ذات مرة، قالت لي مُعلّمتي وسيّدة نِعمتي سوهارا، وكنت حينذاك أهيمُ بها في صمت كما يجدر بمُريدٍ مطيعٍ في منتصف العُمر:
إيَّاك أن تعتبر نفسك عازفَ الناي، لا بدَّ أن تكون أنت الناي. أفرغ ذاتك من كل شيء، حتَّى يُمكن لنسيم الوجود أن يمر عبرك حُرًّا طليقًا، لا تحكم حركتَهُ إلَّا أنفاسك العميقة. أوهن خواطر الذهن تعترض الطريق وتفسد النغمة، فالهواء مثل المرأة له غريزةٌ حادّة، والمرأةُ مثلَ الهواء لا حياة مِن دونها.
* * *
وجدتُ النعمة بين يدي سوهارا العارفة بمنابت النَّغم، قبل أن تنتزعنا سيوفُ الهَمَج مِن أمان دَرسٍ لا يُملّ بين الصحو والمنام.
* * *
كنتُ أظن أنني بلغتُ نهاية الرحلة، وأنَّ الوقت قد حان لأتوقّف عن كل سعي وأسلم أمري للنَغَمة الأخيرة، كما ظننتُ فيما سبقَ أن مشكلاتي تبخَّرت منذ أن هجرتُ الأسئلة، واندمجتُ في العيش مع جماعة اللاعبين، وبدأتُ أتقنُ عزفَ الناي بين يدي معلمتي، سوهارا سيَّدة الحُلم بالغة الكَمَال. لكني كنت واهمًا في الأولى وفي الثانية، إذ يبدو أنَّ المشكلات أطول مِن العُمر، وأن بعض الأسئلة ترمي ظلها حتّى الشيخوخة، وحتى ما وراء القبور.
هذا ليس وحيًا مُقدّسًا، فلستُ ربًّا مِن الأرباب ولا كيانًا نورانيًّا هبط مِن السماء. كَلّا، يا مَن تسمعَ كلماتي الآن من خلف آلاف الأسوار، أسوار السنين والمسافات واللغات. ولستُ أرى نفسي حَتَّى إنسانًا خارقًا أو فريدًا لا يتكرر، فقد هزمتُ أوهامَ التفرُّد والعَظَمة ذات يومٍ بعيد، في أوج كهولتي، عندما اعتزلت الحركة والدنيا، وفضَّلتُ الإقامة وآويتُ إلى كهفٍ لا يعرف مطرحه إنسانٌ غيري.
هنالك، وفي صمت خلوتي، تبدّد إحساسي بالتفوُّق والامتياز، وطرحتُ عني غرور العَظمة، مِن بين ما هزمتُ مِن سائر الأوهام البشرية التي كان يتشبَّث بها رفاقي، سواءٌ في القافلة الأولى التي عرفتُ الدنيا بين أبنائها أو في القوافل الأخرى العديدة التي قبلتني بينها حتّى ذلك الحين. وَلَعلَّ الناس سوف يبقون متمسكين بمثل تلك الأوهام المضحكة حتى تنتهي آخر رحلة لإنسان على وجه هذه الأرض، فليسَ مِن الهَيّن أن يعترفَ واحدٌ منهم بابتسامةٍ مطمئنة أنه مثله مثل جميع الناس، إلَّا إذا كان في موضع رياءٍ أو تواضعٍ زائف، أو كان يدبّر لخداعِ بعض الآخرين. كلٌّ منا يرى نفسه القافلة والرحلة ومَعناها والبداية والنهاية، يبدأ الوجود عندما يفتح عينيه رضيعًا باكيًا، ويطوي العَدم كل شيء ما إن يُسلمَ النَّفس الأخير.
أمَّا أنا فأعلمُ أن الرحلة بلا بدايةٍ ولا نهايةٍ، وأنني خطوة واحدةٌ فيها، وحتّى سوهارا ذات الأقمار التسعة، خطوة واحدة من الرحلة، لكنها خطوة صحيحة وفي الاتجاه الصحيح، ولولاها لما تنفس العازفُ النَغَمة، ولما كتبَ هذا الكلام.
* * *
أنا أقدمُ الأسرى على هذه السفينة، وربما في جميع سُفن الهَمَج، لم أعد أعرف كم بلغتُ مِن العمر، ولكن الهِرَم والوهن في غير حاجةٍ إلى بُرهان.
