شُغف راينر ماريا ريلكه 1875 1926 بالعوالم الروسية في سنّ مبكرة سبقت حتى زيارته الأولى إلى روسيا في ربيع سنة 1899. ولعلّه قد بدأ بالتعرّف إلى أعمال ليف طولسطوي في سنّ السادسة عشرة عندما كان لا يزال تلميذا بالأكاديميّة التجاريّة في لينتس. بعد ذلك سيتعرّف إلى إبداع إيفان تورغينف وفيودر دسطَيَّفسكي وغيرهما.
يوم 12 مايو 1897 سيتعرّف راينر إلى إحدى أهمّ الساحرات في حياته: لُوو أندرياس سالومي 1861 1937
هذه الأنثى، بنت الجنرال بالجيش الروسي غوستاف سالومي، ستأجّج نيرانا لن تنطفئ في القلب الباحث عن الحرائق. منذ تلك اللحظة ستصبح كلّ الطرق الممدودة أمام ريلكه تؤدي إلى روسيا. لوو ستغير حياته وحتى اسمه.
الرحلة الأولى إلى روسيا من أبريل إلى يونيو 1899:
في 27 من إبريل 1899 يصل ريلكه إلى موسكو صحبة لُوو وزوجها البروفسور ف. ك. أندرياس المتخصص في الأديان الشرقيّة. نكتفي، دون التوقّف عند حيثيات هذه الرحلة، بالتركيز على لقاءات ريلكه بسحرةٍ آخرين.
منذ وصوله سارع رايْنَر إلى لقاء التشكيليّ ليونيد بسترناك والد الشاعر الروسي القادم بوريس بسترناك (الشاعر ومؤلِّف رواية دكتور جيفاغو) وسلّمه رسالة توصية ترجوه التدخل لدى ليف طَلسطويْ مالئ الدنيا في ذلك الوقت (صاحب الحرب والسلم وآنا كارينِنا…) لاستقبال الشاعر الشاب ريلكه.
في اليوم التالي لوصولهم حلّ ريلكه ولُوو وزوجُها ضيوفا ببيت طَلسطويْ في موسكو حيث استقبلهم الشيخ الذي كان في حرب طعان مع الكنيسة ومع السلطة الروسيّتين. لم يستطع طَلسطويْ أن يشارك ضيوفه ذلك الانبهار والاحتفاء بكلّ ما هو روسيّ بل إنّه، على ما تتذكّر لُوو سالومي، عارضهم بشدّة وألحّ في إقناعهم بعدم التسليم بجميع الترّهات الروسيّة. سُحِر ريلكه بشخصيّة
طلسطويْ الفذّة، حيث كتب في اليوم التالي رسالة إلى والدته يخبرها فيها: «دُعينا البارحة إلى الكونت طَلسطويْ لشرب الشاي وقضينا عنده ساعتين. كم لمسنا من طيبته وإنسانيّته. وكم غمرتنا بساطته كما لو أنّنا بوركنا من قبل هذا الشيخ العظيم الذي يعرف كيف يُعرب بروح شبابيّة عن رضاه وعن غضبه».
بعد قضاء أسبوع كامل في موسكو يغادر ريلكه وصاحباه إلى سانكت بيتربورغ، بتراء الشمال، حيث يواصل الشاعر غرقه في اللجج الروسيّة. يهتمّ ريلكه بمدرسة الرسم الروسيّة منذ عصور الأيقونات القديمة حتى آخر الاتجاهات الفنية في الرسم. وهناك في بيتربورغ يزور الرسام الروسي الشهير إيليا رَيْبِن ويكتب في نفس اليوم- 18 مايو 1899 – في رسالته إلى صديقته الروسية يلينا فاروننا: «كنّا اليوم عند ريْبِن وكم كان ذلك رائعا. إنّه فنّان بالسليقة… كما ترَيْن رَيْبِن هذا روسيّ وكلّ الروس الأصيلين هم أناس يقولون في غبش الأصيل ما يتستّر عليه الآخرون في وضح النهار. لُغتكم بالنسبة إليَّ هي صوتٌ لا أنوي البحث له عن معنى، هناك ساعة من الزمن يصبح فيها الصوت معنًى وصورةً وكلمةً. وأنا أعرف الآن أنّ هذه الساعة روسيّة وأنّني أحبّها جدا».
