خابير مارياس*
ترجمة وتعليق- مراد عباس- باحث ومترجم مصري
قضى حياته كلها في حل لغز(1)..
والد صديقه المقرب، كان يدعى إسحاق كوستاردوي، تلقى في شبابه تهديدا، لعنة، نبوءة. كان يعيش في هافانا، وكان يمتلك أرضًا، وكان رجلًا عسكريًا؛ كان يتباهى بمسيرته وشهرته باعتباره فاتحا، ولم يرغب في الزواج، على الأقل حتى بلغ الخمسين من عمره. في صباح، عندما كان يركب حصانًا، عبر شحاذ طريقه وسأله صدقة، فرفض: مضى قدمًا ونهره بتعجرف، لكن المتسول كان لا يزال قادرًا على منعه بأخذ اللجام وأعلن: «أنت وابنك البكر والابن البكر لابنك البكر أنتم الثلاثة تموتون عندما تكونون في رحلة بعيدة عن أوطانكم. لن تكملوا الخمسين ولن يكون لكم قبر». والد صديقه لم يفعل شيئا، عاد أدراجه، روى الحكاية في بيته وقت الأكل ثم نسي الأمر. حدث هذا في عام (1873)(2)، عندما كان والد صديقه يبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا فقط.
* * *
في عام( 1898)(3) ، عندما كان قد تزوج وأصبح له سبعة أطفال، وكان برتبة مقدم، رأى أن العميد البحري (شلي) أصبح على وشك الانتصار، وأدرك أن كوبا أصبحت على وشك السقوط في يد قوة أجنبية، رفض رؤية علم آخر غير علم إسبانيا يلوح في ميناء هافانا. باع على عجل ممتلكاته، وقرر أن يترك وطنه، وعلى الرغم من أنه لم يغادر الجزيرة أبدا، وكان يعاني من دوار البحر، لكنه أخذ سفينة مع جميع أفراد عائلته متجهين إلى إسبانيا.
عندما مر أسبوع فقط على الرحلة، كان الأمر مروعا، هاجمه هذا المرض الذي أنهى حياته: كان يتأمل متكئًا على حديد سطح السفينة، ويتساءل بفضول عن البلد الذي يعرف اسمه جيدًا، وفجأة، سُمعت ضوضاء مرعبة هرع الجميع إليها شعر بضجة عابرة مع الألم والذهول ثم سقط ميتا. ألقيت جثته في المحيط مع طلقة من المدفع للتحية. كان سيبلغ الخمسين.
* * *
ابنه الأكبر، المسمى مثله إسحاق كوستاردوي، استمر في إسبانيا في عمل عسكري كان قد بدأه بالفعل في كوبا تحت إشراف أبيه. كانت تعاليمه العسكرية أصيلة ولا جدال فيها، ولا ينقصها شيء، ما جعله يصعد بسرعة كبيرة حتى وصل إلى رتبة كولونيل وأصبح مساعدا لفرنانديز سلفستري(4). كان يعيش في مدريد، وكان لديه شعور منذ صغره بالمسؤولية تجاه إخوانه وأخواته القاصرين، يراقبهم دائمًا ويحاول عدم مغادرة العاصمة. في عام (1921)(5)، لم يكن لديه خيار سوى المغادرة لمرافقة صديقه ورئيسه إلى المغرب في خضم المعركة، عندما كانت القوات الإسبانية مشتتة بالفعل ومهزومة من قبل قبائل عبد الكريم(6)، الجنرال كوستاردوي الابن والقائد سلفستري كانا من ضحايا الحيرة والذعر الجماعي والاضطراب، تم عزلهما عن بقية الجنود، وأصبحا بلا مأوى، ولكن شاحنة كان يمكن أن تفي بالغرض للهروب. سيلفستر رفض مغادرة الميدان، ورفض كوستاردوي التخلي عن رئيسه: كان الابن يحاول إقناع رئيسه لإنقاذ حياتهما والهرب في السيارة.
لقد تُرك الجنديان وحدهما قبل الفوضى العامة ولم يتم العثور على جثتيهما مطلقًا. من كوستاردوي عثر فقط على أزرار البدلة العسكرية، وأشرطة رتبة العقيد. كان من المفترض أنهما قد وضعا على الخازوق. كان إسحاق كوستاردوي يبلغ من العمر خمسة وأربعين عامًا. ترك امرأة فقط.
