ترجمة: الخضر شودار
شاعر ومترجم جزائري
دار هذا الحوار الشعري الفلسفي الدسم الذي نشرت الجلسة الأولى منه في الأصل بطلب من مجلة أرجنتينية عام 1977 بين الشاعرين الأرجنتينيين غِيلارمُو بُويْدُو (1941-2013) والشاعر الكبير روبرتو خْوَارُوث (1925-1995). سينشر جان بيار سنتيف بمنشورات Unes هذه التأملات كاملة في ترجمة فرنسية لفرنان فريسان (1913-2009)، مترجم خواروث الأول والوفي في كتاب من خمسة فصول (الشعر والإبداع، الشعر والشاعر، الشعر والأدب، الشعر والمجتمع، الشعر والحقيقة) عام 1987. ما سيؤدي في ما بعد إلى التعرّف إلى شعر روبرتو خواروث Poésie verticale وترجمة أعماله الكاملة تباعا إلى الفرنسية فيما نشرت له ترجمات جزئية في لغات كثيرة أخرى. يتضمن الحوار أسئلة حول الشعر والشاعر: الشعر والسيرة، هل الشعر مهنة؟ الشعر كاختيار ومصير، التجربة العادية والتجربة الشعرية، لماذا الكلام وليس الصمت؟ الشاعر في حياته اليومية، هل الشاعر كائن استثنائي؟ حدود التجربة الشعرية، الشعر والانتحار، القصيدة التي لا تنتهي، مصادر الشعر في الفنون الأخرى، الشعر والحياة المكتملة.
هل بعض اللحظات أو بعض التجارب في حياتك يسمح لنا، من زاوية أخرى، بتحليل معنى الشعر وتحديدا شعرك؟ إذ لا نعرف كفاية سيرتك. هل كانت أمنية الشاعر أن يختفي وراء الشعر؟
في كلّ مرة يسألونني فيها عن الظروف الواقعية لحياتي، أشعر بقليل من عدم الارتياح. سيرتي هي في نظري غير مهمة لغيري، سواء كانت ذات أهمية لي أم لا. لم أهتمّ أبدا بأن أقاسم حقائق أو وقائع من حياتي الشخصية. ولا تناقض في الأسباب بالمرّة: إنّني أعيش في الحاضر أو المستقبل كما في الماضي. وكنت أعتقد بأنّ النسيان يشكّل عندي نوعًا من السلام النفسي. لا أريد أن أعيش متعلّقًا بتجارب الماضي التي لا أتذكّر تفاصيلها، بالرغم من بعض اللمحات أو الومضات العالقة بذاكرتي. وهي بلا شكّ، تغذّي الشعر، لكن كلّ شيء يغذّي الشعر، وأظنّ بأنّ ما يغذّيه، بشكل أساسي، هو أعمق من ذلك وأكثر غموضا ولا يمكن التعبير عنه. معلومات حياتي تمثّل حالات متشابكة غير مهمة. الشعر لا يشرح حسب ظروف خارجية وإن كانت هذه قادرة على إشباع فضول البعض، والاستعراض عند آخرين. الأهمّ هو علاقة الشعر بالحياة الداخلية. ينبغي تخصيب نوعٍ من المعرفة بالعمق والأغوار الإنسانية، أبعد من السيرة، والبيولوجيا وعلم النفس والتاريخ، دون ادعاء أي تفسير شامل للإنسان، إنّما، ببساطة، فهم أفضل لخصائصه الجوهرية، وأعماقه، لفتوحاته، وأسراره. نصل في النهاية إلى إدراك أنّ كلّ تجربة، إذا نحن عشناها بعمق، ستنتهي بنا إلى الشعر.
في وسعك على الأقلّ العودة إلى بعض تجاربك الأساسية، وبخاصة، تلك التي تسمح بمقاربة ولادة قصائدك. حين نشرت كتابك الأوّل، كنت في الثالثة والثلاثين من عمرك. ما الذي جرى قبل ذلك؟
يمكنني الإشارة إلى بعض الأشياء التي أحتفظ منها بذكرى خاصة. لنقل بأنّي في الأعوام التي سبقت نشر كتابي الأوّل، عشتُ ميّالا إلى نظام حيوي أو مستوى عال من العزلة. عزلة إيجابية، في التركيز على ما كان يغريني في الشعر من الإبداع والفن والتأمل والتفكر. هذا بلا شكّ يضيء بعض خصائص عملي الشعري. أظنّ بأنّه بدون رؤية عميقة وممكنة في الشعر السابق، لا يمكن تخيّل المجازفة بكتابة سطر واحد يتحقّق له حظّ من القبول. شيء آخر هو الكتابة لشغل الفراغ أو لأنّنا نتخيّل أنّ الكتابة شيء مهمّ يمكن أن يمنحنا شكلا جديدا من الاعتبار والأفضلية. ما هو التفصيل الآخر لهذا التاريخ القبلي الذي يمكن أن يكون له معنى؟ أقول ربّما لأنّي أمضيتُ طفولتي الأولى بعيدا عن المدن، وقد ساعدني هذا الظرف على النظر أفضل إلى الكائنات والأشياء. وفوق ذلك، السياق الديني الذي نشأت فيه طفولتي، ترك في نفسي أثرا على نحو ما، وصرفني عن هذه الأشياء الخارجية العابرة.
هل عاش في داخلك نوع من التديّن بلا إله؟
لن أستخدم هذه العبارة، فالكلام على تديّن لإله أو بدونه لا يمنحني حقّا أيّ فهم. فهذا ينبغي البحث فيه من جانب آخر، ربما في هذا الكلّ الذي نحن جزء منه. كلّ أو وحدة يظلّ معناها العميق بعيدا عنا، لولا انعكاس أثرها علينا وشعورنا بالانتماء إليها، لكانت الحياة، على ضآلتها وانفلاتها أكثر بؤسا. أجيبك إذن بأنّه كان لي بالفعل شعور ديني بالحياة، بالمعنى الذي ذكرتُه، لكنه غريب عن القناعات المتعارف عليها على مستوى الدين السائد. بمعنى آخر: سيؤدّي بنا ذلك إلى التفكير في أنّ حالات القلق أو الحوافز العميقة التي، بشكل أو آخر، تحدد الحقيقة الدينية هي ضرورية ولا يمكن الإحاطة بها. لا يمنع ذلك من أنّ كلمة “ديني” تخيفني مثل كلمة “ميتافيزيقا”. هذه الكلمات، فضلا عن معناها اللغوي، تشير إلى انفتاح على بعد شمولي أكبر، وأكثر نفاذا في الواقع وفي الحياة التي تساهم في هذا الواقع. ولا يمنع هذا من أنّ قلق الذات لا يكفّ عن التركيز على الواقع دون التحكّم الكامل فيه.
هل تتذكّر جيدا قراءاتك الأولى أو قصائدك الأولى؟
لا أدري شيئا. نعم، أذكر المبنى القديم حيث كنت أعيش وأقضي ليالي كاملة في القراءة والتأمّل. بالطبع، في المرة الأولى التي قرأت فيها سوناتا لكيفيدو أو شكسبير… كانت هناك حالات تعرّف أو إلهام. لكني لا أستطيع أن أحدّد بدقّة اللحظة التي اكتشفت فيها هذا المؤلف أو ذاك وعرفت نوعًا من التحوّل. كأنّ شيئًا سابق الوجود ظهر بصورة أو بأخرى. لكني لا أستطيع أن أرتّب كرونولوجيا هذه المصادفات الكبرى. متى كتبتُ شيئا كان له شكل شعري. في وقت مبكر، أذكر في أمسية شتاء مشمسة حيث كنت أكتب بعض السطور. لكن هل كانت تلك هي البداية؟ كلّها مجرد حكايات. كما لو أنّك سألتني أين يبدأ رجل ما، لأنّه منذ تلك اللحظة، كنت أعرف من أكون، وأنّني، على نحو ما، كنته على الدوام. من المستحيل، بالمعنى المنطقي، أن يكون الأمر كذلك، لكنّي على مستوى الواقع العميق لا يمكنني ألا أحسّ به. أو كما لو أنّ الشخص الذي هو أنا كان ينتظرني قبل أن أكون.
