منذ عمله الروائي الأول «كانت السماء زرقاء» مثلت الحرب وأثرها على الإنسان الهاجس الأول لإسماعيل فهد إسماعيل. يمكن للقارئ المتتبع لسيرة الراحل الكتابية في الرواية والقصة والمسرح الوقوف في محطاته المهمة التي صورت أثر الحروب على الإنسان وسلوكه ونمط تفكيره، وقد كان قدره أن يعايش ذلك التأثير بشكل شخصي مباشر في تجربتيه الحياتية والكتابية. فمنذ عمله الأول «كانت السماء زرقاء»، كانت حرب الإنسان على الإنسان، بسبب الفِكر، هي المحرك لأحداث الرواية ممسوخة الشخوص بفعل الحرب وبشاعتها، وتضمنت رواية «الشياح» جزءًا تسجيليًا لأحداث الحرب الأهلية اللبنانية وقد أمضى الراحل شهورًا في بيروت يرصد الدمار عن قرب في المكان الذي أحبه. وفي سباعيته الشهيرة «إحداثيات زمن العزلة» التي أرخت لشهور الغزو العراقي السبعة جاءت من صميم تجربته الشخصية، حيث كان الراحل جزءًا فاعلًا في خلية مقاومة «أبو الفهود» الذي كان بيته مقرًا لها، تلك الرواية الضخمة التي سجلت في الصفحة الأولى من جزئها الأول فجيعة وطن تحت صدمة الاحتلال، وانتهى جزؤها السابع بفجيعة الراحل إسماعيل فهد إسماعيل بانكساره بوقوع شقيقه، وأحد شخوص الرواية، في أسر القوات المحتلة.
التحايل على الزمن؛ مكانيًّا:
ورغم أن الراحل أمضى ست سنوات بعيدًا عن الكويت، في الفلبين، يكتب السباعية بما يحققه البعد المكاني لرؤية الأحداث بشكل أوضح وفق ما يقول: «لأن الفترة الزمنية القريبة للحدث لم تحقق لي إدراك رؤية الأشياء بوضوح؛ فقد اخترت لنفسي أن أنأى عن الحدث باختيار البعد المكاني»، فإنه خاض تجربة الكتابة مرة أخرى حول احتلال الكويت وذلك برواية «سماء نائية»، وإذا كانت السباعية ترصد الدور البطولي لشخوصها من كويتيين وعرب في فعل المقاومة، فإنه في «سماء نائية» ارتأى أن يغوص في نفس بطلها المكسور بفعل الاحتلال، من دون شعارات بطولية، وبرصد حالة إنسانية اتسمت بالجبن، من دون أن يكون لها أي دور بطولي.
ورغم أن إسماعيل فهد إسماعيل اتخذ ما يشبه استراحة من هم الحرب في أعمال عدة لامست هموم الإنسان على اختلافها، أبرزها موضوع الآخر؛ الآخر القريب متمثلًا في المرأة «الطيور والأصدقاء» و»خطوة في الحلم»، أو الآخر المختلف متمثلًا في شخصية العاملة المنزلية ومعاناتها في رواية «بعيدًا إلى هنا»، فإنه عاد كمن يشاكس هاجسه الهاجع في داخله، الحرب مرة أخرى في مجموعته القصصية «ما لا يراه نائم»، ولكن هذه المرة يرصد إسماعيل فهد إسماعيل حياة الإنسان العراقي في الداخل وتداعيات الحروب على تفاصيل حياته والتحولات الكبيرة التي حلت بمسقط رأسه.
