يوسف عبد العزيز
شاعر وكاتب فلسطيني
السّؤال كقِناع شعري:
لعلّ عنوان هذه السّيرة الذّاتيّة التي بين أيدينا (إلى أين أيّتُها القصيدة) للشّاعر علي جعفر العلّاق، والصّادرة عن (دار الآن ناشرون في عمّان)، عنوانٌ غير عادي، وذلك بما يمكن أن يثيرَه من الكثير من الأسئلة. ومن ناحيةٍ أخرى فهو عنوان فيه الكثير من القلق والرّيبة والتّقصّي.
عادةً حين يقع بين أيدينا كتاب يتناول السّيرة الذّاتية لشخص ما، فإنّنا غالبًا ما نهيّئ أنفسَنا للدّخول في وقائع وأحداث تتناول حياة هذا الشّخص. في السيرة الذاتية للشّاعر علي جعفر العلّاق (إلى أين أيّتُها القصيدة)، الأمر مختلف، فالسّيرة كلّها قائمة على محور وحيد في حياة الشّاعر وهو القصيدة التي يكتُبُها. من هنا نجد أنّ الفصول التي أنجزها الشّاعر في هذا الكتاب تدور برمَّتِها حول تجربته الشّعرية. حتى أنّ تجوالَهُ في الأمكنة التي عاش فيها، والمدن التي سافر إليها، لم يكن إلا من أجل أن يلتقي آخر الأمر بالقصيدة، ويواصل من خلالها هذا السّفرَ الشّعري الممسوس والخلاب.
(إلى أين أيَّتُها القصيدة)؟ هو سؤالٌ يتّخذ صفة القناع الشّعري. إنّه سؤالٌ شبيه بأسئلة العُشّاق لحبيباتهم، حين ينتهي الموعد العاطفي المتَّفَقُ عليه، بين اثنين منهما. العاشق لا يفكّر في ذاته، لأنّه مشغول بحبيبته. إنّه يرغب أن تظلّ معه إلى الأبد، فلا يُفارقُها ولا تفارقُه. كذلك الشاعر فهو يرغب أن يظلّ مع قصيدته. السّؤال هنا أيضًا ينطوي على خوف وقلق شديدين عند الشاعر، فهو لا يعرف بالضّبط متى ستسافر القصيدة، ولا المكان الذي ستختاره. هل سترجع إليه مرّةً أخرى؟ هل يُمكن له أن يلتقيها في بيت آخر؟ في حديقة أخرى؟ في مدينة ما في دولةٍ ما؟ ذلك أنّها محض حلم لا يمكن القبض عليه باليدين.
محطّات في حياة الشّاعر:
في هذه السّيرة توقّف الشّاعر العلّاق بنا في محطّات محدّدة مرّ بها في حياته، وفي الوقتِ نفسه تغافل عن محطّات أخرى. المحطّات التي اختارها الشاعر كانت ذات علاقة خاصّة بتجربته الشّعرية، أمّا المحطّات الأخرى فنحّاها جانبًا. أمّا هذه المحطّات فكانت كما يلي:
المحطّة الأولى: الطفولة الملوّنة بالدّهشة والجمال:
ولد الشاعر العلّاق في إحدى قرى واسط الواقعة جنوبي شرق بغداد، وقضى فيها سنوات الطّفولة. وعلى الرّغم من قسوة الحياة في ربوع الرّيف الواسطي، إلا أنَّ هذا الرّيف كان يعجّ بالجمال. مثلًا كان نهر دجلة يفيض بشكل مرعب، فيخطف الناس ويبتلعهم في أعماقه، ولكنّ السّمك الذي يلمع ويهوي على شاطئ النهر، كان يسبّب الفرح للأطفال. اللعب في الحقول بين الأشجار وقطف الثّمار كان مصدرًا آخر للفرح. الأفاعي المخيفة كانت تسبب الذّعر له ولأصدقائه، ولكنّها في الوقت نفسه كانت تشكّل مصدرًا للحبّ والسّعادة، فكان إذا التقى ثعبان وأفعى وتعانقا، يتركان في مكانهما خرزة زرقاء كانت تسمّى (عِرق السّواحل). وهذه الخرزة كانت تتسبّب في وقوع النّساء في حبّ الرّجل الذي يحملها.
