سمعت الحديث عنه صغيرا، كنا ونحن نتجمع تحت أضواء مصابيح الشارع في أماسي الصيف هربا من حرارة بيوتنا تأخذنا الحكايات العجيبة التي يسمعها كل واحد من والديه أو أحد جدّيه فيأتي ليرويها لنا، وكان تأثيرها فينا يتوقف على قدرة الراوي الصغير وبراعته وما يضيفه للحكاية أو يحذفه منها إذ لا أحد فينا ينقل الحكاية كما سمعها بل كأنّ الحذف والإضافة لازمان لإنضاجها وجعل تأثيرها أكبر.
ولكن حديث عوج ابن عنق ظلّ حيّا في ذاكرتي لاسيما وأن جدتي قد حدثتني عنه بين من تحدثت عنهم من شخصيات تتناهبها الخرافة والخيال والقليل من الحقيقة، إذ أنّ الشخصية في أية حكاية لا بدّ لها من جذر حتى لو كان هذا الجذر بالاسم فقط ثم يجري تركيب الأحداث والزج بالأوصاف.
لكن عوج ابن عنق اتفقت كل الأحاديث التي سمعتها عنه أنه كان طويلا بحيث لا يستطيع أحد أن يقدر طوله، ولم يستطع أحد وصف ملامح وجهه إذ كان رأسه بعيدا جدا عنا نحن البشر حتى لو تسلقنا أعلى النخلات واستعملنا أطول السلالم فلن نستطيع الوصول إليه.
كما أنّ عوج ابن عنق لا يعرف النوم حتى يمدّد جسده الطويل فوق ثرى أرض أو على ضفة نهر أو في رحبة بستان.
وقد اتفقت الحكايات على أنه عندما يجوع يمد يده في النهر فيستخرج سمكة كبيرة، يرفعها إلى أعلى ليتمّ شيّها على أشعة الشمس ثم يلتهمها. ولكن ما لم تواصله الحكايات هو أين عوج ابن عنق الآن؟ وما مصيره؟ وأين اختفى؟
عندما كبرنا قليلا جئنا على حديثه ذات درس من دروس الانشاء حيث وجدت نفسي استحضر تلك الشخصية التي سكنت الذاكرة حتى انها صارت مثلا فكان البعض يصف طوال القامة، نحافها بأنهم سلالة عوج ابن عنق.
لكن أستاذ العربية علّق على موضوعي الإنشائي الذي تحدثت فيه عمّا سمعته عن هذا الشخص العجيب بأنه هو الأخر سمع حكايته صغيرا من خالته التي وصفها بأنّها كانت تغزل الصوف ونحن نحيط بها وحكاياتها تتوالى على مسامعنا ونحن نفغر أفواهنا مندهشين بما نسمعه.
وذكر معلمنا حميدي الشطري أنه اهتم لفترة بالتراث الشعبي ونشر بعض الأبحاث التي سمح وقته بإنجازها في مجلة المركز الفولكلوري «التراث الشعبي» حول بعض الشخصيات التي تحفل بها الخرافات المتداولة في الجنوب العراقي.
وقد أسعدني ما سمعته لأنه يعني بأن موضوعي قد لفت انتباهه، كما أن زملائي في الصف قد ارتسمت الدهشة على وجوههم وهم يستمعون لتعليق معلمهم الذي يحبونه، وقال:
– وصلت إلى استنتاج هو أنّ عوج ابن عنق قد تناسلت حكايته ممّا ورد في أحاديث الغابرين عن الديناصورات المنقرضة، وهذا يعني أنه سليل تلك الحكايات.
صفنت قليلا إذ لم أكن مقتنعا في داخلي بما أسمع، وعندما رأى معلمي حميدي الشطري الحيرة على وجهي توجه لي بالسؤال:
– ما قولك يا عبدالله؟
ولم أجد ردّا سريعا لسؤاله هذا، لكنني وجدت نفسي أتمتم بتردّد:
– لكن الديناصورات كانت نباتية وعوج ابن عنق كان يأكل السمك والخراف والطيور؟
صفن قليلا وقال:
– معك حق، ولكن كل حكاية من الممكن أن يتم تحويرها، فالله وهب الإنسان خيالا واسعا، وليس عجيبا أن يأكل عوج ابن عنق حتى الأبقار والجمال.
