يربط بياجي المعرفة بالحياة، وذلك عندما يجعل من المعرفة شكلاً من أشكال التكيف، أي شكلاً أسمى من أشكال التلاؤم مع شروط المحيط الخارجي ومن تكييف هذه الشروط في الوقت ذاته تبعاً لحاجات الانسان ككائن حي.
عالج بياجي، مسألة المعرفة انطلاقاً من طرحها في صيغة بيولوجية، فكان ذلك أحد مميزات الابستمولوجيا التكوينية عن النظريات التقليدية حول المعرفة، أولاً، ثم عن الاتجاهات الابستمولوجية التي سبقته او التي كان معاصراً لها من جهة أخرى. مما ساعد بياجي على السير في هذا الطريق، كما تبينا ذلك، من تكوينه الاصلي في البيولوجيا الذي جعله فكراً مستعداً لفهم وجود جذور بيولوجية للمعارف والمفاهيم مهما بدت في مستوياتها العليا بالغة التجريد. وكان للطرح البيولوجي لمسألة المعرفة اثر على الطريقة التي وضع بها المشكل، ولكن كان له أيضا تأثير على المفاهيم التي عالج هذا المشكل في ضوئها. وقد رأينا الكيفية التي طرح بها بياجي المعرفة بوصفها شكلاً من أشكال التكيف الذي يكون للكائن الحي بصفة عامة مع محيطه. كما تناول الوظائف المعرفية في اطار علاقتها بالذكاء ونموه عند الطفل، علماً بأنه ربط ذلك بالشروط البيولوجية لنمو الذكاء ولتطور الوظائف المعرفية المرتبطة به. وكان آخر ما توقفنا عنده في عرضنا لنظرية بياجي هو مفهومه عن التمثل وتصوره للدور الذي يلعبه في بناء المعرفة لدى الانسان. وهنا أيضا رأينا الكيفية التي درس بها بياجي موضوع التمثل رابطاً فيها بين التمثل المعرفي من حيث هو وظيفة نفسية وعقلية تتأسس عليها مساهمة الذات في بناء المعارف وتكوينها وبين التمثل البيولوجي الذي يدخل ضمن علاقة الكائن الحي بمحيطه المادي وتلاؤمه معه وتكييفه له من أجل حفظ الحياة وتلبية الحاجات. فكما ان بياجي كان يرى ان المعرفة شكل أعلى من اشكال تكيف الانسان مع محيطه الخارجي، انطلاقاً من التكيف البيولوجي فوصولاً الى التكيف عن طريق التأثير عن بعد في المحيط، وهو العلامة التي تدل على الذكاء كوظيفة، فإنه كان يرى ان التمثل المعرفي مظهر من مظاهر تمثل الانسان لمحيطه الخارجي ومعرفته بواسطة ذلك. ومن كل هذا فقد كان بياجي يهدف الى بيان أن علاقة الجسم الحي بمحيطه ليست تلاؤماً مع هذا المحيط وخضوعاً لمقتضياته فحسب، بل هي أيضاً تمثل لذلك المحيط، وهو الأمر الذي يدل على ان للجسم الحي دوراً في علاقته بمحيطه على مستوى العلاقة البيولوجية، وهو الأمر الذي يقود في شكله المتطور، على صعيد العلاقة المعرفية، الى القول بان المعرفة جدل بين التلاؤم والتمثل لا يمكن أن تكون بدون أي واحد منهما.
ضمن هذا الاطار الجدلي العام الذي يتناول بياجي من خلاله مسألة المعرفة. هناك حديث عن هذه المسألة في ضوء مفهوم آخر هو مفهوم التوازن. وهذا المفهوم بدوره ذو أصل بيولوجي، أي انه يستخدم لتفسير الحياة بصفة عامة لدى بياجي، ولكنه يمتد لتفسير الحياة النفسية والعقلية، وضمن ذلك لتفسير المعرفة.
نرى لفهم مضمون هذا المفهوم عند بياجي ولفهم الدور الذي يلعبه بصفة خاصة في تطور البنيات المعرفية، نرى من الملائم البداية بتحديد المعنى الذي يتخذه المفهوم لدى بياجي، ثم البحث في الدور الذي يلعبه التوازن في سيرورة المعرفة، علماً بأن هاتين الخطوتين مترابطتان، من حيث ان تعريف المفهوم يتضمن العناصر التي توضح لنا دوره في عملية المعرفة.
مفهوم التوازن من المفاهيم الاساسية والمركزية التي فكر بياجي بفضلها في المستويات المختلفة التي كانت مسألة المعرفة مطروحة عليه فيها، ونقصد بذلك البيولوجيا وعلم النفس والابستمولوجيا وتاريخ العلوم. وقد حضر هذا المفهوم، مثل المفاهيم الاساسية والمركزية الأخرى، في كتابات بياجي المختلفة عبر تطوره الفكري وكان له دور في فهم المشكلات المطروحة في كل مرحلة من المراحل التي ورد فيها. ويمكن القول ان هذا المفهوم كان حاضرا لدى بياجي منذ بداية إنتاجه العلمي سواء كان ذلك بصفة صريحة او ضمنية. فبياجي، كما رأينا ذلك، يتحدث عن الحياة بوصفها توازناً، وعن الذكاء بوصفه توازناً، وعن المعرفة كذلك بوصفها توازناً. ولذلك، فان فهم الدور الذي يلعبه هذا المفهوم يقتضي متابعة استخدام بياجي له في المستويات المختلفة التي كان لهذا المفهوم فيها دور في تفسير المستويات التي عالج بياجي ضمنها مسألة المعرفة، علماً بأن هناك طرحاً بيولوجياً وآخر نفسياً وثالثاً ابستمولوجيا ورابعاً من وجهة نظر تاريخ العلوم. فحيثما كانت هناك علاقة بين الذات وبين العالم الخارجي فان هناك بصفة محايثة لذلك حديث عن التوازن، وحيثما كانت هناك علاقة بين الأجزاء والكل الذي يحتويها، فإن هناك أيضاً حديثاً عن التوازن، وحيثما كان هناك حديث عن البنيات فان التوازن يكون مفهوماً مفسراً، وحيثما كان هناك انتقال من بنيات الى أخرى او من مستوى من مستويات التطور المعرفي الى آخر فان مفهوم التوازن يكون هو المفتاح لفهم هذا الانتقال. وبما ان بياجي تناول هذه المشكلات كلها في اطار علاقتها بالمسألة المركزية لديه، أي مسألة المعرفة، فان انشغال بياجي بكل هذه الجوانب التي ذكرناها جعلت مفهوم التوازن أساسياً لديه في فهم التطور المعرفي. وحتى عندما نتحدث عن أنساق نتصورها ثابتة ولا نتصور مكاناً لعملية تُضفي التوازن على كلّ لا يعرض تحولات، فان هناك في هذه الحالة علاقة نفترض باستمرار عملية توازن وهي العلاقة بين النسق الكل وبين الأنساق الفرعية sous-systemes التي يتشكل منها. فهناك إذن، عدة مستويات للتوازن ينبغي العودة الى دراستها وفهم الميكانيزمات الخاصة بكل واحد منها للتمكن من معرفة الدور الذي يلعبه التوازن في شموليته، بالنسبة للكائن الحي بصفة عامة والانسان بصفة خاصة من جهة، وبالنسبة لتطور البنيات المعرفية من جهة أخرى.
