إبراهيم الحجري*
ترتسم معالم شعرية مختلفة في مجموعة “رداء الديك” لأحمد الوهيبي الصادر عن منشورات مجلة نزوى (الإصدار الثالث والأربعون)، قوامها التعدد، والانفتاح، والتلقائية في تعاملها مع اللغة، والذاكرة، والحياة؛ ذاك أنها تتنفس، بدون أقنعة، أهوية المعيش، وتعبر عن مكنونات الذات الباثة للخطاب بصفاء مدهش، يعيد للأشياء العابرة، والأحاسيس المتحولة اعتبارها المنسي، فترتبط الكتابة، استنادا إلى هاته الرؤية؛ بتنقلاته، وارتحالاته بين الأمكنة، وأسرارها، وعوالمها الأليفة، والغريبة بالنسبة للذات، معا.
وتمثل مقولة العنونة “رداء الديك” استعارة مكثفة، تكاد تلف شتى المعاني في حُضنها الشاسع، فالديك، الطائر الجميل، بردائه الملون، ودلالته الرمزية المعروفة؛ وارتباطه بالبراري، والأوقات المشحونة بالقدسية، ونهايته الدرامية ذبيحا، كلها محيلات دلالية تجعل حضوره في النصوص، بوصفه كائنا محبوبا، باذخا ووازنا، خاصة عندما يرتبط بالحقل الدلالي النصي؛ ويتصل بما توحي به المناصات المصاحبة: (بيت أمية بن أبي الصلت، وقولة شهاب الدين النويري) التي تستلهم التعارض الصارخ بين الديك والغراب على مستوى الإحالات الثقافية والمرجعية، وعلى مستوى الدلالات التي يحملها مشهد كل منهما في المتخيل الجمعي، فضلا عن كون المتن الشعري حافلا بمعجم الطيور، وأصنافها، ومدلولاتها الثقافية، وتمثيلاتها لدى الإنسان.
1. معجم الطيور:
تعج النصوص بأسامي الطيور المتنوعة حتى أن القارئ يمكن أن يرصد معجما خاصا بأنواع العصافير؛ ودلالاتها المختلفة، ومن المعروف أن الطيور تمتلك معادلات رمزية غميسة في الثقافتين العربية والعالمية؛ وبالتالي فهاته المتوازيات الدلالية تساعد في الوصول إلى بنية النص العميقة، باعتبارها مدخلا لتحديد منطوق الرسالة المستترة نصيا، يقول الشاعر: (نوارس غاضبة، قرب نافذتي، تدعي أنني افتريت عليها في إحدى أفكاري المجنونة عن الطيور، ووصفت صوتها بأنه مزعج، وأنهم قراصنة نفاية الشواطئ، يقتاتون على النهب، والسطو على الأعشاش المكشوفة… ما دونته، نقلته من “منطق الطير” ووثقته علوم البحار والطيور البدينة ذوات الطيران الحر)(1).
ولعل لهذا الاحتفاء بالطبيعة ما يبرره شعريا، ودلاليا، إذ تهرب الذات من عالم الإنسان، لتجد غايتها تخييليا في عالم الطير، وكأنها تنعي قوانين البشر، وقيم الحضارة، وفطرة الإنسان، انسجاما مع السياق الثقافي، والجغرافي الذي ترتهن إليه ذائقة الكتابة، وهي مفتونة بالزمن الأندلسي الذي لم تتبق منه سوى شبه أطلال في المغرب وإسبانيا، ومعالم سامقة، صامدة تخلد ذكرى هذا الوجه المشرق من الحضارة العربية الإسلامية، الماثل في المخيلة، من خلال ما تزخر به الكتابات التراثية الهائلة المخزنة في المكتبات العالمية، من فلسفة، وشعر، ونثر، وتصوف، وتأملات نقدية، وتاريخ، وجغرافيا، وتراث شعبي، راسمة صورة نموذج متفرد من الحضارة الإنسانية، وصل فيه التسامح الإنساني، والرقي الفكري، والتطور العلمي، والنماء الشامل، أوج المراتب، بشكل ما يزال يثير إعجاب المنتظم الدولي إلى الآن.
