بقدر ما تتيح خطابات البوح والاعتراف الامساك ببنية نص آيل للانفراط في كل لحظة ، فإنها تتيح للمتحدث ، المتكلم المعترف ، فرصة تجميع شتات أفكاره ، محنته التي تستدعي منه اطلاقها في هذه اللحظة. وتفريغ الكائن لخليل النعيمي (القاهرة: شرقيات 1995 ) يمكن أن تعد ضمن هذه الخطابات ، كما أن فيها أكثر من انتماء لخط الكتابة الستينية ، تلك التي ولجت الاعتراف مرة واحدة ، ساعية في دفقات شعرية الى بلوغ ذات المتكلم , ومن ثم معرفة نقطة التصادم بينه وبين الخارج ، لكن هذه الكتابات ومن بين أبلغها تفريغ الكائن ، لا تطمئن الى هذا الخارج ، كما أنها تجرده من أية ( موضوعية)
كتلك التي تبنيها الروايات الواقعية. فلا الخارج يمتلك رصانته أو وضوحه ، ولا التكلم يدعي الهيمنة على ما يدور حوله أو عنه. ومثل هذا الانفراط في داخل المتكلم ، إنشراخ الثقة والطمأنينة وغيابهما، وكذلك تناثره وتشظيه لا يأتي عبر الكلام وحده على الرغم من أن هذا الحكي هو وجوده كله ، "هذا المساء أريد أن أحكي" ولأن الايقاع يستدرجه الى ما هو عليه من حزن وتمرد يجتمعان عنده وعليه مرة واحدة ، أضاف "أريد أن أبكي" لكن الحكي والبكى يستبدلان الكتابة عن قصد، لأن "الكتابة صامتة وبليدة "، كما يقول ( ص 7) ، ففي "هذا المساء أبحث عن ضجيج " ( ص 7). ولكن ليس الضجيج هو ما يريده ، إذ ينبغي الا يؤخذ دفق الكلام كما هو عليه ، فثمة تناقضات داخل البوح ، وهذه التناقضات هي التي تقودنا الى هذا النص بصفته أحد أبلغ نصوص ( ما بعد الحداثة ) العربية ، نصوص الغربة التي يبلغ فيها التشظي أقصده. فذات المتكلم أشتات ، متناثرة "أبحث عن نفسي بين الأنقاض "، وهكذا تكون الصورة متحركة ، تختزل في داخلها (الفاعل ) والواقع في آن واحد، كلاهما يتناثر ، وكلاهما يفقد سنده المطمئن أو الواضح أو المكتنز. أما الذي يبقيا لفاعل – المتكلم وكذلك النص منفتحين دائما ضد ( تفريغ الكائن )، ضد استلا به وتفريغه من الحب والمواجهة والتمرد، فهو هذا الرحيل ، أو البحث بين الأنقاض ، بقصد لملمة هذا الشتات ، ومعرفة سر التصدع.
لكن النص يبتديء عند النهاية الزمنية للرحلة ، فثمة لحظة ضاغطة كتلك التي ينفجر عندها الحوار الدرامي هي التي تستدعي منه هذا الاسترجاع ، والبوح والاعتراف والمكاشفة والمناقشة والتمرد. ولهذا يجري تحديد هذه اللحظة التي كانت لتوها بعد مراوغة وتباعد: "منذ سنين وأنا أريد أن أفهم كل شيء لكن التغلغل المستمر بين اللحظة واللحظة يشل طاقة الإدراك ، ويعمي بصيرة النقد (ص7),
ولا يعني اختيار اللحظة طواعيتها ، كما لا يعني صلاحيتها ضرورة ، ففي اضطراب الأشياء والعالم والناس ، تبدو "الحقيقة " ضربا مخاتلا لا غير، لكنها تأتي الآن بين الرغبة وغيابها ، وبين الكلام والصمت ، ولهذا "كنت أريد أن أبدأ
المواجهة الأخيرة ، أخيرا، تلك المواجهة الحاسمة التي كنت أنتظرها منذ أول الليل (من 8). ومثل هذا الاختيار سيقودنا الى معرفة تاريخه خلال عشرين عاما، ظن خلالها أنه بلغ نهاية المطاف وتمكن من الاستقرار كما يبتغيه بقية البشر، أولئك الذين بلغوا التدجين ، وأصبحوا قطيعا مفرغا كذلك المبتغى والمراد في حملة التدجين الواسعة. لكن وعيه بمنظورات الأشياء، ظروفها، تغيراتها، التباساتها، يجعل من الصعب عليها الكذب والإدعاء، فلا اللحظة ميسورة ، ولا الأمور بادية بيسر، لكي يتمكن من التغلغل في داخله ، أو في مكنونات الأشياء والناس:
«لكن الظلمة التي غيرت الملامح والحصون ، غيرت ، في الآن ذاته وضع المواجهة وموضوعها. فلم يعد الأمر يثير الرغبة بالحديث ولم يعد الصمت لائقا بالمقام "(ص 8).