الزّيارات التي كان يقوم بها الغجر للقرية عند قدوم الرّبيع، كان لها وقع خاص في حياة النّاس، خاصّةً حين يصوغون للنّساء تلك الأسنان الذّهبية اللامعة، أو يصنعون تلك السّكاكين بمقابضها العاجيّة الجميلة. الحفلات التي يقيمها الغجر أيضًا، والرقص المثير للنّساء الغجريات … كلّ ذلك كان يترك أثرَه عند الفلاحين. لن ننسى أيضًا دور الأب الذي وصفه الشاعر بالأسطورة الأولى في حياته، عندما علّمه القراءة والكتابة، وقام بتحفيظه آياتٍ من القرآن وأبياتٍ من الشّعر
في هذه الأجواء المكتنزة بالجمال والدّهشة، ربّما تشكّل الإحساس البدائي للشّعر.
المحطّة الثّانية: بغداد واللقاء الأوّل بالشّعر:
في سنّ التّاسعة ارتحلت الأسرة لتقيم في مدينة بغداد، وهناك التحق الفتى بإحدى المدارس، وصار يشتري الكتب والمجلات، وتعرّف بذلك على طه حسين، وعبّاس العقّاد، وأمينة السّعيد، وغيرهم. كان الفتى يتصوّر أنّ الشّعر هو محض عالم أثيري، وأنّ الشاعر لا يشبه النّاس العاديين، الذين خلقهم الله من طين وماء. ظل هذا الإحساس ملازمًا له، حتى قام طفلٌ ليقرأ قصيدةً أمام التلاميذ في الصّف. وفي هذه الأثناء عرف من الطّلاب أنّ مؤلّف القصيدة، هو أستاذٌ عندهم في المدرسة. من هنا عدّل الفتى في رأسه صورة الشاعر، الذي اكتشف أنّه إنسان عادي يشبه الآخرين.
فيما بعد كتب الفتى قصائد باللهجة العراقيّة المحكيّة، ثمّ كتب الشّعر باللغة الفصيحة، بعد أن درّبه أحد المعلّمين على الوزن الشّعري. وفي هذه الأثناء أرسل قصيدةً له إلى مجلّة (العاملون في النّفط)، التي كان يشرف عليها الشاعر والأديب الكبير جبرا إبراهيم جبرا، فنشرتها له، ومنحته مكافأة نقدية عليها. كان لنشر هذه القصيدة أثر كبير على الفتى ابن التاسعة عشرة، والتي يقول فيها:
“علّمتِني غزلَ اللظى، ليتني لم يهفُ نحوَ الحُسنِ لي قلبُ
قيثارتي للنّارِ أرجوحةٌ لم ينفلت منها صدى عذبُ
اسمُكِ جُرْفٌ لاحتشادِ النَّدى أبدعَ في تلوينِهِ الرَّبُّ
في كلِّ نجمٍ من حكاياتِنا مجْمَرَةٌ هوجاءُ لم تخبُ
المحطّة الثّالثة: اكتمال
الموهبة الشّعريّة، ونشر الدّواوين
لم يطل الأمر بعد نشر الشاعر لقصيدته في مجلّة (العاملون في النّفط)، حتى اشتعل كيانُهُ كلّه بالشّعر، وأضاءت الدنيا من حولِهِ بالأحلام، فهطل الشّعر من قلبه، وصار ينشر قصائده داخل وخارج العراق، وفي أحد الأيّام من عام 1971، التقى بصديقه الرّوائي الكويتي (اسماعيل فهد اسماعيل) الذي وصل بغداد، وكان في طريقهِ إلى بيروت، فأرسل معه ديوانه المخطوط من أجل نشره في مؤسّسة دار العودة، وبالفعل فقد تمّ نشر ذلك الديوان في العام 1973، وهو الديوان الأوّل للشاعر، وكان يحمل العنوان التّالي: (لا شيء يحدث … لا أحد يجيء). تسبّبَ الديوان بفرح عارم للشاعر، كما تمّ الاحتفاء به داخل وخارج العراق.
كانت المجموعة الأولى بمثابة محطّة مركزيّة في حياة الشّاعر، وقد حاول من خلالها كتابة قصيدة خاصّة به، تميّزه عن كتابة الآخرين، وتقوم على تكثيف اللغة، وإطلاق الصّور الشّعرية المبتكرة. بعد هذه المجموعة واصل الشاعر مشوار كتابته، كما نشر تِباعًا عددًا كبيرًا من المجموعات الشّعرية التي ثبَّتت اسمه بجدارة، في خارطة الشّعر العربي الحديث.