ولأن الطبيعة البهية كانت عنوانا لهذا النموذج الإنساني، وسرا من أسرار ارتقائه، فقد تغنى بها الشعراء، والناثرون الأندلسيون والمغاربة، كما لم يتغن بها أحد، وخلدوا تأثرهم بجمال المكان وسحره، حتى صار ما تركه الأندلسيون من مديح المكان، وطبيعته الخلابة، جزءا لا يتجزأ من هاته الهوية الثقافية والأدبية الراقية، وباتت علامة مشرقة تحيل على هذا المجد الغابر، الذي، وإن غاب وجهه المشع من على وجه الأرض، فقد ظل مخلدا في قلوب الناس، الذي يطالعونه في الكتب، ويتنسمون عبيره من حدائق الشعر الأندلسي، وتراثه الأدبي الحافل، فيعيشونه، مثلما لو كانوا يسافرون عبر الزمن، إلى تلك البقعة الجغرافية، وتلك الفترة المشرقة من تاريخ الأمة، سياسيا، واقتصاديا، وفكريا، وثقافيا، وإنسانيا، يقول الشاعر واصفا الطبيعة الخلابة: (في القمة، ماء تجمد وتحول إلى مسار يتزلج الناس على قشرته الصلبة، المنظر جميل من هنا، الثلوج تكسو الأرض بالبياض والظلال أرانب، وغيوم رمادية صغيرة تطل وتختفي خلف ثنايا السفح المتعرجة)(2).
ولعل أبرز ما عرف به أدباء الأندلس خصوصا، والغرب الإسلامي عموما، هو القدرة الفائقة على استنطاق عناصر الطبيعة، وأنسنتها، والحلول فيها، وإيداعها أسرارهم، وهمومهم، ومشاعرهم، ومطامحهم، فكانت تتحول في قصائدهم، إلى لوحات ناطقة، وكائنات حية تتحرك، وتتنفس، وتعيش، وتقول ما يخيفها، وما يفرحها، وما يحزنها، وكأنها تتكلم بلسان الشعراء، وأهل المكان. وقد بلغ ولع الشعراء الأندلسيين بالطبيعة والاستعانة بها، في أغراضهم الشعرية حداً يصعب معه، على القارئ، أن يدري إذا كان الشعراء يتحدثون عن الطبيعة أم كانت الطبيعة تتحدث عنهم لفرط ما تغلغلت في نفوسهم، ولكثرة ما وصفوا من مناظرها(3). يقول الشاعر: (في الطريق، رأيت حصانا يقتات من مكب النفايات، وبخته قائلا: أنت عار على سلالتك، ماذا تركت للقطط والكلاب الضال؟ خجل الحصان، رجع إلى عريشته حزينا، منكس الرأس، لكل حصان كبوة، لكن الأحصنة لا تثق بالأمثال، ولا بالحكم، تمضغ اللجام، وتسوس العمر)(4)، بل، واتسعت مخيلاتهم، لاستحداث مخاطبات، ومحاورات بين الطيور، والعصافير، والورود والنباتات، والحيوانات، وهي تتفاخر عن بعضها، وتزدهي بنفسها، معبرة عن مشاعرها، ومعددة مزاياها، وأفضالها على الإنسان، أمام أقرانها، يقول الشاعر: (طائر يتفقد طين الضفاف، ويسبر الأسماك، يراقب السحالي، من أعالي أبراج الكهرباء والمباني، يصلح أعطاب عشه في أوقات فراغه، ويعزف بمنقاره، ضربات خاطفة بسيفي المنقار في قلب الريح، تعقبها صيحات يطعنها الأسى)(5).
