ليلى العثمان
كثير من الأصدقاء يستريحون في زوايا القلب. وهم يجيدون بثَّ الدفء فيه فيظلّ يدق وربما يرقص. كثيرون يعرفون أنهم استوطنوا القلب لأنهم يستحقون هذا الوطن لأننا نحبهم ونظل نتذكرهم حتى وإن غادروا الحياة.
و د. عبدالعزيز المقالح واحد من أغلى الأصدقاء فإن كانوا هم استوطنوا القلب فإنه لم يكتفِ بالمكان فقط بل أراد أن يحفر اسمه حفرًا عميقًا ليبقى الأثر راسخًا ولم يؤلمني هذا الحفر بل كان مصدرًا لسعادتي.
تعرفت عليه عام 2004 يوم دعاني للمشاركة في مؤتمر الرواية العربية وفي استقبالي الأول له شعرت بدفئه وهدوئه وصوته الخفيض ونظرته الساهمة وكأنه يتأمل العالم من حوله ولا تفارقه ابتسامته، هكذا رأيته ولا أدري كيف يراه غيري.
كنت أزور اليمن لأول مرّة وأجهل كل شيء عنه وكنت شغوفة لأبعد حد لأتعرف عليه. وتكرّم د. المقالح أن يمنحني الفرصة وقد آل على نفسه أن يقتطع من أوقاته الثمينة ليفتح لي أبواب سياحة نادرة. ومن خلاله تعرفت على تفاصيل كثيرة في كل مناطقها. لقد كانت الدهشة تأخذني كلما عانقت جبلًا أو شجرًا غريبًا ووديانًا بها ينابيع صغيرة ترتع الأغنام حولها آمنة وكانت غيوم اليمن أجمل ما رأيت من غيوم في بلدان العالم التي زرتها، إنها تتشكّل لوحات وكأنها تسرد حكايات قديمة.
عرّفني على تاريخ صنعاء التي هي أشبه بمتحف مفتوح لكل سائح يزورها خاصة أنها لا تزال تحتفظ ببناء بيوتها القديم وزجاج نوافذها بألوانه التي تعكس الشمس ظلالها داخل البيوت وقد أحببت هذا الانعكاس الشفاف.
كثيرة هي ذكرياتي معه.. كان يصعد بي إلى الجبال الخضراء الشاهقة ويسمي أسماءها وبعض الأحيان يتسلّقها بخفة غزال دون خوف ويدعوني للصعود لكنني جبانة لا أجرؤ وأظل أتابعه بنظرة الإعجاب. كان يعشق الصخور ويمتطي حجارتها بخفة طفل تدهشه المناظر الرائعة لكن كان خوفي يزول ما أن ينحدر وهو سعيد يرش عليّ سعادته.
رافقنا ومجموعة من ضيوف المؤتمر إلى (المحويت) لن أنسى أبدًا ذلك المكان الرائع، منطقة جبال خضراء عالية رؤوسها مدببة مغطاة بالغيوم بكل تعرجاتها نكاد نقطفها باليد. يسري الغيم كثيفا ثم خفيفا ويترك للنظر فسحة ليشاهد الوديان العميقة. لقد عشقت غيوم اليمن التي أذهلتني وكنت كمن سقطت في قلب غيمة.
كنت كل يوم أذهب إلى مكتبه المكتظ دائمًا بالمراجعين والأصدقاء وطلبة وطالبات الجامعة ممّن يعدّون رسائل الماجستير والدكتوراه وأعود مشحونة بالنشاط الذي هو عليه، فلا يكلُّ أبدًا، ينشط كأنه شاب متجاوزًا سنوات عمره.
