«ماذا عسى هذا العالم عندما تحلُّ به، عندما ستولد، أن يصير عليه؟ بكل حال لن يشبه أيا من مظاهره الحالية» (شباب).
في الثالثة فجرا، أخذ ضوء الشمعة يخبو: كل العصافير تصرخ في آن فوق الأشجار: إنها النهاية. ما من عمل. كان عليّ أن أعاين الأشجار، والسماء، وهي في قبضة هذه الساعة الممتنعة عن الوصف، الباكرة من الصباح..
هذه الساعة الممتنعة عن الوصف، هي الساعة الرامبوية بامتياز. ساعة البداية المطلقة، ساعة الولادة. رامبو يستيقظ في نفس الوقت مع الضوء. الثالثة صباحا: إنها اللحظة البرزخية بين الليل والنهار، الأول ينتهي، لكن الثاني لم يبزغ فعليا بعد. وفي هذا القعر الزمني، في هذه الفجوة المحسوسة المسماة فجرا يحدث فجأة انفجار للقوة وللفكر، دفقة مباغتة للوجود. ودفعةً واحدة يتحوَّل الصمت إلى الصراخ، ويتحرك الجمود في ارتعاش أجنحة تخفق بقوة، سحرٌ يغمر الأشجار والسماء. لحظة مدوِّخة وشديدة الالتباس حيث يصل شيء ما إلى خرابه (إنها النهاية، ما من عمل)، لكي ينهض على أنقاضه شيء آخر. إنها اللحظة نفسها، إنها نفس الميلاد الخاطف للفكر مع نفسه، اللحظة التي تصفها رسالة الرائي الشهيرة: «الأنا هي آخر. وإذا استيقظ النحاس ووجد نفسه بوقا، فلن يكون ذلك خطأه …» الآخر، لا نعرف كيف ينحدر من الأنا، لكننا نعرف بأنه «انبثق» دفعة واحدة من عمق الداخل ليصير «في مقدمة المشهد» ويملأه من هياجه. الوحدة القديمة للذات، الوحدة الكئيبة تتصدَّع فجأة وتتحوَّل إلى تعددية عنيفة، وفي نفس التيار تتحرر الأشياء هي أيضا، وتنفلت من جبروت العادة أو العقل. إنها تتفجَّر وتتفرَّق في الأركان الأربعة لسماء غاية في الجدة.
هكذا يتحقق، تحت شكله الأكثر عفوية، الأكثر روعة في فوريته، هذا التحرُّر للحواس وللأشياء المحسوسة، والذي يتوجه نحوه كل التصوُّف الرامبوي. وهو ما تتغنَّى به بشكل لا يمكن نسيانه القصيدة القصيرة: الأبدية.
من أصوات البشر
من اندفاعات العامة
من هذه أنت تتحرَّرين
وتطيرين على هواك…
لكي نَحيا هذه الاندفاعة الخالصة فلسنا بحاجة لبذل أي مجهود: فمن الطبيعي أن يتبدَّل كلُّ فجر كلَّ يوم ويخلق كينونتنا من جديد، ويستعيد للحظة قصيرة الحياة الحقيقية. لكن الفجر الحقيقيَّ لا يدوم إلا ومضة خاطفة؛ فانحداره في الرتابة، في المكرور اليومي، يغدو الكائن داخلهما نهبا للأصوات الإنسانية وللاندفاعات المشتركة. ولكي يسهِّل تحليقه وتحرُّره في الأعالي، يستدعي رامبو «الخلخلة المنظمة والمحسوبة لكل الحواس» وبالرغم من مظهرها المذهل، فلن نترك أنفسنا ننخدع بهذه الفوضى الشهيرة: فهي لا تشكل جوهر المغامرة الرامبوية. فإذا كانت تسعى إلى تشويه الإحساس وتعطيل العادة، والهزء من العقل والجمال، وإذا كانت تسعى إلى إخراج الذات من توازنها والأشياء من أدراجها المنضدة بعناية، فليس ذلك إلا لغاية واحدة، رجرجة الكائن، وإعطائه الفرصة ليحرِّر نفسه، وإذن ليدرك نفسه بنفسه. لكن علينا أن نفهم بأن الخلخلة تشكل نوعا من الرياضة المسبقة الرامية إلى تحقيق غاية أسمى: وهذه الغاية تتجاوزها وتقصيها، ما دام أنها ترمي في العمق بالنسبة لرامبو إلى العثور في، ومن خلال الفوضى على نوع من قاعدة جديدة. داخل تراتبية السلوكات الخلاقة نضع إذن الخلخلة في مرتبة أدنى بكثير من التحرُّر؛ إنها تتمثل فيه الوجه الصلب والحاد، إنها بالنسبة إليه في آن التمهيد والصورة الشائهة، حتى أن طقوسهما نفسيهما يتعارضان: من جانب إرادة ومعاناة، ومن جانب آخر ليونة وعفوية. وكرمز لها يمكن للخلخلة أن تتَّخذ الثؤلول المصطنع والمرعب الذي ينمو على وجه صانعي العاهات comprachicos فيما العلامة المثالية للحياة المتحررة هي الجناح المبسوط والفجر المحلِّق.
«مهتاجا كسرب من الحمام»، ينتفخ الفجر إذن في اتجاه امتلاء هديلي وريشي. يسمو نحو حبور يرتقي وينفقئ فجأة في حفيف طيران، حفيف صرخات أو عبارات. خلْقٌ عجيب في جذريته: لأن لا شيء يشدُّ العصافير إلى الشجرة، لا أجواء ولا ذكريات؛ ولا شيء يجمع فيه بالمثل الصمت إلى الصراخ؛ ليس هناك من جسر يصل داخله الأنا بالآخر. بداية مطلقة، فالفجر المحلِّق ليس مجيئا إلا لكي يكون بهذا المجيء في نفس الوقت قطيعة. فطراوته مجبولة من نسيان شامل: هكذا فأشجار الصفصاف في قصيدة ذكرى، «من حيث تقفز العصافير بلا قيود»، تبقى شاحبة «كفستان أخضر وباهت»، لكن العصافير التي بلا قيود تستمد طاقتها من نشاطها، إذ تندفع بعنف دفقة الدم، وقوة هزيم الرعد. في قصيدة حيوات 1: «تحليق حمام أرجواني يجلجل كرعد حول فكري». وهذا الفكر إذ يكفُّ عند هذا المستوى عن الإقامة الذاتية أو التأمل في ذاته، كذلك الفكر الخاص بشاعر كفيكتور هوغو، أو في تركيز التفكير حول نفسه، أو التبخُّر، أو هدهدة نفسه كفكر خاص بشاعر كبودلير، فإنه ينقذف بعنف في كل التنوُّع الذي للأشياء. فالعصفور حاملٌ وواعدٌ بالاندفاع. وجناحه يبسط السماء كمروحة طريق؛ إنه يعني الفضاء الممزق، والعالم المفتوح.
أحيانا ينفرج العالم فقط: الرباط يرخى دون أن ينقطع، شيء ما يوقف الطيران. كما في «المركب السكران»، الرمز الزائف للهذيان، والذي يجسِّد في مرحلة لاحقة، صعوبة السكْر المطلق والحرية الحقيقية. ففوق المركب، «شبه جزيرة تتقاذف فوق شطآنـ [ها] عراكات ومراوغات العصافير الصاخبة ذوي العيون الشقراء»، وهذه كلها اضطرابات طيران وليست طيرانا حقيقيا. هذه العصافير تبقى على جانب السفينة، التي لا تشكل هي نفسها سوى شبه جزيرة وليست جزيرة: وإذ تظل هذه العصافير مرتبطة بالسفينة فهي لا تملك القوة لمغادرتها، بمعنى القدرة على تدميرها لجعلها تولد من جديد. صالب السفينة لا يتحطم، ولا يمكن أن «يغرق في البحر»، نصف جنونها لا يصل إذن إلى تحرُّره الفعلي من حقيقته القديمة، من هذا العالم المغلق والقاري- «أوروبا بمتاريسها القديمة»- الذي لم يعد أمامها من خيار إلا العودة إليه.