وعمل الشاعر الوهيبي على استلهام هاته الخصيصة النوعية؛ ليجعلها مركز كونه الشعري، والقطب المحور الذي تدور حوله أفلاك المعاني، والدلالات النصية، غير أنه يلبسها زيا جديدا من المظاهر والتجليات، ويضخ في قنواتها أسرارا من القول، والبلاغة، ويحشوها بأسئلة أخرى استنبتها من واقع الأمة الآن، ورهانات الإنسان العربي في ظل عالم متغير، سريع التحول، وطبعها بثقافته، ولغته، وأحاسيسه، وتأملاته، وهو يجوب الأمكنة القريبة التي شهدت على تلك الحضارة، وذاك البهاء، وهما يوقعان آثارهما رمزيا، وماديا في التاريخ والجغرافيا، والذاكرة الوجدانية، خالقا منها صرخة للذات، وصرخة للأمة، على لسان ديك ذكي، واع بما حوله، واسع الخيال، تارة يتمرد، وتارة يتفلسف، متماهيا مع تحولات الذات، وتنقلاتها بين الأمكنة، والجغرافيات، والعوالم المتجددة، شاسع الروح، بحيث يوسع ما أمكن ذاته، ليختصر الذوات، والوجوه، وتواريخ البشرية بكل تناقضاتها، عابرا الفلسفات، والحضارات، والأزمنة، ومراهنا على الحلول في المستقبل الغامض، بروح شعرية رقراقة، تحلق فوق كون صاخب، غير عابئة بالتبعات، والمخاطر، ومعولة على روح الكلمة، وجوهر النفس الصادق في تغيير الأحوال والمآل، يقول الشاعر: (عندما يتنافسان في الشدو/ يغلب الحسون الشحرور، كأنما غابة قصب تصفر في حنجرته الضئيلة، زرياب صديقي وديك فجري، لكني حكم محلف، وميزان التغريد صارم)(6).
2. ملتقى الأنواع:
لئن كان الشاعر قد صنف مكتوبه ضمن جنس الشعر، فإنه يقصد شعرية القول بمطلق التسمية، عربونا على افتتانه بالنص المفتوح، الذي لا ضفاف تحبسه؛ ولا حدود تمنع تدفق موجاته التخييلية، فهو يصف؛ ويسرد، ويسجل مشاهداته، ويشعر، ويقول أحاسيسه في تفاعل مع متغيرات سفره عبر جغرافيا الغرب الإسلامي، وتماهيه مع تاريخه، ومعماره، وأفضيته، وطقوسه المعيشية، وافتتانه بفلسفة البساطة التي يعيش عليها ناس القاع المجتمعي في المقاهي، والمطاعم، والأسواق، والطبيعة الخلابة، والسواحل المغرية بالاستجمام، وكأن الشاعر يفتق العوالم من حوله، مثلما يقشر ثمار الرمان، فتتطاير من حوله الحبات الحمراء، قصائد شذرية، ومقاطع سردية غاية في التكثيف، والتركيز.
لم تسع القصيدة قول الشاعر، فتاقت العبارة إلى فسحة أرحب، فاستلهمت شكل قصيدة النثر، قبل أن يشغفها السرد حبا، فتستعين بتموجات جمله، وتوصيفاته، وتوغله في عمق الذات، وأنفس الآخرين، متسائلا تارة، ومستفسرا تارات أخرى، ومتأملا عمق الكون، والطبيعة، والأشياء، بفطرة طفل، وبياض سريرة متصوف ناسك، وقلب شاعر جوال، ورهافة إحساس عاشق متيم، يجوب الأفضية والأزمنة، مترنحا، مثل فرس فاجأته الطبيعة بالمطر بعد محل طويل، ومستكشفا مثل رحالة شغوف بالمعرفة، والآفاق المجهولة.
فتح الشاعر أفق شعريته لتسع “السرد”، وتحضن شقيقه وملازمه “الوصف”، فدون رحلته شعرا، عبر جغرافيات واقعية ومتخيلة ومقروءة من الغرب الإسلامي، مستعينا بجولاته في بلاد المغرب، مستكشفا، ومستمتعا معا، في آن واحد، علما أنه عاش لحظة السفر تلك عبر مدن مغربية متنوعة التضاريس، واللهجات، والثقافات بكل جوارحه، وأحاسيسه، فكان من الطبعي أن يتنقل، حسب طبيعة المزاج الكتابي، والسياق النفسي والوجداني، من نوع إلى آخر، ومن حالة شعورية إلى حالة أخرى، تارة معجبا حد الانبهار، وتارة منتقدا حد السخرية، وتارة معريا ضعف الزمن العربي، راثيا مجد حضارة غاربة، لا تزال تشهد الكراريس على آثارها.