هل كان في بداية شعرك، هيمنة لتقليد في الكتابة على تجربة الحياة اليومية؟
الظاهرتان لهما أثر عليّ. أخبرتك عن الأهمية التي كانت عندي للقراءة، وكثيرا ما كنت أقول مازحا بأنّ لدي شعورا بأنّي قرأتُ كلّ ما كتب من شعر. أعتقد بأنّ هذه القراءات وجدت في طفولتي ومراهقتي استعدادا لتلقيها بسبب التركيز والصمت والتجربة الدينية التي ذكرتها لك، وهذا ما سمح بهذا التمازج الفريد بين النزعتين. ومن ثم، لا أستطيع أن أذكر بعض الجهل بما كتب قبلي على مستوى الشعر بخاصة. بمعنى آخر، هل كان في وسعي أن أكتب هذه القصيدة أو تلك، لا أعرف ذلك، لكن، لا، في ما أظن. أعتقد، مع ذلك، بأنّ كلّ مسافة يتمّ اتخاذها من التجربة المادية المباشرة، والجوهرية للحياة كانقطاع وانعزال للتأمل هي بلا جدوى ولا أثر لها.
التجربة كما تصوّرها، إجمالا، ريلكه.
بلا شكّ، أقاسم هنا رأي ريلكه. الشعر تجربة تعاش وليس مجرّد إحساس أو تفكير تحت عناوين مختلفة. أوّلا لأنّ الضرورة والمقتضى والعيش كلّها تشكّل تجربة، وليس تنظيما مصطنعا بشكل ما، محسوبا واستدلاليا لبعض الحقائق، هو فضلا عن ذلك، شكل، وبلا شك، من أعلى أشكال التركيز، إن لم يكن أعلاها. الحقيقة الشعرية شبيهة بحقيقة الحياة، لكنّها تتمتع بكلّ سماتها البارزة. وهو تجربة أيضا بحكم العلاقة مع كلّ ما حولنا. لا هو تجريد ولا انعزال، ولا قطيعة، إنّه الحياة، لأنّه نموذج أكثر زخما وشمولية وانصهارا في هذه التجربة، وأكثر تطلّبا سواء على مستوى الإبداع أو على مستوى تلقّيه ونقله إلى الآخرين. هو، على نحو ما، بعد أرقى. قد نتساءل أحيانا: عما إذا كانت هذه التجربة لا تنفصل عن حقيقة بقية الحياة، ولماذا يتجشم بعض الناس عناء ممارستها؟ إذا كانت القصيدة تولد أحيانا من ظرف يومي ووضع أكثر بساطة، فلماذا هذه الصعوبة في قبولها وتحملها؟ الأمر يكمن في أنّ هذه التجربة تتحقّق في اللغة. وأنّ اللغة تحدٍ بلا حدود.
كيف تصنف عمل الشاعر؟ هل هو وظيفة أم قدر؟
كنت دائما أعتقد بأنّ الشعر لا هو بالوظيفة ولا بالمهنة، وإنّما طريقة في الحياة. قدر؟ نعم، هو قدر، لكن أظنّ بأنّ هناك طرقا مختلفة في اختيار وتحمل ما نسمّيه بالقدر. ثمّ ما معنى قدر؟ ينبغي أن يكون، كما أفترض، ضرورة، ضرورة عميقة لأنّ نعيش بطريقة ما، وليس بأخرى، أن نفعل هذا لا ذاك، ونحس بأنّنا حين لا نقوم بما هو محدّد في تصوّرنا للحياة أو ما ينبغي أن تكون عليه حياتنا الخاصة، فإنّها ستظلّ غريبة عمّا هو كلّ منّا في الحقيقة. لا أفهم، بالطبع، القدر كوجهة مسبقة، أفهمه، بالأحرى كتصميم، لكنّه تصميم في مستطاعنا أن نتحمّله، والذي على نحو ما يسمح لنا بحرية اتخاذ القرار. تحضرني هذه الفكرة لديموقريطس التي تقول بأنّ كلّ شيء نشأ بالصدفة والحتمية. بمعنى: من شيء غير متوقع، فجائي في ظاهره، غير خاضع للزمن، مع ذلك، وحتمي. أظنّ بأنّ الكلام على القدر في ما يخص الشعر الإبداع، فإنّه من المناسب أن نضع في الحسبان هذا العنصر الإنساني الجوهري الذي هو الحرية. أن يكون الشعر قدرا أو لا يكون. إنما هو قدر تدخُل فيه الصدفة والحتمية والحرية، ما يجعلنا نقول بأنّه لا قدر في الشعر دون إبداع. ومن ثمّ قد نتساءل لماذا يختار أحدنا أن يكون شاعرا، لماذا يختار طريقة في الحياة يعرف تماما بأنّ لها بعض المخاطر. هل يختار أحدنا أن يكون شاعرا؟ من المخيف ادّعاء ذلك. ثمّة شيء يأتي من مكان داخلي، دون أن يكون تصميما مطلقا والذي بطريقة ما، يهيئنا ويقرّر لأجلنا. فما يكون هذا الاستعداد المسبق؟ لا أدري عنه شيئا ولم أقتنع أبدا بشروح علماء النفس والنفسانيين التي تدّعي بأنّ التجارب الأولى في الحياة هي تجارب نهائية. أجهل الدور الذي تلعبه الوراثة وتجارب الطفولة، واختبار نوع من العزلة، واستعداد الطباع، المنفتحة أو المنطوية. لكن، لنا أن نفترض بأنّ كلّ هذه الحالات قد تسهم مسبقا في هذا “النوع” من اختيار ما يبدو أنّه قدر.
هل هناك لحظة في سيرتك الشخصية حيث جرى هذا الاختيار بوعي كامل، حين ظهر لك قدرك كشاعر؟
أكرّر بأنّه ولد معي، أو قبل ذلك، حتى وإن بدا هذا غير معقول. لا معنى لوجودي إذا أنا لم أعش وأحسّ بما هو قدري. متى وكيف ظهر لي هذا، كيف تتشكّل حساسية أو معنى الحياة؟ من يستطيع التعبير عنه؟
كيف حدث أنّ كائنا في عمر مبكر، طفلا أو مراهقا يفضل العزلة على الاختلاط؟ كيف ينشأ هذا النوع من الاستعداد الداخلي الذي يحمل على الإحساس بتفاهة كثير من الأشياء التي يستهلك البشر لأجلها أعمارهم؟ لا أقصد الأشياء الأوّلية. إنّما هذا النوع من الخطاب حول الحياة الذي يشغل عن الحياة ويغطي عليها في النهاية. إلى ماذا يعود اختياري في أن أجلس لقراءة كتاب في صمت؟ في أوّل مراهقتي، مثلا، كانت قراءة هاملت بالنسبة إليّ تجربة عميقة في الحياة، وبكثافة عالية؟ يضاف إلى هذا الإحساس بالحياة كاستمرارية وليس كسلسلة تحوّلات متعاقبة، إنّما كوحدة. قد يوجّه إلينا سؤال بسيط: هل تشعر بأنّك الشخص نفسه منذ عشرين عاما؟ أمّا أنا فأشعر الآن بأنّي ذلك الذي ينبغي أن أكونه عند الولادة. لا أستطيع أن أحدّد واقعة، أو يوما، كان قدري، انطلاقا منه، أن أكون شاعرا، من دون أن أكونه من قبل. لا أملك سوى أن أشير إلى بعض ومضات من الذاكرة حيث بدأت بخربشة بعض السطور.
