كنت أعرفه بالاسم فقط!.. اسمه الثلاثي باتساقه اللافت، والمنغّم؛ جبرا إبراهيم جبرا.
لم أقترب من كتبه حتى سن الثانية والعشرين على الرغم من هَوَسي المبكر بالقراءة، وشغفي بالأدب والفنون، وحلمي في أن أحترف الكتابة، وأغدو، يوماً ما، روائياً.. وقد يكون سبب ذلك العزوف عدم وضوح صبغة جبرا السياسية بالمعايير التقليدية التي كانت سائدة آنذاك. وكنّا جيلاً تخطف أبصاره (في ذلك الوقت) بريق اليسار والرومانسيات الثورية، وتدوّي في قاموسه مفردات النضال والكفاح المسلّح والتحرير والوحدة ومقاومة الإمبريالية والوعي الطبقي والاشتراكية والالتزام والتقدمية، الخ…
في ليلة شتوية جلب صديقي الذي يشاركني الهمّ الإبداعي والسكن في الغرفة نفسها بالقسم الداخلي، في حي المستنصرية ببغداد، وكنا طلبة جامعيين، نسخة من رواية (البحث عن وليد مسعود) الصادرة لتوِّها عن دار الآداب ببيروت. كان ذلك في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وكنّا، أنا وهو، نقضي ساعات طويلة في القراءة وتسويد أوراق كثيرة بقصائد نثر رومانسية، أو قصص قصيرة سرعان ما نمزقها.
في البدء راهنته على أنه لن يستطيع إكمال قراءة رواية (ظننتها مملّة) بهذا الحجم. قلت له: سأدفع نصف ثمن الكتاب إذا وصلتَ حتى الصفحة الأخيرة. وحين انتهى منه في يومين أو ثلاثة راهنني على أنني لن أجرؤ على رمي الرواية جانباً بعد قراءة فصل واحد منها. قال؛ إذا واصلت القراءة حتى الخاتمة ستدفع النصف الثاني من ثمن الكتاب. وأعترف أن صديقي ذاك، واسمه خالد (رحمه الله، فقد توفي في تسعينيات الحصار على أثر مرض في كليته لم يمتلك ثمن العلاج) قد كسب الرهانين معاً.
لم أحتج إلى قراءة فصل كامل لأقرر الاستمرار بالقراءة.. كانت الصفحة الأولى كافية. أو ربما المقطع الأول القصير حيث يستعيد الدكتور جواد حسني، من الذاكرة، جملاً قالها له، في زمن ما، صديقه المختفي لأسباب غامضة، وليد مسعود ويعلّق عليها:
«تمنيت لو أن للذاكرة أكسيراً يعيد إليها كل ما حدث في تسلسله الزمني، واقعة واقعة، ويجسِّدها الفاظاً تنهال على الورق.
لعل من حقي الآن أن ألجأ إلى عبارة وليد مسعود هذه التي كثيراً ما كررها في أشهره الأخيرة. نحن ألعوبة ذكرياتنا، مهما قاومنا. خلاصاتها وضحاياها أيضاً. تسيطر علينا، تحلّي المرارة، تراوغنا، تُذهب أنفسنا حسرات، عن حق أو غير حق. كيف نمسك بهذه الأحلام المعكوسة، هذه الأحلام التي تجمِّد الماضي وتُطلقه معاً، هذه الصور المتناثرة أحياناً كالغيوم فوق سهوب الذهن، المضغوطة أحياناً كالماسات الثمينة بين تلافيف النفس؟».
ومنذ هذه اللحظة أنبأني حدسي بأن رؤيتي إلى فن الكتابة، لاسيما السردية منها، تغيّرت بعمق. وإني تأثرت، بهذه الدرجة أو تلك، برواية جبرا هذه، بعدما فتنني شكلها الفني، وأسلوبها في تقديم الشخصيات وسرد ألأحداث، ناهيك عمّا تنطوي عليه من ذخيرة ثقافية. ولمّا فرغت من قراءتي الأولى للرواية خمّنت أنني سأعود إليها مثنى وثلاثاً ورباع.. وقد كان!.. ليس هذا فقط، فثمة كتبه الأخرى؛ مؤلفاته وترجماته، المنقّعة بالثقافة والمشبعة بعصير الفن، والتي ساهمت إلى حد لا يستهان به في تشكيل ثقافتي، ووعيي الفني. ولعلّها أثرت، أيضاً، بنسبة ما، على لغتي وأسلوبي. فليست الكتابة، في النهاية، سوى مجموعة من النصوص المهضومة.
