عندما سمعت فهيمة ابنها البكر مصطفى يقول ان أصل الانسان قرد لم تلعن أبوه وأبو المدارس وأبو الذي تسبب في بنائها ، كعادتها، بل حطت يدها على خدها وشردت مع أفكارها وقد خيب هذا أمل سليم ، رفيق ابنها مصطفى، الذي لا يأتي لزيارتهم الا عندما تحكه عظام أجداده ، فهو يتلذذ بشتائم فهيمة التي تنزل على قلبه كالعسل لذا يحاول أن يستغضبها كي تلعنه وتلعن سنسفيل أجداده . يومها ، كانت عظام أجداده تحكه ! لذا تظاهر بالغضب الشديد، وصاح في وجه صديقه متفتفا ناثرا لعابه في الهواء كالجمل الهائج :
– "قرد يا خدك ويا خد هالحكى! الانسان أصله قرد ياضلالى ! الانسان قرد ! أعوذ بالله ! هذا كلام ملاحدة كفار ! ما يخافون المنتقم الجبار ! سامعة ياخالتى فهيمة ؟! سامعة كلام ابنك ".
لمعت عينا سليم متوقعا أن تمطر فهيمه وابلا من الشتائم عليه وعلى ابنها وعلى المدارس وعلى علومها الكافرة ، لكن ظنه قد خاب ، اذ نظرت فهيمة اليه ببرود وقالت له بلهجة مؤنبة – "عمال تفتري على رفيقك ياحرقوص الحصيدة ، يامنتن ! أي لكن ياعمى ، صدق المثل : أبوك بصل وأمك توم فمن اين راح تجيع الريحة الطيبة يا وجه الشوم ".
ضحك سليم متلذذا بهذه الشتيمة ، قال متصنعا الانزعاج :
– "أنا بعمري ما افتريت عليه ! ماسمعتيه عمال ينطق بالكفر قدامك !"
– "واين الكفر بكلام مصطفى يا ابن عزيزة القرعة وعبود المعنطز؟!".
– "ماسمعتيه عمال يقول انه أصل الانسان قرد؟!".
قالت فهيمة :
– "وماله القرد، بسلامتك ؟ ماهه خلقه الله مثلك ومثله ! أشهد بالله ، أنه قرد واحد بيسوى عشرة نسانيس من شكلك وشكله ".
عندها حملق مصطفى في وجه امه دهشا ، ثم ألقى خطابا مجد فيه موقفها المتفهم للنظرية الداروينية ، معتبرا ذلك بمثابة انتصار للعلم ، ودليل ساطع قاطع على انها ابنة أصل ، غمز مصطفى سليم فامسك الآخر بطرف الخيط وقال بحماس :
– "على ما علي انك كنت في الجيل الماضي عالمة كبيرة مثل ماري كوري".
نقزت فهيمة عندما سمعت كلمة "كوري" صرخت في وجه سليم بغيظ واستياء:
– "مثل كوري يابزونك ، ياأندبوري ، ياقليل الأدب ! الله يلعن أبو اللى نفضك ! ياشرشوح يابو لسان زفر!"
حاول سليم أن يفهم فهيمة أن مارى كورى عالمة كبيرة ومشهورة في الدنيا كلها لكنها لم تسكت إلا بعد أن غسلته بوابل من الشتائم المقذعة التي لم توفر "كورا" في عائلته . لكن ذلك لم يشبع نهم سليم لشتائم فهيمة . وما أن خيم الهدوء مجددا حتى حدق سليم في وجه رفيقه مصطفى ، ثم قال متظاهرا بالجدية والإندهاش كما لو أنه قد اكتشف أمرأ خطيرا.
– تعرف ؟ الباين ان كلامك مضبوط ! إي بشرفي !"
التفت سليم الى فهيمة ثم مد يده الى أذن ابنها مصطفى وشدها الى أعلى كمن يقوم بتجربة في الكيميا ! ثم قال :
– " يخزي العين أذنه ما أطولها ! شوفي ، شوفي ! أكيد هالشي دليل على أنه أصل الانسان قرد!".
قال مصطفى غامزا سليم من طرف خفي:
"أنا مخول ! بشبه خالي هاني الخالق الناطق !
