قطعا لم يكن أطباء الفراعنة يدركون ما هي الجينات حين اخترعوا مادة التحنيط، وبالتأكيد أنهم لم يكونوا يعلمون شيئا عن تركيبة الـ DNA حين تمكنوا من حفظ أجساد ملوكهم آلافا من السنين. بيد أنه لا يمكننا بذات القدر من الحسم أن ننفي معرفتهم ساعة قرروا وضع المومياءات في غرف بها بعض الهواء الحبيس أن فطر الـ Histoplasma الذي تسمم أبواغه الغرف المغلقة والكهوف، يمكنه البقاء في غرف الدفن تلك آلافا من السنين حارسة للمدافن وفاتكة بالمعتدين عليها، فيما عرف تاريخيا بلعنة الفراعنة. ولئن كانت المومياء تجسد حلم الحياة بعد الموت، فإن إبداع أطباء الفراعنة قبل الموت لا يقل إدهاشا، فقد نشر الجراح البلجيكي فرانز جونكير (1903 – 1956) عدة أوراق علمية استخلصها من دراسة ما يقرب من 1200 بردية تتحدث عن أصالة الطب الفرعوني، الأمر الذي حفز الطبيب بول جاليونجفي إلى التعمق في فهم ليس إنجازات أطباء الفراعنة أو مكانتهم الاجتماعية فحسب، بل ومحاولة اكتشاف تأثيرهم في الوعي الجمعي للأمة المصرية القديمة، فاكتشف أن أشهر الأطباء المصريين ويدعى أمحوتيب قد كان إلى جانب كونه طبيبا كاتبا بل لعله هو من اخترع الكتابة الهيروغليفية، وكان أيضا مصلحا اجتماعيا، مما حدا بهم إلى اعتباره إلها.
مصلح اجتماعي آخر اشتهر بممارسته للطب هو النبي عيسى بن مريم عليه السلام الذي أكد القرآن الكريم في أكثر من موضع أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص، بل وكان يحيي الموتى، وهو أمر خارق حتى بالمقاييس المعاصرة إلا أن أولئك الموتى كانوا هم موتى البصيرة كما يذهب بعض المفسرين الجدد. لذلك ليس مستغربا قيام بعض بني اسرائيل من أتباع عيسى الأوائل المتشربين لثقافة عبادة الأطباء المصلحين الفرعونية إلى عبادة عيسى واعتباره إلها كما كان أمحوتيب إلها. إن هذه الألوهية للطبيب الذي يشفي الأمراض ويطرد الجراثيم غير المرئية التي كان يسميها الناس الجن والشياطين هو ما استقرت عليه المسيحية المعاصرة، كما أن الدول التي تعتنق أغلب شعوبها هذه الديانة المؤلهة للطبيب الإصلاحي هي من يقود اليوم قاطرة الحضارة الإنسانية.
إن ممارسة الطبيب للكتابة والمعرفة وصناعة الوعي هو أمر متجذر في تاريخ هذه المهنة المقدسة التي كان أصحابها بمنزلة الآلهة التي يعبدها الناس ويعظمونها، ويتقربون إليها. لذلك لا ينبغي أن نندهش من الطبيب الكاتب، أو الطبيب الممارس للإصلاح الاجتماعي، إلا بمقدار دهشتنا للقاء الآلهة، وما أكثر المتألهين في هذا الزمان الذي يمتلك فيه أغنى ثمانية أشخاص ما يعادل ما يملكه نصف سكان الأرض بحسب إحصائية منظمة أوكسفام عام 2017.
إن الصحة كما عرّفتها منظمة الصحة العالمية عام 1948 هي ليست مجرد غياب المرض أو انعدام العجز، بل هي حالة اكتمال السلامة البدنية والعقلية والاجتماعية. والمؤسف حقا هو اقتصار كثير من أطباء اليوم على التعاطي مع الجانب البدني للإنسان، بحيث يغفلون الجوانب العقلية والاجتماعية التي تؤثر لا في سلوك الأفراد وحسب بل وفي حركة المجتمعات وتطورها أو تفككها وانتشار الأمراض والأوبئة بين أفرادها. إن هذا الإهمال الذي لعله يكون غير مقصود من قبل الأطباء للتعاطي مع شبكة العلاقات الثقافية والدينية والاقتصادية والسياسية في مجتمعاتهم يساهم بشكل مباشر في إفقار المجتمعات من الرؤى الخلاقة والأفكار الإبداعية التي يمكنها أن ترتقي بتلك المجتمعات في سلم الحضارة كما كان يفعل المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وأمحوتيب الفرعوني من قبل.
