شكري الميموني
بصفته مفكِّرا معاصرا وعلمانيًّا، يشكِّك محمد أركون في الفكر الإسلامي المعاصر، وبشكل خاص في حركات الإصلاح التي يعتبرها فاشلة كما يزعم ذلك في كتاب الأنسنة والإسلام. ويوضح أن الإصلاح يتمثّل في «إعادة النظر في الموروث العقائدي، والاستمرار في التمسّك بأصول الشريعة والمذاهب التي نشأت عنها، والتخلي عن التلاعب بالسلطة السياسيّة مع ترك أغراضها. ومن هنا يختلف محمد أركون مع الإصلاحيين بحيث أنه لا يشجع الإصلاح «داخل السور العقائدي» بل يسعى للخروج منه ليتجاوزه. ولهذا دعا إلى «تحوير فكري وروحي» يتطرّق إلى جميع مكوّنات العقيدة الإسلامية.
ويتمثل هذا التَّحوير حسب أركون في فتح كل فضاءات البحث العلمي والنَّقد الحر، لأوَّل مرة في تاريخ الفكر الإسلامي، للمساهمة في إنتاج تاريخ مشترك بين الشعوب والثقافات ومجتمعات المعرفة المشتركة. وبإدلائه بفكرة تحوير الفكر الديني بما في المعتقد من أساطير تاريخية، أو تغيير الفكر الحديث وانحرافات الإيديولوجيا الأسطورية، يشير محمد أركون إلى السّير على خطى فلاسفة عصر التَّنوير في القرن الثامن عشر وإعادة تنشيط بوادرهم لفتح آفاق جديدة المعنى، والوضوح، والمعرفة مع الاهتمام الدائم بالتنوير، وإحداث عمل ثوري وتاريخي.
ويجب علينا التذكير بأنّ محمد أركون يرفض البعد الأسطوري للدين، ويعتبر أنه لا يمكن تحرير الفكر الإسلامي طالما لم يتم تغيير الأطر والأسس الأسطورية للإيمان كما كان ذلك في القرن الثامن عشر للديانة المسيحيّة. وبالتالي، يرى أركون أنّه من الضروري تفكيك التراث الإسلامي من أجل إعادة النظر في النص القرآني ككل، وذلك بإلغاء أي شرط ديني سابق. فهو يعتبر أنّ الإيديولوجيا الأسطورية تتعارض مع مفهوم الأنسنة. لذلك يهدف عمله إلى إزالة الميثولوجيا عن الفكر الديني في الإسلام ونزع أيديولوجيتها من أجل المساهمة في ظهور فكر جديد.
وفي كتاب «نقد الفكر الإسلامي» حاول محمد أركون استرجاع تاريخ العقل الإسلامي، ويقرّ بأنّ هذا قد ظهر في سياق تاريخي دقيق للغاية، أي في القرن السَّابع هجري الموافق للقرن الثالث عشر في فترة يسمّيها «تجربة المدينة». ويضيف أنه بالرغم من كون الأحداث التاريخية لتلك الفترة محددة ودقيقة، إلاَّ أنَّها أصبحت نموذجا يحتذى به وصارت بذلك نوعًا من التعصّب، بمعنى نوع من دين رسمي وكأنه مجموعة معتقدات وتصورات أسطورية تتكون في ظلّها مجموعة اجتماعية معينة وتبني تاريخها عليها.