في مقابل التيمة الدينامية للانفجار المجنَّح تنهض التيمة السلبية وغير المشبعة لخلية النحل، أي للطيران المتوقِّف، المائج، ولكن المحكوم في تحركه بالدوران حول مركز ثابت، وغير المسموح له أبدا بالانتشار أو أيضا لتيمة الطنين، الضجيج غير المتميِّز، الذي يفكُّ أسره مع ذلك من الصمت، والذي لم يتمكن من الاندفاع داخل فضاء الأصوات، وأن يولد حقيقة. هكذا في قصيدة طفولة، هذه القصيدة الرائعة عن القلق، نرى متنزِّها يتقدم في مشهد طبيعي للانغلاق، للفراغ والعدوانية: السياجات «هي من العلو بحيث لا نرى إلا القمم الهادرة»، النَّزْل فارغ، والقصر معروض للبيع، والكنيسة مقفلة. حفيف الأشجار هذا يجسِّد حياة سجينة، وطاقة نصف معطلة، وجدّ ضعيفة في كل الأحوال لكي تفجِّر سجنها. «خليَةُ نحلِ أوراق الذهب تحيط بمنزل الجنرال»، «أزهارٌ سحرية تصدِر طنينا»، وهذه الاحساسات تولِّد في آن سحرا وضيقا، ويكفي أن نتذكر بأن العصفور بالنسبة لرامبو هو أيضا ورقة أو زهرة. والكل بدون شك سيتم إنقاذه، و»العجزة» أنفسهم «المدفونون وقوفا في متراس أزهار الخيري» سيبعثون إلى الحياة- ليس عليهم سوى أن يتركوا أنفسهم ليؤخذوا بواسطة انغلاق الأزهار، وأن يجتازوا السور، – لو استطاعت الأشياء أن تتوهَّج وأن تنطلق في تحليقها. إلا أن العكس هو الذي يحدث: فبمقدار تقدُّم المسافر، نرى كل هذه العلامات المحسوسة للرغبة التعسة تختفي من حوله. لا وجود لخلية نحل ولا لطنين: وعما قريب لن يعود من وجود للحفيف، ولا لارتعاش، ولا حتى لزغب للحياة؛ هناك فقط خشونة المظاهر الخارجية: «الدروب وعرة»، فتور هوائي: «الهواء في ثبات»، وهذه الزفرة التي تكشف كليا القيمة الأصلية للعصفور: «كم أن العصافير والمنابع بعيدة.» وأخيرا الخلاصة الحتمية: «سوف لن يكون هذا إلا نهاية العالم ونحن نتقدم».
في أصول العالم كان إذن العصفور-المنبع. لكن قبل هذه الأصول نفسها، كيف كان الواقع الأم، والجناح المطوي، وكيف كانت الطبقة السفلى -النبع؟ «ذاكرتك وحواسك، يغني رامبو للإنسان المحرَّر، لن يكونا إلا غذاء لاندفاعك الخلاَّق»: لكن هذه الاندفاعة التي تتضمن داخلها التوثبَ نفسه الخاص بالحياة وبالشعر، بأي معجزة ستنبثق من التجربة القديمة، وهل ستخرج مسلَّحة بالكامل بالحواس وبالذاكرة؟ لأن الأنا إذا كانت آخر فستكون هي بالضرورة من أنتج هذا الآخر، ومع ذلك فلم يكن بمقدورها إنتاجه، بسبب أن هذا الآخر هو بالضبط آخر، كائن جديد بشكل جذري، غريب بشكل لا يمكن فهمه. «أنا أُفكَّر» يكتب رامبو بصيغة المبني للمجهول، ولكن صيغة البناء للمجهول On، هي أيضا نوع من الأنا، وهذا الفكر سيظل وأكثر من أي وقت مضى فكري أنا. مفارقة لكوجيتو جديد اُفَكَّر، إذن أنا أصير،- تعتبر مفتاحا لكل المغامرة الرامبوية. إن السرَّ الذي يستنطقه شعر رامبو، هو بالضبط ذلك الخاص بهذه الرحلة، بهذا المجيء من الذات إلى الآخر، وهو السرُّ ذاته الذي بموجبه يغدو الليلُ أيضا النهارَ، والماضي المستقبلَ، والعدمُ الكائنَ.إنه سرُّ الخلق.
وهذا ما يجعلنا نرى في «الاشراقات» مجهودا، يعدُّ ربما الأكثر اكتمالا بين كل المجهودات التي بذلت من لدن أيّ من الكتاب المعاصرين، لكي يحيا إنسانيا هذا السرّ. لنعتبرها (الاشراقات) كوصف وتنفيذ لسفر تكوين: تكوين داخلي للآخر انطلاقا من الأنا، ولكن أيضا تكوينا خارجيا لعالم حقيقي انطلاقا من عالم التضليل بالمظاهر، تكوين أخيرا لقوة و«لعافية» و»لاستقامة» جديدة، انطلاقا من الحاجة الميؤوس منها التي كابدها الإنسان المعاصر في سبيل هذه القوة، وهذه الاستقامة، وهذه العافية. ذلك أنه إذا نجح في القضاء على الحقائق الزائفة، فإن رغبة الكينونة تنجح هي أيضا في تحويل الفراغ إلى امتلاء، وفي خلق الكائن. وتشكِّل كل أعمال رامبو تبعا لذلك، محاولة للإجابة على السؤال الشهير المطروح في قصيدة المركب السكران:
أفي هذه الليالي التي بلا قرار تنام، وتنفي نفسك،
يا مليونا من عصافير الذهب، ويا طاقة مستقبلية؟
هذه الليالي التي لا قرار لها، سبق لبودلير أن غاص فيها للعثور على نواة للظل وقلب للكائن: شمس محجوبة، جوهر مفقود، ذكرى زائلة، بِرْكة داخلية، لقد أجهد نفسه دائما للوصول إلى الجانب الآخر المدوِّخ من الذات ومن العالم، لاقتفاء أثر «الإله الذي ينسحب». بيد أن رامبو لم يعد يسعى في أثر الإله، لم يعد يرتقي صوب المنابع: في مراحل لاحقة سيعانق انحدار النهر أو عودة الشموس من مغاربها. من العمق الممنوع يريد أن يقتلع قوته، ومن الليل يريد أن ينتزع شحنته من الضوء، ليقوم بعدها بتحديث هذا النهار إلى ذهب متعدِّد نابض بالحياة، وبنشره وتسليطه أمامه كمستقبل يجاهد للحاق به.
ذلك هو بالضبط المشروع الأساسي للخلق الشعري عند رامبو، تحويل النوستالجيا البودليرية إلى حركة غزو، تغيير الماضي إلى مستقبل، وحرق للحاضر ما أمكن وعلى كل مستويات الكينونة، إيقاظ القوة المستقبلية.
« جسده! التحرُّر المنشود، تحطُّم النِّعمة، المتقاطع بعنف جديد…» هكذا ينبثق العبقري: انبثاق نبوئي، تحرُّر محلوم به، لأنه على خلاف طيران العصافير لا يمزِّق الشكل القديم. فالتحطُّم يقترن داخله بالتقاطع، والعنف ينضاف فيه إلى نعمة يحولها دون أن يدمرها حقيقة. حياة جديدة، إذ تزرع في حياة ماضية، تنهض من القديمة وتتخلص منها دون أن تحدث قطيعة؛ إنها اللذة المنزلقة لتغيُّر المظهر.
لذة متواصلة، تتطور مع الزمن، والتي يمكن إذن أن تكتسب قيمةً مسرحيةً، خصوصا حينما تتَّخذ كموضوع وكمكان لها الجسد الإنساني نفسه. بل وقد يصل الأمر أن يشكل التحوُّل حينها عرضا مسرحيا حقيقيا، بوجود خشبة وجمهور، وراوٍ. هكذا ففي نهاية قصيدة استعراض وفي قصيدة كائن الجمال Being Bauteous. نرى فيهما سلسلة من الإشارات الجسمانية، ــ ارتعاشات، اضطرابات أعضاء، ومضات غريبة للنظرـ تفضح بداية احتدام الهياج الجنسي: بيد أنه في أجساد ممثِّلين أو راقصة حيث يتمظهر هذا الجيشان الجسدي، يتمكن الهيجان من أن ينتظم من خلال تطوُّر تتم مسرحته من خلال عمل ميمي أو رقص، ولعب متزايد في حدته. «العيون تتَّقد، الدم يغنِّي». يرتفع بعدها الجسد، ويزداد في الكبر، «العظام تتَّسع». الراقصة تغادر لاحقا كل السمات التي تجعل منها شخصا بعينه، بل تكف أكثر من ذلك عن أن تكون امرأة: فوق إنسانية، بدون جنس، ترتقي إلى مصاف حياة أكثر اتساعا وأقل شخصانية، وتصبح Being Beauteous «كائنا جماليا طويل الباع»، المكان الخالص والشبه مجرَّد لوجود في طريقه للتحرُّر. ما من شك بأن الذوق الرامبوي الذي له عن العبقري أو عن الحكاية، وعن الكائنات العملاقة المنطلقة العقال كالأسطورة، وبأن حبه للمعمار الهائل المتراكب فوق بعضه بعضا، «للمدينة الفاحشة الازدهار»، باختصار بأن هوسه بالحياة الراقية، كل هذه لا تتوافق مع هذه الحاجة الأساسية للزيادة في حجم الشكل على نحو دائم لجعله ينطلق ويرتقي في شكل آخر، أي جعله دائم التحوُّل. العادي، غير العادي، العجيب، العبقري تلك هي المراحل الأربع لنفس المسلك التقشُّفي المحرِّر. في هذا الكون الموجود في حالة تمدُّد، حيث نزعة العملقة تشير إلى عملية خصوبة جارية، ومثال صانعي العاهات comprachicos يخبرنا مسبقا عن القيمة الخلاقة للرعب: ها هو ذا الآن حيث يحرِّر المتوحِّشُ الإنسانَ من نفسه، ويمكِّنه من أن يصير عبقريا.
