ان المتتبع لكتب النقد الادبية والدراسات النقدية الاكاديمية يستطيع ان يلاحظ مدى تأثر مؤلفي هذه الكتب بالنظريات النقدية الغربية التي وضعت على ضوء فهم النقاد الغربيين لنصوص الادب الغربي قديمه وحديثا، ونشأت هذه النظريات وتطورت ضمن اطار تطور الادب الغربي الذي يقف على الطرف النقيض من الادب العربي والذي يختلف في مفاهيمه وفي رؤاه واتجاهاته عن واقع الأدب العربي ايضا، والسؤال الذي يطرح نفسه على فكر الدارسين : هل هذه النظريات بالضرورة صالحة لكي تطبق على نصوص الأدب العربي وابداعاته المختلفة ؟ وهل هذه النظريات الغربية قادرة عل استيعاب النصوص الأدبية العربية على مدى مسيرة ادبنا العربي وفتراته المختلفة دون اللجوء الى لي ذراع تلك النصوص او تحميلها ما لا تستطيع احتماله في سبيل اثبات صحة تلك النظريات واثبات قدرتها على تأويل وتحليل النصوص العربية ؟
فهذه النظريات في مجملها وضعت لكي تناسب السياقات الثقافية والبيئوية الغربية ولكي تحلل وتفسر نصوص الادب الغربي ضمن اطار الاستيعاب الغربي لمفهوم الادب ودوره في خدمة المجتمع والناس وهو استيعاب ومفهوم يختلف بطبيعة الحال عن مفهومنا ورؤيتنا لواقع الادب ودوره في المجتمع والناس.
وانا في هذا المجال لا انفي عن هذه النظريات الغربية اهميتها بالنسبة للدراسة الادبية المعاصرة وكذلك دورها في كشف الملامح والرؤى الادبية الغائبة عن تفكير نقادنا الاوائل، لكنني في الوقت ذاته لا أرى أن الاعتماد عليها اعتمادا كليا يمكن ان يفيد الادب العربي، ويمكن ان نخرج بحصيلة فكرية ونقدية جيدة في حالة اعتمادنا على هذه النظريات الغربية.
ويواجه الدارسون لهذه النظريات اشكالين كبيرين لم تستطع الكتابات الاكاديمية الحديثة ان تتغلب عليهما، الاشكال الاول هو عملية الترجمة الصحيحة لمختلف المصطلحات الغربية التي وردت في تلك النظريات، وعن هذا الموضوع يقول الدكتور محمد عبدالمطلب في كتابه البلاغة والاسلوبية (وعلينا ان نتنبه الى ان الوقت الذي كانت فيه معظم الاتجاهات اسيرة الاخذ من الغرب وحده لم تعط العطاء المنتظر، لانها تاهت في دوامة من المصطلحات الغامضة، وضلت التعبير الصادق عن الذات، ظنت ان التجربة التي عاشها غيرنا ممن قطعوا شوطا في التحضر يمكن ان تغنينا عن كثير من الجهد والمحاولة في اعادة صياغة المفاهيم النقدية وفقا للظروف الخاصة التي احاطت بالمجتمع العربي، وهي في كل ذلك تهمل – عن وعي أو بدون وعي – منبعها من التيارات النقدية العربية القديمة والتي بها يمكن ان تخصب حركة النقد في جانبه النظري وجانبه التطبيقي.
اما الدكتور عبدالله الغدامي فانه يقف طويلا في كتابه الخطيئة والتكفير امام مصطلح السيميولوجية ويقول ”ولقد استعرت له اسمه الغربي، مخالفا بذلك ما حاوله بعض الدارسين من العرب في تعريبه الى مصطلحات مثل ”علم العلامات” كما سماه الدكتور عبدالسلام المسدي في كتابه (الاسلوبية والاسلوب) وهو تعريب سليم ولا اعتراض عليه، لولا انني وجدت مشكلة في النسبة اليه حيث استعصى علي ان اقول مثلا: تحليلا علاماتيا بدلا من تحليل سيميولوجي، ووجدت الافراد غامض الدلالة فيما لو قلت (تحليلا علاميا) كما يفعل المسدي في كتابه وتردد عند بعض الدارسين مصطلح (سيمياء) كما نجد عند الدكتور نصرت عبدالرحمن في كتابه (النقد الحديث) وجاراه الدكتور سعد مملوح في كتابه (الاسلوب)، ولكنني اجد في هذه الكلمة نفس ما يجده الدكتور صلاح فضل فيها من خشية (ان يفهم القارىء العربي من السيميائية شيئا يتصل بالفراسة وتوسم الوجوه بالذات او يربطها بالسيمياء وهي العلم الذي اقترن في مراتب المعارف العربية بالسحر والكيمياء – فضل : نظرية البناء) ومن تراجمها العربية (الدلائلية) كما فعل الطيب البكوش في ترجمته لكتاب مفاتيح الالسنية لجورج عونان، وكذلك كان المنصف عاشور في مقالة نشرتها مجلة الحياة الثقافية، وهذا تعريب اكاد اميل اليه لولا تقاربه مع مصطلح (علم الدلالة) تقاربا يوشك ان يبلغ حد الالتباس. ولذا فاني استخدم عن كره مصطلح (سيميولوجي) منتظرا مولد مصطلح عربي يحل محلها معطيا كل ما تتضمنه من دلالات”.