تصفية حساب مع الواقع:
وفي غمرة انشغال الروائي كتابةً لأشكال الحروب وتجلياتها خاض تجربة الكتابة عن مأزق الهوية، وهو موضوع لازمه منذ فترة طويلة وخشي الخوض فيه لئلا يقدمه بصورة منقوصة لأنه وفق قوله: «موضوع البدون لا يحتاج مني إلى دراية بقدر المعايشة»، فجاءت رواية «في حضرة العنقاء والخل الوفي» التي عالجت مأزق الهوية والانتماء في زمن الاحتلال والحرب مرة أخرى. ولأننا لا يمكن أن نعزل التجربة الشخصية للكاتب عن منجزه الأدبي، فالراصد لسيرة إسماعيل فهد إسماعيل الكتابية يضع يده على ما يشغله ويدفعه للكتابة، ويتجلى ذلك مرة أخرى بين الهوية والحرب في روايته «طيور التاجي» الذي تتبع عبرها مصير أربعة أسرى كويتيين، أحدهم من فئة البدون وآخر يمثل الشخصية التي انتهت بها روايته السباعية، شقيقه الأسير، كما لو أن الراحل يقوم بتصفية حسابه مع الواقع بما تتيحه له الكتابة ليرسم مصائر شخوصٍ أحبها أكثر رحمة من مصائرها المحتملة، وذلك بواسطة عزلهم في معسكر في منطقة التاجي العراقية رفقة جنود عراقيين متعاطفين قبيل سقوط بغداد. فإسماعيل الفهد اتخذ من الكتابة فعل مقاومة، ومن يقترب من الإنسان في إسماعيل يدرك أنه، بالدرجة الأولى، يقاوم شجونه في جزءٍ من كتابته، بل ويجعلها دافعًا ومحركًا للفعل الكتابي، ولعله في «طيور التاجي» حينما كتب شجنه الشخصي بنهايات يتمناها للكويتيين والعراقيين، كان يعي تمامًا أنه يستثمر حزنه لممارسة فعل المحبة الذي دأب عليه كتابةً ومعايشة، فكتب روايةً بمنزلة جسر بين الكويت والعراق، بلدي أبيه وأُمِّه، بعد سنوات القطيعة، وهو الذي يختم روايته تلك بجملة: «وردَ في سِفر الأحوال، أن الحزن سمة الكائن البشري، ومن أحسن تداوله عرفَ كيف يُقيم صرحَ محبة».
الحنين بصفته دافعا للكتابة:
ختم إسماعيل فهد إسماعيل منجزه الأدبي الذي تضمن ما يربو على الأربعين عملًا بين رواية وقصة ومسرح ودراسات نقدية في موضوع الحرب وتداعياتها، في روايته «السبيليات»، مسقط رأسه ومنشأ الطفولة والشباب، حيث يرصد حياة المرأة بصفتها الرحم الحامل لبذرة الحياة، إذ تُخضِّر يباس منطقة جفَّفت الحرب مياهها، في أطول حرب شهدها القرن العشرون. وإذا ما كتب إسماعيل رواية تدور أحداثها في الجنوب العراقي، إنما هو يفعل ذلك مستثمرًا حنينه لأيام صباه بالكتابة عمَّا يشغله، ويتجلَّى ذلك الحنين في أعمالٍ روائية وقصصية عِدَّة منها: «كانت السماء زرقاء»، و»الحبل»، و»يحدث أمس» و»ما لا يراه نائم»، وأعمال أخرى. وإذا ما سُئل عن ندرة أعماله التي تدور أحداثها في الكويت كان يجيب: «أحتاج أن أشتاق!».
أما في إشكالية الهُوية، فقد ختم الروائي أعماله في هذه الشأن الذي أرَّقه في عمله الأخير «صندوق أسود آخر»، الذي يتتبَّع مصير شخصية «البدون» المنسي ابن أبيه بطل رواية «في حضرة العنقاء والخل الوفي».
مضى إسماعيل فهد إسماعيل بكتابته الزاخرة يخوض في التجريب بأشكالٍ عِدَّة لمواضيع متقاربة تلامس صنوف الهم الإنساني، وبقيت همومه الأبرز تراوح بين الحرب والهوية والآخر.
* * *
إسماعيل، أستاذ في عين تلميذ:
صلاة السبت
إسماعيل فهد إسماعيل.. أستاذي.. من أين لي أن أبدأ بشهادةٍ أنت لستَ في حاجةٍ إليها. قليلٌ من كلماتٍ قد لا تعنيك، إنما تعنيني.
لكل كاتبٍ في الكويت تجربتُه الفريدة معك، وأنا أتحدث هنا بصفتي أحد الكتاب الشباب الذين يتلمسون طريق الكتابة في بدايتِه، وكنتَ أنتَ أحد الذين دفعهم للمواصلة محبة وتشجيعًا.