الشكل القديم يبدأ إذن بإفراغ نفسه، وبالموت بشكل من الأشكال في ذاته. نشهد عملية تشبيح مسعورة للجسد: «حشرجات موت ودوائر موسيقى مخنوقة تجعل هذا الجسد المعشوق يهتاج، يكبر ويرتعش كمثل شبح». لكن هذا مع ذلك لا يفي بالغرض، فعلى هذا الجسد المضطرب، المطَّرد الكبَر، والمهيَّج أن يقع في النهاية في المدِّ الداخلي الذي يتحكَّم فيه ويدفعه دوما إلى مزيد من التعاظم. فجأة تتفجَّر بشرتُه، ويسيل الدم مثل عصير فاكهة زائدة النضج، ومثل عصير بقايا التُّفل في مكان ضيق داخل جلده. الجرح ليس له أي مدلول سادي عند رامبو: إنه يُريق حياةً، ويَعصر وفرةَ دمٍ، ولهذا السبب فإن الدَّم الذي يسيل يتزاوج غالبا لديه مع صور أخرى للهيجان الفرِح، وللنار التي تشتعل، وللزهور التي تتفتَّح، «تَرِنُّ، تتفجَّر، وتضيء».
ها هي ذي إذن «جراحٌ قرمزية، وسوداء» وهي «تتفجَّر في الأجساد الرائعة»، وهذه الجراح تتَّشح بالسواد، لأن السواد عند رامبو يرتبط دائما بالأحمر، الذي يشكل لديه حالة حدّ: إنه من النوع الأحمر الغامق، الشديد، المبالِغ في حمرته، الأحمر الذي تعد حدته وحدها بمثابة انفجار. لنتذكر بأنه أيضا لون التخمر الفعال، لون «خلجان الظل»، وبأنه يصبغ، في سوناته «صوائت» التحليق الطنان للذباب حول الجثث، وانفجار «العفونة المرعبة»، «حرف أَ، خِصْرٌ مشعّر أسود لذباب مضيئ يطنُّ حول تعفنات مرعبة…»). وفي كل الحالات فهو يؤشر على نوع من التداعي، إنه يصبغ دما مغتاظا. فبعد اللون الأسود، ما من ممكن آخر غير الموت، من خلال الانفجار أو القطيعة، أو غير الانبعاث: وبالفعل، ففي قمة الإثارة الجسدية، نشهد في قصيدة «كائن الجمال» تحرُّرا خفيفا شبيها بالرقص: «الألوان الصافية للحياة تتحوَّل إلى غامقة، تتراقص وتتحرَّر حول الرؤيا، فوق الورشة…». كائن جديد ينبثق من هذا الموت: «يتقهقر، وينتصب»، وهذه الحدة تنتقل بعدواها إلى المتفرج نفسه: «آه! عظامنا يعاد إلباسها جسدا عاشقا جديدا!»، عاشق هو هذا الجسد الجديد لأنه مكون من لحم حرّ، لا حدود له، مفتوح على كل التناضحات، لحم يتلاطم «عبر امتزاج الأشجار بالهواء العليل» وصلا لنوع من الهذيان الطبيعي. التحوُّل يقود آنذاك لخليط من الحياة والمادة، إنه يقرن انخطافا بنفاذية كونية؛ ويشير إلى أول اكتمال لهذه الطاقة التي تسمى، في كمونها، عند رامبو، ب «شباب»، وقيد اشتغالها ب «حبّ».
ألَّا يكون كل شباب رامبو مسكونا بشيء غير الحب، وبغير السعي والتعبير عن نوع من حالة الانخطاف الجسدي، فهذا ما تؤكده بغزارة أعماله الشعرية الأولى. مع أنها مفعمة بوسواس الزغب والتورم والانتفاخ والفيضان، فإن ما يتحكم بوضوح في إعطاء ملامح للأشعار هي: «الشقرة المُرَّة للحب». حتى أن فائدتها الأولى تكمن بالضبط في جعل الحب داخلها يتدثر بالمرارة، ويصطبغ فيها بالجحود. كل شيء يمرُّ داخلها كما لو أن الإيروسية لازالت لم تحظ فيها بالقبول، كما لو أنها تتعرض داخلها للإدانة وتؤدي إلى فعل يثير الاشمئزاز. ونرى فيها بالفعل الرغبة الممنوعة وهي تتعرَّض للخيانة تحت الأشكال الأكثر إثارة للتقزُّز، تلك المتعلقة بالتخمُّر، بالقذارة أو بالأدب البرازي والداعر. الوصف الخاص بالفجور ـ أعضاء وإفرازات ـ ، تفضيل للعفونة، ممارسة الرطانة أو الدارجة، تشكل بالنسبة لرامبو وسائل لإخفاء، ومع ذلك لإبراز طاقته الفتية. وفي هذه الوسائل فإن التدفُّق الأولي يجد نفسه معرَّضا للتدنيس، أو للسخرية: وفيها يجد نفسه مع ذلك، مضمَّنا وبشكل من الأشكال معبرا عنه من خلالها. حينما كتب رامبو مثلا لأحد أصدقائه ـ وهذا في اللحظة نفسها بالذات التي إذ كان يشتغل فيها على الإشراقات، وجد نفسه بنوع من الصوفية، غائصا في تأمل الطبيعة ـ بأن تأمل الطبيعة يمتصُّه بالكامل» فإنه ينجح في نفس الآن في تدنيس نفسه، والعالم، وتدنيس تأمله ولغته. هذا المثال يوضح جيدا بأن الدنيء يولد لديه من عفة مستعادة، وليس من اختيار أول للوضاعة. الفاحش يهين اندفاعة غير منجزة. إنه العلامة على طاقة مازالت تتردد في اختيار التحرر الكامل، أي الحرية المقلقة، التي تحرص على أن تترجم نفسها بشكل غير مباشر ، سلبي، محدثة في حقل اليومي ضيقا مدمرا في آن وكاشفا. باختصار، الأنا الداعرة لا تتجرَّأ بعد أن تفصح عن نفسها في آخر، مع معرفتها جيدا بأنها لم تعد تلك الأنا القديمة. إنها تترك نفسها تتعطَّل بواسطة كل تسهيلات سوء النية.
ألا يحاول رامبو، في الأشعار، تكسير هذه التسهيلات، ألا يجهد نفسه للهروب من إغراء السلبي، ألا يريد أن يترجم وسواسه من خلال وسائل مشروعة؟ النتيجة ليست أفضل: لأنه يكون مطالبا أن يتغنى حينها، كما ينجح في تحقيقه في نفس الوقت شخص ك غلاتيني Glatiny أو شخص ك كوبي Coppée ، على نحو أكثر تكلفا في اللطف وأقل فاعلية، بسحر الطبيعة الربيعية، ومفاتن الفتيات الشابات اللواتي نتطلع إلى تقبيلهن دون أن نجرؤ على ذلك، أن يتغني بعذوبة العصافير التي تزقزق على الأشجار. تفاهة أو غثيان، أو تفاهة الغثيان، أو غثيان التفاهة؛ لا يخرج رامبو الشاب عن هذه الدائرة. بالنسبة له لا توجد خيارات غير تلك المتسمة بالتصنُّع أو بالدعارة، لا منطقة وسطى بين الغائط والزهرة الفتية الزرقاء.
انطلاقا من القصائد الأخيرة على العكس من ذلك، وخصوصا انطلاقا من الإشراقات كل شيء يتغير. يكتشف رامبو أو يخلق ـ التمييز بينهما هنا ليس له دلالة كبيرة ـ مشاهد جديدة تحرِّره في آن من التافه ومن القاموس الغائطي . «سريان النسُغ غير المعروفة»، «الاستيقاظ الأصفر والازرق الفسفوري الشادي»، كل هذا الغليان الخاص بالكائن الذي لم يجد لحدود هذه اللحظة الوسيلة لأن يترجم نفسه بشكل مباشر، سنراه من الآن فصاعدا يعبر عن نفسه بدون تمويه ولا قلق. بخلق عالم جديد، سيمتلك رامبو الوسائل ليحمل تجربته بقوته وهي في سبيلها إلى الاستيقاظ، بهذه القدرة على التحول الذي يشغله والذي سيغيره إلى صيغة البناء للمجهول on وإلى شخص آخر. إلا أنه لا يقبل بهذه القوة، وبهذه القدرة في ذاته إلا حين اكتشافهما في آن خارجه، في الأشياء. إذ في هذه الأخيرة وحدها يمكنه أن يبلغ نفسه. وبطبيعة الحال فإن الأشياء ستتنوَّع في بذورها وفي أشكالها، أو توافقاتها حسب الكائن الذي سيسعى رامبو لامتلاكه فيها. هكذا لاحقا، في اللحظات الأخيرة من فصل في الجحيم، حينما كان يحاول أن يتمالك نفسه كشخص قوي ومستقل سيحرص على معانقة واقع خشن: في الإشراقات يسمع نفسه على العكس وهي تولد وتكبر في قلب حقيقة غير قارة وحيوية، جارحة ولذيذة في آن، وفيرة وممزقَّة، من طبيعة في طريقها إلى الصيرورة. هذا الحقيقي، يستحيل أن تفهم رامبو دون العمل على الحلم بهذا الحقيقي معه، بدون أن تستكشف معه في نفس الآن الأماكن، كشعارات أو أشباح لتكوينه الخاص.
