(١)
سعدتُ حين وجدتُ الفصلية «نزوى» تُعنى بأدب المغرب العربي وتحفل به رافدا وبدوره في مسعى التحديث الذي شهدته القصيدة العربية طيلة القرن الماضي. فلقد دأبت «المركزية» المشرقية على تجاهل هذا الدور حتى كأنه لم يكن، واستقر لدى أصحابها من قديم أن المغرب لا يعدو الصدى وأن شرعية صوته، اللغوي والشعري والسردي والنقدي … إلخ، لا توجد إلا عندهم، فلا اعتراف به إلا متى وجدوا له نسبا في الشرق. ولئن بدأت هذه الذهنية تتقلص فإنها لا تزال فاعلة، ولا أدري كم تحتاج من وقت وجهد كي تزول، وهل تزول؟ ولا أنكر أن المغاربة أنفسهم يتحملون قسطا من المسؤولية بالتقصير في تقديم إسهاماتهم والخلط بين المكانة الموضوعية التي يحظى بها المشرق العربي في وجدانهم وفي ميزان العطاء من ناحية ووجوب تكافؤ الفرص وتساوي الحظوظ بين روافد النهر العربي الكبير من ناحية ثانية، وأنْ تُعنَى «نزوى» بنشر مادة نقدية مدارها على الحركة الموسومة بحركة «الطليعة» فذا أمر من شأنه أن يُسْهِم في رفع الحجب عن لحظة تونسية من اجـرأ لحظات الأدب العربي الحديث وهو يخوض مغامرة التجريب، وأن يُتيح وضعها في دائرة الضوء التقييمي الهادئ بعد مرور زهاء أربعة عقود على مرورها.
(٢)
وزادني اغتباطا أن مغاربيّا انبرى للمهمة، بصفته «شاعرا وأكاديميا من الجزائر» حسب ما جاء في توقيعه فنشر على أعمدة العدد الخمسين تحت عنوان «حركة غير العمودي والحر في الشعر التونسي : نموذج للقطيعة مع الشعر المشرقي» (أبريل 2007 – ص47) وعلى امتداد ثماني صفحات قام بلفت الأنظار إلى هذه النزعة الشعرية الحداثية التونسية، أنظار الدارسين ومؤرخي الأدب العربي الحديث، والشعراء المعنيين قبل غيرهم بتمثل التجارب الشعرية الأخرى حتى يتسنى لهم التجاوز وتحقيق الإضافة.
لكن السؤال الذي أرَّقني هو سؤال الأمانة العلمية وكيف أجاز الباحث «الأكاديمي» لنفسه التصرف في مادة كتاب هو كتابي ونص هو نصي، المنشور منذ ثلاث عشرة سنة سواء بانتساخها أو بالاقتصار على تبديل بعض الكلمات وإضافة أخرى لغاية الربط بين الفِقَر والأجزاء المنسوخة والسعي إلى توجيه الكل وجهة العنوان (القطيعة مع الشعر المشرقي) التي لا نحسبها إلا من باب القراءة السطحية والتأويل السهل.
احترت في أمري، وأنا «الشاعر والأكاديمي» أيضا ما الذي أَلْجَأَ زميلي إلى فعلة من هذا العيار، ولم يكلف نفسه حتى الإحالة على المرجع المنسوخ وعلى المراجع التي يستلزمها موضوع كالذي خاض فيه، ويقتضيها الحسم في مسألة خلافية كالتي تجشمها.