ربما أكتب الآن حكايتي لأنصتَ إلى نغمةٍ واحدةٍ نهائيةٍ مِن موسيقى رحلتي الحافلة، قبل أن يبتلعها النسيان بموتي أو بخرفي، وربما أكتب فقط لكي أترك اسم سوهارا المذكورة بين النجوم، أحفظه مكتوبًا ولو بمزيجٍ مِن دم الذبائح وفُتات الفحم على ألياف النخيل هذه.
تواصلُ سفنُ الهَمَج إبحارها دونما انقطاع، ونحنُ في بطونها أسرى نجدّف بها مِن شاطئٍ إلى آخر، في بحثها الدائم عن سفنٍ أخرى لنهبها، أو مدنٍ مكشوفة لنزولها واستعباد أهلها، قبل أن يتركوها خرابًا، حاملين معهم بعض مَن يصلح للمتعة أو الخدمة، خاتمين على جلده بميسمٍ مشتعل رمزًا محددًا. شحبَ لونُ العلامة المطبوعة على كتفي الآن، مجذاف نحيل ودائرة، إشارة لعملي وسفينتي، فحتّى الهَمَج يتبعون نظامًا محكمًا في طغيانهم في البر والبحر. لم أعد قادرًا على التجذيف، فتركوني أتعفّن هنا في العتمة، ولولا أن أشفقَ عليَّ رفاق العبودية لهلكتُ جوعًا أو ألقوا بي طعامًا للأسماك. رأفَ بي الأقوى والأصغر سنًّا؛ لأنني كنتُ أروي لهم سِيرة رحلاتي وقوافلي القديمة، وتصدّقوا عليَّ من زادهم الشحيح، مؤخرين لحظة نهايتي قليلًا، ثم دبّروا لي لفائف النخيل والريشة وصنعتُ هذا الحبر الأحمر بنفسي؛ لكي تبقى الحكاية مِن بعدي عسى أن ينتفعوا بها ذات يوم.
* * *
وُلدتُ لتاجرٍ مِن أسياد قومه، ونشأتُ منعّمًا وشببتُ مزهوًّا بنفسي، وعرفت في شبابي من اللذّات ما لم يهزمه ضجرٌ ولا فتورٌ. ولكن حَتّى في ذلك العهد الأعمى أحببتُ بين الحين والآخر أن أنصتَ إلى كلام السابقين، وحكاياتهم حول رحلاتنا وقوافلنا، حول أول الرحلات وآخرها، ومعنى الحركة، ومنظمي الرحلات المحتجبين وأغراضهم التي تتجاوز أفاهيمنا.
حتَّى على أيام شبابي ونضجي، كان يظهر كل بضعة أعوام، مِن بين أبناء إحدى القوافل، مَن يزعم وقوفه على السر، ويبلّغه للآخرين في حماسة وبسالة، متحديًا الأعراف القديمة وعقائد قومه. غالبًا ما يُعتبَر أمثال هؤلاء مجانين وينبذون لكي يهيموا بمفردهم في البرية، بلا وَنس ولا حماية. وفي أحوالٍ نادرة كان القوم يصدّقون واحدًا منهم ويتبعونه ويبجّلونه حتى ليعتبرونه ربًّا معبودًا تجلّى في صورة بشرٍ على الأرض، أو على الأقل إنسانًا متصلًا بمنظمي القوافل واطلع على أسرارهم.
ثم كانت تنشب الحروب فيما بعد، بين القوافل المتحيزة لأربابها وحكايتها وتفسيراتها لمعنى الرحلة، ولم يكن دم الآلهة يسيل، بل دم عابديهم مِن المرتحلين فقط.
عندما يُرهقهم القتال يعلنون الهدنة أو يتعاهدون على السِّلم، وقد يتزاوجون ويقيمون الأفراح، تشتعل النيران وتنطفئ بلا أسباب، وتستمر الرحلة، بلا مغزى.
* * *
عندما ماتَ صغيري الأوَّل -وهو بالكاد يتعلّم أولى الحروف- كرهتُ العيش وسئمتُ جميع المتع، ولم أعد أضمر أسئلتي وأطوي قلبي على شكوكي. لماذا لا يحق لنا أن نموت حينما نشاء؟ لماذا لا نختار إلى أي قافلة ننضم؟ ما هدف كل هذا الانتقال مع حركة الشمس والقمر؟ أي شيءٍ -عدا الخوف والطمع- يجمع أفراد عائلات القوافل المرتحلة حتّى تتآزر وتتحد وتقاتل صفًّا واحدًا؟ أي ذنبٍ في الإقامة والاستقرار؟
وبعد أن طرحتُ أسئلتي على الجميع، أيقنتُ أنّه ما مِن أحدٍ يعرف شيئًا، وبدأت أسخر حتّى من حديث الشيوخ وناقلي حكايات الأسلاف، وقبل أن يعلنوا نبذي قررتُ أن أبتعد وأشردُ منفردًا.