إنها بداية الأشجار، وإذا شئنا فراخ الأشجار، حرجات الأشجار النامية في الأرومات المعطوبة أو الغابات، النباتات التي تحمل في داخلها إيحاء عافية بدون قوانين ولا معيقات، والتي يبدو تشابكها المورق أنه يحمي بالإضافة إلى ذلك ما لا ندريه من حياة خفية. الغابة كثيفة ومظلمة تنشر في كل الاتجاهات غريزة البوح، ورغبة في الإضاءة، لكنها تمد تحتها أيضا ظلّاً منيعا، وفضاء ممنوعا، أي صمتا. ففي هذه الغابة يتم الإعلان عن الولادات:
«وبعد في الغابة البنفسجية المبرعمة
تقول لي الزنبقة بأنه الربيع»
الغابة بنفسجية لأن هذا اللون، يشير أكثر من الأخضر إلى توالد جارٍ. في اللحظات الأولى من فصل الربيع يسرع رامبو «إلى قلب الأخدود» لكي يقطف من داخله «الخس الطري والبنفسج…» يريد أن «يموت في هذه البنفسجات الندية التي تملأ بها لحظات الفجر الغابات». اللون الأخضر يؤشر الى صمت، على عذرية ووفرة مبتهجة ـ «سلام المراعي، سلام الأخاديد التي يطبعها الخيمياء على الجباه الكبيرة النشطة…» لكن اللون البنفسحي يشكل بالنسبة للأخضر نفس ما يشكله الأسود بالنسبة للأحمر. لون أخضر غامق، محيَّن، منتشر وأكثر ارتجافا، حيٌّ وممتلئ بالنسغ أكثر من المُنسِغة نفسها: «بالنسبة لهلين تآمرت الأنساغ الزخرفية مع الظلال العذرية…بالنسبة لطفولة هيلين ارتعشت الأشجار الكثيفة والظلال…». من هذا السكْر البنفسجي، وانطلاقا من «ظل الأجمة المتمايلة»، ترتفع في قصيدة فجر أجنحة، وعبارات. أن تتحرك هذه المنسغات أكثر قليلا، وأن تنتقل نحو فضاءات فارغة، وأن تحتل مزيدا من الطرقات، فهذا هو السر المائل للمنحدرات، «التي تضم في ظِلِّها البنفسجي الآلاف من الأخاديد السريعة للطريق الرطبة». فبين أماكن انتقالية بين الغابات والطرقات، وأراض للتبادل للعبور بين المحتمل والموجود، بين الحياة المنغلقة والحياة المعلنة، تعد المنحدرات بدون شك من الأماكن التي يمكن أن نرى فيها بشكل أفضل التحوُّل وهو يتبرعم ويرتاد عالم السحر (قصيدة أخاديد). إلا أن هذه المنحدرات لا تطيل إلا المنسغات. ففي الغابات الكل يحضُن. كل الوجود ينطلق من تحت الغابة ويعود إلى تحت الغابة. حينما تصور رامبو، في إحدى اشراقاته الاكثر حلمية، سقطته في أعمق اعماق الظل، في قلب الليل الأصلي، كان يحلم بنفسه وهي بصدد السقوط، بشكل هو في آن خانق ولذيذ، في كثافة المنسغة الداخلية:
ـ «أما من سبيل لاستئناف الحوذي وخيول الحلم تحت أكثر الغابات خنقا لكي يغرقانني حتى عيوني في نبع الحرير..»
نبع حرير، نبع كينونة وحياة.
حرير آخر، نبع نباتي آخر: عشب البراري. نبع في غابة اللذة، لكنه أكثر تعقيدا أيضا: لأن لا شيء يبقى فيه من الطبيعة الخانقة ولا من الخفية. إذ في عزِّ النهار، يعرض مباشرة لذَّته وسرَّه. في المنسغة الطاقة تبقى منغلقة، مغشَّاة، وفي كل الحالات محتملة: لكن في المرج فإن الطاقة ترتعش، تعرض نفسها، تنتفخ وترتفع؛ إنها تتجلى بدون قناع كعبور خالص لعناصر، كتحوُّل حرِّ من التراب إلى الجو. العشب بالنسبة لرامبو هو الشكل النباتي للانغلاق.
في فترة الأشعار فإن ترجمة هذه الحلمية كانت لا تزال حرفية، خارجية:
ـ «حلُم بالمرج الغرامي حيث التموُّج الضوئيُّ، والعطور الخالصة، والزغيبات
الذهبية، تحدث تحركاتها الهادئة، وتحلِّق!»
لكن ها هي ذي في الإشراقات، «المروج المجنونة» حيث «ترتجف فضة الزغب»، تُخترق وتُضاء من الداخل بواسطة الفاعلية التخييلية. أحيانا ترتبط في العمق بصور الطيران المدوي: ففي قصيدة «تقوى» «عشب الصيف الطنَّان والنتن»، وأحسن من ذلك أيضا، في قصيدة، أغنية البرج الأكثر علوا «…المرج المتروك للنسيان، يكبر، يفوح بالبخور وبالزؤان مع طنين فظ لمائة ذبابة قذرة»، مروج تكتسحها حياة عنيفة، حيث العصيان يعرِّض نفسه للخيانة تحت أنواع كريهة قليلا من هذه العافية النباتية: القذارة. وأحيانا يرتبط العشب بصور تحرُّر أكثر عنفا، أكثر تشنجا، إذ يرتبط بأحلام الانبثاق المعدني أو المشتعل: وهو ما نجده في قصيدة تصوُّف «مروج من الفولاذ ومن الزمرد»، «مراعٍ من اللهب [الذي] يصَّاعد حتى قمة الربوة «. وأحيانا في الأخير يحدث التحرر العشبي بشكل أكثر مرونة، أكثر بساطة: «قثارة المراعي»، تبث فيها الحياة من الجهة السفلى «تحت يد العازف»، وأحلى الأنغام المادية تفوح حينها من الأرض. والأرض المعشبة ستبدو لنا في النهاية كقطيفة حية، كتفتح صريح لتحت الأرض، كضفيرة للأرض، كثمرة وترجمة للواقع التحتي الجوهري. إنها تعبر عن التحرر، وتتيح التحوُّل؛ وتشكِّل المكان المفضَّل لكل «الولادات الكامنة»: النوع المثالي للبشرة المخصَّبة والشهوانية في آن.
ويقرن المخيال الرامبوي العشب بمجموعة من المواد القريبة منه لكي يشكل البساط السحري الذي منه سينبثق عالمه السحري: مثلا الطحلب، هذا العشب المتناهي الصغر، والزغب النباتي، الذي يستعيد فوق العشب بكثافة وبنوع من الإسفنجية كل ما فقده عليه بنوع من التعبيرية ومن الانتشار. أو أيضا هذه الطحالب الاصطناعية، والمضغوطة أكثر، والمرقَّقة، التي تمثلها الخمائل، والحرير، والستائر الشفَّافة أو الساتان. كل هذه الأنسجة التي تتركز في بذرتها النعومة نصف المستخلصة من العشب، يكمن دورها في تجسيد العلاقة الشهوية لمساحة ولعمق. الحرير مثلا يعيِّن نتوء «منبع الحرير»، إنه يكمل، كما رأينا، حلم «المنسغة العميقة». وحين يستحضر رامبو في قصيدة بربري «حرير البحار القطبية الشمالية»، فإنه يتخيَّل في نفس الوقت طراوة في بشرة الماء، مساحة تسري فيها حياة هادئة يوكل إليها أن يحيط بداخلها كل الظل الساكن للأعماق الكبيرة؛ إنه يحلم ببحر من العشب.
البساط السحري هو إذن نسيج حيّ، أو بالأحرى نسيج من مهامه إنتاج الحياة، والذهاب للبحث في كل الظلمات المادية وترقيتها لمعانقة النهار. غايته التحرير الهوائي لوجود، ولهذا السبب يضطرب العشب، ويرتعش، مبديا استعداده الدائم للتحليق عاليا. وليس هناك من حلمية أكثر اكتمالا لدى رامبو من حلمية «الحمامات اللاتي تضطرب في المرعى…». بيد أن المنطق النباتي يحوِّل في أغلب الأحوال هذا الطيران إلى تفتح: على قمة العشب نرى إذن زهرة تولد.
نحن نعرف أهمية الغنائية الزَّهرية عند رامبو، وغِنَى مدونته الزهورية. لكن بالرغم من التنوع الذي تظهر عليه، فإن هذه الأزهار لا تستوجب أن تكون لها خاصية مشتركة، وسمة جوهرية: فكلها «أزهار سحرية»، قوية، لكنها مميزة بشكل سيء، تفتقد للسمة الشخصية في الغالب. وكما أن العبقري كان كائنا من الجمال، أي Being beautous، كذلك فالأزهار هي كائنات زهرية خالصة. إن الذي يثير هذيان رامبو فيها ليس اللون أو القيمة التزيينية أو المثيرة للإعجاب، ولكن فقط السر المجهول للازهار، وحركة الانتشار التي تشكلها كتحول نهائي للمرعى الذي يحملها، أو للغابة التي تنتجها. تحول كامل بشكل مطلق، ذلك انه بين عشب وزهرة لا يوجد اية فجوة، ولا يحدث أي تمزق. ظهور الآخر في الزهرة ــ ظهور هو أيضا انفتاح، حتى أن تباعد البتلات، واندفاع التويجات، وانبثاق السداة، هو تقريبا انفجار ــ يتم من خلال اندفاعة واحدة ومتواصلة.
