أميرة الشحية
التقطت هذه الصورة في جولةٍ لموقع الخشبة بالشرقية، حيث يعمل فريق ألماني من جامعة تيبنغن على واحد من أهم وأقدم أدلّة تعدين النّحاس بسلطنة عمان، ما ترونه في الصورة عبارة عن مبنى، تقرر أن نطلق عليه اسم أبراج العصر البرونزي في شبه الجزيرة العمانية، التي على عددها الكبير، وهندستها الضخمة، لم تحسم وظيفتها إلى الآن. أميل إلى الاعتقاد أن ما دفعني لأخذ لقطة سريعة هي الزاوية التي كنت أقف فيها، فقد بدت لي أساسات البرج أشبه ما تكون بكتبٍ مرتصةٍ بانتظامٍ. يقول ماريناتوس مصوراً ما تنضوي عليه عملية التنقيب” أن تنقب، هو أن تفتح كتابًا دوّنه الزمن بلغته، في حديثه إلى الأرض”، وكمعادلٍ لهذه الصورة الشاعريّة، يطلق الآثاري مصطلح” السجل الأثريّ” على كل ما يخلفه السلوك الثقافيّ للإنسان، فهو لا ينقّب عن قطعٍ أثريّةٍ فحسب، بل قيمة علميّة تستمد جزءَها الأكبر من تموضعها في مكان دون سواه. ولنا أن نفسر امتعاض مختصّي الآثار من تأثير الهواة وجامعي الآثار على هذا السجل، وهم يعتقدون أن نقلهم للقطع الأثريّة من سياقها بمثابة تنقيب، وحفظ لها!
يرى الواصل أن للإنتاج الثقافيّ ذاكرةً متعددةً، وهو ما يسري بنا إلى قاع الذاكرة المهمّشة١. تلتقي هذه الفكرة مع أهم مبادئ علم الآثار، مبدأ مفاده أن لكلّ شيءٍ ذاكرة، للإنسان وثقافته الماديّة، كما هي لسرديّاته وأغانيه وقصصه؛ ففي اعتمادنا قصة واحدة، وصوتًا واحدًا قد ينشأ نوع من الانفصال عن الكينونة الأولى، وكما يقترح عياد ابلال” إذا كانت الذاكرة الثقافيّة، ذاكرة جماعيّة، فإن التّاريخ الحقيقيّ للبشرية، هو تاريخ لذاكرة الإدراك البشري”2. إنّ لهذا الانفصال صلةً بانقطاعنا الطويل عن ذاكرتنا الرابضة تحت أراضينا، ولذا فنحن بحاجةٍ لاستقراء الجذور، ولن يتمّ ذلك دون فحص السجل الأثريّ الذي يضمّ الثقافة الماديّة التي تُعاقب عليها الزمن تحت التراب. يصف مصطلح “الرّواسب الثقافية” في علم الآثار ما تُخلّفه العلاقة بين الإنسان والمكان بشكلٍ ماديّ، حيث تترسّب الذّاكرة في كل شيء بدءًا من بقايا عيناتِ الكربون المتفحّمة وبقايا العظام والأسنان وحتى الصخور التي تؤلف طريقًا ومسكنًا وتمثالاً. لقد اقترن البحثُ الأثريّ في معظم دول الخليج العربيّ مع اكتشاف النفط بالمنطقة والتنقيب عنه. فتزامن التّنقيب عن النفط مع التنقيب في الذاكرة من خلال أولى البعثات الأثريّة، إلا أنّ الأخير لم يواكب الزّخم الذي لحق باكتشاف النفط وأدخل دول الخليج العربي سوق النفط العالمي، وبالتالي أعادَ تشكيل المنطقة بالكامل، في حين غابت الذاكرة القريبة، والبعيدة على حد سواء تحت الانقاض.
