حميد سعيد
للراحلينَ ..
لها.. ولي.. ولآخرينَ
وللتي خبأتُها خوفاً عليها..
في حروفِ قصيدةٍ ما عدتُ أذكرها..
سأكتبُ .. ما ينوءُ به الخيالُ
أمْ أنَّ ذاكرتي تُشاكسُني..
وتعبَثُ بي..
وتأخذُني إلى ما كنتُ أمحو
في الطريقِ إلى …… التقينا
واختفيتِ..
وكنتُ أبحثُ عنكِ..
مَنْ أحببتُ بعدكِ من نساءٍ..
يكتشِفنَ أريجَكِ المخبوء في أحلامي البيضِ..
التي شاركْتِني فيها..
أُحاوِلُ أنْ أُعيدَ إليكِ ما أعطيتِني..
مما يمد الشعرَ بالشجنِ.. الفراتُ يدقُّ بابي
من سيفتحُهُ.. وأنتِ بعيدةٌ
وأنا تُغيِّبُني فضاءات الكتابةِ..
لم أعُدْ قلقاً..
سأكتِبُ أيَّ شيء.. أستعيدُ به غيابي
تَتجمَّعُ الأشجار حيث أكونُ..
يسألُ بعضُها عنّي..
وتقرأُ ما أقامَ من العواصفِ.. في كتابي
كُنتُ ابتكرتُ لها نشيداً..
ضَيّعتهُ..
أعاتِبُ الأشجارَ.. تغلُقُ بابها دوني
وتترُكني وحيداً..
من سيسمعني.. وأنتِ بعيدَةٌ
وأنا هناكَ.. أُرمِمُ الماضي..
أُحاوِلُ أنْ أراكِ.. كما رأيتُكِ
توقظين الوردَ بالضحكِ الجميلِ..
لكِ أنْ تقولي..
بادلتُ مضماري بمعتكفٍ
تضيقُ به خيولي
لكِ كل قارات الحضورِ..
ولي أُفولي
فرائض الأطلسي
هادئاً..
يبدأ الأطلسيُّ سهرتَهُ
وتجيء إليه الفناراتُ مُثْقَلَةً بالعطايا..
وما أودعتها الضِفافْ
شاركتهُ الكواكبُ موكِبَهُ الملكيَّ..
ومَدَّتْ له في الطريق إلى الليلِ سجّادةَ الضوءِ..
يمشي إلى عرشه مترفاً وحيياً..
سخيّاً .. بما خبّأته القرونْ
يُعيدُ على الريحِ ما كتبته العواصِفُ..
يسمعُ منها تعاويذَها..
ويمُرُّ بهِ الراحلونَ إلى موعدٍ والغيابْ
يتركونَ لديهِ عناوينَ أُخرى..
وينسونَ أسماءَهمْ
في خزائنه ما تزال لآلئُ أسلافهِ
تَسِمُ الظُلُماتِ بمسمِها
وتُقيمُ على وسمِها مُدُناً
أنبتتها الأساطيرُ في لحظةٍ عارضةْ
تتوالى الدهورُ ويُخفي فَرائِضَهُ
هلْ تعلَّمَ عوليسُ منها
وأرسى سفائِنَهُ في موانئه الغامِضةْ
وهلْ كتبَ السندبادُ أُولى ملاحمِهِ السبع.. فيها
وأنبأَ إيهابَ عَرّافُها..
أنْ سيمحو خطاياهُ عندَ الإيابْ
قادِماً من تضاريس ما سطَّروا
من بلادٍ تُشارِكُهُ كهرمانَ براكينِهِ
وسيفتحُ هذا المساء لها البابَ
للساهرين..
وللماءِ..
للسمكِ الذهبيِّ الذي جاءَ منها..
يَمُدُّ موائدَهُ بينَ حَيدِ وحَيدِ..
تَمُدُّ إليها يداً
وتعودُ بِما وهبتها غياباتُ مرجانِها من ثِمارْ
إنَّ أولى فرائضهِ ..
أنْ يراهُ مريدوهُ شيخاً حكيماً..
له ما لهُ
وله ما عليهِ
مُذْ كانَ يُسلِم أمواجَهُ للرياحِ..