يربط بياجي كما رأينا المعرفة بالحياة، وذلك عندما يجعل من المعرفة شكلاً من اشكال التكيف، أي شكلاً أسمى من أشكال التلاؤم مع شروط المحيط الخارجي ومن تكييف هذه الشروط في الوقت ذاته تبعاً لحاجات الانسان ككائن حي. وبما أن التكيف عند الكائن الحي يهدف الى الحفاظ على الحياة واستمرارها، فان للمعرفة، رغم طابعها المجرد، هذه الغاية ذاتها، لذلك نجد ان بياجي يفكر في الارتباط بالحياة كلما فكر في الجوانب المختلفة لمسألة المعرفة، وكذلك كلما تحدث عن الوظائف والأفعال التي لها علاقة بهذه المسألة: التكيف، التلاؤم، التمثل، الذكاء. وهذا هو المنطق الذي يحكم حديث بياجي عن مفهوم التوازن. فاذا تتبعنا حديث بياجي عن علاقة المعرفة بالحياة بصفة عامة، فاننا نجد أن مفهوم التوازن حاضر في ذلك الحديث باستمرار، لأن وضع مسألة الحياة معناه وضع مسألة التوازن، من حيث ان الحياة ذاتها تكون وتستمر بفضل توازن لا يتوقف، لأن كل حالة إذ تحقق توازناً تترك المكان للانتقال منها نحو حالة أخرى تكون توازناً أفضل.
هناك توضيحات ضرورية أخرى لفهم مضمون مفهوم التوازن بصفة عامة، ودور هذا المفهوم في تطور البنيات المعرفية بصفة خاصة. أول هذه التوضيحات ان غاية بياجي من دراسة التوازن ليست هي دراسة حالة، كما لو كان ما يعنيه الأمر عند الحديث عن التوازن هو الاشارة الى تجاوز اختلال ما والعودة بالجسم الحي او بالبنيات المعرفية على السواء الى حالة سابقة على حصول الاختلال. فما يهم بالنسبة للتفسير في مجال علم النفس ليس هو التوازن بوصفه حالة، بل هو عملية اضفاء التوازن Equilibration فالتوازن ليس إلا نتيجة، بينما عملية اضفاء التوازن هي التي تكون ذات قدرة تفسيرية.(١)
هدف بياجي في مجال التحليل الابستمولوجي هو دراسة تطور وتشكيل المعارف، ولتفسير ذلك فان العودة تكون لا الى التوازن بوصفه حالة، بل الى عملية التوازن ذاتها، بالنظر الى ان هذه العملية اضفاء مستمر للتوازن وانتقال مستمر من حالة توازن الى اخرى. فليس المقصود لدى بياجي من الحديث عن التوازن هو تطبيق بنية واحدة للتوازن على جميع الوضعيات وكل المستويات، إذ لا يتعلق الأمر بمفهوم تشبيه بمفهوم البنية لدى مدرسة الغشتالت، بل يتعلق بعملية مستمرة لاضفاء التوازن، أي بالانتقال من حالة توازن الى اخرى مختلفة مروراً باختلالات متعددة واعادة متعددة لإضفاء التوازن. الغاية عند بياجي، إذن، هي البحث عن ميكانيزم الاختلالات واستعادات التوازن من جديد Les reequlibration (٢).
يبدو ما انتهينا من قوله ملائماً لميل دائم لدى بياجي الى عدم الوقوف في تحليل الظواهر البيولوجية والنفسية والابستمولوجية عندما يظهر لنا ساكناً، والى بحثه الدائم عن السيرورة بدل الحالة، والدينامية بدل الثبات، والتطور بدل الوقوف عند حالة ما بوصفها نهائية. لذلك، فان بياجي إذ يستخدم مفهوم التوازن ويدرك ان هذا المفهوم قد يؤخذ بوصفه دلالة على حالة يدمجه ضمن سيرورة أعم هي عملية إضفاء التوازن، ويجعل هدفه هو تحليل ميكانيزم هذه العملية.
الملاحظة الثانية التي تساعدنا على فهم مفهوم التوازن ودوره في التطور المعرفي من وجهة نظر بياجي، هي ان التوازن ليس خاصية خارجية او مضافة، بل هو خاصية داخلية وتكوينية للحياة العضوية والعقلية.(٣) فان حصة ما يمكن ان توجد من التوازن القار مع محيطها دون ان يغير ذلك شيئاً من طبيعتها، وأما الكائن الحي فانه يُظهر جملة من ردود الأفعال المستندة الى تكوينه الداخلي والتي تعتبر ضرورية بالنسبة لحياته وبالنسبة لعلاقة متوازنة مع محيطه. واكثر من ذلك، فان للكائن الحي اعضاء تساعده على الحركات والأفعال التي تحقق التوازن، كما ان حياته العقلية تستند الى جملة من الميكانيزمات التي تضمن تعديلها كلما تطلب توازن علاقتها مع ذلك المحيط. ودور هذه الافعال والحركات التي تظهر بمثابة رد فعل على تأثيرات المحيط الخارجي انها تستبق الاضطرابات التي قد تؤدي إليها هذه التأثيرات وتحاول التعويض عنها ضمن حالة توازن جديدة.