يشير جبرا في كتابه السيري (شارع الأميرات) إلى تأثره بالشعراء الرومانسيين الإنجليز العظام (ووردزويرث، كوليردج، شلي، وكيتس). وفي فصل عنوانه (سيدة البحيرات) يروي حادثة غريبة حصلت له وهو طالب شاب في منطقة البحيرات الخلابة بانجلترا، حيث عاش بعضٌ من أولئك الشعراء وكتبوا فيها قصائدهم.. في مكان ما، منقطع، من تلك المنطقة، يقابل جبرا امرأة فائقة الجمال، كما يصفها، ترتدي فستاناَ أبيض، تسأله عن البلاد التي قدم منها. وحين يخبرها بأنه من فلسطين، ومن مدينة القدس تحديداً، تُصاب بالدهشة، فتشرع بسؤاله عن السيد المسيح طالبة منه أن يردد على مسامعها بعض مقولاته باللغة الآرامية. وهنا يتعثر جبرا بين قليل من الآرامية وكثير من العربية.. تلمس وجهه بأصابعها، وعلى ملامحها علامات الخشوع، ثمّ تبتعد ووجهها إليه حتى يغيّبها منعطف قريب. يستفيق الفتى من ذهوله، متذكراً أنه يحمل كاميرا قديمة ويفكر أن يلحق بها ليلتقط لها صورة يثبت من خلالها للآخرين أنه قابل مثل هذه المرأة في ذلك المكان المعزول، لكنها تكون قد اختفت.. ولن يعثر عليها بعد ذلك أبداً. غير أنه، وكما يؤكد، لم ينسها حتى لحظة كتابته لهذا المشهد الرؤيوي المشبع بالروحانية والشعر. والذي يصوِّره بوصفه تجربة واقعية مرّ بها.. كان غارقاً في قراءة ووردزويرث لمّا لاحت له مثل ملاك ضال. ولا أدري إن كانت المخيلة قد اشتبكت مع الواقع في لحظة تجلِ ساطع. أو أن الأمر حدث مثلما يقول. وأرى أن هذا المشهد الذي يصوِّره بهذا القدر من الصدق، وبهذه الرهافة، ينطوي على مغزى عميق، يفسِّر جانباً من طبيعة النزعة الجمالية وفلسفتها عند جبرا، والتي بقيت مشرّبة بشيء من الرومانسية حتى آخر نتاجاته الإبداعية، والمتمثلة برواية (يوميات سراب عفّان) وهي قطعاً ليست رومانسية سطحية ومبتذلة. بل هي تعبير عن الطاقة الروحية الخلاّقة، ببعدها الإنساني الحميم التي حملها بين أعطافه، وكانت مسؤولة عن تنوع أعماله وغناها وبهائها.
ومثلما فعل المقطع الأول من روايته (البحث عن وليد مسعود) سرت في بدني قشعريرة وأنا أقرأ جملة الاستهلال في رواية السفينة:
«البحر جسر الخلاص. البحر الطري، الناعم، الأشيب، العطوف. وقد عاد البحر اليوم إلى العنفوان. لطم موجه إيقاع عنيف للعصارة التي تقذف في وجه السماء بالزهر والشفاه العريضة والأذرع الممتدة كالشراك اللذيذة. البحر خلاص جديد».
