مريم الحتروشي
الموجة شهقة الحياة الأولى
الراعي… كان الراعي الشارد يقود قطعان الوعول نزولا من الجبل، الوعول تحمل شعاع الشمس بين قرنيها …سحرتها مرايا الماء الساكن فتقافزت إليه أسرابًا أسرابًا تواصل الهروب جهة الماء؛
فكانت الموجة الأولى .
الموجةُ قطعانٌ من الوعول النزقة تطاردها الريح العاصف وعصا الراعي ،
الراعي الذي سمعته حوريات الماء فاستفقن من سباتهن قرب الصخور فأسرعن للنداء
كان الراعي وحيدا يعلّقُ الناي تميمةً على صدره بحبل من جلد ناعم .. ويركض وراء القطعان بعصاه
ولكن الآيائل غدت موجةً لا يُرى إلا أعرافها الراكضة في الزرقة …
فكانت الموجة الأولى .. أيائلَ هاربة..
بات الراعي يعدُّ النجوم ، ويبثُّ شجونه إلى الناي
علّ الأيائلَ أن تعود .. يسرّب أنفاسه أنغاماً تتهدج شوقًا لقطعانه ..
واصل الشجن .. امتلأ الساحل بشجون الناي ورددت الجبالُ الصدى ..تجمعت الحوريات تبكي حرقة الراعي ..
تبكي
وتبكي…
ومن دموع الحوريات كان الموج..
الصياد…
خرج الصياد على قاربه في رحلته الأولى ولم يعد ..
الموجةُ المتوثبة كانت رعدة الصياد وحيدًا في فضاء الماء.
ران السهادُ على أجفان الأمهات وغشاها الوجوم..
الموجة سهادُ الأمهات على اليابسة..
دمعةٌ تنسل في الظلمة من عيون الصغار ..
دمعةٌ دمعتان فكان الموج.
وتوالى الموج ..
الموجةُ البيضاء نفيرٌ أخير ….عرفاتُ الصعود إلى الله ، ضُباحُ الضفاف التي لا تُرى.
الموجةُ الزرقاء رؤى الناسكين بفيء السماء
الموجةُ الخضراء عناق الملح بأغاريد المطر
الموجةُ الساكنة مدارجُ السالكين حتى ظلِّ العرش
الموجةُ الصاخبة … أنفاسُ قيامة لاهثة
الموجةُ المنكسرة … خيبةُ الصياد ذات وهن،
الموجةُ المثقلة … أنفاس البحر الهرم منذ الطوفان
الموجة اللامعة … فضة ذهب وزئبق وابتسام
الموجة الفاترة … مرآة نرسيس إذ أقعى ليسقط في غيابات الجمال إلى الذهول ..
الموجة المتوارية … رؤيا بحّار كهل -تنشقُّ نصفين : أنفاس الحياة وغرغرة الموت .
الموجة الهادرة … هزيم الرعود على ظهور الجبال الراكعة ، وانفجار المفاجأت على لسان البحر
الموجة الطائشة … نمرة نافرة تجوس على حد ساحل .
الموجة لا تموت
تصارع الحياة ، تركض للساحل تخسر قوّتها وتخور قواها ولا تموت ..
تفتُّ بأحلامها عضد الصخر ولا تموت.
الموجة عنقاءٌ الزرقة.
عنقاء تثور من ملح وزبد.
يا أيها الماء المالح .. يا ماء البحار الأزلية .. قل لهاتيك المرافىء تتنظر..
ريثما «تدور بنديرة» الغنجات الصورية في مهب الأزيب… أعلم أن حورياتِ لارك (1) وبنات سلامة (2) يأكلهن الانتظار وقد بُحّت أصواتهن من الغناء في انتظار رحلات الفينيق …
وكما في العباب …كانت الجنيات وبنات ابليس يكْمُّنَّ على الساحل بحثا عن فرسان البحر ومروضي الجان…
وما إن تغيب الظلمة يختفين إلا عطورهن النفاذة .
وخرافات الفزع وتعويذات البشر.
الصَّبيّة..
في البلاد القصية
وفي آخر الرحلة السرمدية
هنالك قرب الربيع وقرب الخريف وقرب الشتاء
وقرب الجرار التي تحرس الماءَ من شر حاسد
قرب المواقد
سقطتْ نجمةٌ عن لحاف السماء
على قلب موجة…
رأتها صبية
فاختبأت ريثما تعبرُ الأبدية
ويكنِسُ ريحُ المساء غبارَ النجوم
وتقفل عائدة نجمةُ الليل
ترعى الأغاني
تهُشُّ على هُدُبِ الليل
تكمل سهرتها في فضاء من الموج
فالموج فن الحياة ..
وتبقى الصبية
في يدها قبضةٌ من أثر
ودمدمةٌ من صهيل النجوم
فيلمع خلخالُها في المساء
وترنو لنجم هناك
وراعٍ وحيد ٍ تجلّلَ
بالفقد والكبرياء
فتلمع دمعاتها في الغناء
دمعةٌ دمعتان وينداحُ ماء
طم طم ..
في ترقّبٍ تغني النساءُ قرب الموج
«يا فاطمة يا فطمطم
امتلا البحر وتلطّم
ولا رجعت الخشبان
ولا عوّد الربان
بات القلب فرقان
وأمسي يضم الهم »
بحفنة رمل يغسلن أواني النحاس يدعكنها
ويرسلنها بين جدائل موجة راكضة ..
موجة موجتان تكون الحياة.