يقضي ريلكه أيّامه بين موسكو وسانكت بيتربورغ، بين الكلمات الروسيّة الجديدة ومجاميع فنّ الرسم حيث يؤكد في إحدى رسائله بأنّ دراسة هذه «الأشياء الروسيّة» ستكون شغله الشاغل لفترة طويلة مقبلة ويضيف: «وهكذا تشعرين أيّة أهمية قصوى تمتلك بالنسبة إلي هذه الأسابيع الروسيّة. لقد أصبحتُ فنيّا أقوى وأغنى بكامل هذا المدى غير المنظور وأنا أعود إلى بلدي على رأس قافلة من الغنائم، طويلةٍ وغير بادية اللمعان». (إلى ي. فروننا، 9 يونيو 1899)
أصيب ريلكه نهائيا بمرض الحنين الروسيّ وسيسمّي هذه الشساعة الطيبة وطنا سيحلم بالعودة إليه وحتى بالعودة النهائيّة. لن يغادر راينر ماريا ريلكه روسيا قبل أن يحملها معه: «أعبر الحدود الآن بقلب مثقل جدا ولا أجد المواساة إلاّ في شيء واحد: أنا في داخلي طافح بروسيا ومفعم بروائعها إلى درجة يصعب معها أن ألحظ أيّ شيء عندما أصبح وراء الحدود.» (إلى ي. فروننا، 15 يونيو 1899) …
ما بين الرحلتين
لم تفصل الأشهر العشرة بين الزيارة الأولى والثانية إلى روسيا ريلكه عن روسيا بقدر ما وصلته بها. فقد قضاها في دراسة اللغة الروسية وأصبح بمقدوره الآن أن يقرأ الروائع الروسية بلغتها الأم. منذ عودته من روسيا أصبح ريلكه يسكن بجوار لُوو أندرياس سالومي في شمارهندورف ولعلّ هذه الجيرة – بالإضافة إلى كل شيء- ظلّت تشعره بأنّه على تخوم روسيا.
يخبر ريلكه والدته بأنه قد خصص كامل هذه السنة للدروس الروسيّة وأنّه قد التحق بالقسم الروسي في الجامعة المحلية وأنّه «يقرأ كلّ يوم تورغينف باللغة الروسية لمدة ساعتين أو ثلاث ويقرأ عن روسيا باللغة الفرنسية لمدة ثلاث أو أربع ساعات». (إلى والدته، 5 كانون الأول 1899).
باستثناء تورغينف يقرأ ريلكه دَسطَيّفسكي ويعجب أيّما إعجاب بروايته الأولى «المساكين» التي لا يجد لها ما يضاهيها بين الكتب. ثمّ إنّه لم يتوقّف..
الرحلة الثانية إلى روسيا من مايو إلى أغسطس 1900
سيوسع ريلكه هذه المرة جغرافية أمكنته الروسية التي ستشمل العديد من مدن روسية وأوكرانية. سيبدأ بموسكو ثم ينتقل إلى بيت ليف طولسطوي في ياسنايا بولانا. سيزور كييف وساراتوف وسيركب نهر الفولغا المنساب بين المدن الروسية. هذه المرة سيقترب من الشخصية الروسية البسيطة ومن عزلتها وسيزداد إعجابا بكوامنها. سيبقى ريلكه وفيا لذكرى روسيا حتى الأخير وسيعترف دوما بما ألهمته من اقتراب من الإنسان. هناك صفحة روسية ختم بها ريلكه حياته هي ثالوث الرسائل المتبادلة بينه وبين الشاعر بوريس باسترناك والشاعرة مارينا تسفيتايفا في أواخر أيامه سنة 1926 ولكننا الآن نقترح عليكم قصائده الست باللغة الروسية.
أشعار ريلكه الروسية
دخلت روسيا حياة ريلكه الإبداعية من بداياتها مع لوو سالومي إلى آخر سنة من حياته عندما دارت بينه وبين الشاعرة الروسية مارينا تسفيتّايفا مراسلات عاصفة. ولكن ريلكه لم يكتب شعرا باللغة الروسية إلا في تلك الفترة التي تلت زيارته لروسيا برفقة لوو سالومي.
