شاعر وكاتب مـن لبنــان .
حين اتخذت «منشورات غاليمار» (الفرنسية)، في العام 1980، القرار بتخصيص كتاب من سلسلتها الشهيرة «لابلياد» للشاعر رينيه شار، (الذي كان يبلغ يومها 73 عاما، وهو من قلّة قليلة جدا، صدرت أعمالهم الكاملة في هذه السلسلة، وكانوا لا يزالون بعد على قيد الحياة)، وافق الشاعر على إعطائه عنوان «الأعمال الكاملة»، بالرغم من أن شار كان يشعر بأنه «سيضيف بعض الأحجار على عمارته» الشعرية الشاهقة. هذا ما حصل بالفعل. فبين العام 1983 سنة صدور كتاب «لابلياد» وبين 19 شباط (فبراير) من العام 1988 تاريخ غياب الشاعر لم يتوقف رينيه شار عن كتابة الشعر. إذ أصدر ديوان «نواحي فان غوغ» (1984) وديوان «مديح المظنونة» (1988). لذلك أتى كتاب رينيه شار الصادر في العام 1997 تحت عنوان «في محترف الشاعر» – الذي أصدرته أيضا «منشورات غاليمار» ضمن سلسلتها «كواترو» وقد أشرفت عليه ماري- كلود شار (زوجته الثانية والأخيرة) – بمثابة «مصنع»، بالمعنى الذي كان يستعمله الشاعر فرانسيس بونج، مع العلم بأنه لو كان لا يزال شار على قيد الحياة، لما كان قدّر أبداً ما قامت به زوجته، ولما أعجبه ما فعلته الدار، في عرض بعض خفايا «حيواته» الخاصة.
كان رينيه شار على علاقة متميّزة ومتمايزة مع عدد من الناشرين الفنيين الصغار، كذلك كان على علاقة مع كبار فناني هذا العصر، من بيكاسو إلى ماتيس مروراً بنيكولا دو ستايل وجياكومتي وغيرهم الكثير، لذلك صنع دائما حدثا من كلّ قصيدة. حدثا يتخطى قضية النشر العادية أو قضية «الإعلان عن حلم ما». كان في ذلك، يقيم حوارا عميقا، وأحيانا حوارا ملغزّا، مع أشكال التعبير الأخرى. فكلّ قصيدة عنده، كانت لديه قصة متفردة، أو حادثة مجهولة معها. وهذا ما يحاول الكتاب الجديد تعريته وكشفه.
في كتابه «لقاءات مع رينيه شار» (منشورات جوزيه كورتي 1991) يكشف لنا جان بينار أن شار لم يكن يحترم كثيرا «شَرَه» مُفسّري شعره الذين كانوا شديدي التأثر (بحسب رأيه) بلغة شبيهة «بالمادة التشكيلية». فتفسير الشعر وبخاصة الشعر ذو الظاهر «الهرمسي» كما عند شار يحيلنا دائما إلى مشكلات عدّة، لم يستطع أحد حلّها، وبشكل مدهش، سوى صديقه بول فاين في كتابه «رينيه شار في قصائده»، (منشورات غاليمار 1994). من هنا، يبدو هذا الكتاب وكأنه يشكل حالة «لا شارية» (نسبة إلى شار)، أيّ أنه يحاول تفسير العديد من الكتب من خلال اللجوء إلى بعض أحداث سيرته الذاتية، إذ لم يكن رينيه شار «بخيلاً أبدًا في إطلاق النظريات والتسميّات حول مهمة الشعر ووظيفته، على قوله: «على عتبة الثقل، يبني الشاعر كما العنكبوت طريقه في السماء، إنه بيت، في جزء منه، مخفيّ حتى عن نفسه، بينما يظهر للآخرين من خلال أشعة حيلته غير المسموعة، تلك الأشعة الميّتة ظاهريا». هل كان رينيه شار، في فكرته هذه، يرغب في قطع الطريق على كل مفسّر أو مؤوّل لشعره؟ من يدري.
