كيف تتحول «أرض الديسكو» في أعالي بحر الشّمال من فضاء مكانيّ جاذب وملاذ للغرباء الهاربين من أنظمة الاستبداد في الجنوب, إلى فضاء طارد ومملكة للظلام, والاستئثار بالسلطة, والقتل على الشبهة أو من دونها؟ ذلك هو السؤال الذي تجيب عنه رواية «ديسكولاند»/ دار فضاءات, عمّان, 2010م, للكاتب والشاعر العراقي المعروف أسعد الجبوري عبر أنساقها السرديّة وعمارتها الجمالية.
ـ الأنساق السرديّة:
تتوزّع الرواية على ستة وثلاثين فصلاً لكلٍّ منها عنوانه الرئيسي الذي يُتْبَع أحياناً بعناوين فرعية توسّع دائرة دلالته بغرض التعليق والتوضيح والإضافة كما في عنوان«غبار النّص» الذي يتكرّر غالبا في نهاية كل فصل, وعناوين أخرى مثل: «غبار سميك», و«مفصل أوّل» و«هامش», و«الزريبة الأدبيّة» و«الهيئة العليا للتأليف», و«المؤلف الأوّل», و«المؤلّف المُنتدَب» وسواها. وتنتظم تلك الفصول على مستوى المتن الحكائي في خمسة أنساق سرديّة: أوّلها يتمحور حول شخصيّة «مالك» المهاجر من بلاد ما بين النهرين إلى «ديسكولاند». وثانيها حول شخصيّة ابنه «المثنّى» من زوجته الديسكولاندية «جينفرس» ومعاناته من العنصريّة بسبب لونه! والثالث حول«طوروس» المهاجر من الجنوب الذي اختطف السلطة في «ديسكولاند» بتواطؤ مع زوجة «جوكريس» قائد الحركة الانقلابية على الملك. والرابع حول سوني الهاربة من «ديسكولاند» إلى المغرب العربي, فلبنان. والخامس حول «آدم السومري» المكلّف بكتابة رواية عن الديكتاتور«طوروس».
ـ النّسق الأوّل, مالك:
يتوزع هذا النسق على خمسة عناوين رئيسة متتالية: «الجينوم التائه», «الفستان الأسود», «عشّ الثّلج», «البرّاد الإسكندنافي», «انفصام الشهوات». وهي تشكّل نقاط استناد وتبئير للمتن وتعزيز للدلالة. فـ«الجينوم التائه» يشي باغتراب «مالك» عن وطنه العراق الذي نستدلّ عليه من السياق لا من التصريح: «لا أعرفُ كيف وصلتُ إلى حوض بناء السفن. شعرتُ بنفسي كما لو أنني لوحٌ من الألواح السومرية، أصابه الاضطراب في لحظة غامضة من الزّمن، فدارت به الأمواج محمولاً من أرض ما بين النهرين إلى أعالي بحر الشمال ص4». و«الفستان الأسود» يحيل على صاحبته الفتاة «جينفرس» التي ارتبطت بـ«مالك». و«عشّ الثّلج» يشير إلى كوخ زواجهما في أعلى نقطة من سقف القطب الشّمالي! و«البرّاد الإسكندنافي» يوحي بالثلج والصقيع حيث لا شروق لشمس ولا غروب هناك! و«انفصام الشهوات» يعبّر عن حالة الطلاق التي انتهت إليها علاقة «مالك» بـ«جينفرس».
ينشغل هذا النسق بإضاءة عالم «مالك» الداخلي وتشظيه, وباسترجاع طقوس ولادته الغريبة المضمّخة برائحة البارود والدم, التي تصدم «فرانك» مدير حوض بناء السفن عندما يسمعها منه على مرأى من سكرتيرته «روت», ويتفهّم من خلالها حالة شروده الدائم. كما ينشغل بتصوير علاقته بالفتاة «جينفرس» بدءاً من رحلته معها إلى «النرويج» وزواجه منها, ثم ولادة ابنه الذي سمّاه «المثنّى» «تيمّناً بثنائية فصيلتين من الجينات التي اتحدت ص32», مرورا بانفصالهما, ووصولا إلى وفاة «مالك» في ظروف غامضة بعد ستة عشر عاماً من ولادة ابنه. تلك الوفاة المفاجئة التي تكسر أفق توقعّات القارئ الذي وجّهه السياق على مدى خمسة فصول للاعتقاد باستمرار هذه الشخصيّة الرئيسة والمحورية حتى النهاية. وكأن الموت المفاجئ يترصّد المغترب في الحياة وفي الرواية لتكتمل سيرته التراجيدية قبل أن تكتحل عيناه بمرأى وطنه مرة ثانية!