واذا كان مجرد مصطلح واحد استغرق من الدكتور الندامي والاساتذة الآخرين كل هذا الوقت لترجمته والاختلاف حول صحة ترجمته ومدلولاته اللفظية، فكم من الوقت سوف تستغرقه المصطلحات الغربية الاخري وكم من الوقت ايضا سوف يستغرقه الدارسون العرب للاتفاق على توحيد هذه المصطلحات الغربية عربيا.
اما الاشكال الادبي الأخر الذي تواجهه هذه النظريات الغربية فهو تطبيقها على النصوص العربية، فبعض النقاد العرب وفي سبيل اثبات صحة هذه النظريات فانهم يحملون النصوص العربية ما لا تحتمل، ويحاولون تحليل وتأويل النصوص بطريقة تناسب النظرية الغربية وتخالف روح النص العربي بل تقفز فوق معاني ومكامن النص العربي، وهذه التحليلات تفتقر الى الصحة والمنهجية. ويعقب الدكتور عاطف جودة نصر في كتابه النص الشعري ومشكلات التفسير على موضوع التفسيرات التي قدمها الشراع العرب والاجانب لموضوع الشعر الصوفي (ولا ينبغي ونحن نقرأ هذه التفسيرات ان نقبلها برمتها او ان نرفضها برمتها، ذلك انها يخفق بعضها ويصيب، والملاحظ ان الشراع تعاطوا دلالات ثابتة لا يخلو اكثرها من توقيف وبحث عن التناسب بين الدلالة الوضعية والدلالة المجازية. وتعبر هذه الجهود التفسيرية عن رغبة في تصنيف معجم لكنايات الشعر الصوفي لا لرموزه التي ينورها البحث الحديث ويكشف عن دلالتها المتنوعة. ويتمثل القارىء في تلك الجهود التي خلطت بين الشرح والتفسير نزوعا حادا الى فيلوجية لا تخلو احيانا من التبصر، ويتمثل فيها شيئا من التداعيات التي تذكر بعلم الرؤيا في الثقافة الاسلامية، ويتخبط التفسير الرمزي لدى الشراع عندما يشربون الرمز المفهوم البلاغي للكناية من حيث هي اثبات وتوكيد وايجاب الصفة للشيء بانتزاع شواهد على اثباتها).
ومع هذا فإننا لا نطالب بإبعاد هذه النظريات وانما باختيار الصالح منها والقابل منها للتطبيق على النصوص العربية وما يفيد ويخدم الرؤية الادبية العربية وما يمكن ان يقدم لنا كإضافة مناسبة في مجال دراسة وبحث النصوص العربية.
ويردد البعض ان سبب غياب النظرية النقدية العربية المعاصرة هو نتيجة فعلية لانقطاع الثقافة العربية عن التساؤل والتفكير وانقطاع النقاد العرب عن الامساك بزمام المبادرة في طرح صيغ نقدية عربية يمكن ان تؤدي في نهاية الامر الى تصنيف نظرية نقد عربية تتعامل مع النصوص العربية تعاملا نوعيا ومعنويا ونفسيا بحيث ترقى تلك الدراسات والتحليلات الى مستوى النصوص العربية فهما واستيعابا وتجاوبا.
واخيرا ما هو التفسير المقنع الذي يمكن ان نحصل عليه في تساؤلنا عن عدم وجود نظرية عربية الى الآن ؟ مع وجود هذا الكم الهائل من الاساتذة والنقاد والاكاديميين العرب الذين نفخر بهم وبأفكارهم، الا انهم لم يزالوا يعتمدون على النظريات الغربية في دراساتهم وابحاثهم، مع ان العلماء والنقاد العرب الأوائل حاولوا ان يضعوا عدة صيغ وآراء وتوجهات لو طورت وصيغت بأسلوب حديث كانت من الممكن ان تصل الى مرحلة النظرية الادبية، وان جهود الآمدي في الموازنة وابن قداسة في كتابه نقد الشعر وعبدالقاهر الجر جاني في نظرية النظم يمكن أن تكون نقطة البداية لوضع نظرية عربية نقدية متكاملة تماثل النظريات الغربية وربما تفوقها في التناول والابداع، ولو استمرت هذه الجهود لكنا في غنى تام عن النظريات الغربية نحو البنيوية والتفكيكية والاسلوبية والانشائية والتشريحية وعلم الهيرومنطيقيا وغيرها من النظريات النقدية الغربية التي لا تناسب ادبنا ولا تناسب ثقافتنا الاصيلة.
وانني اطرح هذه التساؤلات الى متى سوف نظل نستورد ونترجم النظريات الغربية ؟ والى متى سيظل ادبنا اسير هذه النظريات الغربية ؟ والى متى سيظل ادبنا العربي يعتمد على هذه النظريات الغربية ؟ ومتى نستطيع ان نقدم نظرية نقدية عربية تعالج ادبنا العربي معالجة عربية خالصة (وخاصة في ضوء من الفهم والاستيعاب العربي لهذه النصوص والابداعات) مثلما فعل علماؤنا ونقادنا الاوائل.