ولد رينيه شار ومات في مهد «المركيز دو ساد» و»بترارك»، البروفانسي. وقد تأرجح كثيرا مثل آخرين بين هذين القطبين. «دجنته» في البداية الحركة السوريالية، وكان كباقي أعضائها يقوم بأعمال عنف، لكنه تخلّى عن هذه «الصداقات السرمدية»، بعد أن حاول الكتابة، مثل بروتون وإيلوار، كقوله «أشعلت عينيّ جميع الغابات لكي نراها تحيا». أحيانا، يلعب كتابه «صحائف هيبنوس» (الذي نشره ألبير كامو) وبشكلّ حاد وقاطع، دور الرمز المكثّف لفكره. إذ جعلت منه صحائفه هذه، شاعر «المقاومة». صحيح أن الحرب شكلت تحولا هائلا في علاقته بالعالم، لكنها لم تسم وحيه الشعري، إلى الحدّ الذي يحكى فيه. لقد أبانت الحرب عن عظمة لم يفتخر بها أبدا، إذ كان مشغولا في نزع «الأقنعة عن الاحتفالات التي تقام». كان رينيه شار يرغب في تذكر نبل الناس العاديين الذين يؤاخيهم، وبخاصة أولئك «الشفافين» الذين احتفل بهم غالبا، من دون أن ينسى بالطبع، أصدقاءه الفنانين. كان منحازا إلى أولئك المتشردين «القمريين الشمسيين» الذين بدون عمل، بل إلى الذين يملكون ماضيا لا يزال يدفعهم إلى الحراك. كانوا بالنسبة إليه أدلّة يحاول أن «يفهم الأعاصير» من خلالهم. لقد وصفهم شار بالقول: «لطيفون ونحيلون. يتحاورون شعرا مع المقيم.. كان المقيم والخيال المتحرك يمنحان لهما الخبز والنبيذ والملح والبصل الفج. لو كانت تمطر، لكان قشاً..».
يعيد كتاب «في محترف الشاعر» نشر العديد من النصوص التي لم تعد موجودة، أيّ النسخ الأولى من القصائد، التي إما أعيد طبعها كما هي، أو التي أجرى عليها الشاعر الكثير من التعديلات، وإما تلك القصائد التي لم تنشر في دواوين بكلّ بساطة، أيّ تلك القصائد التي أبعدها الشاعر فيما بعد، التي أهملها، لأنها لم تكن تلائم فكرته. هذه الملاءمة، هي التي فرضت على شار أن يعيد صوغ العديد من قصائده، حتى لنجد نسخا متعددة من القصيدة الواحدة، قبل أن تأخذ شكلها النهائي الذي عرفناه في كتبه المنشورة. وبالإضافة إلى العديد من الرسوم والتزاويق المستلّة من طبعات مهدورة، يحتوي الكتاب على وثائق وصور مدهشة، تسمح لنا بفهم ظروف بعض القصائد وحتى معناها، بالرغم من أن هذه الطريقة محددّة في غالب الأحيان. من هنا نجد أن ثمة فرادة «مثالية» تنبع من هذا الكتاب، فيما لو عرفت ماري كلود شار كيف تجد طريقة لاستعمال هذا «الشيء» الثمين.