ـ النّسق الثاني,المثنّى:
ربما جاء ظهور الابن «المثنّى» تمثيلا رمزيا وتعويضاً لاستمرار الأب في جيل لاحق من أبناء المهاجرين الذين ولدوا في «ديسكولاند» في عام (1995م) وما بعده, تمثيلا يصوّر من خلاله تنبؤاته المستقبلية لهذا الجيل وما سيواجهه حتى عام (2056م) في دول الشّمال الإسكندنافي من عنصريّة واستبداد, عبر مسارات تتناص مع رواية جورج أورويل الشهيرة «1984م» وتنبؤه فيها بأشكال وممارسات ومآلات الأنظمة الشموليّة.
يشهد «المثنّى» أعمال العصابات العنصرية ولا سيّما عصابة «الثيران الفولاذيّة» وعصابة «HR» وتنكيلهما بالمهاجرين, ويتألم من لقب: «الخنزير الأسود» الذي أُطلق عليه للسخرية منه. ويصل الأمر إلى نقله التعسّفي في الجامعة من فرع الإلكترونيات في كليّة العلوم إلى كليّة العلوم الاجتماعيّة! ثم احتجازه من قبل تلك العصابات مع عدد كبير من الغرباء في طاحونة «توبلاسن» وتعذيبهم! ولم تشفع له علاقته بـ«هيلن», و«فبيكا», والعم «هنترسين» بالتخلّص منهم, إلى أن أتت دورية البوليس وأطلقت سراحه مع من بقي من الغرباء الأحياء!
لقد تحوّلت إقامة الغرباء تحت ضغط العصابات العنصرية إلى «سكن على سيوف حادّة طويلة, كل خروج منها أو دخول إليها يترك جرحاً في الجسد والعقل ص33».
وكما توفي الأب «مالك» فجأة في حادثة غامضة, يموت الابن «المثنّى» فجأة أيضاً, من دون أن يترك أثراً, أو ذكرى, أو حتّى التفاتة! وكأن هذا المصير التراجيدي الذي واجهه الأب, ومن بعده الابن, ثم صديقه الصيني «تولاي», هو مصير كل من غادر وطنه الأصلي بحثاً عن العدالة والحريّة وإذا به يُرمى في «سلّة البارود» العنصرية, ليواجه من جديد طبائع الاستبداد في المهجر!
ـ النسق الثالث, طوروس:
على أثر مصرع «روبن شيفر» ملك «ديسكولاند», وتسلُّم زعيم عصابة «الثيران الفولاذيّة» العنصرية «جوكريس» لزمام الحكم, تنشط منظمة «الأرض للجميع» الوطنية, في مواجهة الحكم العنصري, وتعمل على تطهير البلاد من المنظمات العنصرية. وينتهز المهاجر «طوروس» الفرصة فيتزعّم الجناح العسكري لهذه المنظمة من الغرباء, ثم يتواطأ مع «لوزانا» زوجة «جوكريس», ويتمكن من قتله, وأخذ مكانه ليصبح ملكا جديدا لـ «ديسكولاند»! فيتزوج حالا من «شريهان» زوجة الملك السابق «روبن شيفر», التي تهرب فيما بعد على أثر مقتل طفلها على يد إحدى خادمات القصر! ويخلو الجّو لـ«طوروس» فيصبح لديه عدد كبير من النساء والمحظيات, مثل: «بتول», و«بانكولينا», و«سورين كلار». كما تنتقل عدوى وجينات الديكتاتورية والتسلّط والأسلمة والتكفير إلى بلاطه فيصبح السيّد المطلق في البلاد. فيبدأ حكمه بإطلاق الرصاص على المايسترو في أول حفلة موسيقيّة يحضرها! ويحوّل «التيفلاند» مدينة الملاهي الشهيرة إلى ثكنة عسكريّة! ويُصدر مرسوما بمنع الخمرة على المواطنين, وقرارا بجعل التنانير الإسكتلندية الطويلة لباساً رسميّاً, وأمراً بمنع ذبح الخنازير, وفرماناً باقتناء كل مواطن