لكن كيف نزاوج من الداخل هذه الاستمرارية؟ إذا كان صحيحا أن الصباحات الباكرة تشحن الغابات بأزهار البنفسج الندية، كيف يمكن أن نحيا اللحظة المطلقة التي تفجر فيها الشجرة نفسها بالأزهار، وحيث تغدو الغابة بنفسجية؟ والجواب يكمن في الجسد الإنساني، مأوى الاستمرارية الأكثر عمقا، حيث يوقِّع التخييل الرامبوي تماثلاته. بعد أن غدا العشب ضفيرة، أو ريشة: ها هي ذي الآن الوردة تتحرك على هيئة فَم، مفتوح مباشرة على جسد نائم، يوكل إليه أن يَعصِر، وأن يُفرز الخلاصة الأكثر حميمية لجسد شهواني. هكذا فالشاعر،
يعثر على أطراف الغابة النائمة
على الزهور الشبيهة بالمشافر
من حيث يسيل لعاب هذه المراهم الذهبية…
لعاب، مراهم، مثل المخاطيات ونباتات اللازورد التي تعلو المركب السكران، كل هذه الافرازات المقززة والمشعَّة في آن، تتعلَّق بهذا الاختيار البئيس لكل ما هو مقزز، الذي رأينا أنه ميَّز رامبو الأول.
يبقى أن الوردة في الأصل هي فم مفتوح فوق نوم نباتي؛ إنها تفرج حجابا، وتعلن عن تخم: في قصيدة طفولة، إنه أيضا على تخوم الغابة حيث، «تطنُّ زهور الغابة، تتفجَّر وتضيء»؛ الزهرة تعلن على التخم، عن يقظة كون غريب بالكامل. وهذا هو السبب الذي يجعل رامبو يحلم انفتاحه كتفتُّح لجفن. والزهرة عندئذ تربط نفسها بباطن، وتصير نظرة. «انشغال الماء» في قصيدة «ذاكرة»، «الجفن الأصفر والساخن»، هو بمثابة عين مشعَّة مسلطة فوق عين أكثر اتساعا وأكثر خضرة وازرقاقا: المستنقع. «عين الماء التي لا حدود لها». في الزهرة ليست القوة هي التي تتجدَّد: إنها وجود ينحفر، عالم داخلي بكامله يعبر عن نفسه ويستجمع نفسه. ذلك أن الزهور بإمكانها أن تنظر، وتتكلَّم وتنطق أسماءها، إنها متآنسة فضولية؛ بل إنها يمكن أن تصل بهذا الفضول إلى غاية التهوُّر وإلى غاية الفحش: لا يحب رامبو الزهور المبالغة في الثرثرة أو المفرطة في التفتُّح : ــ «آه! الأزهار من قبل تحدِّق»، يقول بحسرة في «بعد الطوفان». فمن الضروري جدا، أن تتفتَّح طاقة بداخلها، لكن ما قيمة طاقة متفتحة بالكامل، حقيقة منكشفة بشكل مطلق؟ الزهرة الحقيقية هي تلك الزهرة الأكثر تكتُّما، الزهرة المتفتِّحة قليلا، تماما مثلما أن الفجر الأكثر جدة هو ذلك الذي تمكن من أن يحتفظ ببعض آثار الظلمة، وسحر الليل.
الزهرة المثالية إذن اندفاعة وتمنُّع، طراوة ولا نفاذية: إنها زهرة تشبه الحجَر. ذلك أن أولى صفات الحجر هي العِفَّة. وهو مستعدٌّ دائما للتقوقع حول نفسه، أو الهروب داخل التراب، وهذا هو حال هذه الأحجار النفيسة التي تتوارى منذ اليوم الموالي للطوفان، في اللحظة التي تستعيد فيها الحياة إيقاعها اليومي. هذا فيما على العكس «الزهور من قبل تحدِّق». حجرة، أي زهرة صلبة. وفي كل الأحوال فلدى رامبو توجد قرابة ضئيلة بين الزهوري والمعدني، وهي تتوضَّح من خلال سلسلتين من الحلمية المتوازية: أحيانا فإن الأزهار هي التي تتحجَّر، وهذا يحدث في أجزائها الأكثر نبضا بالحياة، في أعضائها الأكثر حميمية، أي في جزئها الجنسي النباتي؛ ورامبو يحلم حينها بأن يجد في الكثافة المظلمة،
…في قلب العروق السوداء
أزهارا هي أحجارٌ تقريبا؟ نفيسة ؟
حيث صوب مدقاتها الصلبة والشقراء
تحظى بلوزتين مرصعتين بالجواهر…
حلمية غريبة هذه التي تشبه حنجرة جنسية، وفما أنثويا…وأحيانا أخرى الأحجار هي، على العكس من ذلك، التي تزهر من ذاتها وعلى الخصوص في هذه الحالة الأحجار الكريمة، التي تقرنها الحلمية الرامبوية، بسبب لمعانها، بالمعادن الثمينة والساطعة، وبسبب صفائها، بالمواد المتجمِّدة، كالكريستال أو الجليد. ومن دون شك فإن رامبو يستمد من بودلير ذائقته لهذه المواد؛ وربما يستعير منه الإوالية الداخلية للترابطات الموجودة بينها: لكنه من خلال اختياراته، والتآلفات التي يقيمها، فإن شيئا مختلفا للغاية يتكشف له. ذلك أن بودلير حلُم على الخصوص بالجواهر والمعادن كأعماق مغلقة أو منفتحة، كعلامات على العقم أو الخصوبة، كدروب مفتوحة أو مغلقة، في سبيل استقصاء ممكن للكائن: بيد أن رامبو يرى فيهم علامات على كائن متجلٍّ، على حاملين لتفتُّح راهن، الأماكن والوسائل لخلْق فوري.
هذه الاقترانات الخيالية تمكِّن بشكل أفضل من القبض على معنى مئات الإشراقات، وعلى الخصوص القصيدة الغريبة المعنونة «أزهار»، التي تشكِّل التأليه الزهوري لرامبو. انتصار الأزهار يتنامى داخلها في ثلاث حركات متتالية، حيث عملية الازهار تتكشف بالتناوب، وتترسَّخ، وأخيرا تتجاوز وتدمِّر نفسها بنفسها.
في ديكور مؤثث بأكمله بالجواهر- الأم، «بأشياء الرفاهية»، – حرير، غازات نادرة، خمائل خضراء،- وأشياء الغرابة، كهذا الكريستال أثناء تحوله إلى السواد تحت الشمس- ونتذكر بأن اكتحال اللوينات الخفيفة يؤشر في الغالب عند رامبو على أن الخلق على وشك الحدوث، على إدراك ذروة كامنة- فوق بساط سحري حيث تلتقي كل العلامات المألوفة، من عيون، وضفائر، وأشياء تحتية حيية، فإننا نكون في البداية بحضرة المعجزة البسيطة للإزهار:
من مُدرَّج ذهبي- بين حبال الحرير، والغازات الداكنة، والخمائل الخضراء، وأسطوانات الكريستال التي تسودُّ كالبرونز تحت الشمس، – أرى زهرة القِمعية تتفتَّح فوق بساط مزخرف بخيوط فضَّة، وعيون وضفائر.
إذن، حول الزهرة المتفتحة، يتم تشييد خليط من المعمار بأكمله من حجر وخشب صلب: قاسٍ، هندسي، مهيَّإٍ لصدِّ الهجومات، واقع تقريبا في عشق هذا القلب الحنون المتفتح. ذلك ان هذه الزهرة غدت الآن فاكهة مائية، «زهرة ماء»: مولودة من سيولة، وموضوعة فوق كثافة سائلة. على عكس الأزهار ذات «اللوزات المرصعة بالجواهر»، ففي حميمية العمارة الزهورية حيث يستضاف الحنان، وإن المحيط هو الذي يركز فيها كل الزمنية. ولنسجل مع ذلك بأن هذا المحيط يبقى هو نفسه خصبا وخلَّاقا؛ فوق العقيق الخارجي تزهر قطع ذهب صفراء، و«قضبان الياقوت الأحمر» تتناوب مع بداية التفتح النباتي التي تشكل «باقات الساتان الأبيض»:
قطع ذهب أصفر مزروعة على العقيق، ركائز من الأكاجو حاملة لقُبَّة من الزمرُّد، باقات من ساتان أبيض وقضبان رقيقة من الياقوت تحيط بزهرة الماء.