على صعيد آخر، فغالبًا ما كانت الكتابات الأكاديمية المختصّة بالآثار في الشرق الأوسط تستبعد الخليج العربي نتيجة محدوديّة الاهتمامات البحثيّة به سابقاً وقيود النشر المفروضة التي أدّت إلى تهميشه. حيث تُعزا قلّةُ البحث الأثريّ في دول الخليج العربي إلى أن الشّواهد الأثرية لا تظهر شاخصة، إذ يمكن تتبع حضورها الهادئ والمهيب في الوقت ذاته، كشواهد منسيّة تعيش بيننا؛ إلا أنه كلّما اضمحل الأثر كانت سرديّته توغل بنا أكثر في القدم. لقد نجم عن ذلك استغراق ضمنيّ لشبه الجزيرة العربية في النطاق الأوسع لنقاشات تراث الشرق الأوسط، على الرغم من التميّز التاريخي والجغرافي والثقافي والإثنوغرافي في هذه المنطقة. فإما أن تؤطر الدراسات حول شبه الجزيرة العربية ضمن العالم العربي، أو حدود العالم الإسلامي، ومن الواضح أنه قد تم تعديل خطاب التراث بشكلٍ موجّه في كل منطقة من هذه المناطق المتداخلة3. يدعم هذه الفكرة ما تقوله ساندرا أرنولد، من أن “الماضي ما هو إلا نسخٌ مختلفة جذرياً لنفس السجل الأثري؛ إلا أنه معدل لجماهير مختلفة”4، وفي مقاربة بسيطة، فإن علم الآثار قد بدأ في جمع سجلٍّ ماديٍّ يناقض ما نعرفه عن” العصر الجاهلي” وفق الروايات التاريخيّة، التي قد تم الاستناد عليها لفترة طويلة. إضافة إلى ما سبق، فما تزال معظم الإسهامات الأكاديميّة القليلة في هذا الجانب تكتب بالانجليزية وتقرأ من قبل نخب معيّنة، فيما تنازع أقسام الآثار للبقاء، وتتمركز المتاحف الحكوميّة في عواصم دول الخليج، مع ندرة وجود المتاحف الخاصة التي تضمّ سرديّات الأفراد بتنوعها؛ لهذا تعاني شعوبنا من فجوات بالذاكرة، قد نستطيع ترميم بعضها من خلال الفن والأدب إنتاجاً، واستذكاراً. بالوقوف على أعتاب أولى نتاجات مدن منيف الملحية يمكن التماسُ سرديّات وأصوات متنوعة لذاكرة هذه الأرض في زمنٍ ما.
يقر منيف فيقول، ليس على الأديب أن يُواجه التّاريخ، بل أن ينسجم معه. في فسح الأدب التي أتخذها لنفسي، لا أحبّ تلقّي التّوصيات الروائية، أتبع الحياد وأترك الخيط للعنوان والغلاف، وفي أحيان كثيرة عندما يسألني أحد عن رواية أغرق فيها، قد لا أتذكر اسم كاتبها، وبسبب التّوصيات الكثيرة التي أتتني تجاه هذه الخماسية، فقد أرجأت قراءتها ما يقارب الثماني سنوات، بدأت بالتيه في وادي العيون، يسرد منيف ذاكرة المكان، والقوافل، والعجائز؛ حيث لم يحدث أن عرف أحد أين تنتهي الصحراء، وليألف وحشتها من يرتحل فيها، كان لزاماً عليه أن يطلق الأسماء فهي “الصحراء التي تجعل للأسماء أهمية تفوق غيرها”. كتب منيف عن الماء وشحه الذي يحفر في نفوس سكان الوادي، عن هاجس الرحيل الذي يشبه ارتحال الماء في واديهم. تدّعي