الملاحظة الثالثة هي ان اعتبار دور التوازن ضروري لتفسير سيرورة الحياة العضوية والحياة النفسية والعقلية، وضمن ذلك لتفسير سيرورة المعرفة ذاتها. يظهر هذا بالنسبة لنظرية التعلّم بصفة خاصة، حيث تتميز هذه العملية بالتعديل المستمر للسلوكات اعتماداً على الخبرات المكتسبة من التجربة، وذلك لإيجاد توازن جديد باستمرار.(٤)
الملاحظة الرابعة ان لمفهوم التوازن دوراً ضمن كل نظرية تأخذ بمفهوم التطور وتفسر الظواهر في ضوئه. ذلك ان كل نظرية للتطور تستدعي مفهومي التوازن بالضرورة، حيث ان كل مظهر من السلوك ينزع الى تحقيق توازن بين العوامل الباطنية والعوامل الخارجية، او حسب التعبير الملائم عند بياجي. لهذا فان كل سلوك ينزع الى توازن بين التلاؤم والتمثل بالمعاني التي سبق لنا الحديث عنها لهذين المفهومين.
هناك في نظرية بياجي اعتبار للتطور حيث انها تنزع الى تفسير المعرفة لا في ضوء بنياتها فحسب، بل في ضوء التطور الذي يلحق هذه البنيات ذاتها والذي يفسر لنا بدوره الانتقال من بنية الى أخرى. إن ما يهم بياجي، كما عبرنا عن ذلك خلال بحثنا هذا بصيغ مختلفة، هو البحث في المعرفة من حيث هي سيرورة لا من حيث هي حالة. وإذا كان الأمر كذلك فان دور مفهوم التوازن مطلوب في نظرية بياجي مثلما هو مطلوب ضمن كل نظرية تأخذ التطور بعين الاعتبار وتفسر الظواهر في ضوئه. وقد رأى بياجي ان نظريات التطور واجهت اكثر من غيرها صعوبات في التوفيق بين اعتبار أثر العوامل الخارجية والعوامل الباطنية في السلوك بصفة عامة، وهذا اضافة الى أن مسألة المعرفة لم تشهد بصورة واضحة بلورة نظرية تنظر اليها من زاوية تطورها حيث انتدب بياجي نفسه لإنجاز هذه المهمة ضمن الابستمولوجيا التكوينية التي أراد تأسيسها بوصفها علماً مستقلاً بذاته. هناك، في نظر بياجي، ثلاثة عوامل سرى التقليد على اعتبارها مؤثرة في تطور السلوك الانساني بصفة عامة، وهي العوامل الوراثية وعوامل المحيط الطبيعي وعوامل المحيط المجتمعي. ولم يسبق أبداً ان لوحظ نضج خالص، أي دون تمرّن ودون اثر من عوامل خارجية، ولا سبق أن لوحظ أيضاً تطور يكون بفعل العوامل الخارجية وحدها دون أن يكون هناك دور للبنيات الداخلية. واذا ما أخذنا بعين الاعتبار هذا التداخل المستمر بين العوامل الخارجية والعوامل الباطنية، فان كل سلوك سيكون تمثلاً لما هو معطى بفضل خطاطات، كما أن هذا السلوك نفسه سيكون في الوقت ذاته تلاؤماً لهذه الخطاطات مع وضعية حالية.
يسير بياجي في تفسيره نحو أخذ كل العوامل السالفة الذكر بعين الاعتبار بالنسبة للحياة الانسانية بصفة عامة وبالنسبة لعملية المعرفة بصفة خاصة. ذلك أن المعرفة كما حددناها سابقاً شكل أسمى من اشكال تكيف الانسان مع محيطه الخارجي، إذ الانسان يعرف خصائص العالم الخارجي وهو يتكيف معه. ولهذا، فان بياجي ينظر الى المعرفة والى تطور بنياتها ضمن هذا الجدل العام الذي يربط الانسان ككائن حي بمحيطه الخارجي. فالمعرفة كما رأينا ذلك في أجزاء متعددة من هذا البحث، وعبرنا عنها بصيغ مختلفة، هي تكامل بين التلاؤم والتمثل، أي بين تأثر الانسان بعوامل محيطه الخارجي وبين إدماجه لعناصر هذا المحيط ضمن خطاطات سابقة عليها. وضمن هذا الاطار العام يرى بياجي ان للتوازن دوراً. ذلك انه ينظر الى التوازن انطلاقاً من هذا المنظور بوصفه عاملاً رابعاً ينضاف الى العوامل الثلاثة السالفة الذكر. ولا ينضاف التوازن الى هذه العوامل كمياً فحسب، بل انه يلعب دور التنسيق الضروري بين تلك العوامل لا يمكن الفصل بينها. فهناك دائماً توازن بين العوامل الثلاثة الباطنية والتي تعود الى المحيط الطبيعي ثم التي تعود الى المحيط المجتمعي، إذ ان فعل كل واحد منها في ظواهر الحياة، ومنها المعرفة، يكون في اطار التوازن مع العوامل الاخرى. لذلك فان التوازن يشكل في نظر بياجي عاملاً رابعاً اعتباراً لكونه أعم من الثلاثة الأخرى، وبالنظر كذلك الى انه قابل لتحليله نسبياً بكيفية مستقلة.(٥)
عندما يلعب التوازن هذا الدور الذي انتهينا من وصفه، فانه ينطبق عند بياجي على ظواهر الحياة مثلما ينطبق على تطور البنيات العرفية، إذ أن هذا التطور الذي يشمل في الوقت ذاته التحولات التي تجري في البنيات ذاتها ثم الانتقال من بنية الى أخرى، يكون دائماً توازناً او اعادة تجديد لذلك التوازن. غير أن هناك اعتراضاً، يلمح اليه بياجي نفسه، يمكن أن يصدر ضد هذا التصور لدور التوازن، وهو اعتراض ينبثق عن اعتبار الخصائص المميزة للبنيات المعرفية، وبخاصة منها الرياضية والمنطقية عمّا عداها، ذلك أن التأكيد بأن كل تطور يقوم في إضفاء متدرج للتوازن من شأنه أن يوحي بأن هذا التطور انتقال متعاقب من حالة غير مستقرة الى أخرى، وانه حتى من الناحية التكوينية ذاتها تظل الحالات المستقرة استثنائية. ولهذا، فان من ينطلق من الاعتراض الذي أوردناه يرى أن التفسير الذي يستند الى مفهوم التوازن لن يشمل الا ميداناً محدداً هو البنيات المنطقية والرياضية. ذلك ان هذه البنيات تظل بعد تكوّنها ثابتة على الدوام، كالحال مثلاً بالنسبة لسلسلة الاعداد الصحيحة، أو البنيات المنطقية للفئات او العلاقات، فهي لا تتغير بالنسبة للذات العارفة حتى وان رأينا انها تندمج في بنيات أكثر تعقيداً. انها تمنحنا مثالاً مدهشاً للتوازن في التاريخ كما على صعيد التطور الفردي.(٦) وهكذا يمكننا أن نفترض أن مفهوم التوازن المعرفي لا ينطبق إلا على حالات خاصة بينما تظل العلميات العقلية في غالبيتها في اختلال دائم من حيث أن كل مشكلة جديدة تكون فرصة لظهور مظهر نقص أي جديد، أي اختلالاً في البنية.