يعاني الكتّاب في كثير من مجتمعاتنا العربية من ثالوث التهميش الموجه، وتسلط سيف الرقابة على أعناق الأقلام، إضافة إلى ضيق القوانين التي تخنق الحريات وتقتل الإبداع. الأمر الذي يدفع بالكثير من الكتاب إما إلى الانكفاء على الذات والتوقف عن ممارسة مهمة الكتابة وصناعة الوعي، أو انحسار ميدان الإبداع لديهم بما يلائم المساحة الضيقة المتاحة قانونيا واجتماعيا، أو مواجهة مصير من سبقهم من أنصار الكلمة الحرة المتمثل في السجن أو التعذيب والقتل، وحين يتمكن بعض الكتاب من الهجرة هربا من قيود السلطة السياسية وأغلال السلطة الدينة وأصفاد السلطة الاجتماعية، ويتوهم أنه بمأمن في منفاه الاختياري من مقاصل سلطات المجتمع الهارب منه، ويبدأ بممارسة مهمته المقدسة المتمثلة في الإبداع والكتابة ونشر الوعي والتنوير والإصلاح الاجتماعي يتفاجأ بحراس تلك السلطات تطارده حتى في مهجره محاولة كسر قلمه وإخراس لسانه، وربما أيضا تقطيع جسده وإذابته في الحمض حتى يكون عبرة لغيره من المبدعين، وليس ما حصل لجمال خاشقجي عنا ببعيد.
هنا يدخل الطب ودراسته كأحد العوامل الفارقة التي تقدم للكاتب كثيرا من الآلات والأدوات التي تساعده في تجاوز العقبات التي تعترض طريق غيره من الكتاب. يعلم الطب صاحبه الصبر، وهو درس عظيم، ارتبط في الكتاب العزيز بالحظ العظيم الذي يحول الأعداء إلى أصدقاء أوفياء. إن الصبر على مرارة التلقي المعرفي الكثيف، والصبر في مواجهة الخطر الذي يحمله المصاب بمرض معدٍ، ومقاسمة المريض صبره على السقم الذي يتهدد حياته، والصبر انتظارا لتأثير القرار الطبي فحصا وعلاجا في المريض وأهله، والصبر على بعض ردات الفعل السلبية غير المتوقعة في المريض المحبط، والصبر على عدم توفر الخدمات التي يأمل الطبيب تقديمها لتوفير الخدمة الصحية الأمثل. كل ذلك الصبر يعيد صياغة الطبيب، ويجعل منه كائنا متصفا بالأناة والتروي وبعيدا عن الاندفاع والتهور. ولا شك أن جميع هذه الصفات ضرورية جدا في التعامل مع السلطات المختلفة التي تتهدد المثقفين والمبدعين والكتاب.
قديما قيل أن المعرفة كنز مفتاحه السؤال، بيد أن الباب الذي يفتحه السؤال لا يقتصر على جمع المعلومات، إنما هناك أبواب كثيرة معرفية أخرى حول الاجتماع البشري وتنمية العلاقات الإنسانية، والباب الأهم هو باب الأخلاق النبيلة حيث ينمي السؤال في صاحبه التواضع والاحترام والتقدير للآخر، وهي أساسات تكوينية لا يمكن للكاتب أن يتحول إلى مثقف عضوي بحسب تقسيم جرامشي دون اكتسابها. يوجه الطب طالبه إلى سؤال استاذه، ويدفع الطبيب إلى سؤال زملائه، كما يعلمه أن يسأل حتى غير الأطباء كالممرضات والصيادلة والفنيين، إضافة إلى سؤال المريض وأقاربه ومن هم حوله، كل هذه الأسئلة إلى جانب توفيرها للمعرفة، تزرع في الطبيب فضيلة التواضع المعرفي والاحترام للإنسان أيا كان. لقد وقع كثير من الكتاب ضحية الأنا التي تجعلهم يتعاملون بفوقية مع الآخر، وبحدية مع السلطات المتحكمة في المجتمع والموجهة لردات أفعاله، مما خلق لهؤلاء الكتاب معارك ثانوية مع المجتمع استهلكت طاقتهم بدل توجيهها نحو بناء الوعي والارتقاء بمجتمعهم.