سعدية مفرح أن منيف كتبها بروح استشراقيّة؛ إذ تذكر “نظر منيف (الروائي) إلى أهل الجزيرة العربية، قبل ظهور النفط تحديداً، بما يشبه نظرة المستشرقين، أو حتى العرب من خارج الجزيرة العربية، فأظهر سكّان المنطقة بدائيين جداً، ولم يعرفوا ايّاً من اشكال الحضارة قبل الثروة النفطية وبعدها بسنوات”5، كما تعقب أن “معرفة عبد الرحمن منيف بالتاريخ، واجتهاده في ملاحقة مصادره، لا يمنحانه حقَّ أن يكتب التاريخ بروح الرواية”6، لكنّني أدرك أنّ منيف يقرأ الأرض والإنسان كما يقرأها الآثاري والأنثروبولجي، وقبلهما من سكن المكان وتجذّر فيه، ولكن هذه المرة بروح الأديب، وبحصانة الأدب. يستعير أستاذي عيناي البكر كلّما زرنا موقعًا أثريًّا؛ فيصر أن أستقرأه قبله، بفكر أول من حلّ في المكان دون معرفة. فأتحرك فيه، ألمس الريح، أتبعها، أبحث عن الماء، أعلق عيناي بحثا عن علو ليحميني، ثم أختار مستقراً. لقد خُصص مسارٌ كاملٌ في علم الآثار لدراسة الإنسان متنقّلاً، الإنسان الذي فضل الاحتفاظ بدينامية بقاء معتمدة بالدرجة الأولى على الارتحال، منذ العصر الحجري وحتى يومنا هذا، يقول منيف وبكل فخرٍ أن جزء السفر والترحال فيه عائد إلى بدويّته، من يرى اعترافًا كهذا قد يحمل نفحةً استشراقيّةً، فهو أول من ينتقص ضمنيًّا من طبيعة الإنسان المرتحل. توجد شعوب ما تزال تتبنى الارتحال كجزء من الهوية، منهم البدو الرحل حول العالم، والغجر الذين لا يبيتون في مكان مرّتين، وأصدقاءٌ كثرٌ أعرفهم. كما أننا قد نجد بعض آثار هذه النزعة في حركة مجتمعاتنا موسميًّا بين الساحل والداخل. يرى هالبواش أن الذاكرة تتكون في إطارها المكانيّ، لتحدد الجماعة من خلالها صورتها عن ذاتها، بحيث إنها لا يمكن أن تعيش في فضاء آخر لا يشبهها؛ لأن استمرارها مقرون باستمرار الفضاء المكاني الذي تتشكل فيه، ولا يتم ذلك إلا باستمراريّة الجماعة في سلوكها تجاه أمكنتها7.
يصوّر منيف علاقة المكان بسكّانه، وكيف يرسم العلوّ أو الانبساط ذوات من يستقرون فيه؛ فأهل الظهرة الساكنين فوق الهضبة بجوار الوادي “يرون ويعرفون لكنّهم لا ينزلون إلا بتروٍ، لهم نظرة مترفّعة لأنهم على ثقة أن الحياة مهما قست عليهم فلن تطحنهم، سلوكهم خشنٌ ولكنهم إذا وثقوا، وأحبوا، أعطو كل شيءٍ ورضو بكل شيء”، ولأنني أنحدر من مكان يُدعى رؤوس الجبال، أعرف أنه سلوك سكان الأعالي وفي كل الأراضي. فيما تمرّس سكان الوادي على استقبال القوافل وإكرام ضيوفهم، ثم مفاوضتهم ومقايضة السلع، ضمن نظام مبنيٍّ على اقتصاد الواحات*، ومستمر منذ العصر البرونزي في شبه الجزيرة العربيّة. إن سرديّة الإنسان ومكانه يفصحان عن ذاتيهما، رغم أن منيف لا يؤرخهما.