هذه اللحظة الرمادية هي التي تقودنا الى المقاربة بين هذا النص وبين الحوار الدرامي الأحادي. كما أنها هي التي تبعدنا عن هذا المفهوم باتجاه تمييز هذا النص ، بصفته أحد نصوص الغربة والاغتراب في مفهومات ما بعد الحداثة التي تعدو كونها وعيا بالانفراط الشامل للعقائد والأنظمة.
لكن هذا الاختيار يعني القدرة على القرار، وهو فعل يمضي متواطئا ضد (التفريغ ) ، ولهذا تراه يستجمع نفسه ثانية في خاتمة هذا "التنفيس عن كرب " (ص 163)، ليقول عن هذا التنفيس أنه كلام. وأنه معادل للحياة. ومرة أخرى يجري إعلاء الكلام على النص بهذا المعنى. فالتنفيس يعني أن نحيا "وأن نحيا يعني أن نستمر في حربنا التي لا تتوقف ضد تفريغنا" (ص 163). وبدل الخوض في المفاهيم ، أو الانجرار وراء ما يخلق البطل من أفعال قد تنهر له وجوده ، يظهر المتكلم كما هو عليه عندما بدأ رحلته بجواز مزور قبل عشرين عاما باحثا عن الخلاص في أوروبا ، عارفا في تلك اللحظة وهو يقضي الليل على الساحل انه وحيد وغريب في وطنه وفي الخارج. ولأنه كذلك أجرى مراجعته لنفسه ، ليستنتج أنه على الأقل أبقى على إحساسه مهما كان ذلك مرهقا ، فهذا الاحساس "قد يدفع بي ذات يوم الى ساحة الفعل المنتظر" (ص 164)، وهو احساس يقاوم به عملية دفع أمثاله الى قطيع اللامبالين ، كما يقول.
ويتخذ النص في النهاية شكل المكاشفة. التي بدأت منذ "أول ليلة " ليستعيد فيها تاريخه ، وحياته ، مواجها نفسه أولا في هذا الغربة. لكنها المواجهة التي لا تتحقق إلا بمجادلة الآخر، المرأة التي تطل على داخله وأسئلته واستنتاجاته بآراء أخرى، وافتراضات ثانية ، وكذلك باختلافات جوهرية في المنظور، تجعله يردها مسرة مرة وعبئا لمرات ، قبل أن يضطر الى الانسجام مع تحليله السابق لطبيعة التشظي في داخل الفاعل – المتكلم ، الذي ينبغي الا يركن الى ما هو مطلق أو افتراضي في حياة متقلبة ، حادة ، يصعب فيها جمع رأسين على مصير واحد. ومثل هذا التخلي عن المقبولات والمطلقات لا يأتيه سريعا، فهو نهاية رحلة ، يعلن فيها رفضه أو عدم اهتمامه بتدخلاتها وخلافاتها، "لم أكن أبحث عندك عن تأنيبي أو تأثيمي"، كما يقول ، وهو يجد لديها "المجابهة " (ص 169) لا غير ، ويمثل هذا الوعي فقط يستطيع الخلاص من اعتقاده بأن مصيرهما مشترك ، "لم أكن أعرف أن تطور العقول ، هو الآخر، مثل تطور. الأجساد ، مختلف لا مؤتلف " (ص 165). والرضوخ هنا يتماشى مع التحليل الذي يجريه لمسيرته فثمة حق للمرأة الشريكة قد لا يصمن التشابه بين الاثنين ، وقد لا يقود الى تطابق المواقف والآراء، مهما بدا هذا الأمر مكدرا للفاعل الذكر.