كنتُ قد تعرفتُ إليكَ قراءةً قبل أن ألتقيك بسنوات. وكان لقاؤك المتاحُ حُلمًا يناوشه قلق السؤال: أتراهُ يُشبِه كتابته التي أُحِب؟! يبتسمُ الصديق خالد عادل النصرالله: نلتقيه يوم السبت المقبل. خالد يدري بأني أخشى أن أُفجعَ بشخصيةٍ لا تشبه تلك التي أحملها في داخلي، شخصية أحببتُها متواريةً خلف سلطان الثائر المتزن في إحداثياتك زمن العزلة، وجنون سُليمان في نيلك الذي يجري شمالًا، وانهزام الزوج في خطوتِكَ في الحُلم، وضعف الراوي في سمائك النائية، وظلم الخادمة البعيدة إلى هنا، وقهرٍ متشظٍ بين هادي وحاكم وسليمان في رواية يحدث أمس. أحببتُكَ كاملا في جملك المبتورة. أحببتك سهلا في رواياتك الصعبة.
سنوات تسع مضت على ذلك السبت، أول مرَّةٍ ألتقيك في مكتبك العتيق، ذلك الذي ويا لسوء الحظ لم يعُد، مكتبك المطلّ على مقبرة الصالحية. أتذكر رائحة حجر الأرضية القديم في تلك البناية، وأزيزَ المصعدِ إلى الطابق الثالث. أتذكر صورَ الجدران في مكتبك؛ لوحاتٍ فنية، وصورًا لشخصياتٍ تعنيك. أتذكر عالمًا أحببتُه يُكمِل صورة الروائي في مخيلتي. أتذكر رائحة الزنجبيل حينما انتبهتَ لسعالي الدائم زمن تدخيني. لحظة مددتَ كفّكَ إليَّ بالكأسِ: اشربه ساخِنًا.
تجلسُ وراء مكتبك وعن يسارك ترتفع مخطوطاتٍ لنصوصٍ كتبها الشبابُ يتطلعون لسماعِ رأيٍ أو نصيحة.
أستاذ؟! وهل لديك متَّسعُ وقتٍ لقراءة كلِّ هذه المخطوطات؟! متى تقرأ إذن؟ متى تكتب؟
ترفعُ كتفيكَ وأنت تقطبُ حاجبيك: ما أقدر أردهم.. أولادي! ألوذُ بصمتي. تلوذُ بصمتِكَ. تتدارك: ثم أنني أتعلمُ منهم! يستفزك اتساع عينيّ دهشةً. تواصل: نعم! هذه حقيقة، كلانا يتعلمُ من الآخر!
سبتٌ يجرُّ سبتًا.. وأنا لا أتخلف عن فرضِ اللقاء وطقسِ الإنصات في مكتبك؛ صومعة الإلهام. أُنصِتُ إلى ما تقول. أناقِشكُ في أعمالك التي قرأتْ. أحاديث السبتِ، أو صلاتها، من الكتابة تبدأ وإلى الكتابة تنتهي.. سبتٌ للتجريب، سبتٌ للراوي الضمني، عليم، مخاطَب، تعدد رواة، ديمقراطية النَّص، زمن الحدث وزمن القص. لا أزال أتذكر دهشتي الأولى إزاء عالمٍ جديدٍ أتعرَّفهُ من الداخل من خلالك. تُزعِجكَ أحيانًا كثرة أسئلتي عنك، وأنت الذي تتحدَّث عن كل شيءِ إلا أنت. تحدِّثني عن الشعر وأنت تشيرُ بسبابتك إلى الجدار وراءك، أنظرُ إلى صورة الشاعر علي السبتي وكأنك تستنطقُ الصورة. تحدثني عن جمال الكويت التي كانت وسبابتك نحو الجدار ورائي، ألتفت؛ صورة أبي الدّستور الشيخ عبدالله السالم. تحدثني عن خيبة المبدع.. تُفلِتُ زفرةً وإصبعكَ نحو النافذة: لا كرامة لنبي في وطنه! تنتبه إلى حيرتي بين إصبعك والنافذة. تبتسم: في مكانٍ ما من هذه المقبرة دُفِنَ فهد العسكر.
«اكتب»، قلتَ لي حينما حدثتك حول فكرة روايةٍ أحلمُ بكتابتها. كتبتُ، وصرتُ أقرأ عليك ما كتبت كلَّ سبت، لعلك تتذكر ذلك جيِّدا، وصرتَ تقرأ عليّ من مخطوطٍ كنت تعكِفُ على كتابتِه على سبيل التشجيع ودفعي إلى مواصلة الكتابة. أقرأ وأحدِّق في وجهك أستشعرُ انطباعًا تركته كلماتي عليه. ترفع حاجبيكَ اهتمامًا، تبتسم، أو تضحك لسذاجة جُملةٍ أفلتها اندفاعي.