ربطت شبابك بتجربة خاصة، تجربة الكتاب، وذكرت هاملت. أودّ أن أعرف ما إذا كنت قد عشتَ حالات مكثفة خاصة يمكننا أن نسمّيها “شعرية” قبل هذه القراءة؟
لم أفكر كثيرا في ذلك، لكن أظنّ نعم. لقد عرفت حقا بعض التجارب الخاصة المكثفة، وبخاصة في طفولتي وآثار من مراهقتي الأوّلى، قلت عنها بأنّها تديّن. بعد تربية دينية، كانت القطيعة مع دين منظم ونظامي تجربة مهمة، صعبة وقاسية. تشكلت حين كنت في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من العمر. هذه القطيعة جعلتني منذ مراهقتي أنتبه إلى معنى خطورة، بعد آخر، ومعنى العمق. أعتقد اليوم وبعد أعوام كثيرة، أنّ ذلك كان أمرا إيجابيا بالنسبة إليّ. هل عرفتُ تجربة أخرى شديدة الكثافة؟ بلا شكّ، بعضها كان سلبيا. كنت أحسّ، منذ نعومة طفولتي، بألم الفراق، بجراحات ارتكبها من أحببتهم. وأنا أحتفظ ببعض صورها، كلُمَعٍ حاضرة على الدوام، وحارقة: خلافات ومشاحنات بين أشخاص أحبهم. ساهم هذا في شعوري بعبثية الحياة، التي تلاحقني وستظل دائما. هناك أيضا، الواقع المادي والحسي بكوني قد ولدت في الريف، وعلى صلة بالناس وأنماط عيش خاصة، بعيدا عن بعض العوامل غير الإنسانية، غالبا مؤذية، مما تتميز به المدينة. ثم هناك كذلك، هذه الرحلة إلى السهل، هذا السهل الواسع الذي كأنّه بلا حدود، شبيه بالبحر حيث لا شيء له نهاية، حيث كلّ شيء عزلة، تقشّف، لامتناه. هذه التجارب، وتجارب أخرى بلا شك، كانت سابقة لقراءاتي.
كيف هي هذه التجارب على مستوى الحياة اليومية وكيف تصفها؟
أعتقد أنّها في جوهرها لا تختلف عن تجارب مشابهة أعيشها اليوم. فقد كان من المستحيل عليّ أن أتجنب كليًّا طريقة ما في العيش، أو بعض الظروف، لأنّها كانت مألوفة ومباشرة. فهي تسلّحنا لمواجهة تجارب جديدة، تاركة إيانا عزّلا أمام سوء التقلّبات. انتبهت بالمقارنة مع ردود أفعال لاحظتها عند آخرين، بأنّ البعض يظهر حساسية متفاوتة تجاه وقائع تؤذينا، أو تمتعنا أو ببساطة ترضينا لبعض الوقت. أتحدّث عن تجارب غارقة في حياتنا اليومية مثل أن تعبر شارعا أو تنظر إلى انعكاس ضوء على ظلّ شجرة أو جدار. هذا “الوجود مع” أنقذني دون أن أعرف إلى ماذا يعود. والشيء نفسه تجاه أبناء جنسنا. أظنّ بأنّ أبسط تصرّف من الحنان في طفولتي استطاع أن يكون له في نفسي أصداء لا حدود لها وبالمثل أيضا الإقصاء. يضاف إليه نوع من التفكير الشديد المتميّز. لهذا لا أستطيع أن أميّز أيّ فرق بين الإحساس والتفكير، بين الحساسية والذكاء. أعتقد بأنّنا خدعنا قليلا في هذا. أنا، على كل حال، انخدعت.
كيف تميّز الطابع الأصيل لهذه التجارب، وكثافتها الخاصة؟
بهذا الإحساس الذي أجده حين تؤثّر فينا عميقا بعض التجارب وتجعلنا نفكّر وتظلّ معنا في فكرنا محاولين أن نجد لها تفسيرا ملائما. مثلا: هذه التجارب تذكّرني بظرف حاسم عشته في ألعاب طفولتي. لم يكن لي أصدقاء من عمري. ومن ثم لا خيار لي آخر، سوى أن ألعب وحيدا. هذه الواقعة لها حتما أهميتها. قد نتساءل: أيّ رفيق لمن يلعب وحده؟ وقد نستنتج بأنّي واصلت، دائما، اللعب منفردا. ودون أن أكون تماما مخطِئا، فالحالة ينبغي أن تكون مشابهة. ليس لأنّه كانت لي علاقات إنسانية عميقة، إنّما لأنّ التواصل الحقيقي كان قائما، قبل كل شيء، على عزلة أولية. تلك هي قصتي: كوني ولدت في عزلة حقيقية متعاظمة جعل ذلك بعض أشكال تواصلي الأساسية ممكنة. جعلني هذا أفكّر في الطريقة التي يمكن أن نغتني منها بحوار مع أناس أكثر بساطة. على الأقل هذا النوع من التواصل، أجد له معنى، حين، مثلا، أثرثر مع بائع الخضار أو بائع الصحف. أعرف جيدا بأنّه في بعض أوقات الشدة، أحسّ بحضورهما، دون قصد مني.
لكن إذا كان هذا التواصل مع بائع الخضار أو الصحف يحدث تلقائيا، فلماذا الشاعر إذن أو الفنان؟ أليس في هذا تناقض؟
لا، كنت أعرف بأنّك ستسألني هذا السؤال الذي يهمني كثيرا. المشكلة الخطيرة التي تكمن في عدم التواصل، في الانعزال، في سوء السلوك الذي يتحكّم فينا، في نسيان التكافل، تظهر، بخاصة، في هذا الحيّز الكبير بين اثنين. هذه المشكلات لا يبدأ حلّها أو تجاوزها، إلا في حالاتها القصوى. ما هي هذه الحالات القصوى؟ هناك حالة “الأوّلية” لأناس بسطاء، حيث هذه العزيمة التي لا تزال ممكنة، وهناك حالة الشاعر والمبدع والفنان والحكيم والمتصوّف. لا أريد أن أقول بأن الحيِّزَين متباينان كليا؛ وإنّما أتكّلم، ببساطة، على براءة وسخاء البداية، ثم براءة وسخاء النهاية: مما لا وجود له على مستوى الحياة الزائفة والمصطنعة في الحالات الانتقالية.