أخيرا، وفي حركة أخيرة، الزهرة إذ تتعدَّد، فإنها تفجِّر طاقتها، «الحشد من الأزهار الصفراء والقوية»، تتطاول صوب السماء وصوب البحر:
كإله بعيون زرقاء هائلة وهيئات ثلجية، يجتذب البحر والسماء إلى شرفات الرخام حشدا من الأزهار الصفراء والقوية…
رخام وثلج، هذا الرخام الذائب، يتركان ذكرى عالم حيث الأحجار يمكنها أيضا أن تتأثر فيما بينها، يتركانها تدوم إلى غاية الانسجام النهائي لهذا التلاقي بينهما: وإنه رخام الشرفات من جهة أخرى هو الذي يحمِل تفتُّق الأزهار.
لكن المدهش يبقى الانقلاب النهائي للنظر، الذي يجعل من قصيدة أزهار إحدى القصائد الأكثر نجاعة والأكثر إثارة في كل الإشراقات. ذلك أن هذه الأزهار كانت هي نفسها، في سالف الزمان، عيونا: كانت نظراتها تحمل غيرة، وتكشف حضورا. لكن الأزهار في لحظة بلوغ مرحلة تألُّهها، لم تعد في حاجة للنظر: مع عماها، تتوجَّه ببساطة نحو نظر آخر، تنتصب نحو هذه الكثافة المزدوجة البحرية والسماوية التي يحلم بها رامبو كـ عين كونية مزدوجة، والتي تمارس على الطيران الزهري جاذبية لا يمكن مقاومتها. والزهرة منذ ذلك لم تعد نظرة، ولم تعد تقع حتى تحت النظر، بل توجد في اتجاه النظرة، ومن أجل النظرة. إنها تندفع لكي تلحق بنفسها في هذا النظرة الخفية الآتية بالطبع من الزهرة ذاتها. وهو ما يعني أن السرَّ الزهوري ليس ذاك الصادر عن أصل ما، ولكن عن مشروع، وعن قصد يتجسَّد على نحو رائع في كل العمق المحسوس للعالم، في «الأزرق» من الأشياء. ما دام أن أي وعي إنساني آخر لم يستطع أن يحدث في داخل رامبو الصدمة الأولى، ولا أي لقاء استطاع أن يوقظ التحوُّل فيه،- لا شيء أكثر عزلة، أكثر خواء من أصداء مغامرته،- فقد كان عليه أن يرتمي في مستقبله نفسه، وأن يتَّخذ كهدف وعيه الخاص وأمله الخاص. لذلك سيجعل من نفسه إذن مجنونا لكي يكتشف داخل الأشياء منطقا جديدا، سيكون أيضا منطقه الخاص، ولكي يهتدي إلى طريقة داخل ما يسميه هو نفسه «غير المسموع». أعمى إرادي، في حالة ملاحقة دائمة لنظرته الحقيقية، لعبقريِّه الحقيقي. الأنا التي تحاول أن تجعل من نفسها آخرَ من خلال رؤية نفسها ومناداة نفسها بنفسها من عيون الكون بأكمله.
ينهض الحجر هنا، مسكونا بالنظرات، مغلَّفا بالأجنحة أو بالتويجات، من معدنية مغشوشة. فليس لدى رامبو، كما يمكن أن نجد عند فرانسيس بونج مثلا، من حب للشيء لذاته، من اشتهاء لجمادية موضوعية؛ خياره ليس ذلك المتعلق بالجامد؛ بل على العكس من ذلك، حينما يتصور المادة، فإنه ينفذ إليها دائما بحلمية إحيائية غاية في القوة؛ فالمعدن هو عبارة عن نبات مجمَّد، والزهرة عبارة عن حجر ذائب. دراسة المنحوتات الرامبوية تبيِّن بجلاء أن جيولوجيته مقنَّعة في الواقع بنباتية، حيث يمثِّل الحجر بالنسبة له فاكهة، منتوجا حيّاً للأرض: فكما أنه يختار بالذات رؤية الإزهار في الزهرة، كذلك يتخيَّل أن يرى في الحجر العمليات الغامضة للتكوين. إنه يجعلها تقع في نهاية إنضاج للمادة؛ ولا يراها مكونة في أي جانب منها من الخارج، كالحصاة الملساء البونجية (نسبة إلى بونج)، عن طريق سلسلة من العوامل الفزيائية، من ترسب وتعرية، وتتدحرج، ولكنها مشكَّلة من الداخل، بحسب الدافع الداخلي ذي المسحة الجهنمية (التحت أرضية)، المتصلبة والقليلة الانكماش انطلاقا من طين جوهري، المرفوع أخيرا إلى غاية سطح الأرض والمبعد في الهواء الحرّ. إن الحصاة الملساء الرامبوية هي «ابنة للطوفان»، تماما كما أن الإنسان النرفالي (نسبة إلى نِرفال) هو طفل للطَّمي.
هذه الولادة يمكنها أن تأخذ أشكالا مختلفة جدا. يمكنها أن تكون عنيفة مثل ثوران بركاني. انطلاقا من نار مركزية، حيث يضم الخيال بشكل غريب نارا هي نوع من تضحية، من عذاب بركاني للأرض، انطلاقا من «قلب أرضي محروق أبديا من أجلنا»، تنبثق في قصيدة «بربري»، مجامر الألماس. هذه الماسات، الخارجة للتو من التراب، تختلط مع ذلك بماسات أخرى، ساقطة مباشرة من السماء، مع «زوبعات الجليد الخفيف»، لكي تشكل حزمات حجرية خاطفة للبصر حيث تتزاوج بشكل مدوِّخ العناصر المحسوسة الأكثر تنافرا: «نيران مصحوبة بمطر ريح الماسات…»
في مكان آخر، في لحظات أخرى من العفوية الفرحة، يختفي هذا الاقتراح القائل بأن الماس يولد من حرق مؤلم للأرض. في قصيدة بيع يغني رامبو «الثروات المنبثقة مع كل خطوة! بيع الماسات بدون دمغة رسمية!» لكن إذ كانت الأرض مشتعلة في الغالب، فإن الأرض السائلة هي التي تبدو أنها تحمل في أحشائها وتلد الأحجار. نرى الأحجار الكريمة تظهر على سطح الأرض غداة هطول مطر أو طوفان، في وحل محتفظ بطراوته؛ أو أنها تنتأ خارج الأرض عند أول ذوبان لجليد الربيع، في رخاوة تراب ذائب. هكذا هي مجوهرات قصيدة طفولة «واقفة على التراب الخصب للأجَمات وللبساتين ذائبة الجليد»؛ هذه المجوهرات تتجاور مع ذلك مع هذه الفواكه الأكثر إدهاشا للخصوبة العشبية والربيعية: «صغيرات وعملاقات، رائعات وسوداوات في الطحلب الصدئ»…في قصيدة حفلات الجوع، التي هي في آن حفلة الشراهة المعدنية، نشيد صريح للجفاف-، «إذا كان لي من اشتهاء، فلن يكون أبدا إلا للتراب وللأحجار!»- إن ما يلاحقه رامبو عبر «الصخرة، والفحم، والحديد»، وعبر كل الحصى الذي يسحقه، هي الرطوبة الأولى التي جاءت هذه الأشياء بالتأكيد منها. «أبناء الطوفان»، «خبز منتشر في الأودية الداكنة»، تستمدُّ الحصوات الملساء حلاوتها من الخصوبة السائلة التي حملتها لها إلى غاية الكينونة. وهذا صحيح بشكل كبير بحيث يكفي أن نرى هذه الخصوبة تتجلى من جديد لكي يترك رامبو بعدها العالم القاحل للأحجار: في المقطع الأخير لقصيدة حفلات الجوع تتغطى الأرض فجأة بأوراق الشجر، والجائع يرتمي، لكي يشبع نفسه منها، في رطوبة أخدود نصف مفتوح:
على الأرض ظهرت الأوراق!
سأمضي نحو لباب الفواكه الناضجة
من قلب الأخدود سأقطف
خسّاً بنفسجاً…
مع فيض صريح للأرض، ومنتوج ناعم لظل ماديّ، من الطبيعي أن نرى زهرة البنفسج تشكل بالنسبة لعطش رامبو الشراب الوحيد الحقيقي.
تحت الأحجار، تحت العشب، في عمق الأخدود، في العالم التحتي غير المرئي للأرض، في هذه العتمة حيث تنام العصافير المستقبلية، هناك دوما إذن رطوبة تظل يقِظَة، نداوة، ماء كامن. وهو كمون ينزع مع ذلك إلى أن يصير حضورا: لأن غريزة هذه السيولة العميقة هي في أن تصعد، وتخترق سطوح الأرض، وتغمر العالم. وعلى هذا الأساس فعالم «الإشراقات» يهيمن عليه وسواس نهاية العالم غرقا بالماء، والعالم الخيالي لرامبو مسكون برؤية ميتولوجية متعلقة بالطوفان.