بعد ذلك قرأت أعماله الروائية الأخرى تباعاً؛ (صراخ في ليل طويل، صيادون في شارع ضيّق، الغرف الأخرى)، ومن ثم أتيت على قصصه، وقصائده. ولم أحب قصائده. ربما لأنني قرأتها من غير روية فلم تترك تأثيرها الكبير في نفسي. أو لأن جبرا، ببساطة، لم يُخلق لكي يكون شاعراً، غير أنه كان شاعراً يبهج النفس في نثره السردي، ومقالاته وترجماته. أما ترجماته لشكسبير فقد كانت لي زاداً معرفياً غنياً اغترفت منه مرات عديدة.
j h j
آخر ما قرأت من كتب جبرا إبراهيم جبرا كان رواية (يوميات سراب عفّان).. لم تصل نسخ من الرواية إلى مكتبات بغداد قط، فقد صدرت، عن دار الآداب ببيروت، في ذروة سنوات الحصار الاقتصادي، ولم يكن استيراد الكتب، بطبيعة الحال، من أولويات الحكومة آنذاك. ولم يقيّض لي الفوز بنسخة منها حتى عثرت عليها بنسخة إلكترونية (pdf) على الشبكة العنكبوتية قبل أشهر. وحالاً، بعد أن أصبحت متاحة بدأت بقراءتها، بخلاف مئات الكتب الأخرى، المنتظرة، التي أحتفظ بها في ذاكرة حاسوبي، ولا أدري متى سيتوفر لديّ الوقت لقراءتها.. ناهيك عن ركام هائل من المطبوعات الورقية الجديدة التي تزدحم بها مكتبتي.
صحيح أنني لم أفتقد نكهة كتابات جبرا في هذه الرواية، لكني بصراحة افتقدت سحر عوالمه القديمة وتعقيدها لاسيما في روايتي؛ (البحث عن وليد مسعود) و (السفينة). وبتواضع أقول؛ أن رواية (يوميات سراب عفّان) لم ترق إلى مستوى منجز جبرا الإبداعي، على الرغم من أنها رواية تمتلك مواصفات ولغة وأسلوب العمل الناجح. ومن يقرأها سيوقن أنها دوِّنت بيراع كاتب محترف، ضليع بتقنيات السرد الروائي وفنونها.
ربما تكون رواية (الصخب والعنف) لوليم فوكنر بترجمة جبرا إبراهيم جبرا أكثر كتاب ملهم قرأته. وكافحت طويلاً من أجل ألاّ يترك بصماته الواضحة على أسلوبي.. وهو كتاب قرأته سبع مرات، سنة بعد سنة، وعدت إليه مرتين أو ثلاثاً فيما بعد. وما زلت أستله من مكتبتي بين الحين والحين. أفتحه بشكل عشوائي وأقرأ منه، مأخوذاً بلغته وتقنياته وأنساقه السردية، بضع صفحات.
قيل أن ترجمة جبرا للرواية لم تكن أمينة تماماً. وأن جبرا أضفى عليها من روحه الإبداعية. واستخدم مفردات وجملاً مغايرة عن الأصل، لكنها تتساوق مع ذائقته وحسه الجمالي. قلت: وماذا في ذلك؟. وفي مرة كتب أديب (لا يحضرني اسمه الآن) أنه قرأ الرواية بلغتها الأم، ومن ثم قرأ ترجمة جبرا لها، فوجد الأولى رائعة، لكن الثانية المترجمة كانت أروع من الأصل. وجبرا نفسه تأثر بأسلوب فوكنر. ومن لم يتأثر بأسلوب فوكنر!، بدءاً من دوريس لسنغ وماركيز، وليس انتهاءً بتوني موريسون؟. فكثر من الروائيين خلب ألبابهم فن ذلك السارد الأمريكي الجنوبي الساحر. يقول جبرا، في كتاب (حوارات في الرواية؛ د. نجم عبد الله كاظم) عن فوكنر أنه «عملاق رهيب وصعب.. لقد سحرني بتجربته الأدبية، وهي تجربة من رأى الرعب، ورأى المأساة، وأحس بآلام البشرية مثلما أحس المسيح بها، وصوّرها على هذه الطريقة. ترى عنده نذالة البشر وخسة الإنسان. ترى الروعة وتجد وراء تلك الروعة الفجور والشبق والقتل. وهو في تصويره لك هذا فنان خارق بقدرته..».
j h j
في الشارع الثقافي العراقي، في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، بزغ اسم عبد الرحمن منيف روائياً. وأذكر كيف احتفينا بروايته الصادمة (شرق المتوسط). ومن ثم رحنا نقرأ بنهم رواياته الأخرى (حين تركنا الجسر، النهايات، الأشجار واغتيال مرزوق، رحلة إلى الشرق، قصة حب مجوسية). ولكن حين شاع في الصحافة خبر إصدار رواية بتوقيع كاتبين علمين هما (جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف) تولتني مشاعر متباينة؛ الدهشة والغبطة والفضول. وبقيت أترقب هذا العمل الفريد حتى حصلت على نسخة منه.. كان العنوان بحد ذاته محيّراً: (عالم بلا خرائط). وتساءلت في سرّي كيف لجبلين أن يلتقيا؟. كان لكل منهما عالمه الروائي الخاص، وأسلوبه ولغته وموجهاته الإيديولوجية المختلفة.