ما الفرق بين هذه الحالات القصوى؟
أعتقد بأنّ الفرق يكمن في شيء متاح من تلقاء نفسه وبين شيء يتاح بعد محاولة قاسية أو إعادة محاولة، إذا أردت. إعادة محاولة مما يظهر بشكل طبيعي عند أناس بسطاء، دون جهد عبثي، كفيض من الماء لم تحبسه أو تعكره الأعراف التي تحكم العلاقات الرسمية لمجتمعنا وبلا شك كلّ مجتمع يمكن أن تتخيّله. لهذا أظنّ بأنّ المخرج لا يمكن العثور عليه في التواصل الاجتماعي، وإنّما في عمق بعض القيم الإنسانية والذي هو مشكلة أخرى. أعود إلى ما كنت أقوله: حين ننبثق مما يمنحنا نفسه كماء يتدفق، تلقائيا، لا يمكن إعادته إلى ما كان عليه irreversible (ذلك أنّ الأشياء لا تعود إلى ما كانت عليه) فإنّه ينبغي علينا أن نعيشه كولادة جديدة. أنت تعرف بأنّ فكرة هذه الولادة الثانية تظهر في كلّ نصوص الحكمة العميقة. لنتذكر في هذا الموضوع، عبارة أو حكاية من الزن (ZEN)، أولا: حين ننفصل عن حال الزن، تظلّ الجبال جبالا، والأنهار أنهارا. ثم حين ندخل في حال الزن، تكفّ الجبال عن أن تكون جبالا، والأنهار أن تكون أنهارا. لكن حين نصل إلى حال الزن، تعود الجبال جبالا، والأنهار أنهارا. حين بلغنا حال الزن، أي الاشراق. لعلّ الشعر ليس شكلا من إشراق أي شيء من الأشياء، أو من أنفسنا ذاتها، وإنّما مما قد نسهم فيه قليلا؟ أمّا الحكاية فهي تعود إلى سلسلة من صور التمثيل التي تحمل في تاريخ الزن، اسما من نوع “مرعى البقرة” هذه اللوحات موجودة في بعض الأديرة. حيث نرى راهبا في السوق، هو هناك محاط بأناس عاديين، ثم فجأة يرى بقرة. فيقرّر ملاحقتها. اللوحة التالية: البقرة التي لا نرى منها سوى ذيلها، تختفي. لوحة أخرى تُظهر البقرة التي تدخل الغابة. ثم بعد ثلاث أو أربع لوحات تتابع مسار البقرة، تأتي لوحة بيضاء تماما. اللوحة الأخيرة تمثل الراهب الذي يظهر مجددا في السوق.
ذكرنا بشكل عابر موضوع العزلة. أن تكون شاعرا، هل يقتضي ذلك شكلا من أشكال العزلة؟
بلا شكّ، لكن مع اتخاذ شكل من الرفقة. ليست العزلة انعزالا أو انقطاعا أو نقصا في الحضور. يتعلّق الأمر بعزلة الإنسان بالمعنى الذي تشمل فيه هذه الكلمة موقفا أو طريقة متميّزين في العيش يقتضيان تركيزا وصمتا وتأملا في ما هو أكثر حميمية في داخلنا. لكن من جهة أخرى، لا طريقة عميقة هناك لاختبار وجود الآخر، ولا وجود لوحدة أكثر عمقا معه. لذلك يشعر الفنان بعامة بأنّه وحيد. لنتخيل الرسام وطريقته في العيش بين الألوان والخطوط والأشكال. العالم ليس أقل حضورا بالنسبة إلى الشاعر الذي يعترف بوجود البشر، حتى وإن لم يصغ إليه هؤلاء أو يفهموه. ثمّة طريقة أخرى في العيش: في خصوصية لغة الابداع. أظنّ بأنّه في داخل كلّ شاعر، يبدو وحيدا وأكثر انعزالا، وجود للإنسانية بكاملها، للحقيقة كلها، بالرغم من أنّ قلقه لا يسمح له دائما بالانتباه إلى ذلك ويجعله يعاني خطأ من نقص في التواصل مع محيطه. ولا يقل عن ذلك أهمية الحفاظ على ما نسميه بالعزلة، لا بوصفها اختزالا فرديا، وإنما كعمل من يحفر أرضا ولا يدري إلى أي عمق سيجد نفسه في قلب الأشياء. الشعر أو الفن بعامة، يتطلّب ألما وتضحية وشيئا من سوء الفهم والتهميش المحتمل، لكن في نهاية المطاف، هو عزاء لا حدود له، هو أفضل رفيق لنا. الفنّ ليس ضعفا. ولكن قوّة حتى لو ضحّت بمن يمنحها نفسه.
في حالتك الخاصّة، قد لا يبدو تناقضا الجمع بين تجربة العزلة هذه وتلك التي تتضمّن التخلي عن الديني، على الأقلّ، على مستوى المظاهر الشكلية.
لا شكّ في ذلك، وينبغي التذكير هنا بالإحساس، الذي اختبرته في طفولتي، بالرغبة العظيمة في التواصل واستحالة تحقيقها. أظنّ أنّ هذا الحرمان انتقل على المستوى الديني من علاقتي بالإلهي؛ من توق حقيقي إلى الاتصال. إحساس تزاوج مع الخيبة التي تركها الغياب الواضح لجواب إلهي ومع تلك التي جاءت من حساسية عالية من دون أن يكون لها جواب على مستوى العلاقات الإنسانية. وجدتني منساقا إلى نوع من العزلة تزيد أكثر فأكثر، لكن، مع ذلك، دون انقطاع عن العالم. هذا بلا شك بداية تفسير: ربما لأكبر عزلة، وأصغرها في الوقت نفسه. يُعتقد دائما بأنّ العزلة تعني الابتعاد، الانقسام والانفصال، واتخاذ مسافة، أو بمعنى آخر ألّا يكون أحد في القرب. الانعزال هو بالتأكيد شكل سطحي من أشكال العزلة. هناك شكل آخر يقوم على الإحساس بأن ذلك جزء من كلّ، يسهم في حقيقة عميقة وجوهرية. وهو، باستمرار، ما كنت أختبره وأشعر به اليوم أكثر من أي وقت مضى. الشعر هو الطريقة الوحيدة التي سمحت لي بأن أعيش بامتلاء هذا الإحساس.
لماذا الشعر؟
لم أوفّق أبدا في أن أرمي الخطوة الأولى ما بين التعبير أو التواصل. فحين أقرأ التحليل الذي يقترحه علينا المقال أو الفلسفة أو النقد الأدبي والذي يتحكّم في هذه المجالات المتقاربة، لا أعرف كيف يمكن أن أميّز بين حقيقة الهوية وحقيقة المجتمع أو الانصهار في وحدة أسمى. أعرف، أو أظنّ بأنّي أعرف، بأنّني وحدي لا شيء، ولا وجود لي بانعزالي عن الحقيقة التي أراها. هذا واضح بالنسبة إليّ. إذ لا شيء يوجد وحيدا. لذلك لا أتعرّف على هويتي إلا من داخل هذا الكلّ نفسه. كنتُ قد عثرتُ منذ فترة قريبة على دراسة مؤثّرة، عن هذه الفكرة التي تقول بأنّ جزءا، على الأقل، من الاضطرابات ومن العنف المرعب الذي نعيشه الآن سببه أزمة هوية، وبأنّ الإنسان لا يتعرف إلى نفسه كما هو أو كما يمكن أن يكون، وتحديدا كجزء من كلّ. أعتقد، أن في بعض لحظات التاريخ، كان هذا الشعور بالانتماء أكثر فاعلية منه الآن حيث هناك ظروف متعدّدة ومؤثرات متشابكة تشوّشه بشكل سيئ للغاية. ومن هذه المؤثرات – وهي بالآلاف- أرى البحث الجهنمي عن النجاح والمال، والسلطة، وفوق هذا كله، أرى هذا العامل الذي يقضي على المحبة الإنسانية والذي هو التواصل الإعلامي الضخم الذي يسحقنا يوميا.
العزلة في العمق رغبة في الهوية. فلماذا إذن، اخترتَ الكلام وليس الصمت؟
سأقول لك. لأنّ الشعور بالانتماء إلى كيان سامٍ ليس شيئا آخر سوى أن تكون جزءا من الإنسانية، أن تنصهر في الآخرين، وتكون معهم على الوضع ذاته، تقاسمهم المصير نفسه وتعيش معهم مغامرة واحدة. التواصل مع الآخر لا يمكن أن يتحقّق جوهريا إلا من خلال الكلام.
هذا يعني بأنّ الكلام، حسب هذا الرأي، ليس فشلا.
تماما. الشعر من بين المجالات الوحيدة التي لا يفشل فيها الكلام. أو على الأقل الحيّز الذي لا يمكن أن يفشل فيه.
