ينطلقُ زكريا المحرمي في كتابه «استئناف التاريخ.. المثقف والثورة والنظام السياسي المنتظر»، الصادر عن دار مسعى، من هذا السؤال: ما هو الشكل الأنسب لنظام الحكم في الدول العربية؟، ويجد المحرمي أنّ الناس الذين اختاروا الدين كنظام للحكم، نتج عن خشيتهم من عودة الاستبداد الليبرالي الذي فشل في تقديم أطروحة سياسية واقتصادية متصالحة. فالناس راغبة بطرح يقترب من الحركة الإسلامية التركية، وليس من الإسلام السلفي كما هو حال ايران. فالحكم باسم الدين يُعطي الحاكم بُعدا روحيا يتجاوز دوره البشري في خدمة الشعب.
يُركز المحرمي على تأثير المثقف في المجتمع وعلاقته بالسلطة ودوره في الانفجار الثوري، فيُحمله المسؤولية لينزل من برجه العاجي ويُعيد القاطرة إلى مسارها الصحيح أو يستقيل من ضمير المجتمع. ويُفاجئنا بقوله إنّ حراك المثقف لا يبدأ إلا عند ترسخ حالة استلاب الجماهير، بمعنى أنّ مهمة المثقف ليست استباقية وإنما هي بأثر رجعي، وعليه أن يحتمل الثورة المُضادة التي ستقام ضده لدى اتهامه بالانشقاق عن الجماعة.
لم يكن لأدباء وفلاسفة وشعراء الغرب أي دور في الجانب الاجتماعي السياسي حتى بداية عصر الأنوار. وقد صاغ فولتير التعريف الجديد للكاتب، «إن روح العصر جعلت الكُتاب أكثر التصاقا بالعالم منهم بمكتبهم المنعزل». بعد الثورة الفرنسية ظهرت ظاهرة الرأي العام، وقوة الشارع في إقامة الحكومات وإسقاطها. يقول ميشيل فوكو: «إن المثقف محكوم عليه أن يختفي من الأفق باعتباره يفكر عن الآخرين». ويعزي فرانك فوريدي بعض وجوه رفض المثقف من قبل المجتمعات الغربية راجع إلى الإيديولوجيات التغيرية التي يُمثلها المثقف.
الواقع الغربي يشير إلى انحسار دور المثقف المفكر، مقابل تضخم وظيفة المثقف «العضوي» التي يُمثلها الأكاديمي والخبير المختص. بينما لعب الفقهاء والفلاسفة والأدباء في التراث العربي دور المثقف في مجتمعاتهم. بيد أن تعطيل العربي لفريضة القراءة جردته لاحقا من مكتسباته.
الجدل حول المثقف تناولها كثر من المفكرين العرب، منذ أن نقل ادوارد سعيد مناخ الجدل من الساحة الأوروبية إلى العربية. فمحمد عابد الجابري ذهب إلى ضرورة «تبيئة» المصطلح عند نقله من السياق الأوروبي، وعلي حرب في كتابه «أوهام النخبة» تبنى كل الانطولوجيا الغربية بما فيها الهاجس بأن المثقف حالة غير مرغوب بها. نصر حامد أبو زيد، رأى أن المثقف هو المنخرط في إنتاج الوعي. جورج طرابيشي يرى أنّه «الشغيل» على مستوى المفاهيم. ادوارد سعيد رأى أنّ المثقف يقع بين إغراءات السلطة وبين خوفه من قمعها والخيار بينهما صعب. فيما يتساءل المحرمي: هل يمكن أن يكون المثقف هو السلطة؟ ثم يضربُ مثالا على أن الأنبياء كانوا من النماذج الناجحة كمثقفين وأصحاب سلطة في آن.
علي حرب يُحدد دور المثقف في عقلنة السياسات والممارسات. ويعترض المحرمي على فكرة أنّ: «المثقف.. إما أن يكون مثقفا أو لا»، على اعتبار أن السلطة نسبية والثقافة أيضا نسبية. كما يجدُ أنّه من غير المنصف مُطالبة المثقف بأن يكون شجاعا دائما، فالمثقف يتميز بدرجة الوعي، أما الشجاعة والإقدام فهي صفات نادرا ما يكون للوعي تأثير عليها، كما أنه يُبرر للمثقف صمته أحيانا. لذلك لا ينبغي استهجان عمل المثقف في مؤسسات السلطة، طالما سهّل عمله في التنوير قاصدا السلطات الشرعية وليس المغتصبة.