* * *
أعز أصدقائه قضى حياته كلها في حل لغز: لماذا تحققت نبوءة المتسول بالكامل بدقة مطلقة في جزأيها الأول والثاني فقط؟ لم يكن هناك أبدا الابن الأكبر للابن الأكبر. كان التفكير في نسل مزيف أمرا عاديا جدا. كان التفكير فيما إذا لم يتم إنجاز شيء… أو لو كان كل شيء قد تم بالفعل… في كلتا الحالتين، يا لها من راحة بال!
لقد كرس حياته كلها لحل لغز.
* * *
عندما كان كبيرًا في السن ويشعر بالملل من عدم النشاط، كان يحب قراءة الكتاب المقدس فقط. وذات يوم، وهو يعيد القراءة للمرة الألف، توقف حيث قال: كان إبراهيم في السادسة والثمانين من عمره عندما أنجبت هاجر إسماعيل. وتوقف مرة أخرى: كان إبراهيم ابن مائة سنة عندما أنجب اسحق ابنه. وفكر أن ولادة إسحاق قد أعلن عنها الرب قبل وقت طويل من ولادة إسماعيل، ابن هاجر التي كانت بالفعل تبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا عندما أنجبت سارة. قاده ذلك إلى سؤال وتأمل: «أين كان إسحاق في كل ذلك الوقت؟»، منذ النبوءة حتى ولادته؟ ومنذ النبوءة حتى التصوير في الهيئة؟ حسنًا، يجب أن يكون في مكان ما، لأنه منذ ذلك الحين عُرِف به: ليس الرب وحده الذي كان يعلم. بل أيضا إبراهيم وسارة عرفا عنه (7). وحمله ذلك إلى أبعد من ذلك في التفكير، في مشكلته؛ حمله إلى التفكير في أنه: «قد أعلن أيضًا عن حفيد إسحاق كوستاردوي، ولكنه لم يولد ولم يكن سيولد أو لم يكن ليكون مولودا. ولكن منذ ذلك الحين، كان الشحاذ وكوستاردوي نفسه يعرفان عنه أيضًا منذ 1873. أين كان منذ ذلك الحين؟ في مكان ما كان عليه أن يكون.»
* * *
استمر في التفكير في الأمر وكرس بقية حياته لحل اللغز. وعندما كان على وشك الموت، كتب أفكاره على ورقة: «أعتقد أنني سأموت، سآخذ رحلتي الأخيرة. ماذا سيحدث لي؟ إلى أين سأذهب؟ هل سأذهب إلى مكان ما؟ إلى أين سأذهب؟ ألمح الموت لأنني كنت على قيد الحياة وقد ولدت، لأنني ما زلت على قيد الحياة. وبالتالي، فإن الموت غير كامل، فهو لا يشمل كل شيء، ولا يمكن لشيء مختلف عنه أن يمنع وجوده، من هنا يتوقع، ومن هنا يتفكر فيه: يجب أن يكون هناك حل وسط. وحده من لم يولد ينتمي إلى الموت بالكامل، من لم يولد أو يُحبل به. الشخص الذي لا يحمل فيه هو من يموت أكثر من غيره. لقد سافر بلا انقطاع على طول الطريق المتعرج والمعقد: طريق الاحتمال. إنه الوحيد الذي لن يكون له وطن ولا قبر. هذا هو إسحاق كوستاردوي. أنا، وعلى العكس من ذلك ، ليس أنا ».
الهوامش
-1 الهوامش من وضع المترجم
-2 هذا العام يقع ضمن حرب السنوات العشر التي خاضتها كوبا من أجل الاستقلال عن إسبانيا كانت حرب السنوات العشر (: Guerra de los Diez Años) (1878-1868)، التي تعرف أيضًا باسم الحرب الكبرى (Guerra Grande)، جزءًا من معركة كوبا من أجل الاستقلال عن إسبانيا. قاد الانتفاضة مزارعون من أصل كوبي وسكان آخرون. في 10 أكتوبر 1868، أعلن مالك مطحنة قصب السكر كارلوس مانويل دي سيسبيديس وأتباعه الاستقلال، وهكذا بدأ الصراع. كانت هذه أولى حروب التحرير الثلاثة التي خاضتها كوبا من أجل الاستقلال عن إسبانيا.
-3 كانت آخر سنوات الحرب الكوبية الثالثة من أجل الاستقلال عن إسبانيا، وكانت بمشاركة الولايات المتحدة، ما أدى إلى الحرب الإسبانية الأمريكية بعد ذلك.، ومن فضلة القول إن بطل القصة (إسحاق كوستاردوي) كان من الجيش الإسباني الذي يعمل من أجل مقاومة استقلال كوبا عن إسبانيا، إنه يمثل قوى الاستعمار الإسباني، في مقابل ليس فقط قوى التحرير الكوبية، بل قوات المستعمرين الجدد.