وإذا كانت الرواية، في أعراف الأدبيات النقدية، تتمتع بالقدرة على احتضان أغلب أنواع القول، فإن الشاعر يقلب الآية، جاعلا من القصيدة حُضنا شاسعا يتسع لأكثر من نوع خطابي، بمعنى أن أنه يقوض طرحا، ليؤسس أطروحة نقيضة، ويكسر شكلا متداولا ليبني معنى طريفا، وينتهك الحدود الجنسية، وأعراف الكتابة، ليخلق شعريته المتفردة التي ما تفتأ تحاور الأشكال، والأنواع، مثلما تتجانس المشاعر، والأشواق، والحنين، والألم، والفشل، والخيبات، والنجاحات، والتأملات داخل الذات، فلا تعرف في أي شكل قد تنبثق، أو بالأحرى؛ لا تعير بالا لذلك التجلي، ما دام سيخرج إلى الأفق، في شكل ما، يوصل الحساسية المفرطة إلى متلقٍ عاشق، يستعذب الطفرات، والفجوات، ويستلطف التجاوزات الشكلية المهذبة التي تزيد القالب المعتاد تنغيما، وجرسا، وأثرا جماليا، تطيب له الذائقة، وتخلخل المألوف.
3. أندلسيات:
يحضر النص الغائب بوفرة؛ على سبيل الاستدعاء، أو التفاعل النصي، أو مساءلة الذاكرة، وجعل بعض مكوناتها المرجعية أساسا للمتخيل الشعري السردي الغميس، حيث تحضر الأندلس (الفردوس المفقود)؛ بشكلين: الأول مضمر يتمثل في الإحالات الشعرية على أسماء، وحوادث تعود إلى الزمن الأندلسي المشرق؛ من قبيل حادثة أسر المعتمد بن عباد بأغمات من قبل السلطان المرابطي يوسف بن تاشفين، وما عقبها من تبعات، ومآسي دونها المعتمد، ومن والاه من شعراء ومؤرخين، ومنها كذلك، الإحالة الشعرية على موضوعتين تميز بها الأدب الأندلسي، وهما موضوعة “التغني بالطبيعة”، ومناجاتها، وإلباسها لباس الكائن الحي، واستنطاقها رمزيا، وإحلال نفوس البشر فيها، كناية، واستعارة، وتشبيها، ثم موضوعة: “محاورة الطيور”، وإفراد كتب خاصة بها، حتى أن نوعا أدبيا راج لحظتها، وساد بالمجالس، والمخطوطات، والسجالات الأدبية، وعرف بين النقاد والشعراء آنئذ، باسم “الزرزوريات”، يقول الشاعر، مستعيدا نفس الشاعر الأندلسي ابن خفاجة، وغيره من الشعراء الأندلسيين مثل: ابن زيدون، وابن زنباع، وأبي البقاء الرندي، وغيرهم في الاحتفاء بالطبيعة، وإفراد حيز وافر لها ضمن قصائدهم: (باقة ورد سفير، الوردة أميرة البستان، الزهرة البرية، سلطانة تنازلت عن العرش لأجل الحب، اختارت أن تغمر حياتها القصيرة بالتلقائية والبساطة والمشاعر المباغتة نفسها…)(7). فقد عرف عن شعراء الأندلس أن عناصر الطبيعة لا تنتهي في قصائدهم، فهناك الطيور، والبرق، والجو، والشمس، والبدر، وغيرها، وقد كثرت في الأندلس الرياض، والبساتين، وصدحت، في جنباتها، الطيور، وتوزعت في أنحائها الجداول، وباتت حواضر الأندلس تؤلف عقداً من الحدائق، وهذا ما أوجد لدى شعراء الوصف ميلاً إلى وصف الأزهار، فتركوا قصائد تدخل في باب شعر النوريات، وبلغ ولعهم بمباهج الزهر حدا، بقيت صوره مطبوعة على صفحات خيالهم(8). وقد اتخذ الشاعر أحمد الوهيبي هذا المنحى، تفاعلا مع الذاكرة الشعرية، ومؤثرات الطبيعة التي يصادفها وتصادفه، فتوقظ، في نفسه، حنينا عميقا.