* * *
اعتدتُ التنقّل بين القوافل، تسلمني جماعةٌ لأخرى، يقبلني بعضهم ويرفضني آخرون، وأبقى غريبًا عابرًا، بلا مستقَر. تعرّفت على لهجاتٍ شَتّى، حتى كدتُ أفقد طلاقةَ لساني الأوَّل.
تبيّن لي بعد فترةٍ أنَّ الاختلافات بين كل تلك القوافل وهمٌ زائف، وأنَّ الناس جميعًا نسخةٌ واحدةٌ متكررة لإنسانٍ واحد، نُسخةٌ تحاول التنكُّر وراء اختلاف اللغات وشكل الثياب والزينة وطريقة الأكل.
أدركت أوَّل الأسرار، وهو أن مُنظمي رحلتنا ليسوا أحرارًا تمامًا، وأنهم هم أيضًا محكومون بقانون أعلى منهم. كان عليّ أن أكتشف ذلك القانون، بالكلام أو الصمت، بالحركة أو الثبات، بالحياة أو الموت.
* * *
كُنتُ أتنازل مع كل يومٍ عن جزءٍ من ممتلكاتي القديمة؛ لأضمن قوتي وكفاف عيشي، إلى أن نفد كلُّ ما لدي، فعرضتُ نفسي للبيع في موضعٍ كالسوق، تتقاطع فيه طرق القوافل، رأتني أرملة تاجر فأخذتني بلقمتي وكِسوتي، وصرتُ من بين حاملي أمتعتها، ثم مِن بين حرسها، ثم اتخذتني وصيفًا خاصًّا قبل أن تستدعيني ذات ليلةٍ إلى خيمتها وتعيدني مرة أخرى إلى قيد اللذة الذي كنتُ أظنني قد كسرته.
كان جسدها العاري في ضوء المشاعل كأنه الهضاب والوهاد، وكنتُ المسافِر الوحيد المرتجف.
عندما وجدتُ نَفسي أنتظر استدعاءها لي أدركت سِرًّا جديدًا، الحركةُ تُلهي عن السبيل والألفة تنسج شِباك الرغبة حولنا يومًا بعد آخر.
كان لا بدَّ أن أبتعد، أن أعتزل كل قافلة وكل إنسان، إذا أردتُ أن أدركَ أي شيء حقيقي.
قلتُ لها:
– لو تأذن لي سيدتي بالذهاب، فلن أنسى فضلها ما حييت.
– قد تنسى أنت، ولكن هل أنسى أنا النبيلَ الصموت؟
– كل شيءٍ يُنسَى يا صاحبة الفضل، فالليالي تمحو بعضها بعضًا.
– كان جسدُكَ معي وروحك تهيم في البَعيد.
– أخذتِ ما تملكين، فلا لومَ على ما لا يملكه أحد.
– لتذهب حُرًّا كما أتيتَنا حُرًّا، واذكر ليالينا بالخير حتَّى تَمحوها ليالٍ جديدة.
***
لم أعد أقترب من طرق القوافل أو مِن أي جَمعٍ. عشتُ شريدًا ومنفردًا مثل وحوش البرية، بلا وَليفٍ ولا نار.
* * *
كأنَّ عنوان رحلتي السابقة هو الحُلم المُشترك، حُلم الجماعة، وفي هذا افتراءٌ واضح، فالحلمُ لا يكونُ إلَّا فرديًّا. لا يشارك المرء فيه أي مخلوقٌ سواه، يراه وحده، ويعيشه وحده، ويستعيد ما تبقى من رموز وحده. وإذا ما استدعى منامنا بعض الآخرين؛ فهم أطيافٌ تؤدي أدوارها المرسومة وتتبدّد.
وكأنَّ عنوان رحلتي الجديدة هو الحُلم الخاص، حُلم الإنسان الواحد، الكذبة التي لا تتبجح بأنها حقيقة، سرٌّ مخجل بين المرء ونفسه وكفى.
نصحو في لحظاتٍ مختلفةٍ، قبل المسيرة أو بعدها، في لحظاتٍ متباينةٍ من الحُلم. نصحو فنجدُ أنفسنا تحت سماءٍ ذات ضياءٍ مُلغز، فكأنه فجر يكذب بأنه غروب، أو غروب يزعم أنه الفجر.