لأول وهلة اعتقدتُ أن منيف أراد بعنوان خماسيته “مدن الملح”، أن يقارب مسارات البشر بالماء**، فالمطر عندما يهطل ينتهج مسارين، إما انسكابه في البحر المالح، وإما انتهاءه الى صحارٍ ملحيّة كلما عبر إلى الداخل، إذًا فنحن مسار الماء العذب الذي لا بد وأن يستقرّ في الملح، خلف قصة الأرض هذه وارتحال إنسان الصحراء فيها سرديةٌ قديمةٌ، لكن منيف اعترف أنّ ما قصده هو ذوبان المدن الملحية ما إن يسقط عليها المطر. المدن التي ظهرت فجأة بفعل النفط بمعزل عن ذاكرة الأرض والإنسان. وعندما نذكر المدن هنا، فنحن نسترجع جذر المدينة الأول الذي نبت من الواحة، ونستعيد تواضع سكان الخليج العربي أمام طبيعتهم، إن إرثنا المعماريّ بُني بروح الأرض منسجمًا معها، ومتلاقحًا مع حاجات الإنسان فيها. إذ تُشير آخر الدّراسات الأثريّة إلى أنّ نظام السور في المستوطنات قد بدأ في العصر البرونزي، وتبلور إبّان العصر الحديديّ، وليس أدل على رسوخ هذا التقليد سوى استمراره، فزيارةٌ واحدةٌ إلى إحدى الحارات العمانيّة القديمة المتراصة ضمن سور، توزع فيه المياه، والهواء، والمساحات بنظام عادل ومدروس، كفيلةٌ بإعطائنا صورةً عن التحوّل الذي حاد بنا إلى هجران ذاكرتنا. وفقاً للشّهابي، فإن شركات النفط كانت السبب الرئيسي في الاستعاضة عن نظام المدينة التقليدية بمدن الحداثة النفطيّة، عندما استجلب الموظفون الإنجليز والأمريكان ظاهرة الفلل في المجمّعات السكنيّة المغلقة8. مورس التوحّش تجاه الأرض فغرست أعمدة الحديد والإسمنت في الشواطئ، والصحاري لتتوسع هذه المنشآت ويُقصى الإنسان فيها عن المشهد، فيبدأ اغتراب المدينة. يدرس الششتاوي لحظة فقدان الذاكرة المعمارية التي أصابت الخليج، في كتابه “مدن مؤقتة”، ونحن اليوم إذ نلقي نظرة على التحول الهائل في معمار البيوت ويدور في بالنا، هل نتذكر متى حدث كل ذلك؟
تتخذ سرديات الذاكرة في التيه أصواتاً عديدةً، متصلةً دائماً بالحسّ تجاه المكان، فوادي العيون في ذاكرة متعب الهذال وعجائز الوادي، مختلفٌ تماماً، إنه يعود إلى أيام نوح. عندما انزرعت سلالة الهذال الشجاعة كأشجار النخيل وطوقت الوادي، هي نفسها الأشجار التي خُلعت من أماكنها لتحفر شركات تنقيب النفط. يعكس منيف بدقة، حساسيّة إنسان الصحراء تجاه كائنات محيطه، عندما يغضب متعب لأن أصوات الآلات تخيف الجمال، إن ذلك ما هو إلا تجلٍّ واضح لعلائقية الذاكرة بين البشر وكل كائن يحيط بهم؛ إذ إن علاقة الإنسان بجمله في الخليج العربي وجدت وتطوّرت، بل وخُلّدت مع كل تحوّل قد مرّ بها؛ بنقشها على أسطح الكهوف، والنتوءات الصخريّة. لنساء الوادي أصواتٌ متداخلةٌ أخرى تتذكر، يسرد من خلالها منيف حكايا فطرية لم تنقح ولم تحسم يوماً عن ولاداتٍ وأوبئةٍ ومجاعاتٍ. هذه الذاكرة التي أطلق عليها الواصل اسم “ذاكرة النحس”، هي ذاكرة تقع بين الأرشيف وما يترسّب، ويتسّرب إلى الأغنيات والحكايا، لتشكّل وتُعيد بناء الأنظمة التي تُسهم في استلاب الذاكرة، وتكتب التاريخ9. يتلمّس منيف موضع إنسان الخليج في هذا الأرشيف، ففي كل مرة تُقبل لجنة لتدوين الولادات، كان تجهيل وتغييب سكان الوادي بالمقصد من وراء هذه السجلات، يدفعهم إلى إسقاط أسماء البنات، كما حدا بهم إلى أن ينشروا أولادهم في المزارع حتى لا يلتحقوا بالجنديّة. على النقيض من ذلك؛ فقد ذكر بعض سكان الوادي كلّ أولادهم؛ المسافر منهم والمتوفّى طمعًا في المؤن التي توزعها الحكومة وفق الشائعات. وبقي قسم آخر لا يثق بالغاية من هذه السجّلات التي لم تدوّن يوم مات الناس عطشاً في الوادي. يظهر أول صوتٍ دخيل، في الصفحة الثالثة والثلاثين، عندما يبلغ فواز أباه متعب عن ضيوف من الفرنج، ولكنهم يتكلمون العربية. إنهم يسألون عن القبائل ولهجاتها ونزاعاتها وعن الطرق والرياح ومواعيد المطر. ليسقط سكان الوادي من بعدها في غيابات حول هؤلاء الزوار، فالضيف كما اعتادو يعرّف بنفسه، ولا يسأل كثيراً.