واذ بدا الكشف منغصا للمتكلم إلا أن (ما بعد حداثية ) النص ، تشظيه وتناثره أمام وقع الأحوال والناس ، يتيح للقاريء أن يشهد على مأزق يضطر الذكورة الى التخلي عن هيمنتها لتفسح المجال (اضطرارا) للأنثى لمزاولة فعلها، مختلفا مرة ، وتأثيميا يدين المتكلم مرة أخرى: لكن الأدب بصفته خطابا هو ما يتيح لنا أن نبصر مثل هذه المجابهة ، فالكلام عندما يأتينا مدونا يكون قد تحرر من كوابح التأمل والمراجعة والتعقل ، ولهذا يفترض المؤلف أن نتعامل معه كما هو، هذر في آخر الليل ، لكنه الهذر الذي لا يأتي لمجرد استجابة الذات الفاعلة المتحدثة لاغراء اللحظة الليلية ، مهما كانت هذه اللحظة مليئة ومشحونة ومتوترة ، فبدون حضور آخر قد يبقى الهذر مختنقا في الصدر، لا مخرج له غير العناد و(الثأر) والعدائية ، مواصفاته التي يكتشفها عنه الآخرون كلما ارتطمت حالاته بجدران الخارج أو كلما انغلق هو نفسه أمام انفتاحات الآخرين ، كما هو حاله إزاء النادل وصاحب الكلب ، أو حتى معها ، كلما ردته منوهة برفض الآخرين له ، تمييزا لقبولهم لها، وانسجامها معهم وبينهم (ص 155). ولهذا تظهر شخصية المتكلم وقد عاشت وتعيش ظنا سابقا ، وهما ما، وخيبة مستمرة ، وكل الظن والخيبة يتقاطعان مع كل ما هو خارج عنه ، ابتداء بالمرأة الشريكة ، التي افترض فيها الموافقة والمصادقة والتطابق والآئتلاف. ولصعوبة ركونه بصفته (الشرقية ) الذكورية تحديدا لمتغيرات الحال تمركزت الأفكار عنده وكذلك لبوسها الكلامي عند هذه البؤرة ، حيث الحضور الجسدي للأنثى الشريكة مرة وتداخلها النفسي والمبدئي والفكري بتاريخه مرة أخرى يجعلان منها نقطة الانتباه والمواجهة والصد والرد والمعاكسة ، منها تنطلق الكلمات باتجاه الكشف عن ذلك التاريخ وتلك المراجع والآلام والخيبات التي يتشكل منها خطاب الغربة الذي يتماهى مع الشعر، فيضيع فيه أو يظهر عنه ، كما يتبين بعد حين: لكن تناصيات خطاب الغربة ، هضمه واستيعابه واقتباسه عنها تحديدا ، تضعه داخل مفارقة ساخرة ومريرة. فهو اذ يتموضع زمنا بين ابتدائه ، في لحظة ليلية مسترجعا ما جرى منذ عشرين عاما، يتباعد عن زمانه الحالي ، مكانه الباريسي ، الذي أسقط نفسه بقوة على الأنثى ، فأتاح لها مهادا أوسع ، وهامشا ما تؤكد فيه مشاغلها واهتماماتها ، تستكمل فيه ذاتها ، وتتمدد فيه بديلا مفضلا للشام المهجور فظهرت علامات ذلك في حرية خطابها المنصص ، تحررها من ذلك الأسر الذي لم يزل الذكر يحن اليه كما تداخل في ذهنه بالحرية في الملبس والمشتهى والمأكول والمشموم: "الأوراك الدمشقية كانت حرة " ، هكذا يقول "تلعب بها الريح تداعبها الشمس. أوراك تجرنا وراءها. وننجر. نتبعها من الريح الى الريح. نرى نزيزها المرتبك الفضاح. تلمسنا قبل أن نلمسها" (ص 62). أما الأخرى ، فقد "قامت ؟ سحبت خلفها، وركيها، بالأحرى، وركان هائلان لجسد شبه نحيل. وركان محشوان حشوا، في قماش من الجينز السميك. لكأنهما يحتميان به من العيون " (ص 62). وهذه المقارنة ليست منقطعة عن تشكيلة الخطاب الأساس ، انفصالها وتقابلها ما بين اثنين ، ذكر وأنثى ، باريس وشام ، غيوم وشموس ، جليد وأنهار، بنايات عمودية وأنفاق ، أقمار تتلوى "غائبة " وأخرى خجولة (ص 44و 60). لكن هذا الانفراط وذاك التقابل يحيلان على "غريب " متكلم تنشق ذاته في أكثر من زمن وموضع ، ويريد أن يمنع نفسه من الانخراط بين القطيع. واذ تعني الرغبة مصادرة لأخرى في ظل عالم تشغله اهتمامات لا انسانية ، يبدو التقاطع بين المتكلم والمرأة ، الذكر والأنثى ، أساسيا لا مرد منه ، فهو يعلن نفوره من المرأة: "كان يكفي أن أستدير لأراها خلفي، وأن أراها هو أن أرى (أوهامي). أوهام الحياة الأولى التي بدأت تتجمد مثل الماء المضروب ، عيوب في عيوب " (ص 8). لكن هذا التململ ينبغي الا يؤخذ بظاهره ، فالكلام ملغوم ، بمعنى أنه يحمل في داخله بذرة فساده ، فأوهام الحياة لصيقة به ، قلما يتمكن من التحرر منها، لكنها بعد هذا الاسقاط وذلك الاقتران يقول أيضا « وهذه المرأة اللاصقة بي، كيف أستطيع ابتكارها وانكارها هو المطلوب " (ص 8). وسواء ظهرت وليدا لابد منه أو أنها هامشه الذي يلقي باللائمة عنده بين حين وآخر، فإن صوت الأنثى يحيد عن اطلاقاته وتعميماته كلما وصفها "بالدودة " (ص 56) و" الرنين المزعوم " (ص 78)، المتداخل بـ "السلطة " (ص 102)، فها هي تعيد اليه مستلزمات العزل بين الأشياء والأفكار: "فالفراش المشترك " (ص 117) لا يصادر الفوارق بين الاثنين ، ولا يعني مصيرا مشتركا ضرورة ، تقول " فكرة العيش معا (حتى الموت )، لم تعد تغريني. من حكم علي بالاعدام ؟ العدو المشترك الذي أخفتني به ، طيلة الأعوام البائسة المنصرمة ، لم يكن إلا عدوك أنت. ولست أدري لم يتوجب علينا أن نعيش وهما مشتركا، وهم الحياة الواحدة والسلوك الواحد، والحب الواحد. تصور! ونحن لا من نفس العقل ، ولا ، من نفس النظام " (ص 51).
وليس صعبا تبين ملامح الخطاب النسوي في هذا التنصيص ، لكنه على صعيد الخطاب برمته ينبغي أن يؤخذ مقروءا بمستويات مختلفة ، أحدها إسقاطه على الخطاب الذكوري، بغية هدمه وزعزعة بنيته وأحكامه ، وثانيها يخص مسيرة الذكر – المتكم الذي يكتشف أن الألفة والتآلف والترتيبات الاجتماعية للزواج أو مثيله لا تعني مصادرة الاختلافات والتباينات. ولهذا يجمع صوت الذكر المستويين في أكثر من مناسبة يقر فيها بوجود "سوء تفاهم جذري " (ص 44). وكلما أراد الاستعانة بتراكمات تاريخ وعيه الثقافي ، نكده وتمرده ، كلما جاءه الخطاب النسوي متباعدا عن عنايات الرومانس ، فوليدة هذا الخطاب تجابهه برأي مغير " أنا لست أمك.." (ص 113)، وبهذا لابد من الوعي بما يرمي اليه النص ، فخطابها يحيل الى آليات التكوين الفرويدي، مستهدفا اسقاط شبكة الاحالة والتبعية والانشداد، بينما يضطر خطابه تحت هذه المجابهة ومثيلاتها (ص 165) الى الاعتراف بالتناثر والتشتت بموجب آلية مغايرة جزئيا هي التي تحيل على التفسير اللاكاني (Lacan ) بشأن المرآة – المرحلة ، فأنت كما كنت طفلا ترى صورتك ، لكنها ليست الا صورة ، انعكاس وآخر يؤكد المقاربة بمثابة إتيان حاسم بالخطاب الى قاعة لا الى عتبته فحسب.