هل ثمّة مجالات أخرى؟
لا أستطيع أن أسمي سوى اثنين: الحبّ والصداقة.
لماذا؟
لأنّ الكلام في الحبّ والصداقة احتفاء ومصادفة.
في بعض قصائدك، يمنحنا بعض ما تتذكّره من تجربتك الدينية، مفاتيح لفهم عملك الشعري. فأنت تؤكّد مثلا على إيمانك بضرورة الحياة، ولكن ببقاء شعور ديني يتجاوز ما هو خارجي وشكلي كليا.
أؤمن بالحياة. إنّه تأكيد أقلّ تعميما وأقلّ تبسيطا مما يبدو. أحبّ الحياة بعمق، بالرغم من أنّ غناها الرائع لا نناله سوى لحظة. لا شيء يفرض عليّ أن أؤكّد هذا إلا كوني حيًّا. يضاف إلى هذا الإيمان بالحياة شيء شوّشني وأقلقني على الدوام. لكن ما الإنسان بدون قلق؟ لا شيء. وتوصّلت إلى هذا: الإيمان عظيم بلا موضوع محدّد، شيء يشبه الإيمان بالإيمان. لقد عبّرتُ عن هذا في قصيدة. أستطيع القول اليوم بأنّ الإيمان، حتى لو كنتُ لا أدري بماذا، فإنّه مفتاح الإنسان، مفتاح الكائن الحيّ. ومن جهة أخرى، لم أفقد الشعور الديني، لقد احتفظت به سليما وقويا كما هو. إنّ ما فقدته هو الأسماء. ما فقدته هو نوع من المنظومة الدينية. بل أقول ما هو أكثر من ذلك: الآمال التي فيها عزاء وتعويض. فالديني ليس هذا، وأكرّر بأنّه: يقوم على الإحساس بأنّك جزء من كلّ. أضيف، بأنّ الشعر بالنسبة إليّ، لا هو خلاص ولا هو لعنة بالمعنى التقليدي. إنّه مصير وحسب. لم تعد السماء رجاء/ ولا هي ترقب فقط / الجحيم ليس لعنة/ ولا هو خواء فقط/ الإنسان لا هو سينجو ولا هو سيخسر: / فقط، يغنّي مرات على الطريق.
تحمل مصير ما يبدو أنّه يعني كثرة من المسالك التي نتخذها معا وغنى قائم على قبول العالم كمغامرة شخصية. ورفض لنماذج القدوة بلا شك. هل كانت لك نماذج قدوة تخليت عنها في ما بعد؟
قدوة: ها هي ذي كلمة تزعجني. قبل قليل كنت تقول بأنّنا نتنكّر لمثلنا، حيث نبتعد عن المعلوم ونشقّ طريقنا. لا أعتقد بأنّه كان لي مُثُل: كانت لي حالات حبّ. حالات حبّ عظيمة: الشعراء والفنّانون. كيف يمكن لي أن أتنكّر لهم؟ أتذكّر شاعرا شابا كانت تقلقه كثيرا المؤثرات. ولا أظنني أخطأت حين قلت له بدلا من أن يقرأ لهم قليلا، أن يقرأ لهم أكثر، فيتغلغل بذلك في أعمال الشعراء الكبار ويعيشها بشكل أفضل. وبأنّ طريقه ببساطة، ليس التخلي عنهم وإنّما اكتساب شكل ونبرة شخصيين. المشكلة ليست إذن في أن يكون لك نماذج للقدوة، وإنّما حالات حّب عظيمة. ولا من الأفضل أن يكون لك معلمّون. لنتذكّر ما قلنا سابقا عن كْلِي: لا عبقري يمكن أن يكون له مريدون. أقول، من جانب آخر، بأنّ العباقرة وحدهم يستحقون بأن يكون لهم تلامذة. لذلك لا نستطيع بصفة شرعية أن نكون تلامذة لأحد. كنت أفكر في شيء قريب من الحكاية. إنّك تتحدّث عن التخلي. قد يحدث حسب ظروف الحياة، أن نضطر، بكامل وعينا، إلى اتخاذ قرارات صعبة، إن لم أقل بطولية، في اختيار هذا القرار وليس ذاك. لنتذكّر مع ذلك بأنّه لا شيء أعنف أو أكثر عبثا يمكن أن يحطّم هذا النوع من العالم المتحرّك الذي يتحملّه كلّ منّا في البحث عما يعنيه حقًّا. إنّنا لا نخلق بشكل كامل ظروفا للحياة ومن العبث أن نأمل في أوضاع مثالية بسيطة محضة حيث نجد ما يهمنا فعلا. كثيرا ما يحدث لي أن أكتب قصيدة في القطار أو في وسيلة نقل عام. مرات، يسألونني متى وأين أكتب. وكنت دائما أجيب: أكتب باستمرار وحيثما كان. من المستحيل عدم الكتابة على الورق أو في الفكر أو في الهواء. بل وحتى عدم الكتابة في الحلم. الشعر يكف فقط عن شكل من الكتابة. ليمرّ إلى شكل آخر لم يكن قيد الذهن في لحظته. إنّنا بصورة عامة، لا نتوقف أبدا عن الكتابة، كيفما كانت الظروف الخارجية. ينبغي أن نتقبّل كلّ ما يأتي، في كلّ الظروف، وأن نحيا. أن نحيا مع الشعر.
أنت بلا شك، لا ترى الشاعر ككائن مكرَّس (منذور لشيء)، كنوع من “الحماية السماوية من الصواعق”.
لأجل الاعتقاد بأنّ الشاعر كائن منذور ينبغي الاعتقاد بأنّ أحدا يمكن أن يجعل منه منذورا. من المحتمل أنّ تقديس أيّ كان لا يمكن أن يقوم إلا على الاعتراف بالمقدّس. بمعنى آخر، إنّ من يعترف بالمقدس، يقدسُ نفسَه. ليست بالفكرة “الغريبة”، والتي يضاف إليها، على النقيض، فكرة أفلوطين وريث أفلاطون، الذي صرّح بأنّ الخمر لا يعترف بها إلا من استفاد منها سلفا.
لقد قلت بأنّ الشاعر وسيط قوى “مجهولة”. كثير من التصورات الأخرى يجعل من الشاعر، بمعنى أو آخر، كائنا خارقا. هل تعتقد بأنّ تصورا من هذه التصورات صحيح؟
نعم، لكن بالمعنى الذي كان يراه ألدوس هكسلي في “أبواب الإدراك” والذي يوافق نظرة وليم بليك: “لو نظّفنا أبواب الإدراك، فإنّ الأشياء كلّها ستظهر كما هي، أي لامتناهية”. أعتقد، ببساطة، لو أنّ أحدا، من خلال تجربته، وجهده الخاص وما شئتَ من الظروف التي قد تساعده على ذلك، قادر على الانفتاح، والتجرّد بما يكفي، فإنّه سيتحوّل بشكل متميّز إلى الحدّ الذي يستطيع معه أن يقبض على الواقع ويقوله.