يبرّر منيف توجّس متعب المنطقي تجاه هؤلاء الغرباء. ويكابر من يدعي أن شخوص الأجداد والجدات في هذا الجزء غير أصيلة، وأنها ليست سوى نظرة منيف ذاته عن سكان الصحراء البدو، ما الضير في أن يدافع متعب عن أرضه وهو أخبر الناس بها، بطريقته التي اعتقد ناقدوه من المثقفين العرب أنها تنتقص من صورة العربي؟ أتذكر وأنا طفلة أن جدي أصرّ على الحديث بلهجة شحيّة على التلفاز؛ لأنه يتصور أن العالم أجمع سيفهمه، جدّي الذي يعرف البحر أكثر من الجميع. يواصل متعب الهذال نبش نوايا القادمين الجدد، فهم لا ينامون قبل أن يكتبو أشياء كثيرة كما أنهم يصلون بطريقة عجيبة، وعندما غادروا، انبرى متعب الذي يعرف أرضه ورياحها جيّداً، ليحضر أرض البستان ويهيئ البذور ويستعد للمطر. إنّ متعب الهذال هو المثقف، صاحب المبدأ الذي “يحب البلاد كما لا يحبها أحد”، ويعرفها كما لا يعرفها أحد. اتُّهم منيف بأنه أدلج شخوص روايته، فيما أذهب إلى أننا نحن من نؤدلج كلّ ما يلمس دوائر انتماءاتنا في كل ما نقرأ، مدن الملح تسرد قصة كل أرض تواجه الحداثة بهذا الشكل الذي يستلب الأرض والإنسان ويغربه، في سبيل صنع الثروة، لم يحدد منيف أي أرض هي، إنها أرض ” موران” المتخيّلة، فلماذا نحمّله وزر هذه الإسقاطات ” الحساسة”؟ ألن تلمس هذه السرديّة كلَّ قرية ريفية بعيدة في طريقها لأن تتحول لمدينة إسمنتية؟ تضيف سعديّة مفرح أن منيف “قد تخلّى عن موضوعه الأثير كأديب، وهو علاقة المثقف بالسلطة وانشغل بتدوين مرحلة قريبةٍ نسبيًّا، ليتناول موضوع التحوّلات التي لحقت بالمنطقة بفعل اكتشاف النفط!”10. ألسنا بحاجة لسرد الذاكرة في كلِّ يوم؟ ثم إنَّ الزمن لن يتوقف وسرعان ما تتحول هذه السرديّات إلى تاريخٍ بعيدٍ ومفقودٍ ما إن ندخل في تحوّلات كبرى، وماذا لو أضفنا أن مُنيف يتحدّث من واقع خبرته في مجال النفط، مع ضرورة إدراك أن علاقات السلطة في العالم في شكلها البدائيّ منذ وجد الإنسان، وحتى يومنا هذا قائمة بمجملها على تقسيم ثروات الأرض.