لم تكن فهيمة معجبة بابنها مصطفى، لأنه ، مثل أبيه ، رخو مع نفسه ، قاس مع الآخرين وهو فوق ذلك قناص فرص لا يوفر أحدا ، حتى أمه وأبوه ! لذا شعرت بالغضب عندما رأته يغمز سليم من طرف خفي كما لو أنه يستخف بها، فما كان منها إلا أن زمت شفتيها وقالت لابنها محوصة عينيها :
– "أنا ما أعرف إذا كان أصل الناس قرود ، مثل ما عمال تقول ، يانطفة حرامة ! لكن أنا متأكدة ، انه انت ، وأختياري النحس أبوك ! ما أصلكم قرود .. أصلكم ، أولاد أفاعي!".
لم يندهش ابنها لسماع كلامها بقدر دهشتها هي ! فقد عاشت حياتها خانعة ، طائعة ، خاضعة ، لها فم يأكل ، لا فم يحكى ! وها هي فجأة بعد عشرين عاما من الخنوع والطاعة تشتم زوجها أمام ابنها ورفيقه !
كانت متأكدة أن ابنها الرخو النمام ، سوف ينقل الكلام لأبيه الذي لا يعرف الرحمة ، لذا توقعت أن يستغل الأب غياب أولاده عن البيت عصر ذلك اليوم ، وينهال عليها ضربا بنصاب الفأس ، فيطرحها في الفراش لبضعة أيام ، كما فعل في الماضي مرارا.
مضى الوقت ثقيلا ، مليئا بالهواجس ، وعندما رأت فهيمة زوجها متجها نحوها في الموعد الذي توقعته ، أيقنت بدنو عقابها. وغمغمت في سرها : "جاك الموت يا تارك الصلاة !".
كان وجهه شمعيا، متشنج العضلات ، شديد الشحوب ، وقد اعماها خوفها، في البداية عن رؤية التغير الذي طرأ على هيئته ، فانكمشت منتظرة ما سيبدر منه . اندهشت عندما رأته يتهالك الى جانبها على الكرسي ، بدلا من ان يحضر نصاب الفأس من وراء الباب ويشبعها ضربا كعادته . نظرت اليه بعينين متفحصتين ، فلم تكد تتعرف فيه على زوجها الجبار الذي أذاقها المر منذ أن مات حبهما قبل سنوات طويلة كان سلوكا غريبا، لذا ظنت أن أمه التي تعيش في بيت أخيه قد أصابها شر . قالت له بجزع .
– "أمك بها شي !؟".
هز رأسه بالنفي ، مسبلا عينيه ، راخيا فكه ، كاشفا أسنانه النخوة المسودة من فرط التدخين ، مرهفا سمعه كما لو انه يحاول انتشال ذكرى مطمورة بالطمي في أعماق روحه المليئة بالأشباح والظلال .
– "مالك يا ابن الحلال ! احك سيحت ركبي!".
– "عفوك يأرب ! ، العمر راح ، كأننا لارحنا ولاجينا!".
في الفترة الأخيرة بدأت احسن أن يدا ما، تمتد الى جيوبي أثناء نومى أو أثناء غيابي عن البيت وتختلس ما أتركه فيها من نقود، وقد تأكدت من ذلك أول البارحة تماما ، فقد تركت في جزداني خمسمائة وخمسين ليرة ، وعندما عدت ، لم اجد في الجزدان سوى خمسين ليرة فقط ، كنت متأكدا أن الفاعل هو إما زوجتي ، أو ابني مصطفى ! ولأني لم أستطع أن أعرف ، بشكل قطعي أيهما الفاعل ، فقد وضعت في ذلك اليوم ، خمسمائة ليرة أخرى في الجزدان على مرأى منهما كليهما، ثم خرجت ، للعب المنقلة ، كعادتي عصر كل يوم لكنى بدلا من الذهاب للعب المنقلة فى بيت محمود الشب ، درت حول البيت بسرعة وعدت اليه خلسة ، دخلت الى الغرفة الوسطى ، المعتمة ، التي تستعمل كزريبة وكمخزن للتبن . وقفت خلف الباب الواصل بين الغرفتين ، كاتما أنفاسي منتظرا مجىء الحرامي ، كي أفش غلي فيه !