لكن هذا الطوفان، – وهذه إحدى الصور الحلمية التي تبئِّر بشكل غريب المشهد الرامبوي،- يأتي من الأرض وليس من السماء، من الأسفل وليس من الأعلى. إنها مطر متسامٍ، تقطير صاعد؛ «ينبجس من المراعي»، إنه «يُرفع»، يرتفع مستواه مع المستنقعات والمروج (قصيدة طفولة)، ويبلغ «الدروب العليا» (قصيدة عمَّال)، حيث يخلّف، حتى في أسوء فترات الجفاف، غدرانا من المياه «حيث تعيش أسماك صغيرة»؛ بعد ذلك، إذ يتم صدُّه من خلال ضوء شمس خافتة دائما، يعاود النزول ثانية؛ وإذ «تستوي» فكرته، فإنه يعود ليغوص من جديد تحت الأرض. بينما في «فصل في الحجيم»، يحاول رامبو أن يتحرك ضد هذه الحقيقة العميقة للشعور المستحوذ عليه ويفكِّر الأشياء اعتمادا على المقولات الخاصة بـ «لاهوتية حقيقية»، لذلك يؤكد، في محاولة لإقناع نفسه، بأن الجحيم- النار- «يوجد حتما في الأسفل، والسماء في الأعلى»: لكن في الإشراقات الاتجاهات توجد بالضبط معكوسة. الماء، وليست النار، هو ما يوجد في الأسفل، ومن الأسفل ينطلق لكي يغسل قذارات الأشياء و»تقيؤات» الإنسان، لكي يحتل اللازورد «الذي له اللون الأسود». ليس الافتداء الحقيقي عند رامبو نوعا من الهبوط؛ إنه لا يتهيأ بالركوع أو بالإذلال؛ إنه يقترن على العكس من ذلك بحركة انبثاق كوني. حلمية الفيضان الصاعد تعضِّد إذن وتغذِّي في العمق الغنائية الجوهرية عند رامبو، للعصيان، للانتفاضة الإنسانية، للفيض الزهوري والمعدني، للوثب العضلي؛ إنها توجد في بداية كل العوالم الخيالية التي تجعل الوجود يقع في حركة تسامٍ شاقولي. إنها تهيِّج كلِّيا الحياة المنتصبة.
في فصل في الجحيم أيضا، النار «تتعالى مع مُدانِها»: بيد أن الانبثاق هنا شيطاني. لأنه مثلما أن الماء يغمر الإشراقات بقوته المخصبة، فإن النار تمدُّ على فصل في الجحيم صحراء من الجفاف والمعاناة. نار سلبية، مدمِّرة، محلوم بها من خلال نتائجها وليس من خلال أصلها، إنها قوة جهنمية حقيقية تنتهي بأن تدمِّر كل مادة، وبأن تحدث بالنتيجة بالموازاة فراغا في العقل، وغيابا، «نوما، على الساحل الرملي، في ذروة السكْر». ذلك أنه حول المدان تختفي الأشياء شيئا فشيئا، وبعيدا عنه يـمَّحي هذا الكون الممتلئ بالأشياء العجيبة التي منحَت لحالم الإشراقات وسطا مثاليا ليدرك نفسه، أو على الأقل ليسعى في أثرها. في فصل في الجحيم لا يحسُّ بشيء، لا يدرك شيئا. «حتما نحن نوجد خارج العالم. ليس هناك من صوت. حاسة لمسي اختفت». وعلى الفور، فإنه لم يعد مرئيا، لم يعد موجودا: «هناك، أليست تلك أرواح شريفة، تريد لي الخير؟…تعالي…مِخدَّة تكتم أنفاسي، هي لا يسمعني، لأنها أشباح. وبعد لم يعد أحد أبدا يفكر في الآخرين». «في الصباح ، من كثرة ما كانت نظرتي ذاهلة وهيئتي ميتة فإن الذين التقيتهم ربما لم يروني». مدان رامبو، إنسان غير محسوس وإنسان غير مرئي، غير مرئي بدون شك لأنه أعمى، محروم من كثافته الحميمية لأنه لا يحسُّ بكل كثافة الأشياء.
وإنه لمن الطبيعي إذن أن كل تعابير الحنين التي تتضح في فصل في الجحيم تحيل على أجواء النداوة، على حالة السعادة النباتية والسائلة حيث تسبح الإشراقات. «أطالب، أطالب بـ قطرة نار». «آه! الطفولة، والعشب، والمطر، والبحيرة فوق الأحجار». « آه قصري، سكسونيتي، وغابتي من الصفصاف». في فصل في الجحيم على العكس يتم اختزال الخارج في رتابة قاتلة، في اللقاء معها ليس هناك من عمق إنساني لا يجازف أن يتعرَّض للتأثير:
من نفس الصحراء، وإلى نفس الليل، دائما تستيقظ عيناي المتعبتان على النجمة الفضية، دائما دون أن يضطرب ملوك الحياة، المجوسيون الثلاثة، القلب، والروح، والعقل…
فيما تتغلغل أسطورة الميلاد وتضفى الحيوية على كل عالم الإشراقات، لا نجد، كما سنرى، من فعل ولادة ممكن في جحيم رامبو. وكل شقاء المدان، والذي ينعكس عليه بالطبع، يعود بدون شك إلى هذا العقم، وإلى هذه العزلة، وإلى هذا الانفصال الذي يعانيه في علاقته مع الأشياء والذي يجعله ينقطع لمناجاة نفس مأساوية وبلا مخرج. وعوضا عن ملاحقة نفسه يستمر في ماهية مادة يسهل على الحلم النفاذ اليها، وتنغلق المطاردة الروحية على نفسها، وتترجم إلى سلسلة من الاهتزازات، من الذهاب والإياب، من الاندفاعات والتقهقرات، من الابتهالات والسخرية التي لا ينتج عنها أي تقدم روحي. إن إيقاع فصل في الجحيم هو الإيقاع الثابت لتوقيع أرجل على الأرض، لهيجان يجترُّ نفسه ودائما في صراع مع ذاته. رامبو في الجحيم له مشية حيوان منزعج: «في اللحظة الأخيرة، سأهاجم على اليمين، وعلى اليسار…» وإذا كان يطغى هنا الاحتجاج والتمزق، فلأن البحث عن الذات يُستبطن في الجحيم ويؤَوَّل أخلاقيا بإسراف. ومن الآن فصاعدا إذ ينقطع عن الأشياء، ويمتلئ ريبة في علاقته بالإحساس، يجد رامبو نفسه بإزاء هذه الأشياء وحيدا، تحاصره الصور المجردة لماضيه. إنه يقذف نفسه فيها بدون حصانة من التاريخ، في الأخلاق أو في اللاهوت، وفي هذه الأشباح الباهتة لذاته متمثلة في المسيح، الله، أو الشيطان، في الأسلاف الغاليين أو حتى في العذراء الحمقاء، الممثلين لهذا العالم السحيق القدم للبشر وللآلهة الذي لم يعرف أبدا عنه حقيقة إلا عن طريق الرواية أو عن طريق النوستالجيا. وإذا فشلت فصل في الجحيم أن تكون قصيدة للعلاقة، فلقد نجحت بالتالي أن تكون القصيدة المأساوية للغياب: غياب الآخرين، غياب الأشياء، وغياب الذات. الحياة الحقَّة فيها غائبة بشكل مثير للشفقة، هذا فيما هي موجودة، أو بالأحرى أنها تصير بشكل رائع للغاية حاضرة في كل قصيدة من الإشراقات. ذلك أن النارَ مرَّت من هنا، وبأنها أتت على الكل. الجحيم الرامبوي، ليس ربما شيئا آخر غير فراغ محسوس، أرضٍ محروقة.
الفردوس الرامبوي، على العكس من ذلك، هو الصداقة الطبيعية، والعالم مبلَّل، والأرض الإسنفنجة. وسنفهم حينها لماذا رامبو حساس إلى هذا الحدّ مع كل أشكال الظهور السائل، ولماذا يحب على وجه الخصوص المواد أوحال، طحالب أو حشائش التي تستطيع امتصاص المياه العميقة وتحملها معها إلى أن ترى النور. إن النفاذية هي التي تسمح بالانغلاق. «الطوفان الصافي الذي ينبجس من المراعي» يلتقي في مخيلته بـ «الثورات الرخوة لبركان إتنا»، وبـ «التصدعات في الأزهار، وفي مياه المثلجات»،- أو أيضا في هذه الرؤيا القلقة لـ «وكر الوحوش البيضاء» المنغلقة في الرطوبة نصف المنفتحة «لمستنقع».
لكن القطرة هنا أيضا هي من يجسِّد بمزيد من السعادة هذا الحلم للمجيء السائل: مُشبعة كليا لوحدها نظرا لأنها تشكِّل منذ ولادتها كلّا، كونا مصغَّرا، عالما صغيرا مغلقا، ولكنه مع ذلك منفتح. إنها نصف حجر، نصف زهرة، على الأخص حينما تتجمَّع في رأس فسيلة من العشب. تكوين قطرات، وجعلها تتقاطر، تلك هي الوظيفة الأساسية للمرج، وظيفة يمكنها أن تعطي المجال لوجود أجناس مذهلة، كتلك على سبيل المثال في قصيدة مساء تاريخي المتكوِّنة من عالم اصطناعي بالكامل، ومن «الكوميديا» التي «تقطر على حوامل الحشائش». كل ولادة بها شيء من الخارق سيحلم بها على هذا النحو كانبثاق سائل؛ كل شيء مولود من شيء آخر، أو موضوع بلطف على سطح غريب، سيظهر كتقطير لمادة أو لجسد:
بكت النجمة وردية في قرارة أذنيك…
تَرصَّع البحرُ أشقرَ عند حَلْمتيك القرمزيتين
ونزَف الرجل أسود عند خاصرتك السيِّدة.
