُهُمْ،وظلَّتْ العائلتانِ طوالَ الليلِ تخوضانِ في معاركَ طاحنةٍ؛ سقطَ فيها – معَ تباشيرِ الصَّباحِ النَّديِّ – ثلاث عشرة جثَّةً من عائلةِ أبوزيدِ، وخمسُ جثثٍ منْ عائلةِ أبو حامض ، وانبلجَ النَّهارُ، وظلَّتْ الجثثُ مرميَّةً في الشَّوارعِ،واختفتْ العائلتانِ وراءَ الأبوابِ،وفوقَ الأسطحِ لابِدَةً،والأصابعُ على الزِّنادِ؛ انتظارًا لليلٍ بهيمٍ مُدلهِّمٍ؛ لتخرجَ النَّبابيتُ، والبَلْطَةُ، والفَرْدُ؛ لتصطادَ أرواحًا غاضبةً،حاقدةً شِريرةً ؛ فقدت عقلها،حتَّى حاصرَ الأمنُ المركزيُّ البلدةَ وقبضَ على رءوسِ العائلاتِ،ثمَّ تمَّ عرضُهُمْ على مديرِ أمنِ الجيزةِ،ووقفوا في صفٍّ واحدٍ،عجائز يتلفِّعونَ بعباءاتٍ،تكسو وجوهَهم شواربُ كثَّةٌ،ولِحَى بدائيَّةٌ ونظراتٌ مُتحدِّية. قام واستندَ على المكتبِ، وترك السِّيجارةَ في الطَّفايَّةِ،كان غاضبًا ، ينظرُ إليهم في استهانةٍ وتحدٍّ : بُص أنتَ وهُوّ،أوعَ أنتَ وهُوّ في يوم من الأيَّام عقلكم الزِّنخ ده، ممكن يسوِّل لكم،إن مهما كانت عائلة من العائلات فى مصر عددها كبير،أو كمية السِّلاح الموجودة عندها ، تتصوَّر أنَّه ممكن تحميها، أو تفلت من قبضة السُّلطة المركزيَّة،أُقْسِمُ بالله،أُقْسِمُ بالله،إن لم ترتدعوا ، ويرجع عقلكم فى راسكم، لأنكِّل بكم تنكيلا عمركم ما تتخيلوه أو يطرأ على بالكم !، عقلكم يرجع لرأسكم،تتكرَّموا وتكبروا في عيوني،وعين رأس الدَّولة،رئيس الجمهورية اتَّصل بيّ، وكان شديد الغضب يا كلاب،أُقسِمُ بالله أضربكم بالقنابل، فاهمين ؟، أنتم معتقلين لحدّ ما تذعنوا للصُّلح،وهذا ما حدثَ،رضخَ العجائزُ للأمرِ، وتمّ الصُّلحُ ، وحضرَ مدير الأمنِ،وقياداتُ المحافظةِ ،وأعضاءُ مجلسِ الشَّعبِ والشُّوري عن الدَّائرةِ،وذُبحتْ الذَّبائحُ ،وامتدَّتْ السُّفرةُ ،وأخذَ بعضُهُمْ البعضَ بالأحضانِ أمامِ عدساتِ مصوِّري الصُّحفِ القوميَّةِ، وظهرتْ صورُهُمْ والعناقُ الأخويُّ في الصَّفحةِ الأولى لجريدةِ الأخبارِ،عادَ سالم وهو مكسورٌ، يشعرُ بالعارِ، وأنَّه ارتكبَ خطيئةً لا تُغتفَرٌ،وأنَّه شِريرٌ وأنَّ الشَّرَّ جزءٌ أساسيٌّ في روحِهِ وتكوينِهِ، لا يُمكِنُ أن ينتزعَهُ، ولا يُمكِنُ أن يُخفيه،عادَ غيرَ عارفٍ أساسًا ماذا يفعلُ ليكفِّرَ عن خطاياهُ،عن جرائمِه،عن قتلِهِ روحًا بيدِهِ،جسمُهُ ثقيلٌ،يحسُّ نفسَه كجثَّةٍ،كرِمَّةٍ صالحةٍ للنَّهشِ من كلاب ٍتتضوَّرُ جوعًا، يمرِّغُ وجهَه في التُّرابِ،يتوسَّلُ المغفرةَ،يرفضُ الأكلَ والشُّربَ،يسيرُ فقط في الجبالِ، حتىَّ يسقطَ على الرِّمالِ، ويستغرق في النَّومِ،حتَّى أصبحَ شبحًا، كائنًا بدائيًّا بائسًا،ثم يعودُ إلى الخُصِّ،لم تعُدْ به جرأةٌ على التِّيهِ في الفلاةِ،في الضَّياعِ،وكان يُحرِّكُ شفتيه ، وهو يجلسُ قُبالةَ الشَّجرةِ أو الزَّهرةِ النَّابتةِ،أو العكرشِ،أو الصَّبَّار ِ، أُحاولُ أنا أنْ أعرفَ ماذا يقولُ،أو ماذا يُريدُ، ولكنَّهُ لم يعُدْ يسمعُني،لم يعُدْ يفهمُني،أحاولُ أنْ أعرفَ شيئًا ولكنْ دونَ جدوي ؛ كأنَّ سِتارًا حديديًّا بيني وبينه،لم يعُدْ يلتفتُ لي،جلستُ أتتبعُهُ فترةً من الزَّمنِ ثمَّ تركتُهُ ، وقد يئستُ من استنطاقِهِ ؛ فكان وجودي ، عنده ، كالعدم ، أو كأنِّي نفايةٌ، الحقيقةُ إنَّني شعرتُ بأنَّني منبوذٌ،عدتٌ إلى البلدة ، أتتبَّعُ مساراتِ الشُّخوصِ وأحوالِ الخَلْقِ وتغيُّراتِ العبادِ،خاصَّةً بين عائلة أبو حامض وعائلة أبوزيد ، كما تعلَّمنا من الرِّوايات العظيمةِ أنَّه يجبُ أن يكون الخلافُ بين أكبرِ عائلتينِ، وعلينا ، نحن الرُّواة، أن نجعلهم مركزَ السَّردِ وليذهبْ إلى الجحيمِ باقي البشر ؛ لأنَّهم لا لزوم لهم ؛ لأنَّهم شراذمُ لا قيمةَ لهم في الصِّراعِ، كانت العائلتانِ قد أضمرتا حقدهما عامًا؛ حتَّى جاء اليومُ الجحيميُّ،الذي سالت فيه دماءٌ لشبابٍ أطهارٍ؛ خرج خمسةُ شبابٍ منفلتينَ من أسْرِ المعاهداتِ والمواثيقِ،بهم فُتوةٌ وحماسٌ ورغبةٌ مُرعبةٌ في الانتقام ، يُحرِّكُهم ثراءٌ فاحشٌ،وعنادٌ قَبَليٌّ،وحقدٌ صنعه ميراثٌ من الجهلِ، وصار بيدٍ كلِّ منهم فَرْدُ خرطوشٍ،بلطة،سواطير،يتقدَّمُهم دليلٌ؛ خبيرٌ بالصَّحراءِ ،عارفٌ طرقَها ،ومدقَّاتِها، وكثبانَها، الخيولُ تتقدَّمُ في الطَّريقِ إلى الجبلِ، وفي أوَّلِ المدَقِّ المؤدي إلى الهدفِ،تُركِتْ الخيولُ مربوطةً في شجر كافورٍ ، تعزفُ فروعُها أصواتًا أشبه بالنَّحيبِ ، أربكت أفكارَهم،تخلّوا عن العباءاتِ،وأخرجوا الأسلحةَ من مكامنِها، وتقدَّموا في المدقِّ المتعرِّجِ، تحيطُهم صحراءُ مُوحِشَةٌ،تضربُ فيها الرِّيحُ الرِّمالَ بقوَّةٍ ؛ فتصنعَ حائطًا مُتحركًا من الرِّمالِ النَّاعمةِ ؛ لتصطدمَ بالسَّائرينَ ودماؤهم تغلي،القمرُ شِقٌّ ينثرُ الضِّياءَ والبردُ قارس يُجمِّدُ اليدَ المحتميةَ بالسِّلاحِ،يسيرونَ في حذرٍ،أحذيتُهم تفركُ الرَّملَ النَّديَّ،يُراجعون الخططَ والبدائلَ في همسٍ،حتَّى بان مكمنُهُ،تراجعَ الدَّليلُ وتركهم لمصيرِهِمِ، وصلوا إلى الخُصِّ وقبل أن يتقدَّموا داخلَه،كان سالم بيدِهِ الفانوسُ في مواجهةِ الشَّابِ الأوَّلِ الذي ارتبكَ من الشَّرِّ الجحيميِّ الذي يرقدُ في قاعِ عينيه؛ فَشُلَّتْ يدُه،وكانت يدُ سالم أسرعَ من ضوءٍ تنتزعُ قلبَ الشَّابِ الذي لم يُصدِرْ صوتًا،واستسلم للصَّمتِ الأبديِّ،والتقطَ الفَرْدَ ،وخرج منه صوتٌ غريبٌ، هو مزيجٌ من صوتِ الإنسانِ وصوتِ الحيوانِ: أرمِ اللي في ايدك!، فلم يتعرَّفْ عليه أحدٌ ،ولكنَّه خلَّفَ أثرًا مُرعبًا داخلَ نفوسِهم ،فانطلقت رصاصةٌ عفوًا في كتفِهِ، وعاجله شابٌ آخر برصاصةٍ في صدره،فرمى نفسَه عليه وسقط فوقه غارسًا يديه فى رقبتِه، والآخر خشيَ أن يقتل أخاه ، فرمى الطَّبنجةَ، وأخرجَ السَّاطورَ، وقطعَ ذراعَه ، واستدارَ ليُمسِكَ السَّاطورَ ويعالجه بضربةٍ أسقطته صريعًا ، وأصبح في مواجهةِ الأخيرِ منهكًا يُنازعُ الموتَ،وهو يكظمُ غضبَه الشِّريرَ،حاول أن يمُدَّ يدَه الأخرى ليحملَ السِّلاحَ فعالجه بضربةٍ بالبلطَةِ؛ شقَّت رأسَه وأسقطته على الأرض، كريشة ينتفضُ انتفاضاتٍ متلاحقةٍ،وعيناهُ انحسر عنهما السَّوادُ ، وأصبح وجهه أكثرَ رعبًا وبشاعةً، والدَّمُ يتدفَّقُ ثخينًا، كأنَّه لحيوانٍ،والشَّابُ أمامَ الجثثِ، يرتعشُ من الرُّعبِ لا يعرفُ ماذا يفعلُ.
عبد النَّبي فرج *