كلباً وفرض ضريبة عليه! وآخر بزرع أجهزة تنصّت داخل المخلوق البشري! وتصبح لديه وزارة للحواس, ووزارة لنقل الكلام مختصّة بترتيب الاتصالات الهاتفية الخارجيّة تُلزم المواطن بتعبئة استمارة خاصّة بأفكاره وطلباته وتسليمها للتنفيذ! وشبكة مراقبة باسم «صومعة الغيوم»! وفرعاً للثقافة والأمن! وجمعية لرعاية النسل الموبوء! وشعبة للصّم، النطق, البكم. ثم يتفنّن «طوروس» عبر نزعته السّاديّة ومخيّلته المريضة في تعذيب من لا يرضى عنهم, وقتلهم والتمثيل بجثثهم سواء كانوا رجالا من معارفه وخصومه وأصدقائه, أم نساءً من محظياته! أم وزراء ورجالات بلاط وبرلمان, على نحو ما فعله بـ«هولا سكسن» رئيسة البرلمان التي قضت نحبها غرقاً على أثر مناقشتها لقراراته المتأسلمة في منع الخمر وسواه, وإلقائها خطابا ضده!
وتتحوّل «ديسكولاند» تحت ظله إلى مستنقع للعنصرية, ومملكة للكائنات المتوحشة, تنذر بفناء من يعيشون فيها, ليصبح مصيرهم أشبه بمصير «هنود التافديزني»!
ويدخل هذا النسق المتعلّق بـ«طوروس» في سياق الخطاب العجائبي المفارق للواقع والمتشابك معه في آن معاً, الذي يتوخّى رسم صورة مرعبة للديكتاتور السّادي التكفيري وإحداث الإثارة والتوتّر والانفتاح على التأويل, وتنمية السّرد وتوسيع حدوده, وكسر رتابته. فيمنح بذلك دينامية عالية للنّص في تحفيز مخيّلة القارئ, وإثارة أسئلته, واستنطاق موقفه الأخلاقي والإنساني لإدانة هذا النموذج والنفور منه أو لتسويغه وفهم دوافعه على أقل تقدير.
ـ النّسق الرابع, سوني:
ينفتح هذا النسق على شخصيّة «سوني» تحت عنوان: «تراجيديا الهجرة», حيث تقرّر الهروب بربع مليون دولار من الخزينة العامة مع ابنتها الصغيرة «مونو» وزوجها «لانكسن» وصديقتها المثليّة «لونا» إلى ألمانيا, ومنها إلى المغرب العربي, فبيروت. لكن الأقدار تعاكسها فتفقد ابنتها على الشاطئ, ويُعتقل زوجها, وتضطر للسفر مع صديقتها فقط. وكما فرقت الأقدار بين الأم وابنتها تجمعهما من جديد بعدما اختطف الغجر «مونو» وذهبوا بها إلى الصحراء. وهناك تلتقي بصديقة أمها «لونا» المرتبطة بالشاعر «ورد الكعبي» والمغرمة حديثاً بالغجرية «هديلو» فتدفع بها للسفر إلى بيروت واللقاء بأمها عند رجل الأعمال «بيرم داغر».
يكشف هذا النسق عن صورة الجنوب العربي في عيون الشمال الإسكندنافي, وعن التفاعل الإنساني بينهما من خلال الصغيرة «مونو» التي سرعان ما تتحدّث بلغة أهل الصحراء وتكتسب عاداتهم وتقاليدهم, ومن خلال شبكة العلاقات الاجتماعية الواسعة التي تحيط بأمها «سوني» في بيروت, مثل: «الوزير قيصر فريد وزوجته هالة قيس صاحبة غاليري «الشمعة الزرقاء». وعيسى المعشوق مدير وكالة للطيران, وسهاد فواز مديرة لبنك تجاري. وسعيد وجدي الذي يعمل في تجارة الذهب والتوكيلات البحرية، بالإضافة إلى الدكتور ممتاز الشرقي الذي يملك محطة للتلفزيون وداراً للنشر. وصولانج الجوزي التي كانت تتولى الإشراف على دار الأوبرا ص204».