غاية بياجي في هذا المستوى الذي نتحدث عنه هي تفسير السلوك بأكمله في ضوء مفهوم التوازن والنظر الى تطور البنيات المعرفية ضمن هذا المنظور، أي بوصفه توازناً متدرجاً ينتقل من حالة الى أخرى ومن مرحلة الى أخرى أكثر منها توازناً، ولذلك فانه لا يقبل الاعتراض السالف الذكر الذي يحد من القدرة التفسيرية لمفهوم التوازن بحصره في البنيات الثابتة التي تكون البنيات المعرفية نموذجاً لها. فبياجي يرى، على العكس من ذلك، أن البنيات المعرفية بدورها متطورة وأن كل حالة ندركها عليها تكون خلاصة لعملية مستمرة لإضفاء التوازن، والأمر يتعلق في نظر بياجي بتلك البنيات العرفية منذ مراحلها الأولى ما قبل المنطقية أي في المراحل التي تكون فيها مرتبطة بالنشاط الحسي الحركي وبالادراكات والتمثلات الاولية، إذ أن هذه البنيات تكون في هذه المرحلة ما قبل المنطقية مماثلة للبنيات المنطقية وتؤدي دورها بالتالي في تنظيم الادراكات وفي التنسيق بين الحركات التي تميز هذه المرحلة من التطور.(٧)
يواجه بياجي هنا النزعتين الاساسيتين في مجال المعرفة، تلك التي ترجع البنيات الى التجربة، وتلك ترى ان التجربة لا تكون ممكنة بدون بنيات سابقة عليها. ونعلم ان هاتين النزعتين لم توجدا في ميدان الفلسفة وحدها بل كان لكل منهما امتداداته في مجالات اخرى وخاصة علم النفس والابستمولوجيا، وهذا ما يدفع الى وجود صيغ متعددة لهما. وقد وجد بياجي انه لابد من اتخاذ موقف من هاتين النزعتين في جميع صيغهما وفي كل الميادين التي كانت مجالاً للتعبير عن تصوريهما.
الموقف الذي اتخذه بياجي، كما نعلم ذلك من خلال تحليلاتنا السابقة، هو الذي ينظر الى البنيات المعرفية من زاوية تطورها. ومن هذه الزاوية فان البحث لا يكون عن بنيات تنشأ بتأثير من العالم الخارجي فحسب وتكون صورة مطابقة له، كما لا يكون عن بداية مطلقة او عن بنيات تكون جاهزة بذاتها. ما كان يهم بياجي هو دراسة التطور ذاته، وهذا هو الموقف الذي ينطلق منه في دراسة البنيات المعرفية، ومنها البنيات المنطقية والرياضية.
عندما ينظر بياجي الى البنيات المعرفية من زاوية التطور التي حكمت تحليله لمسألة المعرفة في كل الأبحاث التي تناول فيها هذه المسألة، فانه يتوصل الى القول: انه وإن لم يكن من الملائم التأكيد بأن المنطق محايث لكل مراحل التطور المعرفي، وذلك لأن العمليات المتعلقة بالفئات والعلاقات والاعداد لا تبدأ إلا عند بلوغ الطفل السنة السابعة من عمره، فانه يمكن التأكيد، مع ذلك، بانه توجد في كل المستويات بنيات ترسم الخطاطات الأولى للمنطق تقود عبر توازنها المتدرج الى البنيات المنطقية الرياضية. وهذا يعني ان هذه البنيات المنطقية تجد خطاطاتها الاولى ضمن بنيات أدنى منها، ولكن التي تشكل بدايات أولى لها.
خلاصة القول ان بياجي يرى ان تطور الوظائف المعرفية يتميز بمراحل متعاقبة تظهر البنيات الاجرائية والمنطقية في الاخيرة منها فقط في تمام تطورها، ولكن كل واحدة منها تسير في الحقيقة منذ البداية في الاتجاه الذي يرسمه التطور بمراحله المتميزة. ولذلك، فان بياجي يعتبر ان التطور يكمن في عملية اضفاء التوازن، وأن الفرق بين البنيات ما قبل المنطقية وبين البنيات المنطقية يوجد بصفة جوهرية في الطابع التقريبي او التام الذي تتميز به البنيات في كل مرحلة من التطور المعرفي منذ بداياته الاولى والى المرحلة التي يبلغ فيها الانسان عند سن رشده القدرة على التفكير المجرد.(٨)
نرى، إذن، ان بياجي الذي يستخدم مفهوم التوازن ينظر اليه بوصفه ذا قوة تفسيرية ضمن كل نظرية تطورية، وإذ ينظر الى البنيات المعرفية بوصفها متطورة فإنه يرى أن هذا المفهوم منطبق عليها ومفسر لميكانيزماتها الى جانب المفاهيم الأخرى التي سبق أن عرضنا تصورات بياجي لها: التكيف، والذكاء، والتمثل والملاءمة.