في ذلك الحين كانت الحرب العراقية الإيرانية حامية الوطيس. وكنت جندياً في الجبهة مثلي مثل غيري من شباب ذلك الجيل. وهناك، عند الخطوط الملتهبة، وفي جوف مدرعتي قرأت تلك الرواية التي لم تعجب الكثيرين، لكنها أعجبتني، على الرغم من أنني وجدتها أقل قيمة فنية من أعمال مؤلفيهما الأخرى.. كانت القراءة تمنحني العزاء أمام شبح الموت المتربص، وكنت أهرب معها إلى عوالم بديلة متخيلة فاتنة. ورواية (عالم بلا خرائط) كانت أحد تلكم العوالم. ويبدو أن الكاتبين الكبيرين فكرا بمشاريع روائية مشتركة أخرى وخططا لها.. يقول منيف: «كنا نؤمل أن يسعفنا الزمن، ويكون كريماً معنا، لكي يساعدنا على إنجاز كل أو بعض ما كنا نحلم به، لكن الزمن قادنا في شعاب ملتوية، طويلة، وجاءت بعدها الفواجع، خاصة الحروب، لتعجِّل برحيل جبرا، ولتبقى الأفكار والمشاريع مجرد أحلام على الورق عبرت رؤوسنا في شارع الأميرات أو في غابة بولونيا الباريسية!». وبعد ذلك بسنين قليلة رحل منيف، هو الآخر، عن عالمنا، ليلحق برفيق دربه الإبداعي في ملكوت الرب.
j h j
أعود إلى أول مرة شاهدت فيها جبرا إبراهيم جبرا؛ إلى ليلة من ليالي تشرين الثاني 1988. بعد انتهاء عرض مسرحية (العاصفة) لشكسبير على مسرح الرشيد ببغداد.. كانت الرؤية الإخراجية للمسرحية غير تقليدية، مبنية على تكنيك ما يُعرف بمسرح الصورة، وضاجة بالحركات البهلوانية والرقص والصراخ.. كان جبرا يمشي إلى جانب الشاعر الراحل يوسف الصائغ والذي كان مديراً عاماً لدائرة السينما والمسرح، وهما في طريقهما إلى خارج القاعة.. كانت علامات عدم الارتياح بادية على وجه جبرا، والتقطت أذناي عبارة واحدة قالها بانفعال واضح للصائغ وهما يمرّان بالقرب منّي: هذه رؤية جنونية لشكسبير.
لم ألتق جبرا وأتحدث إليه سوى في مناسبة واحدة. كان ذلك خلال مهرجان المربد الشعري في بغداد خريف العام 1989. وكنت أحضِّر لمشروع كتاب مع صديقي الشاعر يحيى البطاط موضوعه الشرارة الأولى التي قدحت حجر الإبداع عند كبار المبدعين العراقيين. وكنّا، ولا نزال، نعدّه أديباً عراقياً. وقد أعددنا ورقة نوجه فيها أسئلة بعبارات مزوقة للكتّاب بهذا الخصوص ليجيبوا عنها. وذلك المشروع لم ير النور لأسباب شتى، أهمها تقلّبات الحالة السياسية في العراق وانعكاساتها على ظروفنا الشخصية والاجتماعية، ومن ثم على مشاريعنا الثقافية.