وفضلا عن ذلك، لا يتوانى الشاعر عن التلميح للإحالات المرجعية المباشرة التي توثق لمشاهدات الشاعر، إبان رحلته الأندلسية، وزيارته لعدد من المدن الإسبانية، ليكون ما يراه حافزا له على التذكر، واسترجاع لحظات الإشراق الأندلسية بكل تفاصيل رقيها، في مقارنة منه بين الزمنين، الزمن الأندلسي، وما عرفته الحضارة العربية لحظتها، من تطور وازدهار، والزمن العربي الحالي، وما تعرفه الحضارة العربية من تخلف ونكوص على كل المستويات، وكأنه يرثيها بلغة قاسية، ومشاعر حنين ملفتة، تسافر بقارئها في المسافة بين الزمنين، يقول الشاعر ملمحا لهاته المسافة الواصلة بين الزمنين العربيين، الماضي المشرق، والمشرِف، والحاضر المنكسر، والمعتم، بنبرة لا تخلو من أسى، وحزن، وضيم: (الربيع يليه الجحيم، والمدن تساق إلى المذبحة، مدينة تلو الأخرى، لن تكتفي الصواريخ والقنابل بالعواصم والجيوش، فالمهمة بفضل تزاحم الوكلاء والسماسرة: تدمير كل شبر، وقبر كل حر. نمشي من عقبة بن نافع إلى بين الوديان، وبغتة يهطل المطر رهاما سخيا، فنحتمي بحانة الطريق، من زجاج شرفتها، نعد القصائد، والكواعب، والقنينات الفارغة. فنحن في جدل والروم في وجل، والبر في شغل، والبحر في خجل)(9).
4. خلفيات نصية:
تحفل النصوص بظاهرة التناص الشعري، سواء على مستوى حضور الشخصيات المرجعية، أو ذكر الأمكنة الجغرافية، والمعالم الأثرية، والفضاءات الإنسانية المعروفة، أو الإحالة على منطوق حدث تاريخي، أو إنساني مفصلي، له أثره البالغ على الحضارة والفن والبشر.
يرى الشاعر عالمه من زوايا متقاطعة؛ وخلفيات متعددة، ويصدر في حكمه عن متراكمه القرائي؛ فيقارن مشاهداته؛ بما قرأه، وتكون مناظر معينة حافزا على تذكر مقروء؛ أو مشهد سبقت له رؤيته في أفق آخر عبر أوقات سابقة، وربما كانت الخلفيات القرائية الكامنة أو المضمرة هي ما ينطق بدلا عن الذات، وهي التي توجه حكمه، واختياراته، ونظرته للوجود والعالم من حوله. فالشاعر يستحضر مقولات لأمية ابن أبي الصلت، وشهاب الدين النويري، بوصفها مفتتحات بؤرية تمهد للقصيدة، حول الموضوعة المركزية التي يتناولها مجموع الديوان، مثلما يستدعي من متراكمه القرائي جملة من النصوص الغائبة، من قبيل: أشعار وحكم المتنبي، والزبيري، ومنطق الطير لطوير الجنة، وباشلار، وحوماري، وبيسوا، إيليا أبو ماضي، وبيكاسو، والقرآن الكريم، والمعتمد بن عباد…
وليس الغرض من استعادة هاته الأسماء، والأحداث المرجعية من قبيل الاستعراض الفني، بل لها ما يبررها دلاليا، ورمزيا في ارتباط وثيق بالمغزى العام للنص الشعري، وانسجام مع الطرح الفكري المسبق الذي تأسست عليه رؤية الشاعر للعالم من حوله، وانبثاقا عن لحظة سياقية أفرزت سبب نزول النص، ومهدت لمخاض إنتاجه.
وبتأملنا للحقول المعجمية الموظفة في النسيج اللغوي للنص الشعري ككل، يتضح حضور مرجعية المكان؛ بوصفها محيلا على جغرافيا محددة، يؤطرها زمن الرحلة الشعرية، ضمن فضاء مغربي مخصوص، حيث ترتع النفس، فتستملح أشواقها، وذكرياتها، وتستنبت انتشاءها الممزوج بوجعها الإنساني، محفزة بربوع الذكرى، ومقامات الأنس، والرفقة المؤنسة، ومهيجة بشغف الامتداد، والتوسع، والاكتشاف، والاستغراق في الجغرافيات المتعددة، الآهلة بالتنوع البشري، والثقافي، والطبيعي.