كنت صبورًا، تنصِتُ إلى أسئلتي الكثيرة، لم أتردَّد بأن أُثقِل عليكَ وأنا أدريكِ تُشرِعُ بابَ مكتبِك وبابَ بيتِك، وقبلهُما بابَ قلبِك. أجيؤك مثل طفلٍ متطلبٍ أشكو تمرد شخوصي عليّ. تضحك: أنت تكتب عملا حقيقيا، واصل. أهاتفكَ أوشك أن أصرف النظر عن كتابة هذا العمل. عزيزي! اكتب.. اكتب وسوف يكون لعملِك هذا شأنٌ كبير. تتجاوز صمتي: لا تأتيني السبتَ المقبل بأقل من عشر صفحات.. انتبه! أنا كتبتُ أربع عشرة!
حققتُ شيئًا من نجاح ربما، كنت أنت، بشكل أو بآخر، وراءه حينما منحتني ثقة بأن أقول، ما دام لدي ما أقول. أتذكر اتصالك وأنا خارج الكويت نترقب جائزة محتملة: «كيف أنت؟ اسمع! عُد بالجائزة!». أضحك: «بوفهد! ما حظيتُ به يفوق الكفاية!». لا تضحك: «اسمع! عُد بالجائزة!». أتذكرني في منصة تكريمٍ بعيدةٍ بين أناسٍ كثيرين ينقصني أنت. أتذكرني في مطار الكويتِ بما أوصيتني عُدت. أتذكرني في السيارة مع والديّ يخبراني باجتماع الأهل، كل الأهل، في البيت احتفاءً بي، ولكنني قربتُ وجهي بين المقعدين الأماميين، بين أبي وأمي: «لاحقين على الأهل.. يُبه.. ودني الصالحية!». بدَّدتُ حيرةً لمحتُها في عينيّ والدي في المرآة الأمامية: «مكتب إسماعيل!». عانقتكَ.. عندها وحسب صار لجائزتي معنى!
إسماعيل.. إسماعيل.. إسماعيل..
ولكثرةِ تردد اسمك يا سيدي في لساني صار البعضُ يسألني: «إسماعيل.. علَّمك كيف تكتب؟» لا! كنت أجيبُ واثقًا، وأنا مُحق، أنت لم تعلمني كيف أكتب، إنما علمتني ما هو أهم، حينما تعلمتُ منك كيف أمحو! كيف أُجهِضُ نصَّا من دون أن أعُضَّ على أصابعي ندمًا على كلماتٍ كتبتُها، وأنا الذي، مفجوعًا، راقبتكَ تمزِّقُ أوراقًا لا عدد لها. «بوفهد! ليش؟!». لا تنظرُ إليِّ تواصل إعدام النَّص: «نصٌّ تافه!». تقول ببرود أعصابٍ وأنا أشعر بتفاهتي إزاء نصوصٍ كنت أجبن من أن أعدِمها!
إسماعيل فهد إسماعيل.. بو فهد.. شكرًا لأنك كنتَ هُنا.. شكرًا لأنك المعلم والأب من دون أن تتكلَّف ذلك.. شكرًا لأنك الصديق والأخ الكبير.. شكرًا لأنك كل أولئك.. شكرًا لكل ما قدَّمته لنا إنسانيًا بالدرجة الأولى، وأدبيًّا.
تخلفتُ ربما عن صلاة السبتِ في صومعتك الأحب لأسبابٍ تعرفُها. كلُّ فروض الصلوات نؤثم إن تخلفنا عن أدائها، إلا الصلاة في صومعتك.. لأنك تعلم ما نحمله لك في قلوبنا من محبة وامتنان. وإن غِبتَ عنَّا اليوم جسدًا، فإنك تبقى قارئًا ضمنيًّا لجيلٍ كاملٍ من الكتَّاب الشباب، يتمردون عليك ربما بأشكالهم الكتابية، ولا ينسوا أبدًا أنك كنت دافع هذا التمرد.
سعود السنعوسي *