ثمة، في الكتاب، رسالة من الناشر «غاستون غاليمار» موجهة إلى شار، قد تخبرنا بشكل أكبر عن مهنة الشاعر، لكنها بطريقة متناقضة تخبرنا أيضا عن مستقبل مهنة النشر. رسالة أبلغ من جميع التعليقات والتحليلات. هذا ما نستشفه من رسالة غاستون غاليمار (الذي كان رفض قبل 15 سنة كتاب «المطرقة بلا معلم») حين وافق على قبول مخطوط «الصباحات» في 21 تشرين الأول من العام 1949. يقول الناشر: «لست بحاجة لأن أقول لك إنني سعيد بشكل خاص، في أن يكون لديَّ كتاب لك. إنها مكافأة لي، تنقذني من عدة أعمال تجارية كنت مضطرا للقيام بها». فأيّ شاعر في الثانية والأربعين من العمر يستطيع ألا يتفاخر باستقباله استقبالاً مماثلاً؟
يتمثل مبدأ الكتاب إذا،ً في اقتراحه علينا وفق الترتيب الكرونولوجي أول نصوص القصائد المعدلّة، كما إظهار العلاقة بين عدّة قصائد، فيما بينها وداخل حالاتها النهائية، مع ارتباطها بالأحداث التي وسمت حياة الشاعر، كما المشرفة على الكتاب أن تشرح لنا صياغات هذه القصائد النهائية، وهي صياغات كانت تعتبر لغاية اليوم، صياغات غامضة. نجدها هنا، تكتسب وضوحا مدهشا، لأنها ببساطة، تستفيد فقط من بعض المقتربات السيرية الذاتية، مثلما تستفيد من بعض الرسائل والصور والمقالات الداعمة لها. لكنها تبدو أيضا، كأنها تحتج على جميع الاضاءات العائدة إلى أحداث أو إلى خبريات، على الرغم من أننا نتيقن بسهولة هذا الهدف. في حالة شار، كان الوحي الملموس، التاريخي، اليومي، يبدو أحيانا وحيّا مخفيّا بعباراته التجريدية الملمومة المكثفة، ومع ذلك، فإن هذا الأمر لا ينقص شيئا من قيمة الكتاب، فيما لو اكتشفنا بعض مصادر هذا الشعر.
من هنا، نجد أن استذكار السنوات الأولى، أمر يجتاز الكتاب بأسره. نجد مثلا أن «القصيدة الرذاذ» العائدة إلى العام 1947، موضوعة في خطٍّ متوازٍ مع سيرة الطفولة، طفولة شار، الذي كان حفيد رجل لقيط، أيّ كان جده «ابن حرام»، مثلما كان يذكر ذلك دائما. يقول شار: «نبدأ حياتنا دائما فوق فجر مدهش. كلّ ما يساعدنا فيما بعد على التخلص من خيبات أملنا، يجتمع حول خطواتنا الأولى. تصرفات الرجال، في طفولتي، أشبه بابتسامة من سماء متجهة إلى الإحسان الأرضي».
«في محترف الشاعر» نجد ديوانا كاملا، كان مبعدا بالكامل عن أعمال شار الكاملة. تجده بكليته هنا. انه ديوان «الأجراس على القلب» الصادر العام 1928 عن دار «أحمر وأسود»، على نفقة الشاعر. فمثلما هو معروف، كان شار قد تخلّى ورفض جزءا من هذه القصائد، بعد فترة من نشرها، تالفًا جميع النسخ التي بقيت عنده. في العام 1983، كتب شار أنه لم يكن «فخورا أبدا» بهذه القصائد. لكن مع قراءتها اليوم، لا نستطيع إلا أن نلاحظ أن شار كان منذ تلك الفترة: رينيه شار، بالرغم من أن شعره كان لا يزال واقعا تحت تأثير شعر أبولينير: «تضرب برموشها الموت المسلح بطريقة سيئة/ في حفرة سرير فهرس القبر».
قد يكون من المسلّي اليوم، إعادة قراءة التشجيع الذي كتبه يومها عن شار، ذلك الناقد الأدبي في مجلة «الزيز الاوزييه» (نسبة إلى إحدى مناطق فرنسا)، ينصحه الناقد الأدبي بالقول: «ليواظب السيد شار على عمله، فهو موهوب بشكل جميل، وعليه أن يهبنا ارتعاشاته بشكل أقل تجريدية». التجريدية! إنه المأخذ الذي ألصق بالشاعر طوال حياته، وسيبقى المثل الذي يضرب به دائما.