لم نكن نعرف شيئاً عن خصاله الشخصية، وتوقعنا أن كاتباً كبيراً ومشهوراً مثله ربما يكون على قدر من التعالي والنرجسية. وقد يعتذر لنا بكلمات جافة. غير أن ابتسامته الرائقة وترحيبه المهذب بنا ونحن نستأذنه للحديث جانباً جعلنا نتشجع ونطرح عليه الفكرة بوضوح. فوجئنا بحماسه لمشروعنا، غير أنه اعتذر عن الكتابة بسبب كثرة مشاغله في وقتها. قلنا له، لا نريدك أن تكتب شيئاً جديداً. فقط اسمح لنا أن نأخذ نص الفصل الذي نشرته في مجلة الأقلام بعنوان (البئر الأولى)، وهو العنوان الذي سيتخذه كتابه السيري فيما بعد… قال بمرح، وابتسامته ما زالت حاضرة؛ هذا رائع، لكم الإذن، ولكن بشرط ألاّ تغيرا شيئاً من النص. فقلنا؛ وهل نجرؤ؟ فأطلق ضحكة صافية، وصافحنا، متمنياً لنا التوفيق.
وذات نهار شتوي، من أوائل التسعينيات، لمحته مقبلاً من شارع فرعي، يرتدي كنزة صوفية غامقة الزرقة وبنطالاً قطنياً رصاصياً.. ظهره محني قليلاً، ملامحه مجهدة، حزينة، وخطواته متأنية، ثقيلة نوعاً ما.. يا الله، كم فقد في غضون سنتين أو ثلاث من حيويته وانشراحه؟. كنّا في زمن الحصار الاقتصادي وبغداد نزفت كثيراً من عافيتها ورونقها.. كنت، ساعتها، أنتظر في موقف للحافلات في منطقة المنصور صديقاً، ورحت أتساءل في سرّي، ترى إلى أين يذهب الأستاذ في هذا الوقت المبكر من صباح بارد؟ وقبل أن يصل إلى حيث أقف دلف إلى متجر واشترى شيئاً وعاد أدراجه من حيث أتى. وخمنت أن داره قريبة من المكان. وللحظة فكرت أن ألحق به لأسلِّم عليه. غير أني لم أفعل.. وندمتُ، فيما بعد، لأني لم أفعل. ربما لأن غصة مفاجئة دهمتني في صدري فخشيت أن أتلعثم، أو أن تفضح نبرتي ما أشعر به من ألم، قد يعدّها شفقة لن يرتضيها لنفسه منّي.. عرفت أن المحنة التي أصابتنا جميعاً في الصميم أصابته هو الآخر. وكان بإمكانه أن يترك العراق ويغادر، لينعم هناك بعيش طيب، مثلما فعل آخرون، لكنه لم يفعل.. بقي في بغداد ومات فيها، بعد سنتين من ذلك اللقاء العابر.. ودفن في مقبرة محمد سكران الموحشة والكئيبة.
صورته تلك، في ذلك النهار الكالح الحزين ما زالت عالقة في ذهني، أستيعدها كلما ذكّرني به أمر ما.
j h j
في منظورنا الحماسي المشوب بانفعالات مراهقتنا السياسية صنّفنا جبرا إبراهيم جبرا في ضمن خانة البرجوازية. وشخصياً، لحسن الحظ، فطنت مبكراً إلى أنه بحضوره الأدبي والمعرفي الكاريزمي كان يشكّل ضرورة لا غنى عنها في مرحلة من تاريخنا الثقافي الحديث. كان واحداً من أعلام الطبقة الوسطى المدينية المتنورة. من تلك النخبة العظيمة التي أرست دعائم ثقافة عراقية حديثة منذ مطالع الخمسينيات. وكان جبرا أحد أولئك الذين رسخوا في ثقافتنا المعاصرة قيم الحداثة والتنوير، لاسيما بعد أن مارس دوراً طليعياً (ريادياً) في تجديد أساليب ورؤى فنون عديدة، في مقدمتها الكتابة الأدبية والفن التشكيلي، وترجمة عيون من التراث الأدبي والفني والنقدي إلى اللغة العربية. وما زلت مع غيري من أبناء جيلي أنظر إلى جبرا بوصفه شخصية مبدعة تنتمي إلى تلك الكوكبة الارستقراطية (ليس بدلالتها الاقتصادية والاجتماعية الطبقية، وإنما عبر وظيفتها الثقافية)، وبحسب جوليان بندا، إلى تلك (الفئة من الفلاسفة الملوك) التي وازعها خلق مجتمع راقٍ، متحضر ثقافة وسلوكاً ومنجزاً وذائقة. وسيعلمنا جبرا في كتابه (البئر الأولى) الذي يحكي عن السنوات الثلاث عشرة الأولى من حياته إنه لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب. بل عاش طفولته وهو يعاني مع عائلته غائلة الفقر والحرمان. وكان عصامياً فذّاَ وهو يشق طريقه في دروب الحياة، وفي دنيا العلم والمعرفة والأدب والفن.