لقد فضلنا منهجياً، ونحن نقصد ان نوضح الكيفية التي يدمج بها بياجي مفهوم التوازن ضمن تفسيره للتطور المعرفي، أن نبدأ بتوضيح دور هذا المفهوم وضرورته بالنسبة لكل نظرية تنظر الى ظواهر الحياة بصفة عامة والظواهر النفسية والوظائف المعرفية بصفة خاصة من زاوية تطورها، وهذا حال نظرية بياجي. كان تفضيلنا ذلك نابعاً من نظرنا الى الدور بوصفه عنصراً من عناصر تعريف مفهوم التوازن ذاته، معتبرين أن فهم الدور يلقي الضوء على جوانب من المفهوم وعلى الدلالات التي يًستخدم بها ضمن ابحاث بياجي المتعددة والمتنوعة حول مسألة المعرفة من زاوية الطرح الخاص للابستمولوجيا التكوينية لتلك المسألة.
كانت الملاحظات التي حرصنا على اثباتها سيراً في هذا الطريق الذي أشرنا اليه، إذ بقدر ما كانت توضح لنا شروط استخدام مفهوم التوازن وتبرز لنا الجوانب المختلفة لفهم دوره في فهم تطور الحياة لدى الكائن الحي بصفة عامة، وفهم تطور الوظائف المعرفية لدى الانسان بصفة خاصة، فان تلك الملاحظات كانت تقربنا من تعريف المفهوم نفسه لدى بياجي، لأن كل أنواع الحذر التي اتخذها بياجي في استخدامه لمفهوم التوازن كانت تدخل ضمن تحديد خاص لديه لهذا المفهوم.
من الاكيد انه ليس من السهل متابعة فكر بياجي بصفة عامة ومتابعة كل مفهوم لديه بصفة خاصة، وذلك بالنظر الى عودة بياجي المستمرة الى أفكاره ومفاهيمه والى وجود تعديلات واضافات مستمرة. وهذا هو حال مفهوم التوازن الذي يرى بعض الباحثين اننا يمكن ان نجد إرهاصات أولى لاستخدامه كمفهوم مفسر لتطور حياة الانسان بصفة عامة منذ المحاولات الاولى لبياجي التي بدأها في سن مبكرة من عمره سنة 1918. فقد رأت باربل اينيلدر، وهي من بين المتعاونين الاساسيين الذين عملوا الى جانب بياجي مدة طويلة وتابعوا تطوراته الفكرية، اننا نعثر على ارهاصات أولى لنظرية بياجي حول التوازن، وهي النظرية التي نجد في كتابات بياجي اللاحقة توسعاً فيها وتعميقاً متجدداً لها واعادة صياغة الى ان تصل الى تعبيرها الأسمى في كتابه عن اضفاء التوازن على البنيات المعرفية باعتباره المشكل المركزي للتطور.(٩)
ونضيف الى هذا ان بياجي لم يتوقف في تعميق مفهومه عن التوازن بإنهاء كتابه الذي ذكرناه، بل انه عند الاحتفاء بذكرى ميلاده الثمانين وتركيز محور هذا الاحتفاء حول مضمون كتابه عن توازن البنيات المعرفية، لم يتردد في تقديم بعض الاطروحات الاضافية حول هذا المفهوم.(10)
يقتضي منا تعريف التوازن ان نجدد التذكير بان هذا المفهوم يستخدم في مجال واسع يشمل ظواهر الحياة كما يستخدم في الدراسات المتعلقة بالذكاء وبتطور الوظائف المعرفية التي تمثل كل واحدة منها مستوى من مستويات التوازن. ويؤدي هذا الاستخدام الواسع للمفهوم واختلاف الظواهر التي يعبر عنها في كل حين الى تنوع في العناصر التي تتشكل منها دلالته، وهذا فضلاً عن الاستخدام المتكرر لبياجي نفسه لهذا المفهوم وتعريفه في كتاباته المختلفة بتعريفات تُدمج فيها باستمرار عناصر جديدة. وبما ان الهدف الاساسي لاستخدام بياجي للمفهوم هو تفسير ميكانيزمات تطور البنيات المعرفية، وبما ان بياجي لا يأخذ هذا التطور منعزلاً عن شروط النمو البيولوجي، أي انه يربط بين الحياة والمعرفة، فإن استخدام مفهوم التوازن لا يشير الى المستويات المختلفة فحسب، أي تلك التي تتعلق بالتطور البيولوجي ثم التي تتعلق بالتطور المعرفي، بل انه يشير الى العلاقة بين هذين المستويين. فالمعرفة، كما رأينا من قبل شكلاً من أشكال تكيف الانسان مع محيطه الخارجي، وبما ان كل مستوى من مستويات التكيف هو نوع من التوازن مع ذلك المحيط، فان المعرفة بدورها نوع من التوازن مع المحيط. لكن، بما ان التوازن يعبّر عن حالات من العلاقات الجدلية التي تنطلق من العلاقة بين الجسم الحي وشروط العالم المحيط به الى العلاقة بين الواقع والبنيات المعرفية، فإلى العلاقات التي تربط هذه البنيات ذاتها في المراحل المختلفة من تطورها، فإن هذا كله يجعل أشكال التوازن مختلفة من حيث مستواها وغايتها، وهو الأمر الذي يقود بالضرورة الى تعديل في دلالات المفهوم وفي دوره التفسيري، وكذلك في مظاهر تحقق التوازن كواقع يتضمنه التطور البيولوجي والنفسي والعقلي للانسان، وفي شروط العملية لا تتوقف لإضفاء التوازن.