وباختبار كلٍّ من «سوني» وصديقتها «لونا» للغرب والشرق في رحلتهما الطويلة, تتبادلان الرسائل التي تكشف عن التناقض من جهة والتكامل من جهة ثانية بين هذين العالمين. ففي الوقت الذي يبدو فيه الشرق روحانيّا وعاطفيّا وساحرا ومشتعلاً بالرغبات الجسديّة التي لا يمكن الخروج من أقفاصها, فإن الغرب لا يعدو أن يكون في نظر «لونا» سوى: «شيخوخة مبكرة للمشاعر والحبّ والمال والشهرة والروح والرّفاه ص267». أمّا «سوني» فترى الشرق والغرب لوحة واحدة في قسمين: «ولا يصح لنصف اللوحة التهام النصف الآخر، ما دام العدل يقضي بشرعية التقاسم ص268». وتعكس تلك الآراء وسواها عن الشرق والغرب صوت الراوي/ الكاتب, ونبرته ولغته أكثر مما تعكس منطوق شخصيّاته الروائية.
وفي سياق هذا النسق الاستشراقي الذي يصوّر مواقف وآراء «سوني» و«لونا» تتوالى صور الهجرة وتتّسع من الغرب إلى الشرق بسبب ممارسات «طوروس» وتتشكّل في المنفي جماعات المعارضة السياسية والمسلّحة الديسكولانديّة, المناوئة للحكومة. وتقام الندوات والمعارض المندّدة بقرارات وممارسات «طوروس», مثل معرض «روتي بينك» في بيروت عن فظاعة الاستبداد في عهده. كما تتشكّل حلقات للتجسّس على هذه المعارضة ورفع التقارير بها إلى «طوروس»!
ـ النسق الخامس: آدم السومري:
تتماهى شخصيّة آدم السومري بشخصيّة الراوي/الكاتب العراقي أسعد الجبوري نفسه, الذي يقتحم صوته البرنامج السّردي, بوصفه مكلّفا بإعادة كتابة رواية ستيفاني بروكسن: «قيامة الديناصور» التي لم تعجب الديكتاتور«طوروس» لأنها لم تشتمل على ما يكفي من صور القتل التي تمكنه من زرع الرعب والهول في نفوس مواطنيه: «لقد انتخبتك الكارثة الآن يا آدم. ومن أجل ماذا؟ من أجل أن تكمل رواية تفوح منها رائحة العنف والاستبداد والموت. ستكتب تاريخ الموتى. لذا عليك تهيئة النفس للسباحة في الدم. فهو الحبر الوحيد الذي سيتم فيه تدوين طقوس الإرهاب وأحداثه ص290».
وبرفض «آدم» لهذه المهمة تحلّ عليه لعنة وزير «الحواس», ومدير شعبة «الصم النطق البكم» اللذين يدفعان به إلى الزنزانة (الزريبة الأدبيّة) ليواجه صنوف التعذيب التي لم تسعفه موهبته في تخيّلها من قبل! بدءا من تمرين «نزهة البراءة» مرورا بتمرين «مكبس الحرير», وانتهاء بتمرين «همس الملائكة». وتعكس أسماء هذه التمارين المفارقة الساخرة المرّة بين دلالتها اللغوية ودلالتها الواقعية التي تنطوي على شتّى أنواع التعذيب المبتكرة, وأعنف الاحتقار للكائن البشري. وبسببها يذعن «آدم السومري» في النهاية لكتابة رواية جديدة عن الإمبراطور «طوروس» تحت عنوان: «ديسكولاند» وهي الرواية التي بين أيدينا. والتي وصلت لنا إحدى نسخها الملقاة من يد «طوروس» وهو برفقة كاتبها «آدم السومري» على يخته الذي يمخر عباب بحر الشّمال!