كانت اللغة الروسيّة بالنسبة إليه صوتاً وعندما تقرأ ما كتبه من أشعار في هذه الفترة تلاحظ أنّ نصه لا يخلو من الأخطاء وأنه لم يُجِد هذه اللغة كما كان يجيد اللغة الفرنسيّة مثلا والتي سيُصدر بها جانبا من أشعاره لاحقاً. ولكنّ عدم إجادته ريلكه للغة الروسيّة لم يمنعه من كتابة هذه القصائد بغنائيّة روسيّة واضحة لا نجد أثرا لترجمة الصورة الشعرية فيها، أي أنه لم يقلها بلغته الأم ثم قام لاحقا بترجمتها. بل إنّ حميميّةً روسيّةً ذائبةً فيها تخبرنا بأن الرجل دخل إلى هذه اللغة تماماً قبل أن يتمكّن منها وكأنّه تسلّل إلى هذا العالم الغريب الذي أصبح حبيبا. سيحمل ريلكه من هذه التجربة الكثير من الصور إلى ما سيأتي وسيرحل الصورة الروسية المرتبكة بين دفاتره. من يدري لو أطال ريلكه إقامته في قلب لوو سالومي وروسيا ماذا كان سيكتب بلغة بوشكين بل من يدري لو أطال لاحقاً إقامته في تونس
أو مصر ماذا كان سيترك من أثرٍ بلغة الضاد ولكن ريلكه
الناضج سيُصبِح أكثر انضباطا في دخوله إلى العوالم اللغويّة.
ترجم الكثير من أعمال ريلكه إلى اللغة العربيّة والترجمات عديدة ومختلفة كما هو الحال في ترجمته إلى اللغة الروسية وغيرهما من اللغات بحيث سيصعب أن نحصي عدد ترجمات
مراثي دويينو مثلاً وقد يكون هذا دليلا آخر على الغنى الباذخ لعوالم ريلكه الإبداعية. قد لا تكون هذه الأشعار النادرة التي كتبها ريلكه باللغة الروسية ناضجة وقد لا تضيف الكثير إلى مدونته الساحرة ولكن ترجمتها إلى اللغة العربية ليست ترفاً ولعلّها ستضيف رتوشا إلى صورة ريلكه لدى القارئ العربي الراغب في الاقتراب أكثر من هذا القلق العظيم.
* * *
أشعار ريلكه الروسيّة
ستُّ قصائد إلى لوو أندرياس سالومي
الأغنية الأولى
مساءً… جلست الطفلة إلى البحر
كما تجلس الأمّ إلى وليدها.
كانت تغنّي
وهاهي الآن تنصت
لأنفاسه الناعسة
وتبتسم
لما يغمر ناظريها من السلام والرجاء:
ليست ابتسامة تلك – بل هو بريق
إنّه عيدُ وَجْهِهَا.
سيصبح الطفل بحراً
يتلمّس الأبعاد والسماوات،
هل سيكون كبرياءك أم مأساتك
همسك أم سكونك.. ؟
أنت لا تعرفين منه سوى السواحل
ستجلسين وستنتظرين…
ولك أن تدندني أغنيتك كما تشائين
ولكنّك لن تساعديه
في أن يعيش وفي أن يكون وفي أن يهجع.
29/ 11/ 1900 ، شمارهندورف
الأغنية الثانية
ها إنّني أمشي وأمشي ولا شيء
سوى مسقط رأسكِ. أبعادٌ في الريح…
ها أنا ذا أمشي وأمشي ناسياً
أنّني عرفت فيما مضى ربوعاً أخرى.
كم هي نائية عنّي الآن تلك الأيّام الكبرى
عند البحر الجنوبيّ
والليالي العذبة للغروب في شهر مايو
كل شيء هناك كان فارغا ومبهجاً وها:
يكفهرّ الربُّ …
لقد جاءه المعذَّبون..
وكأخٍ ضمّوه.
1 ديسمبر 1900
الحريق
البيت الريفيّ الأبيض ينام
والعربة انطلقت في اللّيل إلى حيث لا يعلم سوى الربّ.
أُوصد المنزل الصغير في وحدته.
ضجيج وحفيف
لا تقوى الحديقة على النوم بعد المطر.