* * *
ثم سقطت الحُجبُ تباعًا، واتضح أنَّ عنوان الرحلة هو الفخ، فلا حلمٌ لجماعةٍ ولا لفرد، والصبح والمغيب مجرد أقنعة تخفي وجه السماء، كما أنَّ الحركة والثبات خداعُ الزَّمن والمكان.
* * *
آويتُ إلى كهفٍ يبدو كأنه لم يطأه بشريٌ مِن قبل، واستسلمتُ أولًا لنومٍ مديد. وكنتُ أواصلُ الانتقال في أحلامي بين القوافل المختلفة، ثم أحلّق صاعدًا من فوقها فأراها جميعًا قافلةً واحدةً بأذرع وسيقان عديدة ممزقة ومتناثرة في كل الجهات.
إن كان الجميع في الأصل واحدًا، فما الداعي لكل هذا الارتباك والكثرة والفرقة والشقاق؟ لماذا لم يقنع الواحدُ الأوَّل بنوره وعَماه؟ ألمجرد متعة الرحلة؟
* * *
حينما تكون واحدًا وأنت بين يدي صاحبتك سوهارا كاسرة المرآة ستكون واحدًا مع الكون كله، فيلتئم الجرح، وتنضم القوافل في بدنك وروحك؛ كأنْ لم يكن شقٌّ ولا انشقاق. عندئذٍ لا شاهد ولا مشهود، نورٌ فقط لا يضيء شيئًا غير ذاته، فرحٌ فقط لا يبهجُ شيئًا غير ذاته.
* * *
سقطت الأقطاب المتقابلة أمام عينيَّ كأن لم تكن، فلم تعد الرحلة ثوابًا ولا عقابًا، بل رأيتها شيئًا يتجاوز الحدين الساذجين. كانت أمرًا واقعًا مباشرًا، بلا معنى تنطوي عليه، مثل عَظاءة ملوّنة يقودها حظها السيئ إلى عزلتي فأشويها وأتقوّت بها.
لكنَّ تجاوز الأضداد بالفكر مهمة هيّنة ما لم تخضع لامتحاناتٍ عسيرةٍ.
* * *
استيقظتُ ذات صباحٍ على قامته القصيرة تجحبُ نورَ الشمس ووجهه الملوّن بالأصباغ. قالَ إنّه رسولٌ من مُنظّمي الرحلات إليَّ، وقد أدركوا أنني أوشكتُ على كشف أسرارهم عن معنى الرحلة وغايتها. ادّعى أنه جاءني في هيئة ساحرٍ جوَّال؛ لئلا يشكّ أبناء القوافل في أمره، ولم يأت إلَّا ليأخذ بيدي لأتجاوز تلك العتبة الأخيرة.
انعقدَ لساني، وقبل أن أطلب منه برهانًا يطمئن له قلبي، أشار بيمينه فتحوّل الكهف في لمح البصر إلى جزيرة عليها كل ما تشتهي النَفس، وتحلّقتْ من حولي فتياتٌ تأرجحنَّ مع النسيم بين الفُحش والعفّة.
ابتسمت وقد أدركتُ أنَّ أوهامي جسّدت لي دجَّالًا حقيقيًّا، يمكنه أن يحقق لي أدق خاطر وأصعب أمنية، تذكّرتُ توجا، طفلي الأوّل والأخير، وسرعان ما سمعتُ صوته ضاحكًا مهللًا، ورأيتُه يركض نحوي صائحًا: بَا بَا بَا.
في تلك اللحظة لم يعد مهمًّا عندي هل ما زلتُ جالسًا في كهفي بعد أن مضغتُ عشبًا يورث الضلالات، أم أنني صرتُ حقًّا ملك الملوك، أقدرُ على بَعث الموتى، وأطوي المكان والزمان وأبسطهما بين أصابعي.
تماسكتُ ورفعتُ كفي اليُمنى في وجه طيف الولد، فثبت في مكانه، وأخذ يبكي وهو يصرخ ملتاعًا: بَا بَا بَا.
لم أعد أبًا لأحد ولا ابنًا لأحد، الصِّلة الأولى القديمة تجبَّ كل قرابة جديدة زائلة.