تمكن ممارسة الطب صاحبها من معرفة الأعماق الغائرة للنفس البشرية، وتوفر لدارسها الاطلاع على الأسس البيولوجية للسلوك الإنساني. ترتقي هذه المعرفة بصاحبها من الاختزال الذي يعاني منه بعض الكتاب الذين يتوهمون أن تفكير الإنسان ومشاعره وقراراته قائمة على الارتباط الخطي وفقا لقاعدة الفعل ورد الفعل. أما الطبيب فهو يدرك أن إرادة الإنسان لا يمكن تفسيرها بهذه الحتمية، وأن سلوكه لا يمكن تبريره بهذا القدر من الحسم لأنه أكثر تعقيدا واشتباكا حتى من تعقيد الوصلات الشجرية بين خلايا الدماغ التي يتجاوز عددها المائة مليار، والتي يقوم كل منها بعمل مكمل للآخر وأحيانا مختلف عنه، بل ومضاد له ومعارض في بعض الأحايين. أما إذا أضفنا إلى قائمة المؤثرات البيولوجية الترليونات اللامتناهية من الجراثيم المجهرية التي اكتشف مؤخرا أنها لا تصيب الإنسان بالعدوى وتنشيط جهازه المناعي وحسب بل هي تساهم أيضا ويا للدهشة في تشكيل قدراته العقلية وتكوينه النفسي وسلوكه الاجتماعي. كل هذا القدر من المعرفة لا شك أنه سيرتقي بصاحبه عن ردات الفعل التي تطبع كتابات كثير من المبدعين المتعاطين لحياة الإنسان المعقدة ببساطة ساذجة وسطحية مستهترة لا تؤدي سوى إلى تشخيصات خاطئة للظواهر البشرية، وعلاجات شوهاء للأمراض الاجتماعية.
إن ممارسة الطب، ورؤية الإنسان في أقسى حالات الوهن، ومشاهدة المرضى بجميع فئاتهم العمرية ومختلف مستوياتهم العلمية والاقتصادية والاجتماعية وهم في أشد الأوقات حاجة إلى الآخر، تضيف إلى الطبيب معرفة جازمة بضعف الإنسان واحتياجه، وأن الجبروت الذي يتستر خلفه المستكبرون في الأرض يخفي وراءه هشاشة فطرية، ونزوع غريزي للاعتماد على الآخر والحاجة إليه. ومثل هذه المعرفة ينبغي أن تجرد صاحبها من شعور الغطرسة الذي يعانيه بعض الكتاب الذين يحاولون الهيمنة على زملائهم، وممارسة دور الأب على المجتمع الذي يتوهمون تخلفه وعدم جدارته في الفهم وإدراك غاياتهم، المبتذلة غالبا.
على المستوى الشخصي لا أملك سوى الإقرار بأن روح الكاتب قد طورت في عقلي الطبي آليات رصد الحالات المرضية في السياق البشري العام الأعم تاريخيا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا. بيد أن ما هو أكثر وضوحا في كتاباتي وجلاء هو تمكن مبادئ الطب وأخلاقه من تقويم تلك الكتابات وتهذيبها، بل وإعادة صياغة تصوراتي للحياة بأسرها. وربما يتمثل التأثير الأوضح لدراستي الطب في ظاهرة الهدوء التي جنحت إليها كتاباتي المنقادة شعوريا أو لا شعوريا لفضيلة الصبر والتأني والتواضع التي يعززها الطب دراسة وممارسة، إضافة إلى البعد عن الصخب والصدام مع أصحاب الآراء المعارضة، والتأثير الأهم يتمثل في محاولة احترام الرأي الآخر والاعتذار له، والرغبة في فهم الأسس التي يبني عليها قواعده ومنطلقاته.