من بين غرائب حياة شار، سنتسلّى أيضا باكتشاف صداقته الكبيرة لأندريه كايات، الذي أصبح سينمائيا فيما بعد. لكنه كان في البداية شاعرا يكتب باسم مستعار هو أرمان تريغيير. وقد وصفه شار ذات يوم بالقول: «سيغسل أرمان تريغيير جراحه برمل الموانئ. شعره صاف مثل نشيد عصفور».
تمرّ الأحداث والصداقات في كتاب «في محترف الشاعر». لكن الحدث الأبرز الذي تمّ في نهاية حياته، كان لقاؤه مع مارتن هيدغر. لقد تعارفا بعد أن أعجب أحدهما بالآخر. فالعبارات التي حفرها شار بأن هيدغر يشبه «بحيرة نواحي الحلم» كانت تناسب الفيلسوف الألماني الذي وجد في شعره التعبير الفرنسي للغته: «الشعر هو توحدّ بدون مسافة، من جراء الانهماك بكلّ شيء. أيّ أنه توحدّ من خلال الاعتراف: لسنا، عند الفجر، أعداء أي شخص سوى الجلادين».
كان رينيه شار، طوال حياته، ضدّ هؤلاء الجلادين. هل الذين فسرّوا شعره ينتمون إلى تلك الفئة. لا ترتكب ماري- كلود شار مثل هذه المجزرة. لا تحاول بتاتا أن تقرأ شعر رينيه شار أيّ قراءة مختلفة. كلّ ما حاولته يكمن في أنها وافقت بين نصوص رسائل، بين أحداث حياة، بين تخطيطات قصائد، وبين القصائد المنشورة المعروفة عند شار، فجاء كتابها إضاءة حقيقية لهذا الشاعر «الهرمسي».
في إحدى جمله، قال الفيلسوف الألماني نيتشه إنه في كلّ ما كتب، لم يفعل شيئا سوى إدراج بعض أحداث حياته الشخصية، ربما كان شار قد قام بالشيء نفسه لكنه عرف كيف يجعل من هذه الحياة نبعا دائما لصوت شعري لا نبالغ إذا قلنا إنه من أجمل الأصوات الشعرية في هذا القرن.
بهذا المعنى، كان رينيه شار، يحمل في داخله، العديد من العواصف الرهيبة التي تأتي لتضاف فوق عمقّ سديمي. كان مثل عملاق طليق، عاشقا للنساء والحب، مهووسا بالشعر.
من هنا ماذا نعرف عنه، على الرغم من كتاب «محترف الشاعر»؟ مرة جديدة ماذا نعرف عنه في حقيقة الأمر؟ لا شيء. لقد مرّ ذات يوم، وبسرعة، عند إخوته السورياليين. اعترف أنه نظم المقاومة الفرنسية ضد النازيين في منطقة «البروفانس» (كان لقبه الكابتن ألكسندر). وبعد ذلك؟ قبل ذلك؟ من هو هذا الشخص القابع خلف آلاف الوجوه الثائرة باستمرار؟
رفض رينيه شار بشكل دائم وقاطع أن نهتمّ بحياته الخاصة، مذكرا بوجوب قراءة شعره. من هنا يُشكل كتاب لوران غريلسامر الصادر (في العام 2004) بعنوان «البرق على الجبين» (منشورات «فايار»)، والذي يروي فيه سيرة رينيه شار، «حدثا» ثقافيا، بمعنى أننا للمرّة الأولى، أمام كتاب يفتح لنا أبواب هذه القلعة الحصينة ليدخلنا إلى «أقبية الأرشيف»، لم يكن يعلم أحد بوجوده أصلا. سيرة ترتكز على الأرشيف الخاص، على عشرات المئات من الرسائل الخبيئة لنجد عبرها أفضل أسماء القرن المنصرم: صداقاته مع أندريه كايات وبول إيلوار ونيكولا دو ستايل، «أخوّته» مع ألبير كامو وجورج براك وبيكاسو، أحاديثه «الملائكية» مع سان جون بيرس وجورج باتاي ومارتن هيدغر.
