«ليكن الحب قاطع طريقك..»
كان ضحى ذلك اليوم ربيعاً خالصاً، وأحداً رائعاً لا يضاهى.. أزال ارتباك الاحتمالات وأبقى لنا غصّة الخوف.. قوة اللاحل.. الخلل الذي نراه جيداً ولا نستطيع إصلاحه..
وكان مجرد وجودكَ في هوائي يعني لي أن الحياة محتملة.. كنتَ تراني كل يوم أشحب وأذبل من الإهانة. فخطفتني من نفق لا نهاية له وآويتني.
لم أضمرْ الرحيل يوماً.. بل هي الدنيا الداعرة، وأهلي، الذين قتلوا أرواحهم وعلقوها على رقبتي. فاستوى الرحيل مع ذبح أمومتي، وخنق اختياراتي، ومواجهة مواجعي كما أحب وأرغب: «أن أنهي بحسم شراكة زواجي الفاشلة».
هكذا جفّ ماء جسدي وانحدرت مرة أخرى على صخور لا ترمم الآلام.. عاطلة عن العمل.. أستعير لقمتي وأنام على سرير مؤقت.. لا مستقر لي، مكاني فقط ما تحت قدميّ.. ولا أمتلك من العالم سوى الحب، وقلماً مازال يهتز..
يا لحظي..! أنا سليلة شيوخ العشيرة الثرية..! البنت المتمردة على شريكها الأزلي.. الأرستقراطية المفخخة بفقري وعجزي! لم تبقَ عطفة في مدن المنافي إلا ومرّغت روحي.. شريدة وأنفي شامخ..! وحيدة أعالج صدأ جسدي كالعادة بقفلٍ قاسٍ ينتظر مفتاحك الغامض الرحمة.
منذ ذلك الربيع وأنا أعيش ورطة الانتظار برضى. أتتبع حدسي.. فقط حدسي في مدينة أحبها.. شبّهتُ صدركَ يوماً بجبلها.. دمشق الغانية المتزنة.. يحاورني وضوح نهارها الغارق في الخباء. ويتلوني ليلها صرخة صامتة مكتومة.. أعشقها، أتدله بها. أما هي فلا تعشقني. تدللني بنسيمها الجاف. وتعللني بنجمة قمرها. وتغمرني بأشجارها وياسمينها. ترفعني إلى سمائها وقبل أن أهوي تلقفني من خوفي وضياعي. تسترضيني بحضن قاسيونها. تُقَبلّني بتوتها الشامي القاني وتقول لي مزهوة ماكرة: «تكفْنيني.. تقبْريني..».
تلك هي دمشق حبة الجانرك الخضراء اللذيذة التي تمنيتُ قدومك إليها. مدينة ليست برّاقة ولا مترامية. تاجرة محايدة.. متكتلة على نفسها متشابكة كدروب حاراتها.. صامدة منذ الأزل على مفترق طرق العالم القديم.. متحايلة حتى على الزمن من أجل بقائها.. لكنها.. حنونة.. حنونة.. مثل يد منبسطة مفتوحة، خطوطها واهية وعميقة. وأبوابها مواربة نصف مفتوحة ونصف مغلقة. قلبها منضبط الإيقاع لا يصيبه تسرّع أو سكتة، محاط بعدة غلالات إن أزحت غلالة ستظهر لك غلالة أخرى وهكذا.. فهي لن تسمح لك بالدخول إلى أعماقها.. تتباهى وتتشرف بوجودك على موائدها.. بذخ غير مُسرف، أطباق كثيرة منوعة تُقدّم على التوالي والطبق لا يعدو لقيمات.. وحمامُها يأكل نقراً.. نقراً.
في مدينتكَ كنتُ أبدو أخفّ ظلاً.. أسير وصدري مفتوح على النهر الطويل المنساب. لا أتلفت.. ولا أنظر خلفي.. استمتع بالمشي في وسط البلد، وبالجلوس على مقاهي الرصيف.. أسرع كثيراً في عبور الشارع المجنون بالسيارات.. لا أدقق في وجوه المارّة.. دائماً مستعجلة.. أجري.. لألحق..! إيقاعي متدفق.. مهيأة لاستيعاب الأفكار والقفشات المباغتة.. جاهزة للرد الفوري على أدق التعليقات..
شهور الغياب الكثيرة لم تفتر لحظة الفيضان فما زالت قدمي هناك غافية في ثنية جسدك الحميم. ومازلت حصاناً يخبّ في صدري ويشهق.