وبعبارة أوضح، فإن المجموعات الاجتماعية المختلفة بَنَتْ تاريخها على المعتقدات والتخيلات التي أنشأتها العقيدة. وإعطاء هذه العقيدة أهمّيّة كبرى لا يسمح لنا بالتعرف عليها أو تصحيح الأخطاء والنقوصات الموجودة في التاريخ وفي الفكر الإسلامي. ويؤكد محمد أركون أن تجاهل المؤرخين للنقوصات عبر الزمن في تاريخ المجتمعات أدّى إلى ملْء هذه النقوصات بأشياء غير صحيحة. ومن هنا يتهم أركون المؤرخين بافتقارهم للدراسة النقدية ويتهمهم بالاختفاء وراء شعار الحياد. كما أنه يأسف لحقيقة أن الإسلام هو نتيجة عدة قرون من “الانقطاعات، والنسيان، وما لا يمكن تصوُّرُه، ويدعو إلى وجوب التفكير في القطيعة القديمة والحديثة. لذلك يوصي محمد أركون باستخدام العقل الحداثي. ويرى أنّه على عكس العقل الإسلامي الخاضع لنظام المعتقد، من المفترض أن يدمر العقل الحداثي كل المعلومات المتراكمة لقرون، ويسمح للمثقفين بالوصول إلى عالم ما يمكن تصوره وما لا يمكن تصوره.
وبعيدًا عن أي تأثير ديني، يجب أن يكون العقل الحديث قادرًا على إنتاج معرفة متجددة باستمرار من أجل تغذية الفضول الفكري للأجيال القادمة التي يجب أن تستمر في الإبداع والإنتاج بشكل دائم. وبرجوعها إلى الوراء، يقترح العقل الإسلامي العودة إلى الإسلام البدائي، بينما ينفتح العقل الحديث على المستقبل، لأنه يفترض تجديدًا دائمًا. وعندما يتهم المؤمنون الباحثين ورجال العلم بتقليص أو حتى بإزالة البعد الروحي للإنسان المخلوق على صورة الله، يشير محمد أركون إلى أن رجال العلم الذين تحرروا من اليقينيات الوهمية التي جاءت بها الحقيقة الدينية، يفسّرون عن غير قناعة أن الأسوار العقائدية هي مصدر كل هذا العنف. وإدراكًا منه لوجود توتُّرٍ ما، دعا أركون إلى التغلب على اللاتوافق الذي يوجد بين العقل الديني والعقل النقدي الحديث. والاستعمال النقدي لما يسميه الفكر الناشئ يجب أن يمكِّننا من اختزال اللُّبس والتشابك والتناقض والتضارب الدلالي الذي يتزايد في مجتمعاتنا.
ومن أجل تحرير الفكر الإسلامي وتجديده وتحديثه، يسعى محمد أركون إلى كسر القيود المعرفية والأيديولوجية التي تسهم في إبعاد الفكر الإسلامي عن الحداثة، وبالخصوص إعادة تأهيل العقل العربي الإسلامي الذي كان مهمّشا ومستبعدا من أسس الفكر الإسلامي كما صاغته العقيدة الإسلامية. وبالتالي وبعد الآن، فلن ندعو إلى عودة وهمية للإسلام الأوّل حسب الكاتب؛ ويقول إنّه سيعيد العمل بروح علمية جديدة في جميع معاني القرآن. وبهذا يشجع محمد أركون على ممارسة العقل البشري ويذكر المثقف بخصوصيته العقلية والمنطقية في تحليل التراث الإسلامي.
ووفقًا لمحمد أركون، يمكن للمفكر أن يتجاوز الرؤية المحدودة التي تفرضها الدوغمائية الدينية إذا ما استعمل نظرته النقدية. وبهذا يعرف المثقف بعينه النقدية من أجل الإبقاء على استقلالية عقله. لذلك يجب تحريره من أي قيد أو انتماء ديني حسب أركون: فلا يمكن للمفكر النقدي قبول أي مقيِّدٍ من شأنه أن يربطه فورًا بانتماء عقائدي أو سياسي أو حتى وطني. ومن هنا تتأتّى أهمّيّة الأنسنة الذي هي مبنيّة على الإنسان وليس على الدين، وبالتالي يسمح للفرد بالتَّحرر من هذه الانتماءات المختلفة. وبتبنّي الأنسنة، يمكن للمثقف أن يمارس عقله لغرض التحليل النقدي. وهنا طُرِح مصطلح «النقد» بقوة في كلّ أعمال محمد أركون.
