وجوه غريبة تتطلع فيه ليس في ملامحها ذلك الألق الشفيف الذي يلامس أغصان القلب، أجساد تعبر من أمامه يرشح العرق من قمصانها المغبرة، تتحرك في اتجاهات مختلفة، تحمل فوق أكتافها أسياخ حديد وألواح خشب وتجر عربات محملة بالرمل وأكياس الأسمنت، صوت جنازير الجرافات وهي تحفر قلب الشاطئ وما تبقى من المرفأ القديم للقرية فتسحق وتهشم وتطمس معالم المكان، وبين وقت آخر تلج الشاحنات العملاقة بهدير وزئير محركاتها الضخمة تدك طرق القرية فترتجف جدران البيوت المتهالكة فتفر العصافير مذعورة، ويبكي الأطفال من الفزع وحين تصل الشاحنات إلى موقع العمل تفرغ حمولتها من الطابوق والأسمنت والحجارة والرمل فيرتفع الغبار في المكان حتى يدلف من نوافذ بيوت القرية وطرقها وأزقتها.
كان أبو سعد يقف بجوار قاربه الصغير وقد لف وجهه المتغضن (بغترته) البالية، وراح يتأمل الأعمدة الحديدية المتداخلة والجدران الأسمنتية التي بدأت تغطي الفراغات بين الأعمدة مشكلة طبقات طوابق متعددة لهياكل مبان هائلة، تمتد على طول شاطئ القرية وتبتلع المرفأ القديم في أحشائها، وتتربع بكبرياء فوق مساحة شاسعة فوق البحر، الذي خنقت أصوات رجرجة أمواجه ولون زرقته الصافية كثبان الرمال والصخور والقواعد الأسمنتية وتغلغلت أعمدة الحديد في أعماقه.
تنهد أبو سعد وهو يسحب مرساة قاربه الصغير ورفع (غترته) التي تدلى طرفها في البحر وأعاد لفها حول رقبته وراحت عيناه الذابلتان تسرحان في المكان، هنا كانت تستلقي قوارب الصيادين علي الشاطئ وفي البحر كانت قوارب أخرى، حين المد يتأرجح فوق الأمواج بمحاذاة ضفة الشاطئ ومراسيها مثبتة في أحجار المرفأ القديم الذي كانت تحلق فوقه النوارس، وفي المساء كان البحارة يتسامرون، يسردون حكاياتهم مع البحر ويرددون المواويل التي حفظوها عن الأجداد. كانت طرق القرية وأزقتها تؤدي إلي البحر، وكانت اذرع البحر ممدودة بالحب والخير والمحار ويغسل ملحه تعب الرجال، ويهدي الأطفال حكاياه ونجومه وقواقعه.
تلفت أبو سعد حوله، كانت قوارب الصيادين من أهالي القرية تتناثر بعشوائية بعيداً عن موقع المرفأ القديم الذي طمسته الرمال والصخور والغبار، وشيد حاجز حديدي تلتف حوله أسلاك شائكة يفصل بين القرية والبحر واختفت بيوت القرية خلف أعمدة وجدران هياكل المباني الجاثمة فوق الشاطئ والبحر.. تحجب رائحة البحر.
وضع بوسعد المرساة فوق مقدمة القارب، وشغل المحرك وانطلق بقاربه في رحلة صيد مخلفاً وراءه هياكل المباني الصخمة المتربعة على الشاطئ وغبار الجرافات وأصوات هدير الشاحنات وضجيج حركة العمال في كل مكان من مواقع العمل، لم يعد للقرية أثر على الشاطئ كما كانت في الماضي القريب، أصبحت منازلها الصغيرة منكمشة خلف تلك المباني التي أخذت تتطاول وتتمدد يوما بعد يوم كالجبال فوق صدور أهالي القرية.
