كان «الميجر» معروفاً لأهل البادية معرفتهم بضباع الجبال المحيط بالسهل الذي يقطنونه، فقد كان صراعهم مع الضباع التي تهجم على أبنائهم وأغنامهم يكاد يكون كلّ ليلة، ولكثرة ما فقد من أولاد و أغنام وحمير، باتوا يعرفون هوية كلّ ضبع، فمنها ما كان مختص بأكل الكباش ومنها بأكل الخراف، ومنها بأكل الحمير وأخطرها تلك التي تعوّدت على أكل أبنائهم، وكانوا يعرفون الجهة التي تنسل منها كل ضبع، والريح المواتية لانقضاضها، وكذلك كان شأنهم مع الميجر فهم يعرفون رغباته واحدة واحدة فهو يعشق أكل الخراف الوردية، وموّله بسجن كل شاب أطول قامة من قامته، وبركب كل حمار غير مجدوع الأذنين، وذلك لأنه كما يحكى كان طويل الأذنين بشكل لافت للنظر، ويحكى أنه انضم إلى صفوف الجيش الإنجليزي، بعد أن يئس من ترويض خطيبته على ألفة طول أذنيه، إذا اعتمر قبعة ليخفيهما، تضحك وتقول لو أنك لم تلبس قبعة، ألا ترى كم بدت أذناك نافرة تحتها لافتان للنظر أكثر فهما تشرئبان تحت القبعة وترفعان جلدها فتبدو كأنها جاموس بقرنين، وإن خلعها، تضحك وتقول يا أخي استر أذنيك ألا ترى أنك تظهر مثل عنزة، طيب طوّل شعراتك لتخفي جزءاً منهم، وإن أرخى شعرها كما ترخيه النساء، فكانت تضحك وتقول له: احلق شعرك، ألا ترى أن أذنيك تنبتان منه فتبدو مثل شيطان مطعم على خنزير، وبدأت تميل إلى شاب أطول منه وأقصر أذنين، وكلما أنبها على التغزل بطوله، كانت ترد ما رأيك أن أتغزل بطول أذنين، أدرك هزيمته، لكنه لم يستسلم، ولم يجد حلاً لأذنيه إلا الانتساب إلى الجيش الملكي الإنجليزي، الذي يلبس جنوده قبعات مريشة بريش إوز وطاووس ، وكلما زاد نشاط الجندي كوفئ بريشة أخرى، فقرر أن يتطوّع في الفرقة المعدة لتطبيق خريطة بايكتبيكو، حيث فرصة المكافآت هناك بلا حدود، وهذا يعني أنه سيحظى بريش يجعل رأسه وحده ديك حبشي بتمامه، ولا مجال لأذنيه أن تشرأبا من بين كلّ هذا الريش، وتحقق له أن أمسك بذيل حلمه، فكلفته قيادة الجيش الملكي بعد تخرجه، بقيادة سرية حماية خط التابلن العابر للبادية، وراح يختلط بالبدو الرحل الذين ينتشرون في البادية المحيطة، ويعمل على زرع مخبرين له بينهم ليعينوه على القبض على الشبان الذين برعوا في السطو على مقرات عناصره المنتشرة على طول خط التابلن، ووجد نفسه فجأة مضطراً أن يحمي جنوده بدل أن يحمي الخط الذي لم يتعرض لخدش واحد، لكنه عجز في القبض على واحد منه وبدأ ذيل حلمه يفلت منه، وقد وصل اليأس به أن يرغب بإفلات ذيل حلمه لكن حلمه لم يعد يفلته لأنه استلذ بلبطه، فها قد مر عام، ولم يظفر، بريشة صوص مكافأة، بل جرّد من كل الريش التي اكتسبها بمجرد تخرجه، وانتابته حمى أكل الجديان وركب الحمير ومطاردة الشبان الطوال، وكانت معركة البدو مع الضباع بين كر وفر فلا غالب ولا مغلوب لأن الضباع كانت تهجم عليهم بدافع غريزة الجوع، أما معركتهم مع الميجر فقد انتصروا بها لأنّ دافعه بطر حلمه العدواني وعقده الحيوانية التي صنعها بيديه، فقد عرفوا حقيقة عقدته من طول أذنيه، فعزموا على الاحتيال عليه، فأولموا له ودعوه للغداء الذي ذبحوا فيه عشرة خرفان وردية ، ووضعوها كلها في صينية كبيرة في منتصف الخيمة ووزعوا إلى جانبيها عشر صوان وضعوا فيها أرزاً من دون لحم، ثم صاح كبيرهم تفضلوا إلى الميسور تقدم الجميع إلى صوان الأرز يأكلون منها ولم يتقدم أيّ منهم إلى