وباتّخاذ الموقف النقدي، فهذا يعني التبني والتكيّف، فيما يخصّ الإسلام، مع جميع وسائل البحث العلمي التي يستخدمها الغرب في التغلب على أزماته. وهذا يفرض على الفكر الإسلامي الحالي التمييز بين مقتضيات الصراع الأيديولوجي وضرورة تكامل المساهمة العلمية للغرب.
إن أحد الجوانب الأساسية للموقف النقدي في مفهوم محمد أركون هو إجراء تحليل للحقيقة الدينية الإسلامية من خلال اللجوء إلى الأدوات والتقنيات التحليلية الحديثة، من أجل التغلب على الدوغماتية الدينية التقليدية والتي تطورت كنظم ثقافية لإقصاء الآخر وكاستراتيجيات لرفض كل ما هو خارج عن الجماعة (الكنيسة، الأمة). هذه العلوم الدينية خلقت معرقلات معرفية جعلت كل المشاكل التي يمكن للفكر النقدي أن يحررها اليوم لا تخطر على البال.
وبالإضافة إلى وظيفته النقدية، وفي نظر أركون يتميز المثقف عن غيره من الفاعلين الاجتماعيين بحيث أنه معني بالبحث عن المعنى. فهو يسأل ويتساءل عن «ما هو منطقي للبعض، وغير منطقي للبعض الآخر». وباختصار، يجب على المفكر أن يمارس “زهد العقل الذي يشمل الطابع الأخلاقي والروحي والعلمي والفلسفي”.
يلخص محمد أركون برنامج المفكر في ثلاث خصال هي «تجاوز وتحرك وتعدٍّ ». ويعتبر أركون هذا الثالوث ضروريا. أولاً، يؤمن بتجاوز حدود العقيدة الدينية والانخراط في دراسة نقدية للتقاليد الإسلامية. ثانيًا، من الضروري تحويل الأسئلة المتعلقة بمصادر المعتقد الديني المختلفة إلى التحليل العلمي، أي المضي قدمًا في نزع اللامركزية عن القرآن من خلال اعتماد اللسانيات والأدب إلى جانب الأنثروبولوجيا. وأخيرًا، يرى أركون وجوب تجاوز التعليم الديني بمعنى وضعُ محلّ شك كل المعلومات المتراكمة حتى الآن، مع فتح آفاق جديدة من أجل إنتاج فكر مفتوح وحديث بدون أي حدود دينية أو أيديولوجية.
ويضيف محمد أركون أنّه من خلال الجمع بين البحث في جميع مناطق إنتاج التاريخ سننجح في تجاوز الرؤى الإصلاحية والكتابة التاريخية البسيطة والوصف المدقق لما يسمى بالمجتمعات الإسلامية وللإسلام نفسه كدين وتقليد فكري. ويواصل محمد أركون التأكيد على أنه طالما لم يتم إعادة النظر في ماضي كل أمَّة أو كل مجتمع ديني وإعادة تقييمه وإعادة صياغته، وذلك بفضل أدوات النقد التاريخي واللغوي والسيميائي والأنثروبولوجي، فلن تكون هناك فرصة لمواجهات ثقافية خصبة؛ بل بالعكس، فإنّ الاصطدامات الثقافية سوف تستمر في إضفاء الشرعية على النِّضالات لصالح الهويات الثقافية الخيالية والميثولوجية.
يقوم مشروع محمد أركون الإنساني على الاعتماد على النقاط الثلاث السابق ذكرها. وبفضل العقل العلمي والفلسفي الحديث، يرى محمد أركون أنّه من الضروري تجاوز وتغيير وتعدّي العقل الإسلامي من أجل تحقيق مجتمع ديمقراطي يكون الإنسان فيه محور كل الاهتمامات.