-4 الجنرال سلفستر هو مانويل فرنانديز سلفستري، جنرال عسكري إسباني، ولد في مدينة El Caney بـكوبا 16 ديسمبر عام 1871 ،توفي بشمال المغرب في منطقة الريف على يد المقاومين المدافعين عن الريف المغربي الأبطال بزعامة الأمير عبد الكريم الخطابي .
-5 بدأت حرب الريف في عام 1920 وقد استمرت إلى 1927 بين القوة الاستعمارية إسبانيا (وقد انضمت إليها لاحقا فرنسا) وسكان قبائل جبال الريف، وقد حارب سكان الريف، وأوقع الريفيون في البداية عدة هزائم بالقوات الإسبانية باستخدام طريقة حرب العصابات ولكن الأمر تغير بعد ذلك وأسر عبد الكريم الخطابي واقتيد إلى المنفى.
-6 محمد بن عبد الكريم الخطابي (اشتهر ولُقِّب بأسد الريف، ولد في أجدير، المغرب 1882 توفي في القاهرة 6 فبراير 1963، قائد عسكري وسياسي مغربي من منطقة الريف، وكان قائدا للمقاومة الريفية ضد الاستعمارين الإسباني والفرنسي للمغرب، ويعد أول من أشاع استعمال مصطلح المغرب العربي بشكل كبير، بعد أن أسس لجنة تحرير المغرب العربي.
-7 انظر سفر التكوين – الإصحاح الحادي والعشرين – 1 وَافْتَقَدَ الرَّبُّ سَارَةَ كَمَا قَالَ وَفَعَلَ الرَّبُّ لِسَارَةَ كَمَا تَكَلَّمَ. 2 فَحَبِلَتْ سَارَةُ وَوَلَدَتْ لإِبْرَاهِيمَ ابْنًا فِي شَيْخُوخَتِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَكَلَّمَ اللهُ عَنْهُ. 3 وَدَعَا إِبْرَاهِيمُ اسْمَ ابْنِهِ الْمَوْلُودِ لَهُ الَّذِي وَلَدَتْهُ لَهُ سَارَةُ «إِسْحَاقَ». 4 وَخَتَنَ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ ابْنَهُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ. 5 وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ ابْنَ مِئَةِ سَنَةٍ حِينَ وُلِدَ لَهُ إِسْحَاقُ ابْنُهُ. 6 وَقَالَتْ سَارَةُ: «قَدْ صَنَعَ إِلَيَّ اللهُ ضِحْكًا. كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ يَضْحَكُ لِي». 7 وَقَالَتْ: «مَنْ قَالَ لإِبْرَاهِيمَ: سَارَةُ تُرْضِعُ بَنِينَ حَتَّى وَلَدْتُ ابْنًا فِي شَيْخُوخَتِهِ!» 8 فَكَبِرَ الْوَلَدُ وَفُطِمَ. وَصَنَعَ إِبْرَاهِيمُ وَلِيمَةً عَظِيمَةً يَوْمَ فِطَامِ إِسْحَاقَ.
* توفي الكاتب الإسباني الكبير خابير مارياس في الحادي عشر من سبتمبر عام 2022، بسبب مرض في الرئة، عن عمر يناهز السبعين، خابير مارياس الذي يصفه النقاد بأنه واحد من أعظم الكتاب في هذا العصر، حتى قال عنه أورهان باموق «خابير مارياس واحد من الكتاب الذين يجب أن يحصلوا على جائزة نوبل»، وقال عنه إدواردو مندوثا «منذ سنوات قلت إن مارياس أفضل كاتب ما زال على قيد الحياة، ولم يحصل أي شيء لأغير رأيي».
من رواياته: (ميدان الذئب) 1971، (عبور الأفق) 1973، (القرن) 1983، (الرجل العاطفي) 1986، (كل الأرواح) 1989، (قلب أبيض جدا) 1992، (حيوات مكتوبات) 1992، و(فكِّر فيَّ غدًا أثناء المعركة) 1994م، (خلفية الزمن الأسود) 1998، (وجهك غدا) 2004، (المفتونون) 2011، (هكذا يبدأ السيئ) 2014، (فينسيا) 2016، (جزيرة بيرتا) 2017. الواضح أنه كان مغرما بأخذ بعض عناوين رواياته من أعمال شكسبير.
ومن أعماله القصصية: (بينما هما نائمتان) 1990، (عندما كنت ميتا) 1996، (طبع سيئ) 1996.
وقد ترجمت أعماله إلى كثير من لغات العالم، والقصة التي بين أيدينا، من مجموعته القصصية الأولى (بينما هما نائمتان).