كان حديثاً.. كان قطباً من أقطاب الحداثة، وأحد سفرائها الكبار النادرين في وسطنا الثقافي.. هنا نتكلم عن الحداثة الحقيقية التي يمكن غرس بذورها في البقعة الصحيحة من التربة الصالحة للإنبات، مع افتراض توفر شروط موضوعية (لم تتوفر دائماً). كان يبغي الحداثة المستمرة، الشاملة، واعياً تماماً أن الحداثة ليست محض أشكال غريبة، وموضات براقة، وتزويقات سطحية، ومعمّيات كما توهم بعض الأدعياء. وإنما هي قيم ورؤى متقدمة، ونزوع إلى الجدة والابتكار، ومشروع ثقافي له صلة بالتنمية الاجتماعية، والتأسيس المديني، وبناء المجتمع والدولة الحديثين.
لا أظن أن جبرا أخذ المكانة اللائقة التي يستحقها في الفضاء الثقافي العربي. والعلّة في ذلك، مثلما يبدو لي، هو نزعة التصنيف البائسة التي طبعت رؤى ومواقف القائمين على الإعلام والثقافة العربيين. وكان مستقلاً أبداً، حاضراً في منتصف المسافة، وأحياناً خارج تحديدات المؤسسات الثقافية العربية الرسمية، وتلك المتخمة حد المرض بالأدلجة.. يقول صديق عمره الروائي الراحل عبد الرحمن منيف في تقديمه لكتاب جبرا (شارع الأميرات)؛ «جبرا أحد الذين خرجوا عن السرب، وأكثر الذين رفضوا الدخالة، بالمفهوم القبلي، فقد كان، ومنذ وطأت قدماه أرض العراق عام 1948، جديداً ومختلفاً. إذ بمقدار ما كان نزيهاً ومخلصاً في خدمة الثقافة التي عاش في ظلها، فإنه لم ينكر ولم يتنكر، سواء للثقافة الأوسع، أو لجذوره وبداياته الأولى».
جبرا قامة ثقافية رفيعة وعالية كما تبين في تقويم المثقفين الحقيقيين له، وهذه ميزة اكتسبها من خلال تقديم نتاج إبداعي ثر في حقول إبداعية مختلفة، وليس بمعونة واجهات سياسية وإعلامية بارعة في صناعة النجوم الخلّب. هو الذي ترك إرثاً واسعاً يعدّ اليوم جزءاً من أهم منجزات الثقافة العربية المعاصرة.
تتجلى شخصية جبرا الإبداعية في كتاباته السردية أكثر من أي حقل أدبي وفني ومعرفي آخر. وهذا لا يعني الانتقاص من قيمة مساهماته في تلك الحقول، وأهمها الترجمة. تراه حاضراً في كل جملة يدوِّنها على الورق ويرسلها في عالم الأدب والفكر والثقافة. إن أناقة أسلوبه، وذلك الفيض من الجمال الأخّاذ الذي يغمر به القارئ. والفخامة التي يستشعرها (القارئ) في بنى نصوصه. ناهيك عمّا في تلك النصوص من فرادة في التكنيك، وحذاقة في صياغة الجمل، واستثمار لممكنات البلاغة العربية بمرونة وطراوة ومن غير تكلّف.. أقول؛ إن هذا كله قد ينسيك لوهلة ما يريد أن يوصله إليك من معانيَ وأفكار ورؤى، فتجدك في حالة انبهار وإعجاب بما يكتب حتى وإن اكتشفت، أحياناً، وبعد لأي، أنك تختلف معه في الفكرة والمغزى فيها.
سعد محمد رحيم
قاص وروائي من العراق