انقضَّ الدجَّال ملوّن الوجه على الصبي وصرخَ فيَّ: ماذا تريد الآن لتتيقن أنَّها الحقيقة وأن ملكوت الدنيا تحت قدميك؟ أتريدني أن أعيد قتله وعذابه مِن جديد لتوقن؟
راحَ يغرس أصابعه ذات المخالب الحادة في صدر الطفل وجوفه. لم يعد صراخ الطفل طلبًا للرحمة يصلني، أخذ يبتعد وتتبدد صورته، وابتلع الماءُ الجزيرةَ بما عليها كأن لم تكن. ثُمَّ نهضتُ وقد جفَّ العرقُ تاركًا آثار ملحه على جلدي وثوبي. خرجتُ من ظلمة الكهف مشتاقًا للضياء، فتشتُ عن عين ماء، حتّى قادني إليها سربُ عصافير. نزعتُ ثيابي ونزلتُ عاريًا أغسل نفسي وجسدي مِن حرب الليل وكل الليالي السابقة. شعرتُ أنني كنتُ حُرًّا لأوَّل مرة في عمري كله، ثم سمعتُ أصوات الموسيقى والصياح مِن بعيد.
كانت نفسي تتوق إلى المرح والصحبة، فتتبعتُ الصوتَ وقد عزمتُ على أن أنضم إلى أصحابه أيًّا كان شأنهم. وعندما وقعَ بصري عليهم عرفتُ أن نصري على الدجَّال لم يذهب سدًى، وأنَّ علامتي الأولى أن يمنحني العالَم بُغيتي قبل أن أعبّر عنها لنفسي.
* * *
كانت قافلةً من اللاعبين والمازحين، شاهدتُ أمثالهم في جولاتي السابقة أكثر من مرة. يمارسون فنونًا وألعابًا للتسلية والترفيه، ويقدّمون خدماتهم على القوافل الأخرى نظير أجر أو لمجرد المرح. اقتربتُ بهيئة متشرّد وابتسامة أبله. دلّوني على كبيرتهم لأمثلَ بين يديها أولًا. عندما سألتني لماذا أرغب في الانضمام إلى قافلةٍ من اللاعبين؟ لم أفكّر في جواب،أطلقتُ صوتًا شائنًا من أنفي وسببُتها بكلمةٍ واحدةٍ فاحشة. اندلعت الضحكات من حولنا، وقامت السيدة البدينة ذات الحُلي من كرسيها، وقبّلتْ أنفي علامة قبولي بينهم. أخيرًا، عثرتُ على قافلتي ودربي وأهلي.
* * *
لم يكن أيُّ واحدٍ مِنا يشبهُ الآخر، كلٌّ ينتمي إلى نفسه فقط ولو كانوا إخوةً أشقَّاء. ثوبٌ مرقَّع بألف لون وألف ملمس، بلا فضلٍ لرقعةٍ على أخرى إلّا في حدود ضرورة تنظيم العيش، وهو نظامٌ ما أشبهه بلذّة الفوضى. إذا تعبتَ ترتاح، وإذا جعتَ تأكل، وإذا اشتهيتَ ضاجع، مِن غير أن تُؤذي أو تُؤذَى. ومع ذلك فأي انسجام وأي انتشاء، والأهم مِن ذلك كله أي حرية، لا يجبركَ أحدٌ على البقاء، وإذا شئتَ ابتعدتَ، لفترةٍ أو إلى الأبد، فإذا أتيتَ لا نَصدّ وإذا ذهبت لا نَتشبّث، فالقلوب لا تتعلّق والأبواب لا تُوصَد.
* * *
نهارنا كدحٌ هو أقرب إلى لهو الصغار، نقيمُ للآخرين أعيادًا مُرتجلةً، ونبدد ثقل أيامهم في أوقات راحتهم الشحيحة. والليالي لنا، ندبّر شؤوننا ونسمر ونبتكر الجديد في متعنا البسيطة. تعلّمتُ مهاراتٍ عديدةً؛ لكي أستحق لقمة عيشي بينهم، لكنَّ صوت الناي أسرني أكثر من أي شيء، وظللت أرقب من مسافةٍ عازفيه، وأتطلع بإجلال لمعلمتهم، سوهارا الصهباء ذات النمش، في مرورها كأنها قافلة وحدها، قافلة عطور وتوابل نادرة. وآمنتُ عندئذٍ أن الرحلة لم تكد تبدأ، رغمَ شعري الرمادي، وأنَّ اللعب أشق المهن، وعلى قدر مشقته تكون لذته.