كان الفتى ينظر إلى اللّيل والحقول
ها هي تتهادى محلِّقةً
تلك القصّةُ بيننا
صامتة وغير ناجزة.
وفجأة أُرتجَ عليه: الأبعاد السحيقة احترقت
وهاهي السماء تحترق …
أطرق الفتى: ما أصعب أن نحيا
وفيمَ لا خلاص؟
الأرض ترمق السماء كما لو كانت متعطشة للإجابة.
5 ديسمبر 1900
الصباح
تذكرين الورود الفتيّة
وهي تفتتح بعينيك صباحَها
قطوفنا دانية
والأبعاد سماويّة اللّون..
ليس لأحدٍ حينئذ في الخطيئة.
ها يومنا الأوّل وقد أفقنا من بين يدي الربّ
حيث خلدنا
كم طال نومُنا؟ لا أدري
الماضي أضحى كلّه خرافة
والذي كان.. قليل جدّا
علينا أن نبدأ الآن
ماذا بعد؟ لا تغتمّي
ولا تخشيْ الهلاك
فحتّى الموت ليس سوى ذريعة
عن أيّ جواب تبحثين بعد؟
ستكون ليالٍ ملأها الصيف
وأيّام نور مشرقة
سنكون نحن
ويكون الربّ.
6 ديسمبر 1900
وجه
لو وُلدتُ فلاّحا بسيطا
لعشتُ بوجهٍ كبير منطلق
ولما حملتُ في تقاسيمي
همّ الفكر
ولوعة الصمت…
لامتلأت يداي بالحبّ والصبر،
لأغلقَهما الكدُّ نهاراً
وأرتج عليهما الليل بالصلاة.
لم يكن أحدٌ حولي ليعرف من أكون.
لَهرمتُ، ولأصبح رأسي
يسبح على صدري إلى العمق، ولتَبَدّى أخفّ
لأنّه لا يسبح ضدّ التيّار.
لكنت أحسست بدنوّ الفراق،
ولفتحتُ ككتاب يديّ
ووضعتهما على الخدّ، والفم والجبين…
لرفعتهما فارغتين ووضعتهما في القبر
ولكن أحفادي سيتعرفون في وجهي
إلى كلّ ما كنتُهُ… ومع ذلك فلستُ أنا ذاكَ،
هناك شيء أعظم وأقوى منّي في تقاسيم الفرح والألم:
إنه الوجهُ الخالد للعمل.
ليلة 6 / 12 /1900
العجوز
الجميع في الحقل: لقد تعوّد الكوخ
على هذه الوحدة. يتنهد
وبيدِ مربّيةٍ حنون
يهدهد الصرخة الهادئة للطفل الباكي.
استلقى العجوز على الموقد، كما لو كان ينام،
وفكّر في ما لم يعد الآن موجودا.
لو كان شاعرا لتكلّم. ولكنّه يصمت،
ليمنحْه الربّ السلام.
هناك بين قلبه وفمه فضاء،
بحر … أكثر قتامة من الدم
وغزال الحبّ
يركض في الصدر منذ آلاف السنين
دون أن يجد لنفسه شفتين، وها هو قد أيقن من جديد ألاّ خلاص،
وأنّ القطيع المسكين للكلمات المرهَقة
جانبَه وهو يمرَّ غريبا إلى النور.
منتصف نهار 7 / 12 / 1900
لَكَم أنا تَعِبٌ من كدّ الأيّام السقيمة
فوق سكون مقلتيَّ
تربض ليلة فارغة لا ريح في حقولها.
لقد بدأ قلبي بُلبلاً،
ولكنّه لم يستطع إتمام كلماته،
وها أسمع الآن صمتي ينمو
كما الفزع في اللّيل
ويكفهرّ كآخر زفرات
الطفل المنسيّ الميّت.
لَكَم أنا وحيد. لا أحد يفهم الصمت:
صوت أيّامي الطويلة
وما من ريح لتفتح
سماوات مقلتيّ الشاسعة.
أمام الشبّاك يوم عظيم
عند الحافة الغريبة للمدينة هناك كهيأة من
يستلقي وينتظر. أتساءل هل هذا أنا؟ تُرَى ما الذي أنتظره؟ وأين هي روحي؟
جمال العرضاوي