مدن صديقة:
في العام 1973 قام الشّاعر بعدد من الرّحلات الشّعرية، في محاولةٍ منه لتوسيع فضائه الشّعري، والتّعرّف على مجموعة من الأسماء الوازنة في حقول الشّعر والرواية والنّقد. في البداية حطّ الموكب به في دمشق، حيث التقى برئيس تحرير مجلّة الموقف الأدبي (جلال فاروق الشّريف)، ثمّ بالشاعر المعروف (محمد الماغوط)، وبالصّديق الرّوائي العراقي (عبد السّتّار ناصر).
بعد هذه الإقامةٍ القصيرة في دمشق، يسافر الشاعر إلى بيروت، حيث يطلّ على المشهد الثقافي اللبناني، ويلتقي فيه بمجموعة كبيرة من الشّعراء والأدباء اللبنانيين والعرب، فكان منهم: (خليل حاوي، نديم نعيمة، محمد يوسف نجم، إحسان عبّاس، نقولا زيادة، أدونيس، فؤاد رفقة، بلند الحيدري، سعدي يوسف، وميخائيل نعيمة).
رحلة الشاعر الثالثة في ذلك العام 1973 كانت إلى القاهرة، حيث التقى بعدد كبير من الأسماء الأدبية المعروفة، مثل: (كمال ممدوح حمدي، فاروق شوشة، ممدوح أصلان، فؤاد بدوي، سامي خشبة، يحيى الطاهر عبد الله، ومحمد إبراهيم أبو سنّة).
كانت تلك الرّحلات مفيدة للشاعر، إذ إنّه تعرّف من خلالها على أسماء لامعة في الأدب العربي، وعلى تجارب جديدة وكتابات جديدة، ممّا سينعكس لاحقًا بالفائدة على إبداع الشاعر، وارتقائه وتطوُّره.
إذا ما انتقلنا من أجواء الرّحلات السريعة السّابقة، إلى رحلات أخرى طويلة، في مدن سيقيم فيها الشاعر، فستجري الأمور عندها بشكل مختلف. فهناك فرق بين أن تسافر في رحلة قصيرة، ومن ثمّ ترجع إلى مدينتك وبيتك وأصدقائك، وبين أن تسافر إلى مدينة أخرى في دولة أخرى، لتعيش فيها، فيتغيّر عليك كلّ شيء.
وعلى الرّغم من الوحشة التي يمكن أن يصادفها الشاعر في المكان الجديد، والتّغيّرات الكاملة في مناخ حياته وعلاقاته مع الآخرين، إلا أنّ الإقامة هنا يمكن لها أن تغني تجربة الشاعر، وتدفع به إلى إدخال موضوعات وتقنيات جديدة إلى نصوصه. وخير مثال يمكن أن نقدّمه هنا كدليل على ما نذهب إليه، هو الشاعر التشيلي بابلو نيرودا الذي سافر وأقام في بلدان عديدة، فقد انتقل للإقامة من تشيلي إلى الأرجنتين، إلى المكسيك، فإسبانيا، وفرنسا، ثمّ إيطاليا، كذلك فقد أقام في سِيلان والهند والاتحاد السوفييتي. لقد فتحت هذه الأمكنة الجديدة فضاءات جديدة أمام الشاعر بابلو نيرودا، وواصل الكتابة بشغف.
مدينة إكستر:
في العام 1980، سافر الشاعر علي جعفر العلّاق إلى مدينة إكستر في بريطانيا، للدراسة في جامعتها، وأقام هناك مدّة ثلاث سنوات، حيث حصل في نهاية هذه الدراسة على شهادة الدّكتوراه. في إكستر صادف طبيعة مختلفة عن وطنه، كما تعامل مع عادات وتقاليد جديدة. لننظر كيف كتب الشاعر عن هذا المكان الجديد، وكيف اشتغل بأناةٍ على رسم ملامحه، من خلال قصيدة له بعنوان (عاشقان)، التي يقول فيها:
“النَّسيمُ خفيفًا يهبُّ على الفجرِ
تحتَ النّدى ترتخي الآنَ قنطرةٌ من حجر
قدحانِ تُغطّيهما رغوةُ الليلِ
جمرٌ قديمٌ
سريرٌ، عشيقانِ منطفئانِ
وحولَهُما قبَّةٌ من شظايا السَّهَر”.