ويبتكِرُ العاصِفةْ
يقول لسِربِ الدلافين كُنْ حَذِراً من مياهي
وللأزرقِ المُتَخَفّي وراءَ زبرجدِهِ..
كُنْ كما شئتَ..
إياكَ أنْ تَستعيرَ قميصَكَ مما تخيَّلهُ الشعراءْ
أيُّها الأزرقُ المُتَخَفّي وراءَ زبرجدهِ..
سنكونُ معاً بانتظار المساءْ
أفردَ الأطلَسيُّ في دفترِ الماءِ..
ما يستعيدُ به وردةَ الذاكِرةْ
سيقولُ لها..
أيَتُها الماكِرةْ
لِمَ أخفَيتِ في ما رويتِ.. سَجايا البِحارْ
أغفَلتِ كلَّ الذينَ استجاروا بها ..
من أباطِرَةٍ وملوكٍ..
ومن فِتيَةٍ عابِثينْ
انتظرتُكِ في محفل الظُلُماتِ.. مئات سنينْ
لِأقصَّ عليكِ الذي كانَ..
كلَّ الذي كانَ..
مِما محا الملحُ من كُتُبِ الأولينْ
وما جئتِ..
أمْ جِئتِ ؟
في سفُنِ الأمسِ ظلَّ الرجالُ يموتون تحتَ الصواري
أكانوا طعامَ الضواري..
سأذكُرُ ما أودَعَ الحُزنُ في ما يُغَنّى..
الشَجيُ .. يُثيرُ الشجى في الشجى..
وتَجيء الأعاصير .. تُسْرِعُ شيئاً فشيئاً..
على نقراتِ الدفوفْ
لَمْ يَعُد للضيوف .. مكاناً
تشظَّت مراكبُهم وتَمزَّقت الأشرعةْ
للسماءِ قُلنسوةٌ تتبارى البحارُ إليها..
لِتَغنم َمنها.. حقولَ النجومِ وأقمارها..
وهي تنزلُ ضيفاً على الماءِ..
يرتبِكُ الأطلسيُّ من أيِّ بابٍ سيُدْخِلُها ..
وبأيِّ اللغاتِ تُغَنّي لها الملِكةْ
وتُقيمُ لها مملكةْ
وتقول لها..
أتبيعُ القياثِرَ في ما تبيع وترهنُ أوتارها
تَتعلَّمُ منها فروض الشذا..
أمْ تراها.. تَكَتَّمُ عما رأته وما ستراهُ..
وتختارُ أسئلَةً مُربكةْ
. . . . . .
. . . . . .
ساحِلٌ لَيِّنٌ..
وبيوتٌ من القشِّ يدخلها الماءُ..
أنّى يشاءْ
يُشاركُ أصحابها الفقراءَ..
ما وفَّروا لليالي الشتاءْ
تطير النوارسُ مزهوةً..
وتمرُّ السلاحف عجلى..
إلى أين؟
كلٌ له من فرائضه ما تعوَّدَ من دهره..
وتعوَّدَ من غَدِهِ..
وارتضى ما اصطفى من طقوس الفناءْ
ما يتذكره عن بستان عبد الله
كانَ ديكاً نزِقاً. .
في آخر الليلِ وفي الفجرِ وفي…
حتى إذا حلَّ النهارْ
مَرَّ كالفاتحِ مَزهوّاً بما فيه ..
ويخطو.. خُيلاءً ووقارْ
يتشهى أيَّما عابرةٍ في الحقلِ.. يَغويها
ويدعوها إلى حَبَّةِ قَمحٍ..
فإذا ما نال منها..
جاءت الأُخرى..
إلى أنْ يرِثَ الليلُ النهارْ
واقفاً فوقَ سياجِ الحقلِ..
يستعرضُ ألواناً كما لوحة سيزان..
وألحاناً..
إذا أذَّنَ في الفجر وصاحْ
ومضى يغسلُ ما ظلَّ من العَتمةِ بالنور..
وما ظلَّ من الليلِ على وجه الصباحْ
يتفلّى في المراحْ
غَزِلاً.. يقتنصُ اللحظةَ من سيِّدة التفاحة الأولى
لها مملكةُ الليلِ إذا ما أقبَلَ الليلُ عليها
ولهُ ما تهَبُ الغلمةُ في عزِّ النهارْ
امرأةٌ من زمن الجوريِّ..