ويبقى هذا الهدم قائما ، مزدوج الانطلاق ، فهي تعلمه أن البدايات تقررها الحاجة ، لا غير، وكل ما تقرره الضرورة آفل أو ميت في وقت لاحق:. "كنت أبحث عن أحد يبحث ، هو الآخر ، عن أحد ولقيتك. وحدث ما حدث. الآن علينا أن نتخلص من "الجثة ". علينا أن نغسل أنفسنا منها" (ص22). وكلما نظر بارتياب الى تمرداتها الأنثوية ضد الخطاب الذكوري، جاءته باشارة الى ماهية تمرد الأنثى ضد " أنظمة اجتماعية تناصر هذا الاحساس الذكوري بالتقوقه…" (ص 28). وبينما يعتبر المتكلم الذكر تمرده ضد الأنظمة (مبجلا)، كما تقول ، فإنه يضطر بموجب تراتيبية الحضور الاجتماعي الى الارتياب في تمرد الأنثى ضد هذه الأنظمة. أي "أن تمردي ضدها"، يعد في منظور الرجل ، كما تضيف "تمرد ضدك أنت " (ص28) ومثل هذا التناص ، اشتباك الكلام في فضاءات حوارية ، يطلع القاريء على منظور ين أو أكثر. فلا الرجل المدان منحاز كاملا الى الخطاب الذكوري بدليل قدرته على تبليغ القاريء بما تقوله الأنثي ، ولا الأنثى هاجرة كليا لموقع التمرد والرفض.لكنها حاملة خطابا مغايرا، نسويا يريد أن يتموضع داخل ما هو مهيمن ، ولهذا يستعين بالادانة والتأثيم: فالرجل – المتكلم ،اخلفه طاغية " (ص 57)، و" أحمق عنيد" (ص 24)، ويناقش كأنه العارف المطلع (ص 59), وهو يرى بالمقابل أن العواطف تشيخ ، والكلمات كذلك (ص 71)، وان كلامها لم يعد يستثير لديه الرغبة في الفهم ، لأن " الفهم هو الآخر قبول. إنه علاقة عاطفية قبل كل شيء. نحن لا نفهم ما يقول من لا نحب " (ص 129). لكن هذا التباعد لا يأتي من فراغ ، فثمة إدراك أوسع للعلاقتين بين الجنسين ينساق بموجبه المتكلم الى تبرير الهوة المتزايدة بين الذكور والاناث ، فهي تستجيب الى "التوصل الحسي "، كما يقول ، لأن "علاقتها بالرجل مثل علاقتها بالماء، تستحم به وتتسخ ، لتستحم به من جديد" (ص 40). بينما لا يدفعها حبه البائس أو التماس الحنان منها الا الى المزيد من التباعد، ما بين اخفاق المرأة وهشاشة الرجل (ص 40). لكنه عندما يموضع المنظور في إطار أشمل يرى أن تفريغ الكائن من "طاقة الحب العظيمة " لا يبقى عنده غير الانسلاب " (ص 141). وبينما يبدو المتكلم عارفا بخطر الانسلاب ، ثمة خطاب غائر في ثناياه يطالبه بالاعتراف بخلوه من الحب أو حتى من الرغبة الحقيقية (ص 142). هكذا تعلمه ، وهي تفصح عن رغبتها فيه عندما قررت بدء العلاقة. "كنت تبكي ، وكنت أحوم حولك. منذ رأيتك قررت أن تكون لي " (ص 142). ومرة أخرى فإن تسلل خطاب الأنثى يفعل ما هو مغاير لنيته المعلنة ، فهو لا يعذب أحدهما أو كليهما الآن ، لأن اعترافها يحرر العلاقة من الرومانسية ، بينما يوقظ عنده الحس بغياب الحب ، ذلك الغياب الذي يقترن عنده بالانسلاب ، أي بنية الماكينة اللاانسانية التي توجد القطيع. واذ يصعب اسقاط التفسير على صوتها الصريح القاطع ، بصفته رافضا هو الآخر، تتبين أمامنا قراء طبيعة اكتناز الكلام بأكثر مما هو ظاهر فيه. ما بين معلن ومضمر، جامع وهادم.