هل يمكننا أن نقبل، بين عوامل ظرفية مساعدة، اللجوء إلى المخدرات مثلا؟
مبدئيا، لا ينبغي رفض أيّ وسيلة تحسّن الإبداع الشعري. لكنّني أحذّر من هذه الميول لأسباب متعدّدة. منها أنّ جهد الإبداع يتشكّل ويتغذّى من نفسه ويقوم في نهاية المطاف على التركيز الفكري على مهمّته الأساسية. من جانب آخر، كلّ ما هو خارجي – المخدرات بخاصة – لا أثر له إلا بوصفه مناسبا لبعض الجوانب في شخصية معينة. ما يحفّز البعض قد يكون له أثر عكسي على آخرين. فضلا عن ذلك، فإنّ كل حالة إثارة أو انتشاء هي حالة عابرة. المخدر بالنسبة إلى بعض الشعراء، لم يكن سوى تجربة محدودة جدا، وليست لجوءًا مستديما لأجل الإبداع. ومن المحتمل كذلك أنّ استخدام هذه الوسائل يمكن أن يؤثر على انفعالات وقوى الإبداع الطبيعية، أي أنّه يشوّش عفوية الإبداع. يمكننا أن نضيف بأنّ استخدام المخدر في أغلب الأحوال يمثّل هروبا أو لجوءًا إلى الشك في استقلالية قوة المبدع. مهرب أمام قسوة الجهد الذي يتطلّبه الإبداع بمعناه الخالص. لا يمكننا البقاء بلا نهاية في حال من الإبداع. لو كان الأمر كذلك، فإنّه يمكن للحالات الوسطى أن تصبح غير محتملة عند البعض. وهكذا فإننا، من أجل تحاشيها، نلجأ إلى وسائل هروب.
لكن بمعنى آخر، يمكن لحالة الإبداع أن تثير شعورا بعدم الرضا لا يطاق.
صحيح. أمام الشعور الذي “ينبغي أن نتجاوزه” إلى ما وراءه. هذه الحاجة، بلا شك، لا يمكن أبدا تحاشيها. في مثل هذه الحال، يمكن تبرير أي وسيلة نلجأ إليها، حتى المخدّر. أن تكون خدعة أو لا تكون، أو تقتاد إلى التدمير الذاتي، لكن من يستطيع أن يصدر حكما شخصيا؟ إنّني أتحاشى ذلك.
بهذا الاتجاه في التجاوز أو الوصول إلى رؤية بلا حدود، انتهى بعض الشعراء إلى الجنون أو الانتحار. إذا كان الشعر، كما تقول، شبيها بالخلاص، لماذا إذن، يلجأ الشاعر أحيانا إلى الانتحار؟
أعتقد أن ألبير كامو، هو الذي قال بأنّ الانتحار هو المشكلة الفلسفية الوحيدة الوجيهة. لا أعرف إن كان المشكلة الوحيدة لكنه أساسيٌّ. في ما يتعلق بالإنسان، الاختيار هو أن تقبل أو لا تقبل العالم، نتائج اللعبة، وشروط الحياة. سيمون فيل Simone Weil اعترفت بقبول العالم والتضامن مع أمثالنا من البشر كشيئين لازمين يمكن منحهما شرعا للإنسان. هناك من يرفضون هذا القبول أن يتركوا اللعبة عن اختيار أو يأس ويتخلوا عن هذا المفهوم للحياة. نعرف بشكل عام بأنّ محاولات الإنقاذ من الانتحار متعددة، ويمكنها أن تخلّص من الألم والخيبة والإهمال والاختلال العقلي. لكن ما يعنينا هنا هو انتحار الشاعر. أعتقد أن الشعر هو دائما قريب من الانتحار، مثلما هو الجنون. العالم والحياة لا يسمحان لنا لأجل الإبداع إلا بهامش ضيق. ومن المحتمل أن الشعر وحده مثلما الإيمان، أو الجبن أو اللاوعي يحمينا من الجنون أو الانتحار. أعتقد بأنّ الشاعر الذي ينتحر، ينبغي أن تكون دوافع الخلاص عنده بالشعر قد استهلكت مسبقا. ثمّة سببان في رأيي كي يكون الأمر هكذا: شعور مدمّر بالتفاوت العميق بين العالم وإبداعه الشعري أو توتّر شعري لا يطاق إلى الحدّ الذي يدرك معه الشاعر بأنّه لا يستطيع أن يذهب بعيدا خوفا من أن يفقد هذا البعد الخلاق، أو بسبب شكل خفي من عدم التوافق بين الحياة والشعر. الجهد المبذول لأجل الأشكال هو بمثابة حريق ينجّي من قسوة الفراغ لكنه يقتل مرات. الواقع هو أن كلّ انتحار بوصفه التحوّل التراجيدي الأعلى، فإنّ انتحار الشاعر يبدو ضعفين من ذلك. العيش في منتهى الأقاصي هو المغامرة الأكثر إغناء للوجود، لكن أحيانا، تدفع ثمنها من الحياة. ولعلّ الأمر دائما هكذا. ألا يمكننا أن نفترض على نحو معاكس بأنّ الشاعر -أعني إنسان الحساسية القصوى- ينتحر قليلا كل يوم؟ ومن ثمّ، فإّن الانتحار النهائي ليس سوى اندفاع بسبب نفاد الصبر للتعجيل بالنهاية. في كلّ الأحوال، واعتبارا للملابسات الإنسانية ومحاولة خلق شيء في ظروف قاسية، لا يمكن لأحد أن ينكر حقّ الشاعر في قرار متطرّف، بالرغم من أنّ الانتحار لا يبدو مطلقا جوابا عن المعنى النهائي للشعر، على الأقل كما نراه، أي كأرقى اعتراف بالحياة وبشكل حركتها الأبرز. الحياة لا تتوافق دائما مع الواقع حيث يمكن أن تجتمع كل أسباب انتحار ما، والذي يبدو هكذا نتيجة فاضحة وكشف عن نقص في التآلف وعدم استقرار الواقع.
يشير رينيه مينار Réne Ménard إلى إمكانية الشعر في أن “يقيم عضويا” داخل الشاعر. هل اختبرت شيئا كهذا على مدار عملك الشعري؟
بداية، أتساءل عمّا إذا كان الشعر هو الذي يسكن الشاعر أم الشاعر هو من يسكن الشعر. هذا سؤال آخر إذن قد لا يكون له جواب. بكل الأحوال، هذه الطريقة في السكن، كيفما كانت، هي غير مشروطة. هي، بمعنى آخر، إلى هذا الحّد الضروري، بمثابة الحياة نفسها. السكن عضويا؟ في رأيي، ينبغي أن يقوم هذا بدمج شيء ما كجزء من النظام العضوي. دمج فيزيولوجي وليس تركيبا لعضو جديد. لو فهمه رينيه مينار بهذا المعنى، فإنّ زعمه صادق. لا يعني ذلك أنّ الشعر يطبع كلّ حركة وكلّ فعل. فالشاعر رجل هشّ ككلّ شخص آخر. لهذا من المدهش أن تنبثق من هشاشته قوة لا نتوقعها أبدا من مكانها الذي ولدت فيه. وأنه بالرغم من ضعفه والعوائق التي تعترضه، فإنّ الإنسان قادر على خلق أشكال تشهد على وجوده. تلك هي، في رأيي، الرؤى الأغنى في الشعر والتي لا يمكن الاستعاضة عنها. في الحقيقة، لا يمكن فصل الشاعر عن الشعر. أظن بأنّه يمكننا أن نضعه على مستوى عضوي ونفترض بأنّ شعره مساو جوهريا لما هو إنساني، بالرغم من أنه لا يعي ذلك على الدوام.
كيف تولد وتتشكّل القصيدة مرحليا في داخلك؟
ينبغي، حتما، العودة هنا إلى كلمة ترجع إلى “سرّ” الشعر. بشكل عام، تنبثق القصيدة في داخلي من لقاء غامض وغريب بين حدّين لا يجمع بينهما رابط. هذا الترابط المدهش يقع إذن على مستوى من التأمل الحيّ. وبهذه الطريقة يأتي نوع من النظام اللغوي الذي يتطلّب تطويره التزاما كليا وتفرّغا كاملا وإخلاصا بلا شوائب. يتعلق الأمر بإجراء ينبغي، في ظل حرية ذاتية واسعة وممكنة، أن يربط بين العقل والشكل والكائن. أردتُ يوما أن أركّب هذا كله في الكلام على “انفجار الكائن في اللغة”1. يبدو لي مع ذلك، بأنّه من الجوهري، أن يحدّد كل عنصر من عناصر القصيدة بما قبله، بحيث لا تقبل كل كلمة أو كل لحظة صمت، الاستبدال. ومن ثم، لا يمكن أن يستجيب معنى القصيدة لأيّ قاعدة ضمنية أو ظاهرية أو يستحيل إلى مؤالفة معروفة. إنه تقصٍ أو حاجة تتّجه بنا إلى إمكانية عالية: تتصرّف في داخلنا لإضاءة جانب آخر من الحقيقة.