كان رينيه شار يميل دائما إلى «حزب» الاختلاف، من دون أن يشارك أحدا، إذ غالبا ما كان ينعزل في مسقط رأسه «لوبيرون» بعيدا عن الجميع. يحملّ تنفسه كلّ شيء في طريقه، كما أننا غالبا ما نقع تحت تأثير قدرته المزلزلة. ألم يكن شخصا غير عاديّ في الشعر كما في الحياة؟ ألم يكن معجونا بكيمياء الكلمات منصتا بدون انقطاع إلى العناصر المختلفة؟ كتب ذات يوم: «إننا كائنات غير محكومة. المعلم الوحيد الذي يلائمنا هو البرق. برق يضيئنا أحيانا، وأحيانا يشطرنا إلى نصفين». من هنا قضى رينيه شار حياته، سائرا والبرق على جبينه. من هنا، أيضا، شكّل وحده هذه «المملكة المتوحدة»، الفريدة، التي لم يعرف أحد الدخول إليها، لأن شار كان يؤمن دائما أن على الشاعر أن يترك «آثارا» في مروره لا براهين: «وحدها الآثار تجعلنا نحلم».
بيد أنه كان لا بدّ من سيرة لهذا البرق. لا بدّ من كتابة حياة رينيه شار. أيّ أن نهتدي بهذه الآثار كي نبحث من خلالها عن البراهين. وهذا ما أخذه على عاتقه، وبشكل دقيق، الصحافي في جريدة «لوموند» (الفرنسية) لوران غريلسامر، الذي سبق له أن أصدر كتابين/ سيرتين، كان آخرهما العام 1998 عن الفنان نيكولا دو ستايل، الذي عرف نجاحا كبيرا وشهرة واسعة عند القراء كمّا عند النقاد. يبدو كتابه هذا وكأنه كتاب بعيد عن أن ينتهي، من هنا استعماله صيغة الحاضر (بالفرنسية)، وليست الصفحات التي تصل إلى 560 صفحة من القطع الكبير، إلا حجما معقولا لهذه السيرة التي «تُقرأ» (واستعمل هنا التعبير الانكليزي readable») والتي لا نشعر معها بالسأم مطلقا: فالمؤلف يبرهن حقا عن ابتعاده عن كلّ «خساسة» في التعاطي مع حياة الشاعر الكبير الراحل. لذلك تبدو الجديّة واضحة بقوة، في هذا الكتاب: العديد من الأحاديث مع أناس عرفوا رينيه شار، تنقيب عميق ومكثف في أرشيف الشاعر الذي فتحته ماري كلود شار، زوجة الشاعر، أمام كاتب السيرة.
«الذئب، كان قرينه». هذه هي أولى كلمات الكتاب، واللازمة التي لا تنفكّ من أن تتكرر طيلة النص. هذا ما كان عليه رينيه شار بالفعل، بالأحرى كان هو من يصف نفسه بهذه العبارات. القوّة، الشجاعة، الافتخار، الوحدة. هذه هي صفات الذئب. ويضيف غريلسامر على شار صفة أخرى: كان مهووسا بفكرة الموت منذ الطفولة. من هنا هذه الروحانية الافتتانية بالجمال التي تبدو أحيانا وكأنها «قبر مضاد». أضف إلى ذلك، هذا الميل إلى الراهبات «الكرمليات»، الذي لم يكن يشكلّ عنده أيّ انزعاج، بل يمتزج مع ميله اللاهب إلى الأنثوية. حول هذه النقطة، بقي غريلسامر متحفظا، وإن ذكر بعض أسماء هاته النساء المختارات. كلّ ذلك يضعنا أمام نوع من التعاقب ما بين القوّة والعذوبة، بين النرجسية والكرم، بين حالات الانفعال والغضب والشفقة والرحمة، بين أحلام يقظة تصاعدية والحسّ الطيّب العارم. هناك الكثير من الأحلام المتيقظة في حياة الشاعر، الكثير من «الايروس» المعلّق، من العطش الأرضي، مثلما يروي غريلسامر.