لكنه يلقي بخيوطه عند بؤرة الاغتراب: فصوتها الذي يتسلل في ثنايا خطاب الذكر المأزوم ليس صوتا مزعوما ، كما يرد لنا أن نفهم (ص 78)، فهو صوت ينتسب الى الخطاب النسوي في مسعاه للخروج أولا من رتبة التراتب السائد، ولهذا تقترن فيه السيادة الذكورية بالسلطة ، بينما يدفعه التمرد الى "عدوانية " الرد، تلك التي تجعل المتكلم الذكر يفرزه على أنه ينتمي الى صورتها " الزائفة المخيفة " التي لا علاقة لها بتلك التي تبعث فيه الحنين لكي يعود "الى الشام ، أن أعود اليك لا الى صورتك.." (ص 99). بينما يأتي صوتها قاطعا "اسمع: إذا كنا تركنا الشام معا، فلن نرجع اليها معا. واذا ما رجعنا، فلن نكون من غادراها" (ص 28). وازاء ذاك الحنين وهذا الانتماء للتغيير تتبدى أمامنا محنة تباين الغربة والاغتراب ، فالأنثى داخل الخطاب المذكور ، متسللة في ثناياه ، يسرها الانتماء الحالي الى عالم لا يمقتها كما هو حاله إزاء المتكم الذكر (ص 155). أما الذكر فإن اغترابه المعروض في خطابه أساسا متعدد الجوانب ، مشتبك التفاصيل "شديد الاختلاط " (ص 7)، كما يقول
ولربما بدت الغربة متجسدة في لحظة "مواجهة المحيط " (ص 30)، تلك التي جاءت به هاربا باحثا عن ملجأ. " اللحظة التي أجبرت فيها على الوقوف وحيدا ، ذلك الليل هي التي فجرت مشاعر الاحتقار العميق عندي. احتقار الشرق ، واحتقار الغرب " (ص 30) ، وهي لحظة الغربة أيضا التي دفعت به الى الكلام ، والحكي، " فوق تلة سان سيباستيان الصغيرة الموحشة ". وبينما يمضي الصوت مأخوذا مرة بالانتقاد الذاتي، ومرة أخرى بالرد عليه ، فإن تفكيك الذات والهوس والقراءة والحرب الدائمة مع نفسه ومع الآخر هي موضوعاته وانشغالاته لكي يبقى حاملا معه " لا" (ص 13، 25،45,54,) وهكذا يأتي ضغط العالم ، مصادرته عبر الصورة لكل انسانية البشر ومحنتهم (ص 64- 65) ليدفع به الى استعادة " لا" أو الامساك بها لئلا ينتهي هو الآخر سكبا وخاضعا لما هو آت اليه. وكلما استعاد ثقأفته الأسبق ، تلك التي تدعي الأحقية والدقة والحقيقة ، جاءه الكلام محكما كأنه بنيان قائم ، لا مجال لمناقشته ، (ص 46)، وهو ما لا يوافقه الآن ، إذ أنه يحتاج الى تفكيك ذاته ، معرفتها أيضا، بما يحتم أن يكون الكلام قادرا على استنهاض هذا الانفراط والتشتت. ولهذا يأتيه الصمت مرات كأنه الحل ،يستدرجه حتى يتآلف معه ، هل أنت أخرس ، هل أنت أطرش ،تسأله المرأة (ص 70)، وهو يرى نفسه أكثر انسجاما مع هذا السؤال في محيط لم يعد يمكنه من قراءة نفسه أو قراءة الآخر. لكن هذه الاستساغة للصمت تتموضع في مقام الحيرة بين الشام وباريس ، فلكل منهما صوره وآثاره: فالقديم الذي فر منه لم تزل صوره تثير لديه اللوعة والشوق ولربما القدرة على اشغال