* * *
عندما استجمعتُ شجاعتي واعترضتُ طريقها باسمًا في خجل، فوجئتُ بها تتساءل: أخيرًا؟ قاست اتساع صدري بكفها المفرودة وتناولت أصابعي تختبرها بين كفيها، ثم أعطتني نايًا صغيرًا للتعلّم وأمرتني ألّا أكف عن النَفخ فيه طيلة أسبوعين قبل أن أرجع إليها لاختبارٍ جديد.
* * *
سوف تقول لي مُعلّمتي سوهارا الجليلة صاحبة الحكمة ذات يوم:
لا بدَّ أن تغيبَ عن الدنيا بما فيها؛ حتى تستطيع أن تنفخَ في أذنيها بسِحرك، تغيب لكن دون أن تغفلَ عن حركة أصابعك على ثقوب الناي، دون أن تُفلتَ النغمة. الحيلة أن تملك أصابعك حياتها الخاصة بعيدًا عن عقلك، فتواصل حركتها بينما أنت ثابت، تتلاعب أنفاسك بالهواء وأنت ترصد وتراقب كأنكَ المنصِت لا العازف.
وليكن إحساسك بالناي هو نفس إحساسك ببعض جسدك، أو جسد مَن تحب. فلتسلم بوجوده كأنه أصابع قدميك مغروسةً في الرمل أو خصلات شَعرك تمشطّها الريح.
* * *
أتعلَّم وأجتهد، وأكتم الحُب صابرًا، ورغم ذلك تشي بي الحركة والنظرة وارتباك العبارة. لم تأبه هي لتلك الخيوط التي أتخبّط بينها، ثم لم تعترف بذلك الخيط الوحيد الذي أخذ ينفتل بيننا خفيًّا كأنه أنفاسُ الناي، أو لم تشأ ذلك إلَّا بعد شهور طويلة، حينما اكتمل درسي وصرتُ مستعدًّا للعزف على الملأ.
* * *
كان اختباري الأوَّل أن أبعث النومَ في عيون بعض الأطفال والحيوانات، فنجحت. ثم طلبتْ مني بعد قليلٍ أن أوقظهم فرحينَ وأجعلهم يرقصون، فنجحت. وكان اختباري الأخير أن أعزفَ معها بعيدًا عن الجميع. كنتُ أسمع نغمهتا وأردّ عليها بنغمتي، حتَى شرعتُ أرتجل وألعب، فتابعتني هي مستسلمة. عندئذٍ فقط ابتسمتْ، ولم تكن قد ابتسمت لي طوال تلك الشهور ولو مرةً واحدةً، عندئذٍ فقط عرفتُ أنَّ المقيم الخالد لا يُسفر عن وجهه إلا في العابر الفاني، في ابتسامة الجميل العابر، في ابتسامةٍ وحَسب.
* * *
ما هي إلَّا أيام وأخذتني، بعيدًا عن بقية العازفين واللاعبين، رغم أنَّ أغلبهم لا يتحرّجون مِن المضاجعة تحت سمع وبصر الآخرين، لكن جمعني وسوهارا ذلك الشيء الذي يُشبه الحياء، فلم نكن نعرف كيف نتعرّى لنستحم –لا أنا ولا هي– في رفقة أبناء جنسنا حتّى، ولم نتبادل قبلةً واحدةً في حضرة طائرٍ مغرّد أو عنزةٍ لَعوب.
كانت خيمتها صغيرةً، لكنها وسعت الكون كله.
كأنني لم أعرف امرأةً مِن قبلها، كأنني أكتشفُ حاسّة اللمس بعد أن عشتُ عمري حجرًا. وذات مرَّة امتطتني كالفارسة وانهمر شعرها الأحمر يغطّي عينيَّ، فلسعتني نارٌ حقيقية حتى شهقت، وكان مجرد نطقي باسمها عندئذٍ بردًا وسلامًا.
* * *
كل شيء وراء أركان الخيمة لم يعد له وجود، لم يكن يعني شيئًا، لا أقول إنني نسيتُ المعنى والقوافل وأسرار منظمي الرحلة المحتجبين فقط، بل نسيتُ حتّى سوهارا نفسها وقد حررتني منها بحضورها، فكأنني غبتُ لأجدني، وكلّما استغرقتُ ونأيتُ عنها في صمتٍ ثقيل تعرف هي كيف تستدرجني بهداوة من كهفي القديم، فتجرح الصمت بكلمة أو مزحة، ثم تلعق دمعتي التي أكتشفها فقط عندئذ، وتشرع في الحكي، وهي تحتضنني من ظهري، تحكي كأنها تنفخ في الناي، كأنها تلفّق أحلامًا زارتها أو ستزورها، ودائمًا تعود إلى حلمٍ واحدٍ بعينه يتردد عليها من زمن بعيد.
