من يسعى في نور الله بصدق ينير الله بصيرته وكلماته. وهذا هو حال شيخ المتصوفين محيي الدين بن عربي رحمة الله عليه. حياته ارتحال، كتابته ارتحال، نورانيته ارتحال، وقراءته ارتحال يشبه ذلك كله.
كيف تسعى الروح بحثا عن المعلم أو الشيخ أو البدل أو النقيب أو القطب في أي أرض كانت. بحث في دياره الأندلس وفي المغرب والجزائر ومصر ومكة والشآم والأناضول وبغداد والموصل عن مريده ومراده ووجدهم أجمعين. تعلم ابن عربي من وحشة النفس والطريق والصحاري والبحار والبشر إلى أن وجد أنسه داخله.
لعل أشهر كتبه هو الفتوحات المكية وديوانه ترجمان الأشواق . إلا أن كتبه أكثر مما تحصى وما وصلنا منها قليل. رسائل ابن عربي الكثيرة جمع بعضها في جزءين حققهما وقدم لهما سعيد عبدالفتاح وصدر الجزء الأول من الهيئة المصرية للكتاب في عام 2014. وهي كنز فريد للدرس والتمعن والتأمل والتفكر لا يمر عليها مرور الكرام ولا تختزل بل تعاش بحذافيرها وتتطلب جهدا يبر بجهد ذلك الشيخ الكريم وخلاصة تجاربه وأذكاره ووصاياه وطريقته.
وقد جاء الجزء الأول بعنوان رسائل ابن عربي نتائج الأذكار في المقربين والأبرار شرح بال ورشح حال وأرض السمسمة التي خلقت من طينة آدم ورسائل أخرى. اما الجزء الثاني بعنوان رسائل ابن عربي وفيه رسالة الكلمات الإنجيلية الناطقة بأمور جلية لطائف أسرار القلب واللسان، كشف المشاهدات في أقل الدرجات ، ورسالة الفهوانية ورسائل أخرى وقد صدرت في عام 2016 ميلادي.
يتدرج ابن عربي في الجزء الأول بين الأحوال التي هي عين الشأن وفضل الذكر والصلاة وخشوع أنفاس الإنسان وعلم الإلهام الذي يقول عنه،”فعلم الإلهام هو أن تعلم أن الله ألهمك بما أوقره في نفسك ولكن بقي عليك أن تنتظر على يدي من ألهمك, وعلى أي طريق جاءك ذلك الإلهام من ملك أو شيطان.”
وابن عربي الشاعر هو الصوفي والعالم نفسه فاللغة الشعرية وسيلة للمعرفة والوصول والتأمل والقول.كما يستخدم الكثير من السجع والكناية والطباق والمحسنات البديعة وتقابل الألفاظ والرمز في كتابته الروحية ورسائله. ويكتب عن آداب طلب الحق والصوفية والأبدال والأقطاب وتهذيب سلوك المريد للوصول إلى ما يريد. ويخرج من المعاش والمادي إلى عالم الحلم والرؤيا ويرى الدرس والكشف في كلاهما وأن الروح إذا كانت يقظة فهمت الإشارات وتقلب الأحوال وما يرد عليها في أحوال اليقظة والنوم والرؤية. وفي كتاب المبشرات يكشف للمريد معاني الرؤى.ويفرد ابن عربي رسائل لاسم الله سبحانه وتعالى الحسيب ويشرح الأسماء الحسنى ثم هنالك كتاب الجلالة ورسالة حول التوحيد ويورد ابن عربي ذكر أسماء الكثير من أهل الطريق وشيوخ الصوفية ممن سبقوه و ممن زامنهم وممن درس على أياديهم وبالأخص الغوث الأكبر أبو مدين في مدينة تلمسان.
ولإبن عربي رسالة هي كتاب الأوراد الأسبوعية وأوراد اليوم والليلة.
وقد ولد ابن عربي في الأندلس في عام 560 هجري, ونشأ في تقلبات السياسة وأحوالها وكان ثمرة لحياة خصص فيها الجانب الأكبر للحياة الروحية: الخلوة والرياضة، والتأمل والرحلات والأسفار. وقد عمل بالقول المعروف عندهم أن الصوفي ابن وقته أي فيما أقام فيه. وكانت نهاية مطاف ابن عربي ووفاته في دمشق في عام 638 هجري بعد أن أقام بها قرابة ثمانية عشرعاما. وشملت تنقلاته مرسية وإشبيلية ومصر والحجاز وبغداد والموصل وبلاد الروم حتى استقر به المقام في دمشق.
وقد لقب الشيخ محيي الدين بن عربي بالقطب الغوث الفرد في زمانه. وقد تعرض للكثير من المحن والتهم والتشكيك فيه من فقهاء كانوا يعادون الصوفية ويشككون في مقاصدها، كما أشتهر بكراماته ومناقبه وقد وصفه السهروردي بأنه بحر الحقائق.
وقد صنفت كتبه بما يزيد على 191 كتابا, بقي كثير منها في مخطوطات أو ضاع بين الأزمنة.