مكانة ما تحرره من فراغه وغربته. بينما لا يأتيه المأوى الجديد بغير سلسلة من الفراغات ، تتسع مرات في المقهى أو عند الطابق العلوي الذي يسكنه ، عند الزجاج المكسور (ص 96) ، والأمطار الميتة (ص 106)، والزجاج المعتم (ص 141) الذي يجعل كل شيء ميتا (ص 42). باريس قد تكون دخانا (ص 24)، وقمرها (ص44 ) بارد ليس كأقمار الشام الخجولة. إن قمرها "يتلوى غائبا" (ص 60)، بينما لا تنفتح أبوابها الا على المزيد من الوحشة ، قد تمزقها صور تصادر الانسان وتبيع موته المجاني أو المقصود كأنه قضية منتهية ومحسومة ولابد منها. وليس صعبا تبين القراءات التي يتلبسها النص وتسكن وعي المعترف ، منذ أن كتب فيها كلود جوليان في انتحار الديمقراطيات ، وناقشها عشرات الكتاب ، الذين لم يكن Spurr آخرهم في بلاغة الامبراطورية. لكن القراءة تتبدد داخل النص ، وتنتشر ، ملتحمة في ثناياه.
بمثل هذه التعارضات والتقابلات يشتغل الصوت وهو يريد أن يتفحص ما هو فيه ، يغوص في جزئيات وجوده ، ويتعامل معها بصفتها مشكلة تستدعي التوقف والتحليل ، وحتى عندما يجد ضألته في عناصر تشويق مكونات واسعة للحياة التي تستدرجه ، لا يرى غير مجموعات من البشر، لا سيما النساء ، حاملات في داخلهن أو في أجسادهن ما يشتهي أو ما يغيب. فالطويلة تذكره بشيء، كما أن القصيرة تستدعي عنده شيئا مكملا آخر. وبمعية هؤلاء، هناك العشرات التي يمر بهن صوته ، باحثا عن نفسه بينهم ، أو في المقهى، أو في الطابق العلوي الذي يسكنه لا يجد في النتيجة غير العتمة ، والدخان والقمر الذي يتلوى ، بينما يضج في ذهنه خرير بردى والخابور، وحرية الطيور، والنساء المثيرات ، هناك حيث لم يتبق له غير بقايا صور، تتجاذب كلامه مرة كالأوتاد ومرة أخرى كمساحات تقدم له ترقيعا محببا لما هو فيه ، أي الوعي بالتمزق والتشتت ، والغربة ، في ظرف يصيح به كل يوم ، أن يكون فاعلا ، لئلا ينحدر هو الآخر الى حيث يجري تفريغ الكائن ، خاليا من السؤال وبالتالي من الرأي والفعل والحب !
وهكذا فإن انتساب رواية خليل النعيمي لما بعد حداثية النصوص يتأتى من مجموعة انشغالاته الفعلية ، ومشاركته في حوارات العصر التي تدفع بالمثقف ثانية الى أمام لئلا يبقى بين أولئك الذين يلفهم حاليا تعبير (خيانة المثقفين ): واذ يرتقي خطابه الى مستويات هذه النصوص ، يحق لنا أن نقول إن ثمة انتقالات حقيقية ، مستجيبة لما يجري وحافلة بما تؤول اليه الأحداث ، تجعل من الأدب مكتنزا بالنظرية بعدما أكلته حيرة العجائز وتشويقات الوصافين ، إن تفريغ الكائن تقف عند " العتبة " التي تتكرر مفهوما في الرواية بدون شك ، لكنها وقفة المتسائل لا السائل المسكين.
محسن جاسم الموسوي(ناقد وأستاذ جامعي من العراق يقيم في تونس)