ومن هنا يُدْرَجُ هذا النسق السردي في سياق «الميتا رواية» بوصفه شرحاً أوليّاً لفكرتها وأسبابها وظروف كتابتها, كما يُدرَج على مستوى التخييل في سياق الخطاب الفانتازي القائم على عدد من الثيمات المتواترة لعل أبرزها: «التحوّل» و«التّناص». ويُعنى التحوّل بالانتقال من الواقعي إلى الميتافيزيقي, ومن الروحي إلى الماديّ, أو العكس. أمّا التناص فيُعنى باستلهام الموروث السردي من قصص خيالية, وحكايات شعبية, وأمثولات رمزية, وشخصيات تاريخية, وتوظيفها بأشكال مختلفة على خلفية المفارقة, والمعارضة, والمحاكاة الساخرة(1). ويمكن معاينة ثيمة «التحوّل» في هذا النسق من «ديسكولاند» في تحوّل «آدم» إلى عود ثقاب: « لم أعرف بأن الشخص الذي أمسكني من ذراعي في ذلك اليوم، كان هو حبة الكبريت المستقرة على رأس عود الثقاب الذي هو أنا ص374». وفي حكاية آدم عن علاقته بابنة عمه وبكلبه, وكيف تحوّل آدم وابنة عمه إلى كلبين ينبحان! ثم كيف تحوّل الكلب إلى ذئب! والطعام إلى أفخاذ جنود وسجناء مشويّة! والعاقل إلى مجنون! ثم كيف عاد «ستيفاني بروكسن» من الموت إلى الحياة ليكتب شهادته عن الرواية التي كُلِّف بها, وعن «طوروس» وزمنه وعنصريته! كما يمكن معاينة ثيمة التناص في استلهام حكاية «سندريلا» وقصة أبي البشر «آدم» وعقابه على خطيئته, وعشرات النماذج التاريخية والمعاصرة التي تتمثّل في صورة الديكتاتور «طوروس». وبتكامل هاتين الثيمتين: «التحوّل» و«التناص» وتناغمهما يرتقي البرنامج السردي في «ديسوكلاند» إلى مصاف الفن الرفيع الممتع والمحفّز والمثير.
ـ الصيغ السرديّة:
تتباين مستويات السرد في «ديسكولاند» ما بين الواقعية المتمثّلة في تصوير حياة الأب «مالك», والفانتازية المتمثّلة في تصوير شخصيّة وحياة «طوروس». كما تتباين مستويات اللغة ما بين الوظيفية التواصليّة التي تحرص على إيصال المعنى المباشر, والمجازية الشاعرية التي تطلق المخيّلة وتوسّع دوائر دلالة النّص: «كان الليل في الخارج معطفاً ثقيلاً ص4», «الزمن جيش طويل يخترق جثماني ص5», «كان المثنّى نهراً ص42», «لوزانا زهرة بريّة في حقل شاسع ص83», «أنت لوحة ملوّنة بالرغبات ص203ب.
و يتوالى السرد ويتنامى عبر تناوب ثلاث صيغ سردية : سرد المتكلّمfirst- person narrative, وسرد المخاطَب second- person narrative, وسرد الغائب third-person narrative. ويكسر هذا التناوب نمطية الراوي الأحادي, وينأى بالنّص عن الرتابة والترّهل, كما يشحذ ذهن المتلقي للربط بين مسرود الصيغ الثلاث ورواتها. فالفصلان الأوّل والثاني في النسق الأوّل يأتيان بصيغة الراوي المتكلم/ مالك بوصفه شخصية رئيسة مشاركة في صنع الحدث. وتُوهم هذه الصيغة بصدق التجربة الذاتية, وبتطابق تجربة الراوي مع تجربة الروائي. ويقتحم سرد المخَاطَب صيغة المتكلّم عبر المونولوج الداخلي بين مسافة وأخرى تعبيرا عن هواجس البطل/الراوي حيناً, وعن اغترابه, وألمه, واحتجاجه, وندمه, وتحديه حيناً آخر:« لقد نبت الآن لحزنك ريش يا مالك. وها هي رائحة الهجرة تنتشر في داخلك وتسيطر عليك أكثر من رائحة الحديد في حوض بناء السفن هذا. دع جسدك يتجمّل برائحة الهجرات، فهي أولى خطوات التجريب ص7». فيما يأتي الفصل الثالث بصيغة سرد الغائب التي توهم بحيادية الراوي وموضوعيته في نقل الأحداث وتصوير عوالم الشخصيّات مكتفيا بذلك بدور الشاهد لا غير.