في القرية القريبة من «الفونتين دو فوكلوز»، حيث ولد العام 1907، جعلته وحدة الذئب هذه، (تحت كنف أم قوية)، غير متعاطف مع وسطه البورجوازي الريفي: عاشر الهامشيين، مرممّي السكة الحديد، البائعين الجوالين، البحارين، فيجد المراهق نفسه عاملا في بعض المهن الصغيرة العائدة للفاشلين. لكنه في ذلك الوقت، كان يقرأ بودلير، المركيز دو ساد، «الخيميائيين»، قراءات كشفت عن وجود هذا الميل الأدبي، الذي كشف النقاب عنه، في العام 1928، بول إيلوار حين قرأ «هذه الموهبة الشابة»، التي قرّبها من السورياليين. في هذا الفصل، «يولم» غريلسامر لقرائه مشاهد عديدة من حياة هذه المجموعة من الفنانين والكتاب. لم يتكيف الذئب مع هذا المحيط الجديد وبقي واحدا بعيدا عنهم، إلا أن صديقة «محبّة للخصام» وحّدته مع إيلوار؛ بين الشعراء الحقيقييّن كلّ شيء يصبح مشتركا: المسكن والبوح وحتى «نوش» الجميلة (هكذا كان اسمها).
تمضي السنون، ليصل عام 1933، الذي شكلّ عام القدر، بالنسبة إلى شار. في تلك السنة يصل الشاعر إلى برلين ليكتشف فيها وحشية النازيين غير المسبوقة. تراءى له، وهذا ما أثار حماسته وحفيظته، أن الحرب القادمة، لن تكون أزمة إضافية، جديدة، بين بلاد أو طبقات اجتماعية، بل ستشكل تهديدا حقيقيا على حياة الحضارة بأكملها. وعلى الرغم من ذلك، لم يرغب في كتابة شعر سياسي: علينا أن لا نمزج بين الدنيوي والمقدس. عند عودته، يغادر باريس للإقامة في «البروفانس» حيث تعرض هذا «الثائر» لرقابة الشرطة المستمرة، تزوج من فتاة يهودية إلا انه كان عشيق فتاة سويدية. في تلك السنة، تندلع الحرب العالمية الثانية، يقاتل على محور الألزاس، تستسلم فرنسا، تبدأ المقاومة الشعبية، الهجومات الأولى ضد المحتل النازي في العام 1941. كانت الحرب بالنسبة إلى الشاعر البرهان عن الواقع الحقيقي الذي «أزهر» صفاته الملكيّة والذي برّهن عن مناعته وحصانته. في هذه الفترة بالذات يصبح اسم شار «الكابتن ألكسندر». لقد قرر رجل «كهوف فرنسا»، أن يقف في وجه هذا البلد الذي جعله «الماريشال بيتوش» بلدا مسطحا. كانت في رأسه قاعدة واحدة: «علينا أن نتصرف كبشر بدائيين، وأن نفكر كاستراتيجيين». ويطول الشتاء. بدأ يحصل على السلاح من طائرات كانت تلقيها بالمظلات. وعد الخونة بالموت، وكان يُطعم العصافير في الحدائق التي كان يمرّ بها. «للعندليب، أحيانا، في الليل، نشيد القاتل. عبره، يتعرف عذابي على نفسه».