هل تعمّد «الشاعر والأكاديمي» الجزائري ذلك لإخفاء الأخذ فضحى بأبجديات الدرس العلمي ؟ أم هل يكون ذكر مصادره وسقطت عند الطبع ؟ لكن مهما يكن فلا شيء يبرر ما عمد إليه رجل مؤتمن على الأمانة العلمية من انتحال مع ما يمكن أن يتكبّده من عواقب لها مساس بالمصداقية والسمعة بين أهل المهنة وفي أوساط طلبة العلم والمقبلين على تعلم أساليب البحث وإعداد رسائل الماجستير والدكتوراة. كتابي يضم 283 ص استثمر الزميل منها ١٤١ ص كانت كافية لـ«تأثيث» مقاله وحافظ، وهو يأخذ، على النص الأصلي حينا، وحوّر بعض مفرداته أو عمد إلى زيادة أخرى حينا، ولخّص حينا آخر تلخيصا أوقعه في تحويل مجرى المعنى إلى النقيض أحيانا وجره إلى تقويل الكاتب ما لم يقل، ولم يقنع بانتحال النص بل عمد إلى الإغارة على نصوص الإحالات والشواهد التي استدللت بها فنزع حواصرها وأدمجها في مقاله وألغى ملكية أصحابها لها، وهو ما لا يأتيه عاقل فضلا عن أن يكون باحثا «أكاديميا». واجترأ حتى على عنوان كتابي «حركة الطليعة الأدبية في تونس 1968-1972» فوضعه عنوانا ثانيا لمقاله وعلى بقية العناوين، وفي ما يلي أسوق أمثلة من أساليب الأخذ التي توخاها وأسطّر تحت الكلام القليل المحوّر :
٭ الانتساخ : بتصرف محدود
١. نص الكتاب :
مثلت «حركة الطليعة» حلقة متميزة من حلقات المتن الأدبي التونسي الحديث، اختلف النقاد فيها واختصموا ونسبوها إلى «اليسار» ونسبوها إلى «اليمين»، رأى فيها البعض فتحا من فتوح الإبداع والبعض الآخر صورة شائهة وتقليدا هجينا للغرب (ص٤)
١. نص المقال :
مثلت «حركة الطليعة» حلقة متميزة من حلقات المتن الأدبي التونسي المعاصر، اختلف النقاد فيها واختصموا ونسبوها إلى «اليسار» مرة وإلى «اليمين» تارة أخرى، ورأى فيها البعض الآخر فتحا من فتوح الإبداع، والبعض الأخر صورة مشوهة وتقليدا هجينا إلى الغرب (نزوى ص 47)
٢. نص الكتاب :
لم تمر الهزيمة العربية في مواجهة العدوان الإسرائيلي في جوان 1967 دون أن تخلف شعورا عاما بالإحباط لدى المواطن عموما والشباب المثقف خصوصا نتج عنه اهتزاز الثقة في الخطاب القومي العربي الذي غطى الساحة المشرقية وامتد إلى المغرب، بل وفي الانتماء العروبي ذاته وتولدت نزعة تشاؤمية طبعت الكثير من الانتاج الأدبي. وربما لم يجد نظام الحكم في تونس أنسب من هذه الفرصة لإذكاء الروح «القومية التونسية» والتدليل على وجاهة موقفه ولمعالجة الفراغ الإيديولوجي الذي بدأ يبرز ويتعذر على الاشتراكية الدستورية «سده أمام خطابين كانا يستهويان الشباب: الخطاب اليساري والخطاب القومي» (ص20)
٢. نص المقال :
لم تمرّ الهزيمة العربية في مواجهة العدوان الإسرائيلي في يونيو 1967 دون أن تخلّف شعورا عامّا بالإحباط لدى المواطن عموما والشباب المثقف خصوصا نتج عنه اهتزاز الثقة في الخطاب القومي العربي الذي غطّى الساحة المشرقية وامتدّ إلى المغرب، بل وفي الانتماء العروبي ذاته، وتولدت نزعة تشاؤمية طبعت الكثير من الإنتاج الأدبي. وربما لم يجد نظام الحكم في تونس المناهض للمد القومي العربي أنسب من هذه الفرصة لإذكاء الروح «القومية التونسية» والتدليل على وجاهة موقفه ولمعالجة الفراغ الإيديولوجي الذي بدأ يتبرز ويتعذر على الاشتراكية الدستورية «ملء فراغه أمام خطابين كانا يستهويان الشباب آنذاك هما: الخطاب اليساري والخطاب القومي العروبي(نزوى ص49)
٭ الانتساخ مع التصرف الموقع في خطأ لفظي أو معنوي
١. نص الكتاب : الطليعة مفهوما وحركة (ص105)
١. نص المقال : الطليعة كمفهوم وكحركة (نزوى، 50)
وهذا هو عنوان الفصل الأول من الباب الثالث، والعربية السوية لا تقبل صيغة نص المقال المنقولة حرفيا عن الاستعمال الفرنسي الذي يقتضي الكاف (comme)
٢. نص الكتاب : صاحب «الإنسان الصفر» (ص٣١١)
٢. نص المقال : صاحب مقال «الإنسان الأصفر» (نزوى، 50)
والحال أن «الانسان الصفر» قصة لا مقال و«الصفر» لا علاقة له بـ«الأصفر» (نزوى،50)
٭ الحفاظ على النص الأصلي دون تبديل
١. نص الكتاب :
حرصت حركة الطليعة منذ ظهورها على تحديد حقل تصوراتها ومفاهيمها فلم تترك سؤالا محظورا حول الكتابة إلا طرحته، ولا قديما إلا سعت إلى استبداله بجديد (ص109)
١. نص المقال :
حرصت حركة الطليعة منذ ظهورها على تحديد حقل تصوراتها ومفاهيمها فلم تترك سؤالا محظورا حول الكتابة إلا طرحته، ولا قديما إلا سعت إلى استبداله بجديد (نزوى ص 50)
٭ الإغارة على الشواهد والعبث بالإحالات
وهذا لا يحتاج إلى دليل بما أن المقال خال من «الإحالات» التي أحال عليها النص الأصلي، نص الكتاب، وهي تعدّ بالعشرات، ومن الحواصر الحاصرة للشواهد المقتطعة من المصادر والمراجع. وإذا تكرم صاحب المقال فأرجع في سياق كلامه رأيا إلى أحد (دون تدقيق وتوثيق) فعلى غير صاحبه الحقيقي أحيانا شأنه مع «أشعار بلا حدود» التي يقول عنها، ناسخا أو سالخا نص الكتاب : «هو نوع من الشعر كما يقول عنه صانعوه من أمثال صالح القرمادي ومحمود التونسي وسمير العيادي لم يغتسل بإبريق فهو توقيع العصر مكسور مبتور، بلا انتظام، بلا انسجام…» وبالعودة إلى النص المنسوخ/المسلوخ يلاحظ القارئ أن القولة لم يقلها «صانعوه» بل قالها الناقد توفيق بكار ضمن تقديمه «اللحمة الحية» للشاعر صالح القرمادي (ص١٤١) وإلى هؤلاء وفي السياق نفسه ينسب أيضا كلاما قاله الناقد الطليعي محمد صالح بن عمر وكلاما قاله الناقد الطليعي أحمد الحاذق العرف حول هذا الشاعر.