وما يفتأ الشاعر يحيل على أمكنة مرجعية معروفة لدى القارئ العربي والمغربي تحديدا، وهو يواصل رحلته الشعرية المتعددة الأبعاد الرمزية والتخييلية والوجدانية، واصفا تضاريس المكان المرجعي، والأثر الذي يتركه في نفسية مرتاديه، محددا إياه باسمه تارة، من قبيل (ميشليفن)، أو محيلا عليه من خلال مواصفاته، ومعالمه، وآثاره التاريخية والمعمارية، ونذكر (أصيلا) على سبيل التمثيل، يقول الشاعر راسما مدينة أصيلا العتيقة، بالكلمات، فتتبدى، كما لو أنها لوحة سياحية مطلسمة بالأساطير، والسحر، والبهاء: (بائع التحف في زنقة سيدي الطيب، الزنقة الأخيرة قبل برج القريقية، قفل المدينة من البحر، يرحب بالعابر بلازمة رقيقة: تفضل، ادخل، من لا يشتري يتنزه)(10)، ويحيل كذلك، على كثير من المواقع السياحية بـ”معلم” القصبة، الذي يوجد في أكثر من مدينة مغربية، حتى أنه تكاد تكون لكل مدينة أو قرية مغربية قصبتها المنتصبة مثل حارس أسطوري، يقول: (من شرفة القصبة، كل شيء لامع وساكن: البحر والنوارس، السور وأحصنة العربات، الأشجار والمارة، كل ما تراه العين يستريح في الظلال…)(11)، ثم إنه يحدد المدينة المنشودة أحيانا، يقول: (الليلة في قصبة المهدية، التقيت ببيكاسو يطعم طيور الكركي/ سألته عن لوحاته، فقال: أنا سجان هواء…)(12)، كما أن الوهيبي يومئ في قصائده إلى حادث مأساوي حقيقي وقع بحديقة الحيوانات بتمارة المغربية، يقول: (حمل الفيل حجرا بخرطومه، ورمى به رأس الطفلة الصغيرة، فأسلمت الروح غافية على كتف أبيها، هكذا رأى زهير ابن أبي سلمى الموت: خبط ناقة عمياء)(13).
تؤسس هاته المجموعة لوعي شعري جديد، بقدر ما يسعى لتجريب أشكال الكتابة، فهي تسعى إلى تعميق الكثافة الدلالية، واختصار العوالم، ورفد المرجعيات النصية، انسجاما مع الصيرورة الأجناسية، وتحولات الفكر النقدي، وانفتاح النصوص، والأنواع على بعضها، وتجاور المتنافرات الجمالية والشكلية، لكنها، في الآن نفسه، تحرص على الدفق الشعوري، وانبثاق الذات الفردية والجمعية، وخصوبة الخيال التصويري، بما يتناسب وروح القصيدة، مشبِعة نفسها بما يغنيها من أهوية أنواع، ونصوص أخرى، ويفتح أفقها الدلالي والرمزي، ويجعل القبض على اللحظة الزمنية الإنسانية أمرا ممكنا، من خلال اللغة، والعبارة، والصورة الشعرية، دون أن ترى حرجا في استلهام خصوصياتها من السرد، والوصف، والتأمل الصوفي، والاسترجاع الذاكري، والكثافة التناصية، وغيرها…
1 – أحمد الوهيبي: رداء الديك، سلسلة كتاب نزوى، مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان، سلطنة عمان، الإصدار 43، يوليوز 2019م، ص. 17.
2 – رداء الديك، ص. 23.
3 – سعد إسماعيل شلبي، البيئة الأندلسية وأثرها في الشعر، عصر ملوك الطوائف، دار النهضة، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1978م، ص. 100.
4 – رداء الديك، ص. 46.
5 – رداء الديك، ص. 60.
6 – المصدر نفسه، ص. 26.
7 – رداء الديك، ص. 21.
8 – جودت الركابي، الطبيعة في الشعر الأندلسي، مكتبة أطلس، دمشق، سوريا، الطبعة الثانية، 1970م، ص. ص. 50- 52.
9 – المصدر نفسه، ص. 12.
10 – المصدر نفسه، ص. 28.
11 – المصدر نفسه، ص. 39.
12 – المصدر نفسه، ص. 54.
13 – المصدر نفسه، ص. 37.
—————
————————————————————
—————
————————————————————