المثقف العربي لم يتلق ضربة موجعة كتلك التي وجهتها له ثورات الربيع العربي، وكأنه كائن خارج الزمان بسبب حراسته لأفكاره من مواجهة الواقع كما يقول علي حرب، ولملازمته الطرح النخبوي وغيابه عن الامتداد الشعبوي. ويختلف المحرمي معه مجددا، لأنّ الفئة التي قامت بالثورة الالكترونية، هي فئة مُتعلمة تندرج في سلم الثقافة، وليست فئة مُفرغة معرفيا. ولكن عندما غابت الوصاية، لم يتم توجيه السخط العارم المُفاجئ، مما أدى إلى انحدار مستوى الخطاب من التنوير إلى التثوير. وبالرغم من أهمية شبكات التواصل إلا أنّ المحرمي يعيب فيها، فقاعات الرأي التي شلت العقل وأطلقت جماح العاطفة، إضافة إلى الطبيعة الإدمانية التي تفصل الفرد عن واقعه.
ويرى المحرمي أهمية استثمار التدافع بين المثقف والسلطة، لتجنب الكسل والشذوذ الثقافي. فكل سلطة تتوجس خيفة من عين المثقف الواعية، والمجتمعات الأكثر قراءة هي الحقل الأكثر خصوبة لازدهار سلطة المثقف، ويتضخم التأثير الاجتماعي للمثقف عندما تصل السلطة إلى حالة من الانغلاق والفشل والرفض الاجتماعي.
الثورة هي شر لا بد منه حين تتعين الظروف المواتية لذلك. ففي حالة وجود الظلم و الإهانة تتعدى الثورة حدود التغيير السياسي إلى الرغبة في التشفي والانتقام. وكما يقول أرسطو: «اللامساواة هي العلة الأبدية للثورة». الشريحة العصية على الرضوخ هي الطبقة الوسطى، فشعور الطبقة الوسطى بالضيم هو أكبر أسباب الثورات، فالفقراء الذين يفتقدون الأساسيات يقدمون الكثير من التنازلات، ويصمت الأغنياء لضمان تدفق المال إلى خزائنهم.
يطرحُ المحرمي سؤالا مهما: هل يعقل أنّ ما حدث في العالم العربي لا علاقة له بالمؤثرات الخارجية مع أنّ أهم عنصر لهذه الثورة هو مواقع شبكات التواصل الأمريكية؟ بينما ظهرت الأنظمة العربية في عيون شعوبها بصورة الديناصورات الأحفورية لغيابها عن عالم شبكات التواصل الاجتماعي!
ويُحمل المحرمي جزءا كبيرا من المسؤولية على الإعلام القادر على ممارسة عملية غسيل العقول وتشكيلها وفقا لثقافة الصورة المعروضة في الشاشة. فالإعلام يُحدد الأهداف التي تتحرك من أجلها الجماهير والأيدولوجيا التي توجه الحركة. من قبيل جملة: «الشعب يريد إسقاط النظام»، المليئة بالشحن والاستلاب.
ويذهب للحديث أيضا عن ظاهرة القطيع، هي حالة إنسانية عامّة لا ينفك منها سوى فئتان هما: الساسة وزعماء الدين واصحاب رأس المال وهم «الملأ»، الفئة الثانية هي فئة المثقف التنويري، الفئة الأولى تُحاول تحييد الفئة الثانية باستعداء الناس لهم، لإفشال عملية استنهاض العقول المخدرة.
يذهب فوكوياما إلى أنّ الديمقراطية حق لجميع المواطنين في الحصول على حصة من السلطة السياسية، أي حق كل مواطن في الانتخاب والمشاركة السياسية، و الديمقراطية بذلك هي احدى الحقوق الليبرالية. هنالك دول ديمقراطية من مثل إيران، ولكنها ليست ليبرالية لأنها لا تحفظ حقوق الأقليات. وهنالك نماذج ليبرالية ولكنها ليست ديمقراطية من مثل بريطانيا في القرن الثامن عشر. انتقد أرسطو وهيجل الديموقراطية ووجد روسو بأن الدول الديمقراطية أكثر عرضة للحروب الأهلية، بالمقابل يرى المحرمي أنّ الليبرالية ليست أفضل من الديمقراطية في قابليتها للنقد، فهي القائمة على القيمة الفردية، وتهميش القيم الضابطة للعلاقات الاجتماعية وتوحش الرأسمالية.
ثم يذهب إلى «العلمانية» التي ظهر لفظها لأول مرّة عربيا، في القرن الرابع الهجري، تحديدا في كتاب «مصباح العقل» لابن المقفع، وهي كلمة سريانية تعني الشخص العادل الذي لم يدخل سلك الأساقفة، وقوبلت العلمانية بالرفض عربيا، رغم احتوائها على بذور التسامح، وهي تُبعد الدين عن المؤسسات الرسمية.
يستنتج المحرمي أن الديمقراطية والليبرالية التي توهم فوكوياما أنّها نهاية التاريخ، ليست سوى سراب كبير، وثقوب سوداء تبتلع إرادة الشعب. ويؤكد المحرمي في أجزاء مختلفة من هذا الكتاب على فكرة أنّه لا يوجد في تاريخ الإنسانية ثورة كُتب لها المجد والخلود سوى تلك القائمة على تجديد الرؤى والأفكار. لذا نحتاج إلى قيامة أفكار ونشور معرفي.
——————-
هـ. حــ