أيها الغائب الحاضر..، ما هكذا تتوادع النوارس ، إنها لا تبقي المواني، بعد رحيلها مكسرة – كحالنا – هكذا.. هكذا..
يتمرغ الحزن في جسدي، ينثرني على فراشي كخرقة بالية ، أتثاءب .. أتثاءب ، لكن .. لم أنم . ما هذا الليل الذي يلوكني بين شدقيه ..؟! تعود بي الذاكرة (إن كان بقي منها شيء ما) الى أسبوع مضى..
– كان يقول لي : لماذا نعيش؟ (وهو يعلم أنه مسكون بذلك المتربص لنا..) .
بشير .. نحن نعيش لنموت ، ليس إلا .. (هكذا أجبته بإقتضاب ) ولأن كلامنا كان بلا بداية فحتما لم نعرف أنه انتهى، أو أنه سينتهي!
لماذا شعرك دائما يحمل عبق الحزن والألم ؟ (كان يسألني ليخرجنا نحن الاثنين من المعمعة النفسية التي تتلبسنا).
– لأني لست شاعرا بل تابوتيا (وأردفت بغير موضوعية ) هل من العدل أن نموت هكذا.. هكذا كما تموت القطط على قارعة الطريق؟!
– – حزنك هذا، وشعورك المرهف هو الذي أعطاك الحق بأن يقال لك شاعر، لأن ..
– قلت لك ألف مرة ..، أنا لست شاعرا، لأكن أي شيء.. أي شيء آخر إلا أن أكون شاعرا!
– فلتكن ما تشاء، لكن لابد أن تكون شيئا ما، وحتى لواردت أن تكون لا شيء، فأنت بهذا تختار شيئا ما.. (قال لي كل هذا ليهديه من روعي).
أعلنت الساعة الرابعة صباحا ، والنوم لا يزال يعلن جفاءه لي .
ينذر بي هذا الليل ، لرياح الزمن الملعونة !، ماذا سيبقى مني أيها الموت ؟ أيها المارد الذي يتجول في داخلي لينخرني كبقايا عظم ، يبقيني فتاتا، فتاتا..
تتعولم الأحزان في جسدي وانا أتمرغ على فراشي.. تارة أرى السقف يهوي علي ، وأخرى أراني أبكي ! لتحرق وجنتاي دموع ساخنة لحعذراء فقدت عفتها!
أحسست بان النوم قرر ان يصالحني، ولكن قد يكون لوقت ما، هو يعلمه أكثر مني ، عندها لم أحس إلا و..
شيء غريب يقترب مني، يخرج من الظلام (لا أميزه ) جسدة كالثور، أذناه مشعرتان ، عيناه صغيرتان كعيني قط .. وهو يقترب مني كثيرا، وأنا أرتعد .. أتصبب عرقا، إنه .. لا، لا أرجوك ، لآ تقترب مني، أنظر الى الخلف يا إلهي! هاوية سحيقة تحتي.. وهو يقترب مني ، يد كبيرة تخرج من فمه ، تنتزع لساني ، يسحبه حتى يتدلى على صدري ، دم أحمر متخثر يخرج من أنفي، إنه .. يسلخ جلدة رأسي،..آآآه، حلقي يتشقق ، يغرس أظافره في محاجر عيني يخرجهما.. أسحب جسدي الى الخلف .. آآه إني أسقط ، يرتطم راسي بحجر كبير، وأنا مازلت أسقط أسقط ..آآآآه ، بلا نهاية أحس أنى سأرتطم بالأرض …
سأرتـ ط…آآآآآآآه…
أفقت .. وفرائصي كلها ترتعد، كنت اتصبب عرقا.. كان شبحه يطاردني، أراه أمامي على الجدران الأربعة ، تملكتني نشوة بكاء هيستيرية .. أخذت أبكي كطفل كسرت لعبته الوحيدة .
– كان يقول (ذات يوم ): لماذا لا نسافر .. أي مكان ! .
– الى أين مثلا ؟ (كنت أجيبه ، وأنا أحس بغرابة رغبته ).