غطّت خماسيّة مدن الملح فترة ما قبل ظهور النفط وما تلاها، إلا أنّها منعت من التداول في بعض الدول، على الصعيد الأكاديميّ فقد كان هنالك محاولات لتوثيق الحياة قبل ظهور النفط في أجزاء أخرى من دول الخليج، وذلك بالاعتماد على مقابلة أفراد القبائل وجمع سرديّاتهم، ولكن بعضها منع من التداول كذلك؛ لأنّها وبحسب أفراد القبائل تحوي مغالطاتٍ كثيرة. تلك غالباً مشكلة تواجه الباحثين الأنثروبولجيين القادمين من ثقافة أخرى بلغة وإدراكات مختلفة، وهنا علينا أن نتفحص جيداً، من الذي يكتب ذاكرتنا؟ ولماذا نتركها للآخر ليكتبها ونحن من يحملها في وجدانه، وكلماته، وأرضه. ولماذا تشوب الحساسيّة طريقة تعاطينا مع ذاكرتنا، سواءً كتبت ممن هم منا، أو من الآخرين؟ إن تعريف هالبواش للذاكرة الجمعيّة بتقديري، قريبٌ جدًّا من علم الإثنواركيولوجي أو علم الآثار الحي، الذي يدرس الإنسان بوصفه أثراً يتذكر، إنه أبلغ صور تجلّيات الذاكرة، متكأ على سردياته وطقوسه ومعارفه التقليدية. قد يراود هذا السؤال معظم الشعوب الخليجية اليوم. لماذا ندرس الذّاكرة، إنها عودة للوراء وتعلق بالماضي، وما الجدوى من توثيق ما كنّا عليه أمام سيول الحداثة التي ندرك جيّدا ألا مفرّ من مجاراتها، وفي رأيي لا بدّ وأن نسائل أنفسنا في الوقت نفسه، ألا يعنينا استمرار الثقافة؟!
يحور إبراهيم جيران سؤال الذاكرة سواء كانت فرديّة أو جماعيّة، وحاجتنا الملحة إلى طرحه اليوم، إذ يميز القرن العشرين بقرن الذاكرة. لا بوصفه تقييما لتقادم الزمن، بل “سؤالاً منتجاً في أفق التحوّلات “، سؤالاً يستشرف القادم، دافعه هو قلق تأمل الزمن، والتحولات التي تسبق الزوال11. لي أن أعرّج هنا على نتاج أحد من يكتب الرواية التاريخية، بواقعيّة سحريّة، لقد قيل عن رواية أطفال منتصف الليل: “إنها قارّة تجد صوتها”، ويقول كاتبها: كنت أريد جمع الهند في كتاب وأنا الذي أعرف أنه يستحيل جمع شارع واحد منها في كتاب، يوظف رشدي صورة لسرديّة التاريخ الواحدة، بوصفها تشكيلة من مخللات التاريخ، ليكسر بذلك هالة القداسة عن التاريخ ويمنحه روح الأدب الحيّة بأصواته المتعددة. لكي يتذكر رشدي وطنه كان عليه أن يعود إلى طفولته، بإدراكاته كطفل، ولذلك اختار أن يكون أبطال روايته أطفالاً ولدوا عشيّة استقلال الهند، تتفق هذه الرؤية مع اختزال باموق مفهومه عن الوطن في أولى الروائح والإدراكات والأسماء واللمسات12. فالعودة إلى القصة الشخصيّة الأولى غالباً ما تجد تقاطعاتها مع حكايا البشر في كل مكان. تصور هذه الرواية عبقرية رشدي في التعاطي مع الذاكرة على مستوى شخصيّ وعلى مستوى أمته. فبطل القصة طفل لديه قوىً خارقة، تمكنه من ابتلاع القصص والأصوات الداخلية لمن حوله، ليحكيها في روايةٍ من ثلاثة أجزاء، فيعود بذاكرته بعيدًا ليلتقي بأجداده، وأمّه، وأبيه، ليولد هو وتولد الهند المستقلّة في نفس الليلة، بكلّ ما فيها من شرائح وأديان، وعلامات تاريخيّة فارقة، مثبّتة بالأسماء والتواريخ الحقيقيّة، ولمن؟ يسرد البطل ملحمته في حضرة خادمته الشخصيّة، ومربيته المبجلة “بادما”، أمهر من يصنع المخللات، التي تذكره دائما، إن أبسط تغيير في تحضير خلطة المخلل قد تُفسده! يمكن أن يُطرح هنا سؤال جيران الأكثر إلحاحاً حول كتابة الرواية التاريخيّة، فوفقاً لقداسة فعل الذاكرة، من يمتلك حق استعادة الذاكرة وروايتها؟ إن رشدي يصطفي أطفال منتصف الليل ليرووها، ويمنح دور البطولة للكاتب، الطفل سليم سيناء، الذي يبتلع القصص كلما كبر، وعليه أن يرويها حتى لا تثقله فيمرض، إن حوارية السرد بين سليم وبادما هي مواجهة ومكاشفة بين صوت الذاكرة الفردي وصوت الهند العتيق الذي تجسده بادما. حوارية بين صوتي الذاكرة والتاريخ. يستلهم رشدي معظم رواياته من بحثه الدؤوب في التاريخ الإنساني ليصنع ذاكرة حية، تتحدى مرطبانات التاريخ المخزونة لدينا.