في هذه الأثناء، وتحديدًا في العام 1981 توفّيت والدته، فعاد إلى بغداد بروح محطّمة. وعندما أكمل الدراسة أهدى رسالة الدكتوراه التي أنجزها إلى روحها.
مدينةُ صنعاء:
المدينة الأخرى التي أقام فيها الشاعر بعد ذلك هي صنعاء، حيث وصلها في العام 1991 بعد أن دعاه شيخ الشّعراء والنّقّاد هناك د. (عبد العزيز المقالح) ليدرّس في جامعتها. في صنعاء والتي قضى فيها الشّاعر ستّ سنوات ، كانت الأجواء مختلفة وجديدة عليه، حيث اكتشف أنَّ الحداثة في اليمن تتجاور مع الماضي، بشكل جميل. في صنعاء أيضًا وجد الحكمة اليمانيَّة، حيث رأى أنّ ثمّة عرقًا إنسانيًا ونبيلًا يمتدّ في شعاب الرّوح، ويحفظها من الانزلاق باتّجاه الهاوية. وفي صنعاء وجد المقيل، حيث كان يلتقي فيه بشكل شبه يومي، مع الدّكتور المقالح ومجموعة من الشعراء والكتّاب. وكان المجتمعون غالبًا ما يتداولون في شؤون الجامعة والأدب والحياة، ويقرؤون القصائد والنّصوص.
مدينةُ العَين:
في رحلة التّدريس التي امتدّت لأعوامٍ طويلة، تعاقد الشّاعر أخيرًا للعمل مع جامعة الإمارات في مدينة العين. في العام 1997 وصل الشاعر المدينة، وسيقيم فيها قرابة ثمانية عشر عاما قادمة. في هذه المدينة أيضًا تعرّفَ إلى أمكنة جديدة، وعادات جديدة. كان أكثر ما شدّه في العين هي تلك الرّوح الإنسانية الجسورة التي تعمل ليل نهار، وتخلق التّحوّلات الجميلة في الطّبيعة والعمران، من أجل حياةٍ هانئة، ومستقبلٍ وادعٍ للإنسان. من الأشياء التي أدخلت الفرح إلى قلبه، تلك الرَّحلات التي كان النّاس يقومون بها للذّهاب إلى جبل (حفيت)، وتحديدًا إلى قمّة الجبل، من أجل استنشاق عطر الأزهار العابق هناك، والإطلالة على تلك السّهوب الخضراء الممتدّة.
مدينة بولو:
في العام 2015، وبعد أن ينتهي عقد عمله مع جامعة العين في دولة الإمارات، تنفتح أمام الشاعر دروب الحياة والأمل من جديد، ويجد الوقت الكافي أمامه للكتابة والقراءة والسّفر. أكثر ما احتفى به كان الكسل الذي يقول عنه (ت. س. إليوت): “لا بدَّ للشّاعر من قدرٍ من الكسل الضروري”، أو كما يصف الشاعر السّوري (محمد الماغوط) الكسل فيقول:
“إذا تدحرجتُ عن الأريكة،
فيلزمني ثلاثمائة سنة
حتى أرتطم بالأرض”.
بناءً على هذه الرغبة التي انبثقت من أعماقه، والتي تتطلّب قسطًا وافرًا من الهدوء والتّأمُّل، سافر الشاعر إلى تركيّا، وزار مدينة بولو الجميلة المغطّاة بالغابات، واشترى شقّةً في أحد أحيائها الجميلة للسّكن. وبالفعل فقد أقام مع أسرته فيها، وعاش أيّامًا جميلةً. لكنّ الأمور لا تلبث أن تتبدّل، فتنقلب السكينة إلى خوف، والجَمال إلى وحشٍ ينتظر الفرصة ليفترس النّاس. فقد جاءت الكورونا، ومعها جاء الموت والخراب. وهكذا ففي العام 2020 يقرّرُ الشاعر مغادرة بولو باتّجاه مدينة دبي.