– أي مكان ما، بعيد عن هنا.. لنطبق فلسفة المكان (لغاستون باشلار) ، لنغير الوجوه والأماكن التي نرتادها، أحس بضيق .. من هذا الوجود!.
(كنت لا أملك له جوابا). أحسست بأن روحي مخدشة بجروح بليغة ، أحسست برغبة لشيء ، ما .. لا أعرفه قد يكون الهروب من هذا العالم ، كما هو كان يتوق الى ذلك !!.
تقتلني هذه الذاكرة الملعونة ، تحملني الى ذاك الخميس.. كنت أنزل من السيارة مهرولا، أقلت السيارة ؟ لعنها الله من أداة ! .. كان ذلك الغائب مسجى على السرير.. كان وجهه غارقا في لون أحمر قان ، وممرضة تضخ له الأوكسجين بكلتا يديها ( من الأنبوب المطبق على فمه ) والطبيب الآخر يضغط على صدره, كان يحاول أن يساعد ذلك المسكين ( القلب ) الذي بدا حينها برسم خط مستقيم دلالة الاستسلام وعندما يئس الطبيب من تدليك القلب ، تدخل اخر ولعلها اخر الامال بالصدمة الكهربائية ابتعد الكل عنه ، المرة الأول غير مجدية ، الثانية كذلك ، الثالثة ..
حينها كان الجميع ينسحب من تلك الغرفة ، وبدأوا بنزع كل شيء عنه ، ولفوا ذلك الغائب ! بثوب أبيض كنقاوة قلبه المتوقف !
لالا.. لا،لالا.. لا ليس صحيحا , لست مصدقا ، لا بل لست مقتنعا أنه مات ! من قال ذلك ؟
لقد تناول إفطار الصباح معنا, كانت الساعة حينها الثامنة والآن التاسعة والنصف ، إنه .. وقت قصير ساعة ونصف فقط ، كنت أصرخ .. كالأم الثكلى !.
– أصبر يا رجل .. قد نموت كلنا في ثانية ، فالموت لا تعوقه ساعة ونصف . كان رجل ما يواسيني بكلام كثير، لم أنصت له أو بالأحرى لم أسمعه بالأساس .
– كيف حصل هذا؟ لقد وعد أمل (ابنته ) بأشياء كثيرة ، سيحضرها لها عند رجوعه من السوق كانت تنتظره تلك الأشياء قد يكون وعدها بفستان أو بعروس صغيرة بعيون زرقاء تتباهى بها أمام الأطفال .
كنت أركب السيارة التي نقلت جثمانه ! كانت تهزني بسرعتها الجنونية ، كما كانت تهتز الروح كالطير الذي قطع راسه !.
عندما وصلنا البيت كانت أمل تركض جهتنا، لتسلم الأشياء التي وعدها بها أبوها، لكن للأسف تبخرت أحلام أمل التي بنتها كلها.. إنها الصدمة الأولى لذاكرتها البريئة (والصدمة القاتلة لذاكرتي المنهكة ) .
أخذت أمشط الأرض – بعدما أهلنا التراب على ذلك الغائب الحاضر! بقدمي المقيدتين ، بهموم يحملها هذا الجسد المنهك بذاكرة الموت اللعينة .. وأنا ابتعد عن المكان الأخير الذي اختاره لينام (برغبة القدر التي تلاصقنا)، كنت أبتعد.. رويدا رويدا لعلي أريح هذه الذاكرة المنهكة برائحة الموت .. (كنت أنظر خلفي وهو قابع هناك وحده ) وأنا أتركه مبتعدا .. أبتعد .. كنت أرى أمامي امل .. تنتظرني ! فنظرت الى خلفي فرأيته قابعا هناك بصمته .., حاولت ان أتقدم خطوة أخرى.. لكن دون جدوى.. فقد كانت أمل تقف أمامي، تحمل في قسمات وجهها ذاكر ته الشائخة .. فلم أعرف أين أخطو بخطوتي القادمة الى الخلف أم الى الوراء؟! . حتما كلاهما مصير واحد ، يحملان ذاكرة الموت الشائخة !!
الخطاب المزروعي (قاص من سلطنة عمان )