مضت ربع ساعة وأنا أنتظر وراء الباب ، وعندما يئست تماما من قدوم الحرامي، ومددت يدي الى الباب أريد الخروج ، سمعت وقع أقدام تقترب ، وضعت عيني على ثقب المفتاح فرأيت ابني مصطفى يدخل الى الغرفة الاخري، على رؤوس اقدامه متلفتا حوله ، اتجه صوب الجاكيت المعلقة بمسمار الجدار ، التفت الى الخلف ، ثم مد يده الى جيب الجاكيت الداخلي وأخرج الجزدان .
سحبت الباب بعزم مندفعا نحو ابني المنهمك باخراج الخمسمائة ليرة من الجزدان بهت الولد عندما راني، فوقف في مكانه وقد شلته المفاجأة . اطبقت بيدي على صدره ، لففت قميصه على يدي وهززته صارخا :
– "يا ابن الكلب ! علمناك بالمدارس حتى تصير حرامي".
دفعني محاولا التملص من قبضتي ، فما كان منى إلا أن رفعت يدي وهويت بها على خده .
صاح بي :
– "لا تضرب !".
رفعت يدي أريد صفعه مجددا فأطبق بيده على معصمي صائحا بلهجة مهددة :
– "قلت لك لا تضرب !".
رفعت يدي فرفع يده ..:
حلمك يأرب ! خمس وثلاثون سنة .. كأننا لارحنا ولا جينا!
كان قمباز أبي معلقا في نفس المكان ، وقد جئت كي أفعل نفس الشي ء، فأندفع أبي نحوي من نفس الباب ، وأمسكني نفس المسكة ، وهزني نفس الهزة ، وصفعني نفس الصفعة ، فصحت به بنفس الكلمة : " لا تضرب " وعندما حاول ضربي من جديد كما حاولت ضرب ابني، أطبقت بيدي على معصمه وصحت في وجهه بنفس الكلمات :
– " قلت لك لا تضرب !".
وعندما رفع يده ، رفعت يدي …!
حلمك ياحليم ! كأننا لارحنا ولا جينا!!
هزت فهيمة زوجها وقد أفزعها شحوبه الشديد، صاحت فيه بلوعة :
– "احك بابن الحلال قطعت قلبي ! احك ".
حملق ابراهيم في الفراغ وهو يرى تلك الذكرى تنبثق من أعماق ذاكرته المليئة بالطمي والاشباح والظلال ، ارتعشت شفته السفلى ، وتشنج حنكه كما لو أنه يختنق أو يوشك أن يهوي.
لم تكن فهيمه قد رأت زوجها في مثل هذه الحالة مطلقا فأخذت تهزه من كتفيه وقد انتابها الذعر:
– "بسم الله الرحمن الرحيم " مالك يابراهيم ؟! احك ، قطعت قلبي".
ابتلع ابراهيم لعابه بصعوبة هائلة ، ثم نظر الى زوجته وقد اخضلت عيناه بالدموع ، كان في عينيه اعتذار وشي ء من الحنان القديم ، انفجرت فهيمة بالبكاء :
– "احك يا إبراهيم ! قطعت قلبي!".
" حلمك يأرب ! نفس النظرة ، نفس الحركة ، نفس الصرخة ، نفس رفعة اليد!!". غمغم ابراهيم بصوت مسموع :
– "والله لو ضربت أبي لكان ضربني!". سألته فهيمة بلهفة :
– "قصدك مين ؟!".
هز رأسه بشرود ، غمغم قائلا.
– " هي حكاية قديمة ! قديمة كتير، كتير!".
غمغمت فهيمة بقلق :
– "ماعم افهم عليك ! كأنك عم تحكي بالتركي!".
هز رأسه بأسى، تنهد كمن يرى عمره ممتدا خلفه ، قال بلهجة متحسرة :
– " أي ، لا تؤاخذيني يا أم مصطفى، أنا طول عمري كنت احكي بالتركي!" ، ثم نهض متثاقلا، وسار نحو بيت محمود الشب حيث اعتاد أن يلعب المنقلة عصر كل يوم .
حسن م. يوسف – سوريا