أسيرُ في وادي أحلام اليقظة.. تطل ضحكتك وعيناكَ الصغيرتان العميقتان بحزن متراكم. أختصرُ نفسي وأرتدي يديك. أرمي طفولتي الفائضة فوق صدرك العريض الضامر. تخطف وجعي وأسحب اللوعة من عينيك.
يرهقني الوقت.. تناوب الأيام كدمات شوّهت كاهلي. وثقل الزمن مسخ أعضائي. أكور صقيع الثلج وأدسه في كوّة شجرتي فوق ألغامك المزروعة. كل ليل.. يستعيد طيفك حرائقي.. أعبئ فوراني في صندوق مضغوط حتى امتلأت غرفتي بالصناديق، وأخذت حيزاً كبيراً من سريري. أنام مشدودة.. موتورة.. أتحجم كتلة من القلق.. تحزّ عنقي الكوابيس. أفيق دامعة. جسدي مقبوض ومائل للزرقة.. قابل للقتل بلا رحمة.. يأتيني صوتك الغارق في البعاد.. تهدهدني أطياف يديك كي أنام من جديد.. هكذا.. تتناوب دورات هلاكي مرات ومرات.
أشتاقكَ.. … واشتياقكَ محنتي..
تكاتبني «لستُ يائساً من إمكانية اللقاء..».
رسائلي فيض من الأوراق.. فضفضتي لك إدمان..
عندما أجلس فوق سفوح جبال الواقع. وسط سياج مُيأس يضمنا جميعاً. نحن محبطو الأرواح. ملأنا الملل ولا جدوى الأشياء بالخرائب. محاطون بضغط التفاهة والمناهج المقررة.. لا نقوى على العصيان. فنطوي أحلامنا في كراسات اللعنة ومحرقة الصحافة. أتعثر وسط السياج.. أسقط على ركبتي مع كل فرصة عمل تضيع. أذهب إلى صديقتي الوحيدة فتندبني دموعي بين يديها.
قد أبدو طيبة وجميلة وجريئة.. أحث أصدقائي على الالتفات لاجتهادي فلا يلتفتون إلا لجنون ضحكتي وورود فساتيني ومشيتي المتمايلة. يلحّون.. فيرفض داخلي. يحفرون خدوش الأذى في روحي لأن جسدي لا يكذب. أصحابي المقربون مشانق متحفزة.. متلهفة، يضعون السُمّ في كأسي ويقولون لي: «لا تشربي الثمالة». ليتشفّوا بموتي البطيء. بتودد، يغرفون لي النصائح: «تخففي منه.. يا راهبة!. حاولي.. يا متصوفة!. مارسي لعبة الاستبدال والاستدلال مثلنا.. لا تحسمي ولا تبتري.. اتركي لعلاقاتك ذيولاً وقفازات. اقتلي روحك، وإن لم تستطيعي على الأقل احفظيها في ثلاجة.. تصالحي مع العالم. دوري حول ذاتك فقط فمنك يبتدئ الكون وعندك ينتهي..».
هل أصبحتُ مريضة بكَ؟! أتماهى مع قرين تلبّس روحي.! أم هي خبايا طفولة سحيقة وغامضة!
من يفهم سر الجسد؟! ومن يفسر كنه صدى الرغبة المبهم.. جريانها ودفقها.. أو توقفها فجأة؟! وهل هناك سيالات في الروح تُمسك بجسر الجسد.. لو قطعناها نفقد ماهية الجسد؟!
ليتك تراني وأنا أتعلم المشي بأسلوب جديد!. كيف أدوس قشرة الموز دون أن أنزلق!.
حروف كلمات رسالتك الأخيرة مهزوزة مضطربة.. بتُّ أخشى عليك مني.. لا أعرف كيف احتملتني ومازلت تحتملني؟! فأنا الجناية التي ارتكبها العالم بحق نفسه وبحق الآخرين!
هل أتعبك منديلي الصغير المطرز بدماء أصابعي ورائحتي!؟ كان لابد أن أهديك شيئاً ما عاصفاً حاراً.. حنوناً ونزقاً مني..
يوماً ما ستُنهيني هذه الرومانسية.. وهذا الشغف بساعديك الممتدين من قارتك إلى قارتي.. أو سيقتلني طيف ذلك الطيران السحري على الفراش الضيق.. كنتُ أتمرجح في رقة لطف جسدك النحيل وعنف عشقك وشهوتك.. كان جسمي مثل نبتة (الأرضي شوكي) طيباً وصعباً وناخزاً.. وأنتَ تحتشد فوقي وبداخلي.. تهفُّ هفّاً خفيفاً.. تتواجد بقوة. بينما يختفي وزنكَ الفيزيائي.. تتخللني مثل تروس آلة الزمن.. تدخل في فراغاتي.. تتعشق في روحي.. ترفرفني عبر العصور.. وتقبع تحت أدمتي حتى امتلأتُ بك.. فهلَلَتْ أعصاب حواسي مجتمعة معاً..