إلا أنّ هذا التعدّد في مستويات اللغة والتصوير, وفي صيغ الرواة, لا يترافق مع تعدّد وتباين في منطوق الشخصيات, التي يبدو خطابها برمّته خطابا للمؤلف وعزفاً منفردا لصوته وحده.
ـ العلاقات الزمانيّة/المكانيّة:
يمتدّ زمن المتن الحكائي في «ديسكولاند» ما بين عامي(1995ـ 2056م), جامعاً في ذلك بين ماضٍ منقضٍ, ومستقبل مُتخيّل ومتحقّق! ويتمّ تخطيب/تسريد هذا الزمن عبر الخطّاطة المعهودة للحبكة: (بداية وسط نهاية) التي تتماشى مع سياق الأحداث ومسارات الشخصيّات. ويتم أحيانا اختراق هذه الخطّاطة باسترجاعات طفيفة تتعلّق بماضي شخصيّة «مالك» كما في استرجاع زمن ولادته, وفي استرجاع ما حدث مع «مونو» تحت عنوان: «فلاش باك ص122». ونادرا ما يتم اختراق الزمن الخطّي المتتابع باستباق على نحو ما جاء بخصوص الشاعر «ورد الكعبي»: « سيرى الناس كيف سيلفظ الشاعر «ورد الكعبي» أنفاسه. قبل ذلك، سيرون كيف ستخرج من أعماقه القصائد لتطير فوق الأرض. فالشعر لا يموت كما يقال في الحكايات وفي القصص التي ترويها العرّافة بلقيس أم الغجر. فبموت الشاعر، تتحول القصائد إلى عنادل تبني أعشاشها بين شقوق الغيوم ص164».
ويلجأ الراوي إلى تقنية الحذف الزماني التي تقفز فوق فترة زمنية طويلة من حياة الشخصيّة دون الدخول في أحداثها بغرض إحداث نقلة سريعة في مواجهة الشخصية لشرطها الجديد: « فبعد مرور ثلاثين عاماً.. أصبح المثنى في مشهد ثلاثي الأبعاد، يتنسّم رائحة اللغة التهكمية الإزدرائية في البلاد، حيث الأجنبي مضغوطاً كالكبسولة ص33». كما يلجأ في أحيان أخرى إلى التلخيص الزماني الذي يكتفي بالخطوط العريضة في حياة الشخصيّة بعيداً عن التفاصيل: «بعد شهور من الإقامة.. توالت الانقلابات في أعماق سوني الواحد تلو الآخر لتغيير مسار حياة بيرم القديمة ص204».
وفي هذا الفضاء الزّماني الموزّع ما بين ماضٍ وحاضر ومستقبل يحضر المكان الواقعي المتمثّل بأسماء دول ومدن حقيقيّة مثل: النرويج, لبنان, مراكش, بلاد ما بين النهرين. كما تحضر الأماكن المتخيّلة الأليفة مثل: عشّ الثلج, ملجأ العم هنترسين. والأماكن المعادية, مثل: طاحونة توبلاسن. والأماكن الغرائبية مثل:(الغرفة الشاقوليّة) التي يُسجن فيها «آدم السومري». إن تنوّع الفضاء المكاني وامتداده على جغرافيا واسعة جاء متناغماً مع تعدّد الشخصيّات وتنوعها الهائل من جهة, ومع الفترة الزمنية الطويلة التي تستغرقها أحداث الرواية من جهة ثانية.