أزهار، دم، وحليب، وفي مكان آخر عرَق: إنها سوائل حميمية، أخلاط تفشي كثافة بيولوجية. إنها بالنسبة للجسد ما تمثله القطرة بالنسبة للأرض. وهي تستطيع من جهة أخرى أن تنبجس مباشرة من الأرض نفسها، وتصاعد الدموع يمتزج حينها مع انبثاق الطوفانات لكي يغرق ماديا العالم في موجة حزن إنساني لا يطاق: «أيتها المياه والأحزان، تصاعدي وارفعي الطوفانات!» اجعل من سوداويتك علاجا للسوداوية، استعملوا دموعكم كوسيلة لإنقاذ أنفسكم وللتلاشي في هذا «البحر الهائج المكوَّن من أبديةِ دموعٍ ساخنة». أما بالنسبة للدم، – ويمكن أن نخمِّن كل الحمولة الإيروسية لهذا الدم الأسود أو الأخضر، – فإنه يتطابق، منذ القصائد الأولى، مع تقطير لنُسْغ:
عندما تنزف كل الغابة المرتعدة
خرساء من الحب
من كل غصن، قطرات خضراء
براعم واضحة،
نحس في الأشياء المنفتحة
شهوات ترتعش…
التعبير يبقى مع ذلك مبتذلا، بانتمائه للحلمية الخارجية. لكن قيمة هذه الأبيات مع ذلك ثمينة بالنسبة لنا لأنها تسمح لنا بالقبض على المشروع الأصلي للرغبة عند رامبو: تحويل الأرض إلى «جسد غرامي» شاسع، وفتح الأشياء لإثارة الرعشة ويقظة الشهوة فيها، دفع هذه الأشياء لكي تظهر كائنا جديدا بداخلها.
إن استدعاء مشهد تمت إثارته على هذا النحو هو الذي يطوِّر، في ثراء مدهش من الصور الخيالية، الإشراقة المعنونة بـ بربري. مشهد يحرص رامبو جيدا بالفعل على استدعائه، وعلى إيقاظه لأنه لم يوجد بعد. كل شيء فيه يدور بين عالمين اثنين، في تعطيل فراغ محسوس: بعيدا عن العالم القديم وهذا التباعد لا يحفظ توازنه إلا مقابل توتُّر صعب ولكن أيضا في مسافة عن تناغم لم يخلق بعد. في منتصف طريق بين «الأصوات القديمة» و«النعومة» الجديدة. كل المجهود الخيالي الرامبوي يكمن حينئذ في رفض الماضي والنزوع نحو وشيك الحدوث، نحو التماس كل التباشير، وإن كانت ما تزال غامضة، للطاقة المستقبلية. وهذه العلامات يمكنها بالـتأكيد أن تبدو للوهلة الأولى غير معقولة، غير متناغمة، وترابط بعضها البعض يبعث على الغرابة: أصبحنا نتعرَّف فيها الآن على التعابير المنتسبة لنفس الوسواس. فما هو المدهش في أن نرى اللون الأحمر على السطح الحريري لبحر، ليتحول بعدها إلى لحم، ما دام أن رامبو يحلم هذا الحرير نفسه كلحم رطب ومُزهر؟ ولماذا لا نقبل أن نرى تزاوج الرغوة بالجمر، هذه رغوة ماء وهذه رغوة نار، أما بخصوص الماس والجليد، أليس كلاهما بلورات، من تراب ومن ماء؟
ختاما فالحركة الأخيرة لقصيدة بربري التي تُستهل بنداء انخطافي بهذا الوجود المثالي غير الموجود بعد، «آه يا نُعومات، ويا عالم، ويا موسيقى»، تتمكَّن من أن تجمع على سطح ماء-أم، في خصوبة سخونة فوضى عائمة، أغلب الأجسام، أعضاء أو موادَّ حيث تتجسَّد في العادة الأسطورة الرامبوية للتكوين: «ها هنا حيث تعوم الأشكال، والتعرُّقات، والضفائر، والعيون. والدمع الأبيض، المغليّ، آه يا نعومات»-إلى كل هذه العلامات ينضاف بغرابته «الصوت الأنثوي البالغ حتى أعماق البراكين والمغارات». صوت يهبط للقرار نفسه للهاوية المظلمة حيث تهجع الليلَ، العصافير، والقوة، حيث الأنا المستقبلية ما تزال منفية. وإذا كان هذا الصوت مؤثرا للغاية فلأنه يشكل علامة ونحن نعرف كم هذه العلامات قد تكون نادرة في الإشراقات على تدخل مباشر للآخرين في مغامرة رامبو: إنه يجسد الحنين ليقظة بواسطة الآخرين، ويستدعي إمكانية تحوُّل قد يكون وراءه سطوة غرامية. لكن هذا الصوت يمَّحي لاحقا؛ لقد لمس عمق الكائن دون أن يحدث فيه تأثيرا حقيقيا ودون أن ينتزع منه كينونة جديدة. كل شيء يتموضع إذن من جديد في المستقبل، في الرجاء، وتختتم الإشراقة على الصورة المستعادة للِّواء الأحمر النبوئي.
السحر الفريد لقصيدة بربري، يكمن في أن نعومة تكاد تصبح جسديا محسوسة فيه دون أن تغدو مع ذلك متواجدة بالفعل. إن البربرية الرامبوية هي نوع من شراهة للاحقيقي، ولكنها في نفس الوقت نزوع لتحقيق هذا اللاحقيقي، وهذا النزوع إذ لا يجد إشباعه في النهاية يولِّد بدوره ضِيقا. لأننا إذا كنا نوجد «بكثير بعد الأيام، والفصول، والكائنات والبلدان»، فإننا لم نبلغ بعدُ الضفاف الأخرى: نوجد خارج الزمن، ولكن ليس بعدُ في الخلود؛ نعيش في نوع من اللازمنية المؤقتة. والأشياء نفسها يمكنها أن ترنُّ جيدا تحت رجع صدى مصمَّم لإيقاع جديد -»آه يا نُعومات، ويا عالم، ويا موسيقى!» -: هذه المحاولة لبلوغ عالم آخر تفضي في نهاية المطاف إلى تدمير النظام القديم وإلى استبدال المتفق عليه بالخيال «إنها لا توجد» وبالتنافر. في الغرق العام للمظاهر، «ترنُّح اللُّجج واصطدام قطع الثلج بالنجوم»، الكل يصطدم بالكل، بدون أن يتحد شيء بشيء حقيقة وأن يتركَّب معه ثانية. ولا فضاء إنسانيا واحدا ينجو من هذا الغرق؛ وهذه ليست هنا «المخططات السحرية» التي يحلم بها رامبو، والتي عليها «تلتقي أقمار ومذنبات، بحار وخرافات». الفوضى البربرية تبقى متجمِّدة في انقطاعية محزنة: المستقبل يظل فيها منغلقا على نفسه في حواشيه.
ذلك أن تحقيق هذا المستقبل وبلوغ حياة باذخة يرتبط بدون شك باستعادة نوع من الاتصالية المحسوسة. فالحقيقة الجديدة لا يمكنها أن تتواصل إلا في اتحاد طبقة مادية واحدة. وهو ما يفرض إذن ضرورة تجاوز فعل التدمير، لحظة الفوضى والترنُّح، وإعادة خلق التحام عيني في قلب تشظِّي العناصر: باختصار العثور ثانية على معنى نوع من نسيج للأشياء.
لهذه الغاية يمكن لرامبو أن يستعمل كثيرا من القوى اللاحمة: تلك مثلا التي يتيحها له سيَحان السوائل أو تبخُّر العشب. إن نوعا من النفاذية الكونية يقوِّم بالفعل الانقطاعية البربرية: قوس قزح يرمز إلى هذا الوصل الإسفنجي للكون. كما هو الحال في الرؤيا التالية حيث كل عناصر المشهد تخترق بعضها بعضا وتتنافذ فيما بينها في نوع من الانتصار المُنفِذ:
…الفتاة بشفة البرتقال، الرُّكب مقرفصة في الطوفان الصافي الذي ينبجس من المراعي، العري الذي تعتِّمه، تخترقه وتكسوه أقواس قزح، النبات، البحر…
(*)-ندين بالمساعدة التي قدمتها لنا قراءة ترجمة كاظم جهاد للآثار الشعرية الكاملة لـ آرثر رامبو، منشورات الجمل، وآفاق للنشر والتوزيع، 2007، في تصويب أو تعديل أو استبدال بعض كلمات وعبارات أثناء ترجمة بعض المقاطع من شعر رامبو.
(??)- comprachicos صانعو عاهات ، بوهميون كانوا يشترون أطفالا في العصور القديمة ليجعلوا منهم وحوشا أو متسولين.
النص مترجم عن كتاب: Jean-Pierre Richard : Poésie et profondeur ; édition du Seuil, 1976
دراسة : جان بيار ريشار
ترجمة: محمد العرابي *