تشويه لا يمكن اغتفاره لَحِق النص الأصلي الذي امتدت إليه يد «الشاعر والأكاديمي» الجزائري الشقيق وقد يكون مبعثه استخفافا بشروط البحث العلمي وفروضه قد يكون مبعثه بدوره رغبة جامحة في إحداث «فوضى خلاَّقة» تُخفي المسلوب، فهل كان هناك ما يدعو إلى مثل هذا الإمعان في التجني لو كان الزميل رؤوفا بزميله، مقدرا الجهد الذي بذله حتى يستوي عمله على الصورة المنشورة ؟ أم هي حال البحث العلمي وما آل إليه في جامعاتنا وعند العديد من المقبلين عليه الذين استراحوا من عنائه بانتحال أعمال غيرهم، وعدم التردد في نشرها والتقدم بها لنيل الدرجات العلمية والانتداب للتدريس والارتقاء في الرُّتَب.
لقد خجلت وأنا أواجه هذا الأمر، وكنت أود لو عثرت لجاري المغاربي الذي انبرى يُعْرِّف بأدب المغرب لدى المشرق على عُذْر، لكن الضرر الذي لحق ذلك الأدب والأخلاق العلمية من الطريقة التي توخاها والنهج الذي انتهجه، جعلني أفضل عدم السكوت، فإذا كان هناك عُذر قد غاب عني، وحمل صاحبه على إتيان ما أتى، فعلام لا ينير سبيلنا ويشفي غليلنا ؟
٭ ٭ ٭
٭ وقد وردنا من الدكتور عبدالله حمادي الرد التالي:
«أخينا الفاضل طلبتم توضيحا يتعلق بموضوع الدكتور الطاهر الهمامي وقضية غير العمودي والحر أعلم سيادة الدكتور الفاضل أنه لم يحصل لي الشرف أن اطلعت على اطروحته ولكن ما تمكنت من الاطلاع عليه هو إشارة عابرة ذكرتها الدكتورة سلمى خضراء الجيوسي في إحدى دراساتها حول مظاهر التجديد في الشعر العربي المعاصر وذكرت عرضا في سطرين أن بتونس هناك مجموعة من المبدعين دعوا لغير العمودي والحر فلفت انتباهي هذا العنوان ورحت أبحث عن هذه النظرية التي دون شك ستكون مثيرة ومتميزة وحاولت قدر المستطاع الاطلاع على ما كتبه الدكتور الطاهر الهمامي إلى أن وقع بين يدي ما يشبه المحاضرة من إنجاز الدكتور سعيد الطاهري أحد الباحثين الجزائريين حيث نقل جملة من الأفكار حول هذه النظرية فاستعنت بها إلى أن وصلتني بعض الصفحات التي تفضل بها الأخ الفاضل محمد باريش اثناء زيارته لتونس حيث تمكن من تصوير بعض الصفحات من احد الكتب النقدية التونسية تتحدث عن نظرية الدكتور الطاهر الهمامي فجمعت هذه المعلومات وبادرت بنشرها بدافع الترويج لها والقناعة بتميزها وضرورة لفت انتباه النقاد إليها وبالتالي فإذا كان هناك تشابه فيما ورد في مقالتي وما كتبه الدكتور الطاهر الهمامي فقد يكون صحيحا وبهذه المناسبة أوجه نداء من خلال مجلتكم إلى الدكتور الطاهر الهمامي أن يزودني بأطروحته حتى أعود ثانية لمراجعتها وتقديمها في عرض نقدي يليق بمقام هذه النظرية التي نعتز بها كمغاربة وكعرب» .
عبد الله حمادي