وضحكنا ممّا سمعناه، ولكنني في داخلي كان لديّ ما يشبه القناعة التي تكونت نتيجة لتراكم الحكايات عن عوج ابن عنق أنه قد وجد ذات يوم على هذه الأرض وسيعثرون على هيكله حتما في أنقاض إحدى المدن المنقرضة.
كأنّ ما أعتقده شكـّل لي يقينا لا يدحضه الشك.
خبر (1)
تناهى خبر بأن هناك من روى أن عوج ابن عنق عاش في زمن النبيّ نوح، وأن النبي نوح استعان به لبناء سفينته التي أبحر بها حاملا من كل المخلوقات زوجين حفاظا عليها من هجمة الطوفان.
وكان شرط عوج ابن عنق على النبيّ نوح أن يشبعه فقط، فبناء السفينة يتطلب منه جهدا، وقبل نوح بشرطه ودبّ الحماس في جسده وصار يطبق أصابعه على أشجار الجوز والحور والقيقاب والسنديان والزيتون والنخيل فيقتلعها كما نقتلع نحن أبناء هذا الزمان بأيادينا الصغيرة نبتات الفجل والحلباء والحندقوق والرشّاد من حقول مدينتنا.
وكانت أول وجبة قدمها له صحنا مليئا بزيت الزيتون ومعه رغيف خبز فضحك عوج ابن عنق مما رأى وعلق ساخرا:
– ما هذا يا نوح، أنا عوج ابن عنق ولست عصفورا؟
فما كان من نوح إلا أن قال له:
– جرّب أن تأكل، لا تتعجل بالحكم.
فبدأ عوج ابن عنق الأكل، ومهما مضغ من لقمات فإنّ الصحن يبقى مليئا بالزيت، ورغيف الخبز هناك شريحة منه.
ولما شبع قال:
– هذا سحر يا نوح! سحر !
وردّ نوح:
– أبدا، ولكنها البركة، قل الحمد لله.
وردد عوج ابن عنق:
– الحمد لله
وعاد للعمل بهمّة أقوى حتى تمّ بناء السفينة فحملها عوج ووضعها في النهر لتبحر بمن دعاهم نوح لركوبها.
وقد بقي عوج على الشاطئ يلوّح لسفينة نوح المبحرة.
خبر (2)
ذكرت الأخبار بعد سنوات مرت بالبشر أن إحدى بلدان الله المعروفة في التاريخ بحضارتها ورقيّ شعبها قد غزتها أفواج من مخلوقات غريبة، تميزها أقدامها الكبيرة، كل قدم يبلغ عدة أمتار دست في «بساطيل» عسكرية كريهة، لها مسامير جارحة، وكانت هذه الأقدام تهرس كل ما تطأه من أشجار وتماثيل وبيوت ومتاحف وعمارات، حتى حوّلت تلك البلاد بجمالها الخلاب ومياهها الجارية ونخيلها الوارف إلى ركام، حجر على حجر، وتقاتل من بقي حيّا من أبنائها على الخرائب القاحلة والغدران والكلأ الأصفر.
وذكرت الأخبار أن الغزاة كانت لهم هيئات أقرب إلى الديناصورات التي ظنّ البعض أنها انقرضت وتفوح من أجسادهم روائح زنخة كريهة.
ولكن المفاجأة كانت أن من بين الركام ظهرت عظام هيكل لمخلوق غريب ذكر أن طول هذا الهيكل بلغ ثلاثمائة مترا، ولكن ما فاجأهم أن رأس هذا المخلوق غاب عن جسده، فكأنه مخلوق ولد بدون رأس.
وقد نقل عن شيخ طاعن في الزمن قوله بأن هذا الهيكل لن يكون إلا لعوج ابن عنق، ولكن السؤال المحيّر هو من انتزع رأسه من جسده؟ وإلى أين حملوه؟
وظلّ سؤاله مثار حيرة الجميع.