يؤكد هالبواش أن الذاكرة والتاريخ شيئان مختلفان، “فعندما تتبعثر الذاكرة في أذهان بعض الافراد التائهين في المجتمعات الجديدة، تصبح الوسيلة الوحيدة لانقاذ تلك الذكريات هي تثبيتها كتابة كسرد” تتحول هذه السرديات إلى ذاكرة جمعية، وما يميز هذه الذاكرة كونها مستمرة ومتنوعة، فهي لا تحتفظ من الماضي إلا بما هو حي وقادر على البقاء حياً، فيما أن التاريخ يوجد خارج الجماعات وأعلى منها13. لم يدّعِ كل من منيف ورشدي أنهما كتبا التاريخ، هما صرّحا، وباستمرار، أنهما يقدمان أصواتًا سرديّة متنوعة للتاريخ، إنهما يفككان القصص ويعيدان سردها في مساحة الأدب التي تكفل لهما ذلك. لقد أعفى كامو كل أدباء العالم من وزر من يصنعون التاريخ ويكتبونه، ليكونوا هم صوت من يتحملون أوزاره.
على صعيد استثمار الماضي، فقد بلغ التعاطي مع الذاكرة حدودًا وآفاقًا طموحةً جدًّا، بتحويل الأساطير والمواقع الأثريّة وشخصيّات الأبطال الملحميّة، وحتى الإرث غير الماديّ ممثلاً بالموسيقى والقصص، إلى محيط ألعاب الفيديو والواقع المعزز، حيث تقتحم الذاكرة ما يعيشه ويختبره الأطفال اليوم، فليس عليهم أن يزوروا المتاحف، أو كما يطلق عليها- خزائن الذاكرة- ليقتربوا من ذاكرتهم!! لقد حاز عمل رشدي احتفاء العالم ومُنح جائزة البوكر عن رائعته، أطفال منتصف الليل، مع أنّه نال نصيبه من الإقصاء كذلك؛ فلم تترجم رواياته إلى العربية منذ ثمانينيّات القرن الماضي- لأنه ببساطة قد لمس أحد دوائر انتماءاتنا! ومن خلال بحث سريعٍ حول منيف، تختصر قصّته في هذا التسلسل، مولده، تحصيله الدراسي، المحيط فالاتجاه والتكوين. سحب الجنسية، المنفى، الوفاة، الأثر، تخريب قبره، وسرقة مكتبته10، وكما أسلفت سابقاً، منع رواياته. لنسأل مرة أخرى، إلى أين تنتهي ذاكرتنا؟ ولماذا نسهم في تأطيرها والفرار منها؟ لقد أنذرنا منيف من هذا التيه الذي لحق بالذاكرة ثم تعمق الأخدود أكثر فأكثر، ونحن نعيش نبوءة منيف اليوم، يجب أن نستذكر ما أراد قوله لنا، لنحمي هذه المدن من الذوبان، على الإنسان فيها ألا يكف عن القراءة بشجاعة، على أرض يعرفها جيداً، وأن يستمر في استقراء الإنسان والتاريخ، فيعمر مدن الفكر والعلم والثقافة، قبل الحديد والإسمنت.