قالت: أرى نفسي في المنام راقدةً في فراشي بخيمتي، وكأنني انفصلتُ عن جسدي، ووقفتُ بجانبه أتأمّله. ومعَ هذا فالشخصُ الواقف المتأمّل ليس أنا، بل رجل غريب، يأكل جسدي بعينيه في اشتهاءٍ يائس، ولا يقدر رغم ذلك على أن يمد يدًا ويلمسني كأنه تجمّد في موضعه أو لعلّه يخشى أن يوقظني لأنه يعلم أنني أحلمُ به، وأنّه سوف يتبدّد وينتهي تطلّعه نحوي لو صحوت. كانت سعادتي تتأرّجح بين خوف المرأة النائمة ورغبة الرجل الناظر، وكلاهما أنا. وكثيرًا ما كان يهزم خوفه وحيرته ويحكي لي عن نفسه.
فأسألها عمَّا كان يقول لها في الحُلم قرينها المذكَّر ذلك.
فتجيب ساهمةً بينما تضفَّر طرف شَعرها بطرف شَعري:
كل مرة أشياء مختلفة، فكأنَّ هذا الرجل لا يثبت على حال. لا أذكر الكثير مما يثرثر به في الحلم، قد أذكر صوته، كلمة أو عبارة، لكن لا شيء مكتمل أو واضح.
أسألها بمكر:
ألا يعزف الناي أبدًا؟ ألم يُعلمه أحد الصنعة؟
تجيب:
كلّا، يتكلم وكأنه قد عاش ومات ومَثلَ أمام معبوده يرجو الغفران والنعيم. لا يدافع عن نفسه، لم أشعر بهذا في نبرته، بل كأنّه كان يجمّلها، يذكر مزاياه ومحاسنه.
فأكملُ لها أنا من عندي:
وكان يصف حُسنه كأنه أنثى، لا ذكر.
تصيح في حُبور:
لعلّك اقتربتَ مِن تفسير الحُلم.
* * *
عِشتُ مع اللاعبين سنواتٍ لم أشعر بمرورها، في كنف امرأتي سوهارا أُمِّ البنين والبنات. اتخذتُ رفيقاتٍ غيرها، واتخذت رفاقًا غيري مراتٍ عديدةً، لكن في كل مرة كان أحدنا يجد سبيله إلى الآخر بعد بضعة شهور، متجاهلينَ أعراف جماعة اللاعبين التي تحرّم الارتباط بشريكٍ واحد فترة طويلة. حتى ولو يضمنا فراشٌ كنا نسير ونتكلّم ونلعب بالناي معًا، وحدنا أو وسط أولادها وبعض العازفين المتدربين.
كُنا نستحم مع بعض الصغار في جدول ماءٍ بين الصخور عندما أغار علينا الهمج، رغم اتخاذنا موضعًا بعيدًا عن جميع المرافئ، لكنهم كانوا هذه المرة قد توغّلوا في اليابسة بحثًا عن غنائم جديدة. جمعنا الصغار أنا وسوهارا وركضنا عَرايا، أصابني سهمهم الأوَّل، وسرعان ما انقضّوا على النساء والأطفال يجمعونهم مثل مَن ينتزع زهورًا نادرةً ليسد بها جوعها.
استسلمنا جميعًا ببساطة؛ فاللاعبون لا يفهمون الحرب وغير مؤهلين للقتال. أجهزوا على المُسنين في دقائق، وقيّدوا الرجال والشباب في أغلالٍ طويلةٍ، ثم تفرغوا للأكل واللعب، وظللتُ أسمع صراخ الإناث والأطفال وعُصبة الهمجُ تتناوب على اغتصابهم أيامًا عديدةً.
* * *
زارني الدجَّال آنذاك مِن جديد، كان يحمل بين يديه ابني توجا، وكان الصغير لا يزال في مثل عمره الذي توفّي فيه، ولم يكن يتألّم هذه المرة أو يصرخ، بل يبتسم ابتسامةً كريهةً شامتةً، وكانت رؤيته أقسى عليَّ من كل ما أسمعه من صراخ. هزمني هذه المرة.
* * *
لماذا تعلّقتُ بسوهارا وآنستُ لحياة التخفف والفن؟ لماذا لم أسرع بالرجوع إلى كهفي ووحدتي؟ من غير أن أصحب معي غير الناي وما تعلّمته منها؟
لا مزيد من خداع النَفس، لا أحد يعزف أو يغنّي إلّا محبةً للسامعين.