صينية اللحم ،فارتاب الميجر وتمنع عن مدّ يده، ولا حظ صاحب البيت ذلك وقد كان يترقبه ، فصاح يارجال الميجر معذور لا يعرف عادات البدو التي لا تغدر بالضيف ، فقام الجميع بانتظام أكل كل واحد منهم لقمة من اللحم ثم عاد إلى صينته يتابع أكل الأرز، فسأل مترجمه عما يحدث، فشرح له عادات البدو وقال له : أكلوا من اللحم كي تتأكد من سلامته، فسأل: اللحم كثير جداً يكفي الجميع ويزيد فلماذا لم يوزعوه ،هل هذه عادة في الإكرام، فقال المترجم:لا، لكن هذا لا أعرفه، كل الآن ونعرف ذلك فيما بعد، وحين فرغ من الطعام بشهية كبيرة، طلب إلى المترجم أن يسأل كبيرهم عن سبب عدم أكلهم اللحم معه، فساله، ورد الكبير: يا سيادة الميجر نحن لا نأكل الجديان لأن مَن يأكلها تطول أذناه وكما ترى لا أحد بيننا أذناه طويلتين، ومن يومها حرم الميجر على نفسه أكل الجديان، أما الحمير فجدعوها ولم يبق حمار واحد يركبه الميجر وأما الشبان الطوال كلهم اختفوا خلف الجبال لا يخرجون إلا ليلاً ليغزو مقراته، فودّ لو يعودون فيحرم على نفسه معاقبة شاب أطول منه ولا سيما أن الزمن طالبه ولم يكسب ريشة واحدة بل أمس جاءت برقية من قيادة الجيش الملكي تأمره بخلع قبعته لهوانه في حماية المقرات، وذلك تكسيراً لرتبته وإيذاناً بتسريحه لعدم كفاءته، وعودته إلى بريطانيا، فجن جنونه، وبدل أن ينصاع للأوامر، فرّ من الجيش، وهام في البوادي، فتعلم حياته، وأتقن رعاية الجديان، ووصل أخيراً إلى مَن قبل أن يسرحه بجديانه، ومرت الأيام عليه حتى وسقط شعره وتهدّلت أذناه كثيراً، وفكّر أن يتزوج ،وراح يحط عينه على أرملة فقيرة خيمتها متطرفة..وباتَ يتردّد عليها بحجج المساعدة، لكن صاحب الجديان شكّ به، فراقبه جيداً، وما إن رآه في ليلة معتمة يدخل خيمة الأرملة الغافلة حتى أطبق عليه مع رجال القبيلة، وما إن أحسّ بهم حتى فرّ من أحد الشقوق، وراح يركض صوب الجبال لينجو بنفسه …………….. وبعد أن هدّه التعب، جلس على صخرة يلتقط أنفاسه فرأى ضوءا قريباً، ما لبث أن سار نحوه، وحين اقترب عرف أنه وصل مزرعة أم المترجم الذي كان من عهدته يوم كان ميجراً، وكان يعرف حالها فقد انشغل ابنها في معاشرة الإنجليز ليتقن لغتهم وعاداتهم ونزواتهم حالماً بأن يصبح مترجماً عند عليتهم، بينما راح أبوه يحرس نساء جنودهم في المقرات المحصنة لعل إحداهن تحنّ عليه، وتعمل على مساعدته في تحقيق حلمه بأن يصبح حارس حديقة حيوانات في بلادها فيمضي عمره بين الصبايا الشقراوات اللواتي يأتين لمشاهدة الحيوانات الغريبة هناك، وهو متقن لأغلب أصواتها وحركاتها، فيمثلها أمامهن فيحظى بلمسة منهن ويصبح فرداً أساسياً مثله مثل أي حيوان غريب في الحديقة، أمّا أمّ المترجمة فقد كان المشجع الأول لابنها باختلاطه بالإنجليز والمحرض الرئيسي لزوجها لاحتكاك بالانجليزات، لعل أحدهم يصيب فتصبح من أفراد العائلة المالكة، مستخدمة، وصيفة، خليلة حارس مقطوع من شجرة … لا فرق … ولم تقنط أم المترجم بل سعت بنفسها لتصيب شيئاً، فراحت تعمل خياطة لبدلات الجنود الإنجليز، وحين وصل منزلها، رأى الباب مواربا فخشي أن يكون عندها أحد، فانتظر يراقب ويقترب من الباب ليتفحّص من فيه ، وتأكّد أنه وحيدة تغفو مكشوفة الساقين وكأنها تصليهما فخاً لأعمى قلب فقد كانت حنونة جداً وتعاني من برد ظل زوجها، وبرد حلمها الذي رجل بحديقة الحيوانات ورجل في