يختارُ لها العاشِقُ عِطرَ العيد والقرطين..
والوردةَ في الأنف الفراتيِّ الجميلِ..
بحِزامِ ضيِّقٍ تأتي وثوبٍ واسعٍ..
تقطِفُ ما تنبتهُ الأرضُ من الخُبّازِ والنعناعِ..
يدنو..
آهِ لو كانَ فتىً يختارُ من بستانِها الظلَّ..
ستُعطيهِ الذي لمْ تُعطِهِ الوردةُ للعطّارِ..
لو كانَ فتىً يُدخِلُها عاصفةَ الرغبةِ في الليلِ..
ومن مخدعها يفتحُ أبواب النهارْ
يا لهذا الحارس الفجّ.. يلِمُّ الثمرَ الناضِجَ ..
في كلِّ صباحٍ.. ويُعرّي نخلةَ البربن من مرجانها الأحمرِ..
والسِدرَةَ مما اكتنزت من ذهبٍ..
تعتذِرُ البَرحِيَّةُ العيطاء للبلبلِ..
ما عُدتُ كما كنتُ..
لقد فارَقَني النبعُ الذي مُذْ كانَ..
يغفو بجواري
رحَلَ النبعُ إلى ما لا أرى..
جَفّتْ ثِماري
عابرٌ يخطِفُهُ خِلخالُها الفِضِيُّ..
في شمسِ الضُحى..
يمشي على وَقْعِ خُطاها
ضاعَ في مُشتَبَكِ الآسِ..
رآها..
قَطَفَ الوردةَ من كوثرِ نهديها..
وفي مِحزَمِها تَختَصِمُ الألوان..
أو تَغتَلِمُ الألحان..
مَنْ يغتابُ إبطيها إذا ما استذأَبَ العطرُ
أتى مستسلِماً بينَ يديها
أودَعَ النخلُ العراجينَ من الأسرارِ ما تُخفي..
وما تُعلِنُ عنهُ
كثلُّ مَنْ مَرَّ بها رافقهُ الماءُ إليها
فاشتكى من ظمأٍ
هل ظمئ الماءُ..
مضى يسالُ عن أنهارهِ الأولى..
عن البئر التي عَلَّمها الأجدادُ..
أنْ تستقبِلَ الدالي..
بما تعرفُهُ من مُعجمِ الخِصبِ..
ومن فقهِ المياهِ
يستفيقُ الحارسُ الأحدَبُ من قيلولةٍ صيفِيَّةٍ..
كانَ على مقرُبَةٍ من كوخهِ الطينيِّ نهرٌ غامِضٌ
يهجرُهُ الماءُ متى شاءَ..
ويبدو وَقِحاً حينَ يَفيضُ..
يختفي النملُ وتنساب الأفاعي وجَلاً..
يألفها الحارس مُذ كانَ فَتىً
كلٌ لها اسمٌ يناديها بهِ..
تبحثُ عن صيدٍ فلا يزجرها..
حتى إذا ما قاربت خمَّ الدجاجات ..
نهاها
أقبلَ العيدُ وأقبلن على بستان عبد الله..
كلٌ حملت من شغف الأمسِ حكايات..
ومن ذاكرة المُهرَةِ ما أخفى الصهيلْ
ولكل امرأةٍ قاموسها المغلقُ
لا تفتحهُ إلا لمن شاركها قطفَ الثِمارْ
يتباهين بما في الحَلَماتِ السُمرِ من جمرٍ
وما خبَّأن فيها من سُعارْ
يتواصينَ على ما يهبُ الليلُ
ويوقِدنَ بخوراً طَيِّباً تحت العباءات..
يُوَّدِعنَ النهارْ
عادَ من بعدِ رحيلٍ مُربِكٍ..
يسأَلُ عنها
فرأى ما كان بستاناً .. بلاداً خَرِبةْ
ورأى سيدة الأمس التي فارقَها..
في مَسغَبةْ
ورأى مطربةَ الحيِّ عجوزاً شهربةْ
مزَّقت أوراقها واعتزلت عُشّاقها واعتكفتْ
فارقت موالها واستبدلت ناياتها والعود والمزمارَ..
بالعزلة والصمت..
وما ظلَّ على الجدران من تلك السنينْ