لم أغتسل بعدها.. لأكثر من عشرين يوماً.. أردتُ أن أحتفظ بطقوس حبك في جسمي طويلاً..
اشتياقك هاويتي.. وانتظارك أرق.. هذيان.. ذئاب تجتمع حولي.. تعوي.. وتقترب وجلة.. تخيفها شهب نار جسدي.. فتنهزم تاركة دمي يحترق وشفتي تتفحم.
في الهاتف صوتك بهار حارق.. «وصلتُ منذ دقائق.. انتظركِ».
مفاجأتك لاذعة……
تحضنني بأجمل ضحكة في العالم.. أتلمسُ خدك الغائر.. و(تفاحة آدم) النافرة.. يؤنبني نحولك الصارخ.. فألعن نفسي وزمني..
أتعلق بكتفيك..
بلباقة سياحية وأخلاقية يطلبون منا مغادرة المكان. ضاقت علينا الدنيا، حتى الغرفة المُلتبسة بأرقامها لفظتنا، فلم يبقَ لنا سوى مكان ضيق يشبه الزنزانة، عصرّي بكل تفصيلاته، سريع ومخنوق بتوقيت مضبوط. أطل ضوء السهم. فتحتَ الباب. زهزهت لنا الأنوار. دخلنا باسمين، وقفنا متقابلين. تحسست أصابعكَ طرف وجهي.. بدأتُ أتشمم فيكَ رائحة الخبز الساخن وشفتك تقترب من خدي. أنذرنا المكان وفُتح الباب. لم تمنحنا هذه المدينة الفرصة كي نمجّد شهرتها في أعطال الكهرباء. لو تعطل بنا المصعد كنا سنخلع أقلامنا ونكتب بها أشواقاً وأحلاماً لا تؤذي أحداً.
المرأة التي تتفتت شوقاً وفقداً، تتلف، لا تجد في المدينة مأوى يضمك لها..
هذه المدينة ليس لها كتف نتكئ عليه، جبالها بعيدة عن قلبها القديم. تركنا تمثال صلاح الدين، تخطينا السور. غريبان في زقاق مدينة عريقة ، نلوذ بأنفسنا من بشاعة البرد والأنوار. تهيأ لي في البداية أننا نسير فوق كف مفتوح خطوطه معلومة واضحة لنا. دفء العتمة يخفف من حدة الصقيع. لم نشعر بالخوف، كنّا فقط نحس باهتزاز ما قادم، قد يكون من شبابيكها الواطئة، أو من طيف الوزير قراقوش. ولعله من ارتعاش أصابع الكف الذي نمشي عليه. كانت خطواتنا غير مستقيمة وغير ثابتة. ندور نصف دورة وأحياناً دورة كاملة، مثل جياد تتقافز في ممر ضيق، نتبادل مواقعنا دون اتفاق مسبق، نتضاحك ، نتلامس ، عندما ابتعدتُ عنكَ قليلاً وجدت حزام معطفكَ في يدي! طوال معرفتي بك لم أركَ فرحاً هكذا.. كان القمر يرتبك في وجهكَ الطفولي الضاحك. ونعناع روحي يغمر إبطيكَ.
كحل الليل جانح لكننا ربطنا مشاعرنا بخيوط الصبر وتابعنا سيرنا على رؤوس أصابع الحذر، لا أذكر أننا تحدثنا بموضوع جاد أو غير جاد. يبدو أننا قلنا جملاً متناثرة ليس لها علاقة ببعضها البعض..
اقتربت من سمعنا خطوات ثقيلة إيقاعاتها ضاجّة..
تراجعنا عن مشوار سعادتنا.. عائدين من حيث أتينا.. بعدها قضينا أيام وجودك بالجلوس والمسامرة التقليدية في المطاعم والنوادي..
آخر ليلة.. أغادركَ دون وداع.. أتركُ ضحكتي في عينيك سلاماً.. أمشي وحيدة فوق الكف المنبسط.. يضج الفقد في رأسي ويسحب دموعي العميقة.. يهتز الكف.. تحتويني اليد.. تضمني الأصابع.. تضغط.. تحشرني.. تضغط أكثر.. تعصرني بحنانها المراوغ.. أختنق وأنا وحيدة تماماً.
كاتبة من الأردن