ويغترف ابن عربي من خزائن الوجود والجود.يقول عن كتابه نتائج الأذكار في المقربين والأبرار ,”أنه كتاب ألقي إلي من خزائن الوجود، وأنزله علي لسان الوجود.:وتندرج الأنوار في الأنوار في قلب العارف ومن حوله وعلى لسانه.ولا يستطيع نول أقوال ابن عربي إلا من صحت لغته العربية، وصح وجدانه وخياله وشاعريته فذلك نور لا يناله إلا مستنير. بتأمل في كتاب الأذكار آيات قرآنية ومواقف وأحوال وأسماء الله الحسنى.”وما يعلم تأوبله إلا الله والراسخون في العلم.”(من سورة آل عمرآن.) وللأذكار أسرار عند أولياء الله الصالحين تكشفها أورادهم وأذكارهم والمداومة وجدانيا فاللغة فيه ليست العبور بل مقامات أحوال وإقامة وكشوف.”ليس كمثله شيء.”(الشورى آية 11)وحضرة اللسن وهي مايقع به الإفصاح الإلهي لإدلال العارفين ,وهي كلمة الحضرة.
تبحر مع ابن عربي وتتبحر في المعنى القرآني للإلهي والروحي وعوالم الملكوت.يأخذك إلى تفاصيل الوجود والفناء وما ورد على الكون منذ أمر كن ومسببات الوجود، تمنحه نفسك فيمنحك علمه وكشوفه وفيوضه التي من الله بها عليه.يقول إبن عربي أن كل إسم إلهي فهو حضرة ومن أسمائه ما نعلم وما لا نعلم.وأن الذكر يقرع بابا لا يعرف ما وراءه وأنه لا نهاية في العلم.ومن حديث للرسول (ص):”واستأثرت به في علم غيبك.”وكذلك”أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله.”
يكتب ابن عربي عن أسرار الحروف فيقول,”لكل حرف روح وعقل وسر وألسنة وأزل وأبد وميل وطاعة وظهر وبطن وحد ومطلع وأمزجة.”و يورد ما يذكره على أنه علم البياض وعلم الحروف وعلم النقطة.
ويفرد رسالة حول المبشرات والتي هي رؤيا يراها الرجل أو ترى له، و جزء من أجزاء النبوة. وفي هذه الرسالة يسرد إبن عربي تجاربه ورؤاه وبعضها مثير للتعصب ضد أهل الرأي والفلسفة. والحقيقة أن الكثير من أحلام ابن عربي تحمل الكثير من النذر والمسائل الفقهية والروحية. وكل شيء تبصره في اليقظة يسمى رؤية,و كل ما تبصره في النوم يسمى رؤيا. ويصف ابن عربي الحضرة الخيالية بتوصيف يقترب كثيرا من التأمل الشرقي المعروف وأحوال النيرفانا التي تصل بها الروح في تأملاتها والكشوف التي تحظى بها.
وفي رسالة في اسمه تعالى الحسيب يذكر ابن عربي أن كل اسم ومسماه نوع اتصال ما، بذلك يدل الاسم على مسماه وينتقل الذهن منه إليه. وأن كل من كان في حضرة الاسم فهو في حضرة المسمى. وعن علم الحروف يرى ابن عربي أن الحروف أمة من الأمم مخاطبون ومكلفون. ثم يورد رسالته في كلمة الله اسم الجلالة.
ويذهب ابن عربي بعيدا في تصوراته ورؤاه لأرض الحقيقة في رسالته المعنونة في معرفة الأرض التي خلقت منها بقية طينة آدم. فالنخلة مثلا هي من بقية طين وآدم. هذا نص أدبي و خيالي بامتياز يقدم فيه ابن عربي تصوره لخلق الأرض والكون ربط كل ذلك بخميرة طين خلق آدم.و يعتبر الأرض مسرح عيون العارفين العلماء بالله.و هي أرض غير التي نعرفها كما يصفها وكأن وجودا موازيا للوجود الذي ألفناه وفيها مدائن يدعوها بمدائن النور. ويذكرنا وصفه بمدائن وعوالم موازية يشار إليها تحت الأرض في كثير من إشارات الزمن الحديث والقديم.
ويفرد رسالة مطولة حول تفسير فاتحة الكتاب وأسرار بسم الله الرحمن الرحيم. ويقول أن جميع حقائق القرآن و أصول معانيه مدرجة في الفاتحة.
ويعتبر كتاب الحكم أحد رسائل إبن عربي من أشهر وأهم رسائله المتداولة حيث يفتتحه بحمد الله الذي أقام أشباح صور الألفاظ هياكل تدبرها أرواح المعاني بقوة الأسرار الزاهرة. ويستوحي ابن عربي الكتاب من الحكم الإلهية الجارية على لسان بعض عباد الله.ومنها قوله من لم يتحقق بحقائق الأسماء والحروف فهو عن كشف غوامض الأشياء مصروف. ولا يبرز لسر الله إلا من تبدلت أرضه وسماه.وقوله القوم لا يتكلمون في دفاترهم إلا ببعض ما شاهدوه ببصائرهم. ويلخص ابن عربي قواعد الإسلام في خمسة:معرفة المعبود، والقناعة بالوجود، والوقوف على الحدود،والوفاء بالعهود،والصبر على المفقود.