أنا مدرك تماما الأثر المتناقض الذي تخلفه بعض كتاباتي النقدية، وهذا الأثر لا يقتصر على القراء العاديين فحسب، بل ويتعداهم إلى النخبة من الكتاب ورموز السلطة بمختلف ألوانها اجتماعية ودينية وسياسية. فهناك من يعتبر تلك الكتابات جريئة ومقلقة للهدوء العام الذي تتوخاه السلطة التي يقلقها الوعي، وتخشى من أن تسبب أضواء الكتابة في تعرية قصورها وفضح اخفاقاتها وكشف فسادها. في الجانب الآخر ذات الكتابات التي تعتبرها السلطة ثورية ومحرضة هناك فريق يعد نفسه إصلاحيا وثوريا يعتبرها بالضد من ذلك، فلا يرى فيها سوى دفاع عن تلك السلطات، وتبرير لاخفاقاتها وستر لعيوبها.
بلا شك أن كلا الطرفين له عذره، واللبس الذي يقعان فيه متفهم وله ما يبرره. ففريق السلطة يعتبر كل التفاتة نحوها أمرا مربكا، ومدعاة لانتباه الناس إلى ما تفعل، وهذا الوعي يدفع الناس تلقائيا إلى تقييم عمل السلطة ومحاسبتها عليها. وتجنبا لمثل هذه المحاسبة يميل فريق السلطة إلى اعتبار كل كتابة لا تتوجه نحو تلميع صورة السلطة بين الناس وصرف أنظارهم عن أخطائها كتابة معادية ينبغي التصدي لها وإرهاب صاحبها. أما الفريق الآخر الذي يعتبر نفسه ثوريا، فتمثله مجموعة من صغار السن الذين لم يتشربوا بثقافة الأناة العمانية بل أن ثقافتهم في غالبها قد تشكلت نتيجة قراءاتهم لنتاج بيئات غريبة عن البيئة العمانية التي تعلم الصبر وترسخه. لذلك لم يكن من الغريب أن يستهجن هذا الفريق الكتابات الداعية إلى التأني، ويسخر من الآراء التي تعلي من فضيلة الصبر ويتهمها بالضعف والتخاذل. كما أنه لحداثة سنه لم يعتد الدراسة العميقة للأحداث ولم يجرب البحث والتنقيب عن الأسباب الجوهرية للانحراف والفساد، لذلك تجده مستعجلا الوصول إلى النتائج مهما كانت سطحيتها ومتحفزا لإقامة الحجة على السلطة مهما كان تهافتها. أما بعضهم فهو لا يخلو من اعتداد متضخم بالذات والتطير من الكتابات الداعية إلى التواضع والنفور من الخطابات الناهية عن الغطرسة والغرور.
لقد فتح لي الطب أبواب البحث العلمي على مصاريعها، وعرفني على مناهج التجريب المنضبطة، وغذى لدي غريزة الفضول المعرفي، وغرس في وجداني بذور الشغف بالجديد، والعناية بالتجديد. كما علمني الطب الصدق في القول، وعدم المجاملة في العلم، وهذا ما أحاول أن اسير عليها في كتاباتي كلها، ومع أني اجتهد في تقديم الحقائق المعرفية الصادمة بصورة أقل بشاعة مما هي عليه، إلا أنني لا أخفي فشلي في عدم استفزاز النفسيات المتضخمة الأنا والنرجسية، وهذا الفشل قد كلفني كثيرا من الخسائر من الأصدقاء الكتاب منهم خاصة، ولكنه أضاف إلى رصيدي احتراما كبيرا لذاتي، وتقديرا عزيزا على نفسي من السواد الأعظم من القراء.
إن من امتع اللحظات التي أعيشها كطبيب كاتب هي تلك التي أجد فيها أن المعرفة غير المقتصرة على علوم الأمراض البدنية، وإنما المعرفة في عمومها الثقافي المرتبط بالتاريخ والسياسية والاقتصاد والدين والاجتماع والأدب تساهم بصورة أو بأخرى في تقديم خدمة أفضل للمرضى ولطلابي من طلبة الطب والتمريض والعلوم الصحية، والأطباء المتدربين أو حتى للمؤسسة التي أعمل فيها. إن هذا التكامل بين الثقافة والمهنة يشعرني بالانسجام الروحي، ويقدم لي دافعا أكبر للبحث والقراءة والاطلاع والكتابة، وبالتأكيد الإيمان اليقيني بضرورة الإصلاح.