كانت الريح تلفح وجه بوسعد وهو يقود قاربه في عرض البحر مبتعداً عن الشاطئ والقارب يتقافز فوق الموج وبوسعد يمسك بدفة المحرك، عيناه تنعكس فيهما السماء الملبدة بالغيوم، ومشاعره تختلج بالهموم والغضب، وعقله مشغول بحال قريته منذ أن بدئ في تنفيذ مشروع المباني، فتداعت من ذاكرته أصوات رجال من أهالي القرية وهم يتسامرون ذات مساء صيفي أمام بيته.
قال أحدهم غاضباً:
– ماذا تستفيد القرية وأهلها من هذه المباني التي يقيمونها علي الشاطئ.
قال آخر ساخراً
– يقولون أن أصحاب المشروع سوف يبنون منتجعاً سياحياً كبيراً مكوناً من عمارات ذات طوابق متعددة وفندق ضخم وسوف يساهم هذا المشروع في تطور القرية.
قال آخر:
– لقد حجبت هذه المباني منظر البحر وغروب الشمس الذي كان يميز القرية.
قال آخر:
– لم يعد للأهالي منفذ إلى البحر سوى مساحة محدودة بعد أن أبتلع هذا المشروع معظم مساحات شاطئ قريتنا.
قال بوسعد بأسى:
– أنا أفكر في مستقبل أبناء القرية، أين سيبنون منازلهم بعد أن تم الاستيلاء على كل هذه المساحة من أراضي القرية؟
ثم أردف قائلا:
– يجب أن يتحد أهالي القربة للمطالبة بوقف هذا المشروع هذا هو الحل لإنقاذ القرية ومستقبل أبنائها.
صمت الجميع وأطرقوا يفكرون والحيرة بادية على وجوههم، ثم انسلوا واحدا تلو الآخر من أمام بوسعد الذي دهش من هذا التصرف، ظل بوسعد كل مساء يجلس أمام بيته ينتظر زيارة الرجال لمجلسه ولكنهم لم يحضروا وحين ذهب إلى منازلهم يستفسر منهم عن سبب امتناعهم عن حضور مجلسه وذكرهم بما طرحه عليهم من اقتراح وجدهم يتهربون.
قال أحدهم:
– أنا مجرد بحار لن تكون لمعارضتي لهذا المشروع أي تأثير.
قال آخر:
– أخشى لو عارضت المشروع وطالبت بإيقافه أن أتعرض للمشاكل فأنا مجرد موظف أعيل أسرة تحتاج إلي مرتبي وهو راتب متواضع.
قال آخر:
– أصحاب المشروع لن تثنهم مطالبنا بإيقاف ما عزموا عليه فهم أقوياء بأموالهم ونفوذهم.
قال آخر: آسف لا أريد أن أدخل في مشاكل فيكفيني ما أنا فيه من هم الديون والقروض التي تقصم ظهري،اقترح عليك يا بوسعد أن تذهب للوجهاء والأعيان من أهالي القرية فهم أهل الحل والعقد قد تجد لديهم الحل لهذه المشكلة، أما انا فاعذرني لدى ثلاثة أبناء يبحثون عن وظائف وأخشى أن وافقتك على مقترحك ألا يجد أبنائي وظائف لهم.
حاول بوسعد مع رجال آخرين من أهالي القرية دون فائدة ولم يفقد الأمل، دخل مجالس القرية وطرح مقترحه على أصحاب تلك المجالس وروادها ولكنه لم يجد لهم آذانا صاغية لمقترحه بل أخذ الأهالي يتحاشون لقاءه والتحدث معه.
فجأة ارتطمت موجة عالية بمقدمة القارب فارتفع في الهواء ثم هوى على الماء يترنح، فتوقف بوسعد عن التفكير وما عاد يرغب في مواصلة رحلة الصيد فاستدار بقاربه عائداً إلي القرية، في صباح اليوم التالي اعتصم وحدة امام المدخل المؤدي لموقع مشروع المباني وهو يحمل لافتة تعبر عن رفضه للمشروع، والمطالبة بايقاف مواصلة العمل فيه، ومحاسبة اصحابه .