ولابن عربي جولات وصولات في علم الحروف ودلالاتها الروحية وقد أفرد رسالة كاملة لحرف الباء وأسراره.
وفي كتاب شجرة الكون يرى ابن عربي أن الكون كله شجرة وأصل نورها من حبة”كن”، قد لقحت كاف كونية بلقاح حبة”نحن خلقناكم”.
في الجزء الثاني من رسائل ابن عربي نطلع على عدد من الرسائل هي:
رسالة الكلمات الإنجيلية الناطقة بأمور جلية، ولطائف أسرار القلب واللسان،وكشف المشاهدات في أقل الدرجات،والرسالة الفهوانية. ويتعمق كشف أسرار الصوفية وعوالمها في هذا الجزء فهي رسائل حول الإنسان الكامل وختم الأولياء والمهدي ومفهوم الولاية والنبوة والختمية والكتمية مثلا.وهي رسائل إشارات ورموز وإلهامات إلهية.
وفي رسالة الكلمات الإنجيلية يسوق ابن عربي ما يقول عنه,”أذكر لك سبعة عشرة كلمة هن أم الكتاب.”ويبدأ بكلمة قيومية التي تقوم بها الآيات والمعجزات والكرامات.ثم كلمة قدوسية ، وبعدها كلمة قدسية وهي كحكم على الوجود وتهيمن على الشهود وتعزز أيادي الجنود.
والكلمة الرابعة هي كلمة قادرية تكشف عن أحرف كلمة الله سبحانه وتعالى. والخامسة هي كلمة قدرية تنطق بالذكر وتحكي عن الفكر وتنفخ في الحق وتشرح في الخلق.والسادسة هي كلمة قائمية تقوم على الظواهر والبواطن.والسابعة هي كلمة قلبية تشتمل على حكمة القدم والخطوة والوطأة والسطوة .والثامنة كلمة قالبية تخلي عن القوالب القوابل وتروي عن أسرار القلوب القوابل.ويشير ابن عربي إلى أهمية القلم فيقول أنه أول شيء خلقه الله تعالى من الخلق,ووضع به الصور والقلوب ,وفتح به باب الشرائع والغيوب وقال له:أكتب ما كان,وما يكون إلى يوم القيامة هو القلم.
والتاسعة هي كلمة قابضية تبسط القلب فتجعل القالب بالبسط ظاهرا. والعاشرة هي كلمة قيامة والكلمة الحادية عشرة هي كلمة قولية قلبية وفيها يقول أن الحسن كوني واللطف لوني والبهجة شكلي, والملاحة محي، ومجموع هؤلاء الأربع جمال.
والثانية عشرة هي كلمة قهارية ثم كلمة قاهرية ثم كلمة قوية من القوي المتين وهي كلمة الكينونة النازلة على أول وجودات الألف ن وهو الباء، فنزل كاف”كن” على الباء كرها.
والكلمة الخامسة عشرة هي كلمة قريبية تشتمل على طرف من النبوة والولاية والصحبة والأخوة. ثم كلمة قابلية وتشير إلى حكمة الجمع بين الصاحب والأخ. أما آخر الكلمات فهي كلمة قديمية ومنها إقامة الصلوات، وبها شواهد الآيات والمعجزات والكرامات.
ويشرح ابن عربي بعض المفاهيم الصوفية مثل قلب العارف.ومن الرسائل كتاب مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم وفيه يكتب عن الإنسان الكامل. ورسالة لطائف أسرار القلب واللسان ثم رسالة كشف المشاهدات في أقل الدرجات .ويكشف في تفاصيل هذه الرسائل الكثير من أسرار الصوفية وأقطابها ومراسها. يكتب عن الأنبياء والأقطاب والأبدال وأصحاب الحال . ويكتب عن العروج والارتقاء والتأمل.
ورسالة الفهوانية هي أحد أهم فصول كتاب رسائل إبن عربي و فيها كلام الله من وراء حجاب وعن الحضرات الإلهية والتجليات والأسرار والمقامات والأنوار.
ثم رسالة الحروف والكلمات وشطر حسن الإدراك لتكملة السعادات، وكتاب مواقع النجوم ومطالعة أهلة الأسرار والعلوم ومبادئ علم التوفيق وشواهد الأحوال وعلم الهداية والكرامات.
ويسبح من يغوص في رسائل ابن عربي في تفاصيل روحانية جمة تضيء له الطريق في العبادة والتأمل والارتقاء الصوفي وفهم معاني القرآن وحياة الأنبياء والرسائل الإلهية، غير أن هذه السياحة تتحول إلى غوص عميق لا يمكن تجاوزه إذا أراد المرء أن يدرك شذرات من عوالم عاشها ابن عربي وغيره من الصوفيين.
رسائل إبن عربي كتاب لا يصلح للقارئ العادي ولكنه كتاب يلج بك إلى قلوب العارفين عبر كلمات لا يمكن لك عبورها بل توجب عليك التوقف عندها والدخول في حالة القارئ-المتأمل.
ظبية خميس