من الأكيد كذلك انه لابد لفهم دلالات التوازن عند بياجي وضع هذا المفهوم باستمرار ضمن نسق المفاهيم التي يستخدمها الى جانبه لوصف الظواهر البيولوجية او الظواهر المعرفية او العلاقات بين هذين المستويين من الظواهر. لكن المفاهيم المحيطة بمفهوم التوازن ليست منسجمة معه في كل الاحوال، مثل مفهوم التكيف، بل بينها ايضاً مفاهيم مضادة له مثل مفهوم الاختلال desequilibre او مفهوم الاضطرابات perturbation . فإضفاء التوازن لا يكون في حالة استقرار البنيات، وهو ما يعني توازنها، بل يكون عند حصول اضطرابات او حالة اختلال. وقد تنبه بياجي، بالفعل، خلال صياغاته المختلفة لمفهوم التوازن الى ضرورة اعتبار شروط اختلال التوازن الذي يحتم اضفاء التوازن من جديد. فلابد لفهم التوازن من أخذ شروط الاضطرابات والاختلال بعين الاعتبار، لانها تلعب دوراً في تحديد غاية العملية المطلوبة، أي اضفاء التوازن من جديد. وبانطباق هذا الاعتبار على البنيات المعرفية بالذات مأخوذة من زاوية تطورها، فقد رأى بياجي انه اذ كانت عملية اضفاء التوازن أحد مصادر التقدم في تطور المعارف، فإنه ينبغي البحث في تفسير ذلك في حالات اختلال التوازن، إذ أن هذه الحالات وحدها تُرغم الذات على تجاوز حالتها الراهنة بالبحث عن اتجاهات جديدة، أي بإعادة اضفاء التوازن من جديد على العلاقات او على البنيات. وهكذا، نصل من هذا المنظور الى القول انه اذا كانت عمليات اضفاء التوازن المستمرة عاملاً من عوامل التطور بصفة عامة، والتطور المعرفي بصفة خاصة، فان للاضطرابات والاختلالات دوراً في تحفيز عمليات إضفاء التوازن ذاتها، إذ أنها ما يسمح بايجاد الشروط الملائمة لتجاوز حالة راهنة نحو أخرى أفضل منها، أي الى إعادة نوعية لإضفاء التوازن.(١١)
هذا الدور الذي لا يمكن التغافل عنه لمظاهر الاضطراب والاختلال في تطور الحياة بصفة عامة، وفي تطور الوظائف المعرفية وما يرتبط بها من بنيات بصفة خاصة، هو الذي يدفع بياجي الى التفكير في هذا الموضوع انطلاقاً من التساؤل عمّا اذا لم تكن مظاهر الاضطراب والاختلال محايثة لكل تطور ومكوناً ضرورياً من مكوناته. واذا تعلق الأمر بالتطور المعرفي بصفة خاصة، فان بياجي ينطلق من التساؤل عمّا اذا لم تكن الاضطرابات والاختلالات ضرورة داخلية محايثة لتكوين الموضوعات، من جهة، والذات العارفة من جهة أخرى. ذلك لانه ليس هناك أي شكل من التفكير يمكن أن يلمّ بالواقع في كليته او يشمل القول في كليته. فهناك دائماً تناقضات وعبر ذلك مكان لتوازن جديد يتم عبره التطور.
حين يعتبر كل ما سلف ذكره عن مظاهر الاضطراب والاختلال في التطور المعرفي وفي البنيات المرتبطة به، فان بياجي يلح نتيجة لذلك على ان لتلك المظاهر دورها في ميكانيزم التطور. فالاضطرابات والاختلالات هي التي تشكل العنصر المحرك للبحث في مجال المعرفة، أي انها هي التي توجه الفكر نحو البحث عن صورة جديدة للتوازن. وبدون الاضطرابات والاختلالات التي تحفز على عمليات اضفاء التوازن ستظل المعرفة في حالة سكون ، وهو ما نرى انه بناء في المعرفة في حقيقتها كما يحددها بياجي بوصفها سيرورة. وهذا الدور الذي تلعبه الاختلالات في الدفع نحو البحث عن توازنات جديدة هو الذي يفسر لنا التطور، وذلك لأن اضفاء التوازن من جديد لا يعني مجرد دعوة بالبنيات الى حالتها السابقة التي تكون تناقضاتها هي المسؤولة عن الاختلال، بل الى الانتقال الى حالة أفضل.(12)
يظهر من خلال ما سلف قوله عن التوازن انه يشكل بصوره المختلفة عاملاً أساسياً للتطور المعرفي، إذ هو ليس مجرد مظهر من مظاهر هذا التطور او عاملاً مضافاً ذا قيمة ثانوية بالقياس الى عوامل اخرى. الاضفاء المتدرج للتوازن عملية لا غنى عنها للتطور بصفة عامة وللتطور المعرفي بصفة خاصة، وهي عملية تتغير مظاهرها من مرحلة الى اخرى سيراً نحو توازن أفضل من حيث بنيته ومن حيث مجال تطبيقه.