هناك مع ذلك مسار لاحق لولادة القصيدة، مرحلة يمكن أن نسميها بمرحلة الصناعة. فاليري يقول بأنّ القصيدة لا تنتهي، ولكنّنا إما أن نتركها في سلّة المهملات وإما بين يدي ناشر. كيف تتصوّر هذه المرحلة؟
فكرة “الصّنعة” تهمّ “الصنع” المادي، أو التشكيل أو بنية القصيدة. يتعلق الأمر إذن بتعلّم هذا الصُّنع. كنا نقول قبل قليل بأنّ الشعر هو أكثر من مهنة أو وظيفة. لا يُعلّم في المدارس أو الجامعات أو الورشات الأدبية ولا بواسطة معلمين. ولا يعني هذا بأنه ارتجال أو موهبة إلهية أو إلهام بالمعنى السحري للكلمة. ولا هو بالموهبة الفطرية: وإنما يقظة. ما القاعدة التي تتحكّم في يقظتي كل صباح؟ لكنني من جهة أخرى، على قناعة بأن الشعر يعتمد على التحكم في فن اللغة، وأنّه من المناسب بهذا المعنى تعلّم كلّ ما يشكل سيطرة أو معرفة عميقة وممكنة لممارسة هذا الفنّ. ما لا يمكننا أن نتعلّمه أو تعليمه هو “جوهر” الشعر الذي لا علاقة له بالصّنعة. بل سأقول بأنّه لا علاقة له حتى بالإلهام. وعلينا أن نرفع نداء من جديد إلى هذا المفهوم القديم لــ”سرّ” الشعر، إلى طبيعته التي تتعذّر على الوصف والتفسير. هذه الومضة، أو الحافز من الخيال الذي نشعر به في لحظة من الوقت هو حقا جوهر الشعر. كيف لنا أن نفسّره؟ لا أدري شيئا، ولا أحد يعرف. كذلك هذا التأمّل في الشعر- كأيّ تأمل آخر – قائم على سلسلة من المجازات والصور التي تحاول تفسير ما لا يفسّر. الطريقة الوحيدة للكلام على ما يصل إليه الشعر في نهاية المطاف، يقتضي منا أن نكون مجازيين، أي أن نتكلّم برموز.
على ماذا يقوم هذا العمل الشخصي؟ على اللغة، هذا التعلّم لما يمكننا أن نتعلّمه؟
تعلّم لغة الشعر هو عمليا لا ينتهي، وهي مع ذلك لغة واحدة. علينا أن نتكلّم هنا على – نتعلّمه مرحليا: تعدّد الإمكانات التي تنفتح في كلّ لحظة على التعبير والتي، بالتأكيد، كان يعود إليها فاليري. حين يحدث هذا النوع من الإشراق الأوّل، هذا الحدث الذي لا يقبل الشرح والذي هو ولادة القصيدة، تتجلى عند البعض بسرعة فائقة سلسلة من الاحتمالات. والتي منها ملاحظة بودلير Baudelaire: من الأهمّ أن تصحّح من أن “تصنع”. هذا يعني أنّه في لحظة “الصنع” تماما، تتجلّى الاحتمالات. كيف نختار واحدة منها دون أخرى؟ أقول مرة أخرى بأنّنا نقترب مما هو جوهري. خطرت لبول فاليري Paul Valéry فكرة غنية بشكل خاص، بافتراضه بأنّه ليس من العبث أن ننشر التنويعات المتعددة لقصيدة واحدة. هذا النشر يعلّمنا بما يكفي عن فنّ “الصنع” وعما يمكن أن نسميه بشكل عام الصّنعة الشعرية.
تقول بأنّك تصحّح كثيرا. السؤال الذي يفرض نفسه هو حول معرفة متى يتوقّف هذا التصحيح. في أي لحظة نشعر بأنّ القصيدة صارت متاحة للقراءة؟
بالنسبة إلي، التصحيح لا ينتهي أبدا. أفهم ملاحظة غايتان بيكون Gaetan Picon التي تقول بأنّ نشر قصيدة يحرّرنا منها. هل لأنّ هذه القصيدة وصلت إلى حدودها؟ أم أنّ القصيدة يمكن أن تصبح هاجسا لا يطاق لأنّنا نتوقّع باستمرار احتمالات التحسين. بالطبع، تحسين التعبير في ذاته، أو القصيدة كعمل لغوي، وتركيب مفردات. من البديهي، الوصول إلى قناعة في لحظة ما لأنّ “نترك” القصيدة، كما يقول فاليري، لأنّنا من الهشاشة بحيث أن الإتقان يؤثّر على القدرة لتحقيق أي شيء ويقضي عليه. هكذا يكون لكلّ قصيدة ما يشبه قارئا مثاليا لا نستطيع أن نعرّفه ولا أن نسمّيه، ربما يمكننا أن نتصوّر شيئا كقصيدة متفردة ونهائية. إنّنا نعيش في ما هو ناقص ولم يكتمل، فيما نتوق إلى الكامل والمكتمل. ربما علينا أن نحاول اكتشاف قصيدة جديرة بألا نتخلّى عنها أبدا وفي الوقت نفسه نأمل في أن تكون لنا القوة على ألا يحدث ذلك. ألا يقع هذا الجهد تحت كلّ البحث الذي نقوم به؟
قلت بأنّ شعرك يعثر على مصادره في القراءات. فهل وجدت مصادر أخرى في الفنّ، في الموسيقى والرسم؟
أنا على يقين من ذلك. كنت دائما أرى وما زلت بأنّ الحياة بدون عالم الموسيقى لا يمكن أن تعاش. الموسيقى تُغذّيني وتجعلني أتنفس، تعزيني وتمنحني شيئا حقيقيا. فضلا عن أنّها تمنحني كلمات للشعر، كلمات لا أعثر عليها في الأدب ولا في المعجم. أعتقد بأنني لا أستطيع أن أعيش يوما واحدا بلا موسيقى، بدون هذه المكاشفة للحقيقة والأسرار التي هي الموسيقى. أجدني أيضا على علاقة مع الرسم لكن ليس إلى هذا الحد الذي مع الموسيقى. أشعر، مثلا، بميول عميقة إلى أعمال بول كلي Paul Klee، فجرأته بلا حدود في أسلوب الكشف عن التنويعات الأكثر خفاء، والأكثر أهمية في أن للكائن الإنساني والواقع، إنه ينجح في ذلك برؤية رهيفة، بمغامرة بصرية لم أعثر عليها في أي مكان آخر. هناك حتما شيء آخر عند هؤلاء المبدعين الذين يهمونني: حلول سري وصوفي مع اللامتناهي. رعشة عالية، بدلَ أن تختبئ في حال من القلق الشخصي، تنفتح، على العكس، على تحوّل جوهري يجعل كلّ شيء مرتبطا بالكل. هو ما أظنّني اكتشفته في بعض لوحات غريكو أو فان غوخ أو غويا. ولكن أيضا في موسيقى باخ وموزارت وبيتهوفن. كلّ هؤلاء الفنانين ينخرطون كليا في فعل الإبداع حيث يمثل الإنسان كل ما يمكن أن ينكسر في داخله. هذا الانخراط لا يعني، بالنسبة إلي، أخلاقا سمجة، وإنما علم أخلاق عميق. أظن بأنّ هذا يصدق على كلّ فنّ هو على نحو ما شامل وكذلك على كل شعر شامل.