ـ الوصف, الرسائل, التأمّلات:
وبقدر ما يُعنى الوصف في «ديسكولاند» بتصوير الطبيعة وتقلباتها وخصوصيتها سواءً في جبال جليد الشمال الإسكندنافي أم في الصحراء المغربية, فإنه يُعنى أيضا برصد أدق التفاصيل في الأسواق والشوارع ناقلا نكهة تلك الأماكن الحريّفة: «نهضت لونا بتثاقل كسول صارخ، لتلقي نظرة إلى الشارع من النافذة. بعد ذلك خرجت المرأتان لتنخرطا في زحمة تلك الأسواق المثيرة: الثياب والتوابل والمنمنات والأحذية والعطور والكتب والفواكه والتبغ والتمور ومنتجات القش والجلود والبلاستك واللبان وتماثيل العاج والنحاس والصنوج وأنواع الجرائد والمجلات والأقمشة والمطاعم والمعدات الزراعية والتلفزيونات وراديوهات الترانزستور والأدوية والعقاقير الشعبية والماكياجات وسروج الدواب الجلدية المختلفة. كما أن هناك صالات السينما والمسارح والكثير من المقاهي التي ترتمي على كتفي الطريق، حيث تختلط الشوارع بالأسواق التي تتنوع فيها البضائع والمشاعر والعطور والأحاسيس والأفكار وعناصر الجذب التي لا تنتهي. الإنسان هناك، يستطيع أن يقبض بعينيه على حركتي المدّ والجزر في لحظة واحدة! ص115».
وتأتي تقنية الرسائل المتبادلة لتكشف عن وجهات نظر مختلفة بين المتراسلين, ويتجلى ذلك بشكل خاص في رسائل «لونا» إلى «سوني» وما تقدمه من صور للشرق والغرب تلك الصور التي تُقدَّم من زوايا ومنظورات جديدة على الرّغم من تناصها مع عدد من الروايات التي انشغلت بتصوير العلاقة بين الغرب والشرق أو الشمال والجنوب, مثل:«نهم1937» لشكيب الجابري, و«عصفور من الشرق1938» لتوفيق الحكيم, و«قنديل أم هاشم1944» ليحيى حقي, و« خمر الشباب 1958» لصباح محيي الدين, و« الظمأ والينبوع1959» لفاضل السباعي, و«موسم الهجرة إلى الشمال1966» للطيّب صالح, و«الأشجار واغتيال مرزوق 1979» لعبد الرحمن منيف وسواها, على ما بينها من اختلاف في زاويا الرؤية, والأساليب, والتقنيات الفنيّة.
وتكاد لا تخلو صفحة في الرواية من استثمار التأملات الفلسفيّة العميقة, والحكم, والأمثال, التي تكشف عن تجربة خاصّة بالراوي وبشخصياته وغالبا ما تستدعي تعليق القراءة لما تثيره من تقاطعات مع ذاكرة المتلقي ونظرته للحياة: «يصبح القتل سهلاً عندما يكون المرء حاكما ص95», «الحرب لا تحتاج لقصائد شعر بقدر حاجتها لرصاص يطرّز جثث الأعداء ص96», «للطفولة بوصلة خاصّة بها ص111», «القلوب أجراس حينما يتسلّل إليها الصدأ تموت ص120», «الطريقة المثلى للتعامل مع الخوف احتقاره ص135», «الوردة لا تفسّر نفسها بغير عطرها ص272». «أليست السلطة سبق نحو القمّة, وكل من يتأخّر بالصعود يجد نفسه في هاوية تتلقفه بأذرعها الطويلة ص275».
إن تجربة أسعد الجبوري في «ديسكولاند» شأنها شأن قصائده, مُبتكرة, ومثيرة, وصادمة, ومحفّزة على السؤال, ومنفتحة على أبواب الحوار الواسعة. وتلك هي بعض ثيمات العمل الإبداعي الذي لا يركن للسائد والمألوف ويصرّ على أن يحرّك المياه الراكدة.
1ـ للتوسع في مصطلح «الفانتازيا» ودلالاته ووظائفه, يُنظر:
ـ تودوروف, الأدب والفانتاستيك, ترجمة نعيمة بنعبد العالي, مجلة فكر ونقد, العدد 3.
ـ الصالح, د. نضال: النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة, اتحاد الكتاب العرب, دمشق, 2001, ص 20, 21.
1