في العام 1944 يتم استدعاؤه إلى الجزائر العاصمة، لمقابلة الجنرال ديغول على انفراد، الذي وجد فيه شخصا «سمجا». لم يجد ديغول الكلمات المناسبة. لم يكن شار يرغب في الانتماء إلى أحد سوى إلى بلده. واستمر في عمليات المقاومة، كأحد قادتها. قبل ذلك اللقاء بأسابيع، قتل الألمان شاعرا شابا يدعى روجيه برنار. حيّاه الشاعر بالقول: «أقبلك، يا رفيق الغابات المدهشة».
بعد التحرير يرفض أن يلعب أيّ دور ظاهر في الحياة العامة، مفضلا الابتعاد والانزواء في مسقط رأسه، ليكتب. في شهر شباط (فبراير) من العام 1945 يصدر له عن منشورات «غاليمار» كتاب «Seuls demeurs» ليجعل منه واحدا من كبار شعراء فرنسا ومن أكثرهم شهرة.
ما بين عامي 1947 و1955، يعيش شار 8 سنوات من السعادة. على الرغم من «هيأته التي تشبه هيأة المحاربين» إلا أن تواضعه كان يجلب الجميع إليه، كانوا يقعون تحت تأثير «سحره»، يدهشهم، من هنا كانت «الوفود» تتدافع لتقرع على باب منزله وهي ترتجف وتخرج من عنده «وكأنها أصيبت بضربة شمس». فترة عرف فيها رينيه شار العديد من العلاقات العاطفية «الصغيرة والكبيرة»، كانت أيضا، هذه الفترة، زمن الصداقات الكبيرة مع براك والبير كامو وجورج باتاي ونيكولا دو ستايل الذي لم يتوقف شار يوما عن إعلان إعجابه الكبير به.
ومثلما هي العادة، لا يعرف المرء كيف يبقي السعادة قريبة منه. فهذا العملاق كان «مريض وهم» وكائنا بركانيا متفجرا يميل إلى «الدراما» في كل يوم من أيام حياته.. مشّادات أدبية وجدالات لا تحصى. تنافس مع أراغون الذي تباعد بينهما أدنى الأشياء: كان هو الملك الحقيقي للشعر إلا أن أراغون هو من كان «يحكم» هذه المملكة. كان أراغون يغني الأيام الآتية المليئة بالسعادة، «التي تغني» بينما كان رينيه شار يعرف أن «ناس» الغد سيكونون تعساء بدورهم وأكثر من «ناس اليوم». دخل رينيه شار في «معركة» مع زمنه إذ كان يجد أن الطبيعة تضيع بسبب التكنولوجيا، من هنا دخوله في معركة يائسة وخاسرة ضد نصب الصواريخ الذريّة في مرتفعات «الألبيون».
سنوات شار الأخيرة كانت أكثر هدوءا. جاءه الاعتراف بقيمته الأدبية الرفيعة من روسيا والمانيا والولايات المتحدة واليابان، وإن كانت إرادته و«قوته» بقيتا صلبتين كالفولاذ حتى ساعاته الأخيرة. في العام 1980 كانت بداية حب «سرّي» جديد دام لسبع سنوات مع امرأة أصبحت في ما بعد ماري- كلود شار، وذلك قبل 4 أشهر من رحيل الشاعر. هذا الزواج الذي تمّ الكشف عنه فجأة حرّك الكثير من الأقلام والحماسة. ربما وجد شار أخيرا طريقة جمع فيها ما بين الحسابات العقلانية وبين شغفه. لقد استلمت هذه المرأة مهمة الاعتناء بمؤلفات الشاعر وما تركه وراءه. مهمة تقوم بها على أكمل وجه: والدليل، هذه الفعالية التي تتجلى أمامنا في هذا الكتاب، على الرغم من أنه كان ليتحفظ كثيرا على الطريقة: الدخول إلى تفاصيله الساكتة، المخفية.
([) فصل من كتاب قيد التحضير بعنوان «توحد الذئب – قراءات في الشعر الفرنسي المعاصر»، ويضم مجموعة من «البورتريهات الأدبية» لعدد من الشعراء الفرنسيين المعاصرين.