* * *
عندما ضجر الهمج من اللعبة قرروا مواصلة الرحلة، وأخذونا معهم كعبيدٍ للتجذيف بالسفن. لم أنظر خلفي رغم أنني سمعتُ صيحات مَن ظلّوا أحياءً بعد حفلات الامتهان والتعذيب. لم أحاول حتى أن أتبين صوت سوهارا وأطفالها بين النداءات المتداخلة. كل ذلك انقضى بالنسبة لي، وكان عليَّ أن أتعلّم الاستسلام الحقيقي الصريح، لم أعد شيئًا حَيًّا إلّا بقدر ما في الصخرة أو السحابة من حياة.
استعدتُ كهفي القديم في خَيالي وبنيته وشرنقةً حول نفسي، بينما أساقُ في طابور طويل نحو قبرنا المتحرك في بطن سفنهم، لم أبكِ أو أطلب الرحمة، كما لم أَعْصِ وأتمرّد على الأوامر، ظللتُ طَيعًا مثل حيوانٍ أليف يفهم ما يُقال له وينفِّذه دون حماسٍ أو إرادة. هذه هي مهمتي الأخيرة أن أقضي على إرادتي تمامًا، كل مصائب أهل هذه الدنيا ابنة إرادتهم ورغبتهم، لم أعد أريد حتى أن أصل إلى الحقيقة أو السر، فلم يعد ذلك كله عندي إلّا أباطيل وأضغاث أحلام، ولو عثرتُ على الحقيقة ذات يوم فسوف أقايضها عن طيب خاطر بيوم في صحبة سوهارا ربتي المنتهكة.
* * *
لسنواتٍ لم أتوقف عن التجذيف إلّا إذا أُمرتُ بذلك، أو نعستُ رغمًا عني وأشفق عليَّ الرفاق، فأزاحواني بعيدًا لسويعاتٍ. في قبرنا الذي لا نرى منه سوى امتداد المياه ونتفة يسيرة من السماء، كنتُ أغمض عينيّ وأجدّف وأبذل وسعي ألّا أفكر في شيء ولا أستعيد شيئًا، غير أن ذلك الدجّال اللعين لم يكن يتركني كثيرًا لأنعم بموتي وأنا ما زلتُ حيًّا. ظَلَّ يناوشني ويذكّرني بكل شيء. وعندما كنتُ أنجح في طرده، كنتُ أرى صورتها، أراها وهي نائمة تتقلّب مُنعمة في أحلامها العجيبة، فأظل واقفًا بجانب فراشها عاجزًا عن إيقاظها أو مَد يدي لألمسها، أخشى أن تتبدد صورتها، كنتُ أجدّف والعالَم يتعفَّن مِن حولي في بؤسه وجرائمه، بينما في وَهمي أبقى واقفًا قبالة حُلمها، أتمنى لو تتقلّب مرة أخرى، فأرى جانب وجهها على ضوء السراج الواهن، وعندما أتعب من وقوفي هكذا أتحدث إليها، مستغفرًا ونادمًا أولًا، ثم مدافعًا عن نفسي لبعض الوقت، وأخيرًا لا أجد شيئًا أقوله خيرًا من التغني بحُسنها وفضائلها التي أنسبها إليَّ، واصفًا لها محاسني التي كانت في حقيقة الأمر محاسنها هي.
* * *
ثُم بدأت أنسى أشياءَ وأتوه عن لحظاتٍ كانت هي كل كنزي في سجني الطويل، وإذ خشيتُ أن تتساقط من بين يديَّ الحكاية كاملةً يومًا بعد آخر، فتحت فمي أخيرًا وبدأتُ أتحدّث بها إلى رفاق العبودية، أحكي لهم عن عازف ناي وحيد، مرّت رحلته بقوافل عديدة، أرهق نفسه سعيًا وراء السر، لكنه الآن في غنى عن كل شيء. وقبل أن تنتهي أيامه راح يجاهد لكي يتذكر من أين بدأت رحلته، وكيف وصل إلى هنا، وما هي قافلته الأولى، لكنه لم يعد يتذكر غير حكايته مع سوهارا، والتي لم يعرف مع أنفاسه الأخيرة إن كانت جزءًا من حُلمه هو أم من حُلم شخصٍ آخر التقى به ذات مرة، وسهرا ليلةً حول النار، فتبادلا الحكايات والأحلام ثم افترقا دون وعود أو معنى.
محمد عبد النبي *