لقد تمكنا حتى الآن من رسم طريق واضح لفهم دلالة مفهوم التوازن ودوره في تفسير التطور عامة والتطور المعرفي بصفة خاصة. فقد رأينا ما يبرر ضرورة الأخذ بهذا المفهوم حيث لا غنى عنه لتفسير ظواهر التطور، وحيث انه يكون محايثاً لكل نظرية تنظر الى ظواهرها من زاوية تطورها. فالتطور على العموم سير نحو توازن أفضل فأفضل. تبينا كذلك انه لا غنى عن اعتبار علاقة مفهوم التوازن بجملة من المفاهيم التفسيرية الأخرى التي تتعلق بدورها بعلاقة الانسان بمحيطه، من جهة، وبعلاقة البنيات بالواقع الذي تصوغه، من جهة أخرى، ثم بعلاقة البنيات بحالاتها المختلفة التي تعرفها خلال مراحل تطورها وعلاقتها بالبنيات الفرعية التي تتكوّن منها، وعلاقة البنيات بعضها بالبعض الآخر. هناك عدد من المفاهيم التي أخذت بها نظرية بياجي التي تنظر الى المعرفة من زاوية تطورها وتكوّنها عبر هذا التطور: التكيف، والتلاؤم، والتمثل، والذكاء، والادراك، والعادة، والتذكر، والنمو والابداع، أي الانتقال الى بنيات جديدة. يمكننا أن نقول في تعبير بسيط أولي: إن مفهوم التوازن ينضاف الى كل المفاهيم السالفة الذكر، غير أننا نقول أيضاً أكثر من ذلك إن مفهوم التوازن يلعب دوراً في توضيح مستويات انطباق كل واحد من المفاهيم السابقة ويبين الجدل القائم في العلاقة بينها.فالواقع الذي تشير اليه كل المفاهيم السابقة في حاجة الى مفهوم التوازن لتفسير تطوره. وهكذا، فان التكيف، والذكاء بوصفه تكيفاً، هما توازن بين التلاؤم مع خصائص الموضوعات الخارجية وبين تمثل تلك الخصائص ضمن بنيات تكون سابقة لها لدى الذات العارفة. وهناك توازن بين الإدراك وبين إبداع أشكال وصيغ جديدة باستمرار. وهناك تواز بين ما هو بيولوجي وما هو نفسي وعقلي. وهناك توازن بين مراحل التطور عامة وبين مراحل التطور المعرفي بصفة خاصة بحيث ان كل مرحلة منها تمثل مستوى من مستويات التوازن وشكلاً يعبر عن تجاوز اختلالات واضطرابات، ولكن بالعودة الى حالة سابقة بل بايجاد حالة جديدة هي عبارة عن بنية أكثر توازناً من سابقتها.
ينسجم مع الاعتبارات السالفة الذكر أن نتعرف على مكونات مفهوم التوازن ذاته، وذلك لأنها ستساعدنا في مستوى آخر على فهم دلالاته ودوره في تفسير التطور المعرفي ومراحله. سنجد في هذا المستوى ان هناك مفاهيم فرعية أخرى مندمجة ضمن الاطار العام لمفهوم التوازن، يعرّف كل واحد منها هذا المفهوم في مستوى من مستويات انطباقه. سنجد أيضاً ان استخدام مفهوم التوازن كمفهوم تفسيري في مستويات مختلفة من الحياة الانسانية يؤدي الى ظهور أشكال متنوعة من التوازن، وهو ما يعني أن تعريف التوازن سيكون مختلفاً نسبياً من شكل الى آخر وأن ما يفسره في كل مستوى من مستوياته ليس متمثلاً بالضرورة. ونضيف إلى هذا الاعتبار أننا نبحث في مفهوم استخدمه باحث غزير الانتاج وكان له نصيب من ذلك في ميادين متعددة، علماً بأن بياجي الذي يتعلق به الأمر هنا كان يعود باستمرار إلى موضوعات سبق له تناولها مع ما يرتبط بذلك من تعديلات واضافات وصياغات جديدة. ويعني كل هذا أنه ليس هناك تعريف واحد لدى بياجي للتوازن، ولا تصور وحيد للدور الذي يمكن أن يلعبه هذا المفهوم في تفسير ظواهر التطور المعرفي.
لتعريف التوازن سنميز، كما هو الأمر عند بياجي بالفعل، بين التوازن كحالة توجد عليها الانساق والبنيات Le`quilibre ، وبين عملية إضفاء التوازن Equilibration وهي اعادة التوازن الى بنية أو نسق يكون قد عرف اضطرابات أو اختلالات.
يرد بياجي على هوسرل Husserl في حلمه الديكارتي الذي كان يريد أن يجعل الرياضيات علماً شاملاً بكل البنيات الممكنة. ويرى بياجي أن العلاقة بين الواقع والممكن تُطرح لا في هذه الصيغة الشاملة التي تختزل العلاقة بينهما في العلاقة الاستنباط والتجربة، بل إن الصيغة الملائمة هي التوازن. ويعرف بياجي التوازن في هذه الحالة كالتالي: »يكون هناك توازن حيث يكون هناك اعتبار لمجموع التحولات الممكنة وليس فقط للشروط المتحققة«.(13)
يحدد هذا التعريف الأول للتوازن الإطار العام الذي يسمح لنا بالحديث عنه، أي اطار العلاقة بين الممكن والواقع. ومع هذا التعريف يظهر لنا منذ البداية انه لا يمكن الحديث عن توازن في حالة الاكتفاء بالواقع، أي في حالة الوقوف عند النظر إلى البنية والنسق. ذلك أنه ينبغي النظر الى الممكن، أي ينبغي النظر الى الواقع بوصفه منفتحاً على حالات أخرى ممكنة غير التي هو عليها، وهذا ما يحتم النظر الى البنيات مع أخذ التحولات بعين الاعتبار، بوصفها احدى خصائص البنيات ذاتها. ولذلك فان كل نظرة سكونية الى البنيات لا تستطيع تمثل التوازن في حقيقته، ولذلك أيضاً فإن النظرة التكوينية التي تعتمدها الابستمولوجيا عند بياجي تبدو أقدر على طرح مسألة التوازن. وهكذا، يظهر منذ البداية ان هناك مفاهيم أخرى ينبغي الحديث عنها عند الحديث عن التوازن: الواقع، ولكن في علاقته بالممكن، البنية، ولكن في كونها موضع تحولات، التكوّن بوصفه نتاجاً مستمراً لعملية اضفاء التوازن ورفع الاضطرابات والاختلالات.