أقترح عليك علاقة أخرى بعملك الشعري: بعض الظواهر السينماتوغرافية، وبخاصة تلك التي لإنغمار برغمان. يعتقد بعض قرّائك بأنّه توصّل إلى الكشف عن قرابة بينك وبين برغمان.
كان لديّ دائما اهتمام خاص بهذا النوع من اللغة الذي عرف ولادته عصرنا. فالعلاقات بين السينما والشعر متعددة. ومع ذلك لا يبدو لي من المناسب إضفاء معنى الشعر على فنون أخرى كما تفعل الناس أحيانا. إذا كان الشعر في قلب التعبير الإنساني، فإن وهجه يمكن أن يقع على مساحات أخرى من الفنّ ويضيئها. لقد لاحظت هذا عند بعض الخلاقين السينمائيين. أذكر أنّ ملاحظة لماتشادو وهو يقول لخوان ميرينا بأنّه سيهتمّ بالسينما لو أمكن للفيلم أن يبقى ثابتا. لكنّه، تحديدا، متحرّك! ومع ذلك يمكن لهذا أن يحدث. قد يحدث أن يركّز الفيلم بشكل ما على عمق الإنسان والواقع، وأن يكون استكشافه خلاقا، من دون أن يستخدم مع ذلك سوى وسائل لغته الخاصة. اللحظة النادرة حيث تركيز السينما يجد رسوخه في الواقع، وهنا أرى فعلا صلات بين أبحاثي الشعرية وبين السينما كما يمكن أن تكونه سينما برغمان. بلغتها الأصيلة حقا، تمكنت برغمان بنجاح أن تقوم بمهمة صعبة وغير مسبوقة لأن تأخذ السينما إلى بعض المواقع الداخلية وبعض ردود أفعال اللاوعي العميقة، التي لم يصل إليها إلا قلة. عند بعض السينمائيين، التحكّم في الصورة هو بالأحرى عائق للنفاذ الفعلي العميق في باطن الإنسان: تظلّ الصورة صورة، قد تكون جميلة حقا، لكنّها لا تلامس العمق. على العكس، أعتقد بأنّ عظمة أحد مثل برغمان تقوم على قدرة تصويب هذه الصورة نحو الأعماق.
كتابك الأوّل كان مفاجئا بما فيه من نضج في اللغة، بتماسكه وطبيعته الحاسمة. ليس ذلك بالمألوف …
لم أستعجل النشر. فنحن لا نكتب لننشر، ولكن لنحيا. الحياة هي البعد المطلق للإنسان، وكيفما كانت عابرة، فالشعر هو عبادة هذا البعد. من هنا عظمة وأصالة خطورتها. لذلك قال مانويل بانديرا: “أكتب شعري مثلما يموت أحدهم”. من جهتي، كنت دائما أحترم ما يمكن أن نسمّيه ” العمل الشعري” أو ” التعبير” أو ” الشعر”، لأنّ الأمر يتعلّق بشيء يشبه كائنا حيا، يكبر ويكتمل وفي لحظة ما- لحاجة طبيعية – يتجلّى، حتى وإن كان ذلك أقلّ ما ينبغي فعله. من المخاطر التي نجتازها، بسبب الاستعجال أو لأي سبب آخر مغر ومؤقّت، هو أن نتعجّل وأن نعرض ما لم يأخذ وقتا من الاكتمال الطبيعي ككلّ الأشياء التي تهمّنا. أذكر حديثا بيني وبين أنطونيو بورشيا الذي كان من عادته أن يقول: ” إنّهم لا يستعجلون. إنّهم لا يستعجلون أبدا.” ما الذي ينبغي ألا نقلق منه؟ بين أشياء أخرى، أقول، من الادعاء، قبل الأوان، بأنّي شاعر، أو مبدع أو بأنّي أكثر أو أقلّ أصالة. طبعا، في وسعك أن تسألني ما إذا لم يكن تصديق ذلك أحيانا مبرّرا. نادرا. كنت أفكّر قبل أيام أنّه من المناسب، بلا شكّ، كما قلنا، أن يشعر الواحد على الدوام بأنّه في البدايات. وبالرغم من أنّه حتى لو ظننّا بأنّنا دائما في البدايات، فهناك لحظة حيث هذه البدايات – وعلى نحو غامض- تصبح مقبولة، ونشعر بأنّ عليها أن تظهر. ومن ثمّ التحكّم في اللغة … حين تعلّمنا هذا العمل البسيط والفظيع في حبّ الكلمات، الذي يقوم على عدم قبول قيمتها النفعية، وألا نكتفي بالنظر إليها كأدوات مستعملة، ولا حتى كأدوات، وإنّما ككائنات حيّة، كحيوانات صغيرة بين أيدينا، في أفواهنا أو أرواحنا؛ هذا التحكّم، إذن، أو هذا التورّط حاسمان وعلى كثير من الخطورة، يناقضان الاستعجال والسطحية. أعتقد بأنّ القراءة هي كذلك مثمرة، قراءة، لو أمكن ذلك، كلّ أنواع الشعر – والتي ستستغرق وقتا. وبالمثل، من المفيد جدا، التعرّف إلى سؤال كلّ تيار من تيارات اللغة، والشعر والتعبير الإنساني. كلّ هذا يبدو لي ضروريا لتنظيم نوع من التأمل في اللغة والنظر الطويل فيها مما يسمح لنا بالشعور بشيء آخر (ليس الأمر تواضعا): أن نحدّد الوقت والمكان حيث نستهلك اللغة، ونجمع أشياء كثيرة مغرية. أن نصل إلى فهم على مستوى الشعر الكوني العميق إلى أنّ كلّ شاعر حقيقي لا يصل إلا إلى قليل من الحقائق التي تغمرها حقائق أخرى لا أهمية لها. هكذا يصبح لنا خبرة وموقف من اللغة ومن الشعر. هناك سؤال لا يمكن الإحاطة به: ما الذي يستطيعه ولا يستطيعه الإنسان؟ ذلك أنّ الشعر يقتضي تمفصلا بالغ التعقيد بين ما هو قائم وما ليس قائما، بين المنطوق والمسكوت عنه. من بين الأشياء التي يستطيع الإنسان والآخرون القيام بها، قليل منها في ما يبدو لي متعالية وجوهرية تجعلنا نأخذ الكلام إلى حدوده القصوى، إلى أعلى إمكاناته لتصوّر وخلق شيء أو التعبير عنه. في عمق كلّ هذا، هناك فعل إيمان أكثر عمقا حيث يمكن للتجربة الإنسانية، مجرّدة تماما، التحقق والاغتناء من تلك التجربة الأخرى التي هي اللغة والشعر.
أودّ أن أنهي هذا الحوار الثاني بسؤال شخصي لا صلة له بما بين الشاعر والشعر من علاقات، إنّما بالدور الذي يلعبه الشعر في حياتك. أقصد: ما الذي كان يعنيه الشعر من قبل وماذا يعني لك الآن؟
الامتلاء الأقصى بالحياة التي يمكنني الوصول إليها. لا أعرف أيّ تجربة حيّة أخرى بهذه الكثافة. فالشعر هويتي.
الهوامش
1 N.du.t,: Cf. “La poesie, la realite, la poesie », en preface a Poesie Verticale, version francaise de F. Verhesen, Ed. Rencontre, Lausanne, 1967, p.8. Reed. In « Nulle Part – La Rhetorique », pp. 3-16, Mont -de- Marsan,1985.