في المساء كان يأخذني معه إلى المقيل. أول مرّة كان في بيت الكتاب واستغربت المشهد. كل الجلوس أمامهم رزم القات الأخضر، قدّم لي أول قطفة منه فتردّدتُ ثم دفعني فضولي أن أجرب فأنا لا أخاف من التجارب. لسعتني مرارته في البدء ثم اعتدتُ عليه واستعذبته. على مدار الأسبوع تتنوع المقيلات، مقيل بيته المتواضع الذي أجد نفسي فيه وكأنني داخل قلب هذا الصديق العذب، ومقيل الأصدقاء هناك تكون الجلسات التي تضم الشعراء والفنانين والكتاب ويدور الحديث والحوارات وقراءة المقالات خاصة مقال المقالح الأسبوعي ويدلي الشعراء بشعرهم ويعزف الفنانون ويغني المطربون. جلسات لا تنسى تبعث في قلبي سعادة كبيرة. حين أعود إلى الفندق لا أستطيع النوم، فالقات يبعث النشاط في أوصالي واستفدت من السهر وتوقّد الفكر، وانتعشت الذاكرة وكانت فرصتي للكتابة، وقد كتبت بعض قصصي هناك وبعض فصول من روايتي «صمت الفراشات».
لا أنسى يوم اصطحبني إلى مزارع العنب الممتدة بعشرات الدوالي التي ذكرتني بأبيات من أغنية فيروز «أعطني الناي وغني» (هل جلستَ العصر مثلي .. بين جفنات العنب
والعناقيد تدلت .. كثريَّات الذهب) كانت أحجام العناقيد وألوانها مغرية أذكر كيف كان يقطف لي بيديه وأنا ألتهم غير مبالية بمرض السكر وفي الطرقات التي نمشيها يقف بائعو «الصبير» الذي أعشقه فيختار بنفسه الحجم واللون ويقدمه لي بعد أن يقشرونه. أذكر يوما أنه لم تكن لدى البائع سكين فقلت له: استخدم الجنبية، اغتاظ البائع، فالجنبية تعني لليمني رمزا ولم أكن أعرف أنها عزيزة عليهم.
ماذا أقول في د.عبد العزيز المقالح؟ كنت أشعر دائمًا أنني أثيرة لديه. أقول بصدق أنني أحببت هذا الشاعر وقرأت كل دواوينه وما زلت أتابع ما ينشر في المجلات أو ما يبعثه لي بعض أصدقائه بالهاتف، وكان حزني شديدًا وأنا أقرأ قصيدته التي كتبها وهو على فراش المرض وكأنه يستعجل النهاية ليرتاح من كل ثقل حمله خاصة حمل الحرب الذي أثقله ورش الحزن في قلبه الذي تسكنه صنعاء. لقد كان عاشقًا لوطنه ولم يغادره يومًا منذ أن عاد إليه. إن أغلب قصائده مرهونة لعشق هذا الوطن وتعبّر عن مدى هذا العشق.
ذات يوم كنا في المقيل نتحدث عن الحروب الدائرة في لبنان والعراق وسوريا والتي أهلكت شعوبها فقلت: كل بلداننا العربية ستغزوها الحروب وتدمرها، أذكر كيف رفع ذراعه وأشار بإصبعه بكل ثقته: (إلا اليمن بعد الاتحاد انتهينا من الحروب). تمنيت أن تبقى ثقته ثابتة حتى اجتاحت اليمن الحرب وتسببت بالموت والدمار والجوع وما تزال تعذّبني فلا أطيق أن يكون مصير هذا البلد الحبيب هكذا.
لقد حرمتني الحرب من زيارة البلد الذي عشقته وكنت أزوره في العام أكثر من مرّة أدخله مفعمة بالسعادة وأغادره حزينة وأحيانا أبكي بكاء عاشقة تفارق حبيبها.
أدعو الله أن تخمد فيه الحرب لأسرع إلى زيارته وألتقي بأصدقائي هناك وأولهم صديقي د. المقالح. أتمنى أن يطيل الله في عمره ويمنحه الصحة والعافية فهو ثروة عربية غالية.