حمامات العائلة المالكة، فانسل إلى فراشها غطاها.. فكانت غارقة بحلم ولادة ابن لم يولد من بعل عقيم لأنثى خصبة .. فيصبح راعي كلّ عنز الجبل … سال حنانها لما رأت الهارب، ولمحت أذنيه فتأكدت من سلامة هوية حلمها، ولتوحي بكرم ضيافته للحلم الضيف ولا سيما أنها ادعت عندما اتُهمت بسرقة لبن ماعز جيرانها أنها تغلبية تهدي اللبن ولا تبالي، قيل أن زوجها كان عائداً إلى منزله في إجازة قصيرة، وكان قد وصل أعلى، وهناك على الجبل لم يكن يفكر لحظتها بشوق زوجته إليه، فقد كان غارقاً بتأمل حلمه يسترخي في حذاء امرأة شقراء، وهناك ببرد الجبل القارس الذي يحسه لاسترخائه في الحذاء، لمس بحاسته السابعة دفء جسد زوجته، فابتهل، وفرح …فقد حكت له أنها في غيابه كانت تتخذ من ظله بعلاً وسن … حُكِيَ أن الميجر أراد أن يكفّر عن ذلته فراح يساعد ابنه المجهول عن بعد في كل ليلة يسرق جدياً من قرية ويبعه بثمن بخس لجندي إنجليزي ليأكله ويرسل جلده إلى خطيبة أو عشيقة تتعاون مع خليل مؤقت على تحمل برد غياب خطيبها الذي استشرق ليكحل سواد عينيها بتحف الشرق وحليب عصفور سحره ……وأمسكت أمّ المترجم بذيل حلمها فقد صار ابنها ذو الأب الاحتياط لحارس النساء الشقر راعي ماعز كل الجبال التي لا بدّ له أن يغزو بها قصر العائلة المالكة، أوفي أضعف الإيمان يملك أحد قصورها في الشرق، ولم يتخل الابن الراعي عن وفائه للماعز على الرغم من عجز كلّ مَن عرفه عن تفسير ولعه بالماعز، حتى أطباء الوراثة أنكروا وجود مورثات تورث سرقة الماعز أو طول الأذان، وتدرج الابن ولا يعرف أحد كيف في مراتب عالية في قصر العائلة المالكة التي لم تلبث أن عينته والياً على أمر إحدى مستعمراتها التي تضم فيما تضم ضيعة أم المترجم وجبالها…..فأمر أول ما أمر كبير المهندسين أن يبني له قصراً على هيئة معزة شمطاء ملحاء ……قيل : كان طوال الليل يجلس إلى جانب القصر يمارس عادته في رعي الماعز … فهو لم ينس ولا ينسى.. وتذكر ما فعله به مرة معلّم الضيعة الذي أخطأ في تهجئة اسمه وهو يقرأه في جدول التفقد ،فضحك حتى ثغت الماعز البكماء. فاستهجن المعلم ، وقال له: ما الذي يضحك أيها التيس ( طبعاً غيّر اسمه فيما بعد ) .. قال: ألا تعرفني يا أستاذ: ردّ المعلم: بلى أنت علم في رأسه نار… وأخذ أذنه وشدّها حتى مطت فصارت تشبه أذن الماعز… لذلك كان يطلب أن تصفّق له المستعمرة كاملة برجليها ويديهاعندما صار راعيها، إذ قد أضعف الأستاذ سمعه… وليس ما بهر الراعي التلميذ ما أصابه من طول أذنيه على الرغم من لؤمه.. بل بهره عجزه عن فهم كيف تكون النار في رأس العلم وهو من قماش… فهو لا يعرف إلا العلم الذي يرفرف على سارية المدرسة……..سرح مرة بماعز ذكريات فتذكر حادثة فأحس بأذنه تطول …طلب رئيس الحرس قال له : هات المعلم فلان من تحت الأرض ………. ولما أحضروا المعلم المسكين الذي قضم أصابعه التي شدّ بها أذن طالبه سابقاً ومولاه لاحقاً – ندماً .. وتمنى لو لم يعلم أحد حرفاً لكي لا يصير عبده فيما يستقبل من الأيام، ذعر كثيراً حتى سمع دمه يثغو ألماً، لكنه دخل، و انحنى أمام معلم معلميه الآن ………… استقبله مولاه ثاغياً بضحكة رعت كل عشب الجبال و الحروف التي علمها، ثم قال: علم في رأسه نار أيها المعيزة الفصيحة نسيت، لم يجب المعلم بل بكى وأراه ما فعل بأصابعه, وأردف: مولا ي. ولم يسمح مولاه أن يلتفظ، فقد