ويطرح بياجي التوازن العقلي، وهو بالمفهوم السالف الذكر ما يفسر التطور المعرفي والتحولات الواقعة في هذا المستوى، بكونه يكمن في الممكنات التي تتجاوز في التطور العقلي الحركات والافعال الواقعية.(14)
تتحد بهذا المعنى للتوازن مهمة الابستمولوجيا التكوينية في دراسة التحولات في البنيات المعرفية وما يرتبط بها من انتقال من بنيات الى أخرى أكثر توازناً. وحيث ان الابستمولوجيا التكوينية عند بياجي تعتمد على الدراسة النفسية للتكوّن، وحيث انها تدرس عبر ذلك مراحل النمو العقلي عند الطفل، فإن دراستها تنصب على إضفاء التوازن المستمر داخل كل مرحلة وعند الانتقال من مرحلة الى أخرى. لكن، حيث ان الابستمولوجيا التكوينية تهدف الى دراسة تطور المعرفة العلمية عبر تاريخها، فإنها إذ تأخذ بعين الاعتبار التحولات التي يعرفها تاريخ المعرفية العلمية تدرس انتقال هذه المعرفة من حالة توازن الى أخرى أفضل منها توازناً مع عدم اهمال الاضطرابات والاختلالات التي هي الحافز الذي يدفع الى إضفاء التوازن من جديد والانتقال الى حالة أفضل.
تنطلق النظرية التكوينية لدى بياجي من الارتباط بين الفعل والمعرفة، ونتيجة لذلك فانها إذ تضع مسألة العلاقة بين الواقع والممكن لا تذهب مذهب النظريات غير التكوينية ذات النزعة القبلية والتي يبدو أنها تضع الممكن سابقاً على الواقع، أي التأكيد على أن المعرفة مشكلة بصورة قبلية والقول بأن كل معرفة حالية تحقيق لممكن سابق عليها. فالنظرية تقوم عكس هذا على النظر الى الممكن بوصفه ابداعاً متجدداً، وذلك لأن كل فعل جديد يفتح هو ذاته ممكنات جديدة في الوقت الذي يحقق فيه ممكنات سابقة.(15) في هذا الاطار يكون التوازن انفتاحاً مستمراً على ممكنات جديدة، وهذا لأن الفعل واقع في صيرورة وهو يشكل، بالتالي، عملية تكوينية لا تنتهي. وهكذا يكون هناك دائماً مكان لعملية توازن تنقلنا من امكانية الى أخرى. وهكذا أيضاً يظهر مفهوم التوازن بوصفه ما يربط بين الممكن والواقع، كما أنه يتضمن قابلية الانعكاس أو بصورة فريدة الانتقال من الصيرورة الطبيعية الى البنية العقلية او المنطقية التي تبدو لا زمانية.(16)
ينطبق هذا في نظر بياجي على المستوى البيولوجي، كما ينطبق على البنيات المعرفية في تطورها وانتقالها من مرحلة الى أخرى أكثر تطوراً منها، أي أكثر توازناً. وحيث ان تطور البنيات المعرفية هو ما يهمنا في هذه الدراسة، فإننا نقول ان التوازن يكون في نظر بياجي عندما تشكل أعمال علمية حالية توافقاً يكون منتوجه معادلاً للصفر، أي عندما لا تكون هناك اضطرابات أو اختلالات أو نقص في قدرة البنيات المعرفية القائمة على تفسير الظواهر التي يتجه العقل الى التفكير فيها.
كل تطور يقوم على التوازن وعلى عملية اعادة إضفاء التوازن عند الاضطرابات او الاختلال في الأنساق، ولا يخرج التطور المعرفي عن هذا سواء من حيث التوازن بين العناصر المكونة له او بين المراحل التي يعرفها والتي تعتبر كل واحدة منها توازناً جديداً يستجيب لجملة من التحولات. ولذلك، فإن أي فعل لا يجري منعزلاً عن جملة التحولات التي يرتبط بها التطور، ولا يمكن لأي فعل منعزل أن يكون محققاً للتوازن المطلوب في كل حالة من حالات التطور وكل مرحلة من مراحله. ويتحقق التوازن على الصعيد المعرفي، في الواقع، عندما يقع الوعي بالأفعال الممكنة للبناء المستمر أو للحركات أو العمليات التي ينبغي القيام بها للانتقال من الحاجة الى التوازن الى تحقيقه. فإذا كان الطفل مثلاً يقوم بإضافة عناصر النسق (ا) الى عناصر النسق (اَ) ليشكل منهما كلاً جديداً هو (ب)، فإنه يدرك في البداية هذا الكل الجديد وكأنه يحتوي على اضافات لا توجد في النسقين السابقين، ولكنه يعين بعد ذلك عبر العمليات التي يقوم بها
الهوامش
١ –
Vois jeen piogel: Leqiulibration des structures cognitiver P.V.9. 1975.p9.
٢ – نفس المرجع السابق ، ص٩.
٣ – راجع ما قالته باربل اينلدر ضمن:
Epistemalgie genetique et equilibiration. Delaihaus et Nestli Neuchotel et paris 1977.p6.
٤-
-Jeon pioget: Sire etuder de payecholoqie edition laoutlien. Geneve 1964. p117.
٥-
-Jean piaget: psycholoqie et Epistemoloqie edition Deuoel / Gouthia. Paris 1970.p62-64.
٦ – نفس المرجع السابق، ص118- 119.
٧ – راجع نفس المرجع السابق ص120.
٨ – راجع نفس المرجع السابق، ص124.
٩ – راجع كلمة الباحثة المتعاونة مع بياجي باربل اينلدر ضمن الكتاب التكريمي السالف الذكر:
Epistemo;oque genetique et equilibration ص٦.
10 – راجع هذه الاطروحات ضمن نفس المرجع السابق، ص13- 17.
١١ – راجع تأكيد بياجي على هذه القضية ضمن كتابه السالف الذكر:
Equilibration des Atrudures cognitves .
12 – نفس المرجع السابق، ص٩، ثم الفصل الاول بكامله.
13 – راجع ذلك ضمن الكتاب المهدى لبياجي والسالف ذكره:
Epistemoloqie genelique equilibration ص٤١.
14 – راجع الفصل الثاني من كتاب بياجي السالف الذكر:
L`Equilibration des structures cognitives
15 – راجع نفس المرجع السابق، نفس الفصل الثاني.
16 – راجع نفس المرجع السابق، نفس الفصل الثاني.
محمد وقيدي (باحث من المغرب)