في هذه المدن الأربع، واصل الشاعر علي جعفر العلّاق مشروعه الشّعري، وكان يقوم باستمرار كلّ عام أو عامين بإصدار كتابٍ جديد: كأن ينشر ديوان شعر، أو كتاب نقد، أو كتاب تأمّلات في الشّعر والأدب. أثناء هذه الإقامة كان يحلو له أيضًا، أن يسافر إلى مدن وأمكنة أخرى في العالم، ويتعرّف عليها. سافر مرّات إلى القاهرة، وإلى استوكهولم، ولندن، ثمّ إلى مدريد حيث التقى بالشّاعر المعروف (عبد الوهّاب البيّاتي)، ومضى معه في رحلة ساحرة في ربوع الأندلس.
حياة قائمة في الشّعر:
يّتَّضح لقارئ هذا الكتاب (إلى أين أيتها القصيدة)؟، أنّنا أمام شاعر قلقٍ وممسوس بالقصيدة. وعلى الرّغم من الهدوء الذي يبدو ظاهرًا في إهابه، إلا أنّ داخله يحتشد بالزّلازل والبراكين، وبنيازك الشّعر التي تتهاطل على سفح روحه. ويخيّل إليّ أنّ حياة هذا الشّاعر قائمة كلّها في القصيدة، ولذلك لا يمرّ علينا عام أو عامان، إلا وقد أصدر ديوانًا جديدًا، أو كتابًا نقديًّا يتحدّث فيه عن الشّعر.
(إلى أين أيَّتُها القصيدة)؟ يقول ذلك بروح مُتلجلجة، تخبّئ داخلها عواصف هائلةً من الحنين العظيم للشّعر، كأنّه لا يسأل القصيدة عن وِجهتِها القادمة، أو مكان سفرها، بل يقول لها: أرجوكِ ظلّي هنا قربي، معي، فحياتي ليس لها معنى دونَ وجودك.
منذ بداياتِه الشّعريّة في السّتينيّات، ظلّ الشاعرُ مخلصًا لقصيدته، وعلى الرّغم من الأجواء القبائليّة التي كانت سائدة بين الشّعراء، من تفاخر لهذا التّيّار بما يكتبه، وهجاءٍ لما يكتبه الآخرون، وعلى الرّغم من الأيديولوجيات المتعدّدة المنتشرة في الوسط الأدبي التي تتراشق باليقينيّات والهجائيّات، أقول على الرّغم من كلّ ذلك، فقد اختطّ الشاعر (علي جعفر العلّاق) لنفسه مسارًا آخر. يتحدّث الشّاعر في أحد اعترافاته عن هذا المسار فيقول:
“كثيرًا ما كرّرتُ القول إنني من جيل السّتينيّات، ولم أكن منه في اللحظة نفسِها. كنتُ أنمو بعيدًا عنهُ، ولكنّني في المناخ ذاته، أحاول كتابة قصيدتي بطريقتي الخاصّة، خالصًا مما شاب سلوكَ بعض السّتّينيّين أو نصوصهم من ادّعاءات، يحاولون بها تغطية ما تشتمل عليه نصوصهم، من قصورٍ في اللغة أو الموهبة”. ويلخّص الشاعر المناخ الخاص الذي يتحرّك فيه الشّاعر، فيقول: “كنتُ أنمو شعريًّا في بقعة محاذية لجيل السّتينيّات”.
وبسبب هذه الصّلة العميقة التي تربط الشاعر بقصيدته، وتركيزه الشّديد على كتابة نصٍّ خاصّ قائمٍ على الإبداع والابتكار، يقول الشاعر: “لقد وجدنا أنفسنا هكذا في عراءٍ مديد، لا سندَ لنا إلا حُزنُنا وقصائدُنا، دون منصبٍ أو ثروة، أو قبيلة باطشة، لذلك كلّه لم يكن لنيراننا الصّافية، أن تستدرج إليها قوافلَ النُّقّاد المحترفين، وكَتَبَةَ المدائح النّقدية، فهي نيران لا تُخلّف وراءها إلا الحِبر الأخرس”.
والآن ، ونحنُ نعاينُ تجربة شاعرنا المتميّز علي جعفر العلّاق، يمكننا أن نقول بمزيد من الفرح: “منذ بداياته مع الشّعر أوائل ستينيّات القرن الماضي حتى الآن، ظلّ الشاعر مخلصًا لقصيدته، ضاربًا عرض الحائط بكلّ ما يغبّرها.