زعق ( وعيمة وفشة، وهما كلمتان يُنهر بهما الرعاة المواشي).. أنا الذي عقَّدَني شيء واحد عقدني وأعجزني و أنا الذي عجزّت الدنيا منذ كنتُ تلميذك مستعبّداً بهراء علمك حتى صرت مليكك مستعبِداً لك، قل لي: كيف تكون النار في رأس العلم ولا يحترق … أطرق المعلم طويلاً حكمة كبير البدو في الاحتيال على الميجر، وتنفيره من أكل اللحم وركب الحمير، وسجن الشباب، وتذّكر أنه هو الذي علمه مع البادية الدهاء والنقاء، لكنه تذكر أنّ أمّ المترجم في ليلة باردة صارت قابلة إنجليزية، فولدت في كل بيت ولد إلا ما رحم ربك، وقيل أنها كانت تزرق كل مولود إبرة دم إنجليزي أزرق بارد، وقيل من يومها فقد أبناؤهم حميتهم، وبهت دهاؤهم ، لكنه بعد كل تلك الذكرى والإطراق، ردّ المعلم: مولاي لو عرفت السرّ لعفوت عني؛ إنها نبوءتي بسلطانك دعني أفسّر لك: العلم هو الجبل: وهذا مثَلٌ يقال للمشهورين،ألا ترى أن قصرك أصبح فوق جبل يلوح للناهب والعاصي، طبعاً مولاه ظنّ للداني و القاصي … انظر ألم تصبح علماً في رأسه نار.. تمتطى مولاه فقد حلت عقدته وطرب للتفسير وناجى نفسه ربما يكون سرّ مجدي نبوءة المعلم.. يجب أن أراعيه قليلاً فلا أنفذ به حكم سلخ الجلد حياً وما دمت أصبحت أفهم معنى عبارة علم في رأسه نار؛ فيعني صرت مثقفاً والمولى المثقف يجب أب يبرهن لرعيته عن مدى ثقافته … لذلك سأحكم بالتالي: على وزير التربية في مستعمرتنا الماعزية أن يعمم مضمون أمرنا السامي: كل صباح يقف المعلمون أمام طوابير الطلاب و يثغون بصوت واحد مدة نصف ساعة ومن يبح ثغاؤه قبل نهاية حصة الثغاء ، يحال إلى السلخ، وعلى جميع الدوائر إضافة صورة معزاء، ملحاء في قرنها الأيسر شعلة الثورة وفي الأيمن عشب لا يحترق .. أما المعلم فحكم عليه بالثغاء المؤبد … يحكى أن أبناء المستعمرة كانوا لا ينامون في الليل من ثغاء المعلم .. ولا في النهار إذ كان هناك شخص- لم تبل معاني النعمة في سحنته -……. قد تحوّل إلى معزاء تهيم في الجبال تبحث عن ابنها الضال، وتطلق ثغاء الندم على ما اقترفته حين كانت برتبة ميجر، شاتمة حنين أمّ الماعز …………….وفي العيد الأربعين لذكرى جلوس الوالي الأمعز طال ثغاؤه على عرش المستعمرة خرج شعبه بشيبها،و شبانها يصفق، ويثغو .. ويروى أنه شعبه يومها ظلّ يثغو حتى طلع الفجر و نبت بجلد أفراده شعر ماعز ،ولم يأت مساء ذلك اليوم حتى صارت أذنا كل فرد بطول أذني تيس … وبرغم جوعه وتمعزه لم يستطع قضم الجبل الأجرب الذي قدمه الوالي لشعبه في ذكرى ولاية ثغائه ، ليسد رمقه بعد أن أكلت ماعزه الأخضر، و اليايس.. وكان شعبه مذهولاً بعطف واليه ومكرماته فقد تبرع بجبل بكل صخره وملحه لشعبه، تحرسه ضبعان من غدر الأعداء، وكانتا أليفتين مع الشعب، فقد فقدتا غريزة أكل البشر، لأن الوالي روّضهما على أكل العشب والأنفة من الموتى، هكذا تكلّم جدي بعد أن خرج الاستعمار، وتركه بارودة إنجليزية معطلة، فيهشّ به على الضبع إذا داهمه ، وإن نجا منه فيتعكّز عليها في كبرته ويتذكر فقد تنفع الذكرى، هكذا تكلّم حتى بُحَّ صوته ومال إلى الثغاء،فثغثغا الختام بقوله : طلع الصباح وخلص الكلام المباح غداً أكمل لكم بقية القصة، فالليلة آخرها برد، سأذهب في السراب لعل من كوخ فيه امرأة حنون، تكفي أحفادي …ولو بقصر بلا جبل… فأكمل رسالة الأمّ الحنون بالثغاء ……………
خالد زغريت \
\ قاص وناقد من سورية