كانت على أتم الاستعداد لمثل هذا الموقف، أنها تدرك أن عودته للمنزل تعني رجوع الفوضى لـحياتها، لم يمض على وجوده ٤ دقائق ، و ها قد لوث المكان . شعرت بوخز في عمودها الفقري و هي تخرج أدواتها ، حدثت نفسها «شيء بهذه الرائحة خليق بإزالة تلك البقع» كانت منحنية كما لو أنها تصلي عندما لسعت رائحة مضاد الأكسدة جيوبها الأنفية، يدها العمياء كانت تتلمس طريقها في حلق الخزانه حتى أخرجت قارورة مُبيض الملابس و الأسمال المضمخة برائحة التراب ، متثاقلة مشت نحو غرفة الجلوس، وضعت حمولتها و هرولت مسرعه نحو الحمام لإحضار سطل من الماء الساخن و فكرت في طريقها إن كان يدعي الصَمّم أم يتجاهلها فحسب ، فقد كانت تسمع صرير الباب الذي لم يقم بتشحيم مفاصلة رغم توسلاتها.
دخوله للمنزل يعني «الغبار» لأنه دائماً يترك الباب مفتوحاً، و أحياناً يُعلِّم بنعله الغارق بالطين على الأرضية .. مجدداً، تتساؤل إن كان متعمداً، كانت تتحاشى سؤاله بشكل مباشر لأنها تعلم أن هذا ما يريده ؛ أن لا تزعجه .. فتكتفي بتعليق رأسها بين الملابس المغلفة بالأكياس البلاستيكة في خزانة الملابس ، هناك حيث تنتحب واقفة لأن السماح للدموع بتبليل السرير أمر مرفوض.
«هذا سيفي بالغرض» ، قالتها بإرتياح بعد أن قامت بجمع شظايا الكوب المكسور بمكنسه صغيرة، بقي التعامل مع البقع البنية على السجاد ، لكن ما يصيبها بالتوتر هو اللون الأحمر ، فتتسائل إن كان من خصائصة الإنتشار أسرع من بقية الألوان ؟ .. لم يسبق أن تعاملت مع الدم فهو مختلف عن بقع العصائر أو الطلاء، للدم رائحة معدنية و طعم كلسي .
يدخل المساء إلى البيت النظيف ، تتشابك أطراف ثوبه بأشجار الفناء ، المساء يُذكرها بالأيام الخوالي، تقبع في ذاكرة المساء أمسياتهما حين كانت تتملص من ذراعيه حين تلاحظ أن إطار الصورة الـمقابلة للسرير مائل قليلاً أو عندما تهمس بتوتر و هي تعد الأرقام تصاعدياً لتتأكد أن ثواني عقارب الساعه مضبوطة على ساعة معصمها ..
كان يرجوها أن تستمر بتناول أقراص «فلوفكسمين» لكنها حين تكون تحت رحمة هذا الدواء فكل ما تشعر به هو : الخدر ، ثقل الزمن ، الغثيان ، تغير الألوان .. إن تلك الأقراص تمتص الحياة منها .. تجعلها نصف جثة و هو عاجز عن أن يفهم أنها تنبض بالحياة حين تكون «بنظره» مريضه ، في ذلك المساء كانت مشغولة بإزالة بقايا الأرز المحترق عن قعر الطنجرة ، فسألها عن رأيها بالطلاق، طال صمتها ، كانت تفرك الطنجرة بالصابون «أريد أن يكون البيت بإسمي» .. قالت و هي تجفف الطنجرة بالمنشفة ..
المطرقة في يمينها و المسمار في شمالها ، كانت تعتلي السلم المعدني و تهم بـتعليق صورة فوتوغرافيه لمنظر طبيعي تعوم فيه غيوم بيضاء كأقمشة مُمزقة فوق جبال بنفسجية مكللة بالثلوج البيضاء و تحتها غابة خضراء لكنها عن قرب ليست سوى حبيبات خضراء مُبعثرة ، لوحة كهذه تحتاج لميزانية و تركيزٍ عالٍ لتثبيتها على الحائط، نعم، على هذا السلم تأكدت أنها تحب بيتها أكثر من أي شيء أو أي شخص أخر، أليس هو الوحيد القادر على إستيعاب حبها للنظافة؛ الذي يعتبره كل من حولها مرضاً ؟
سمعت وقع خطوات يعلو خلفها ، لم تلتفت، لا لخطواته و لا لنداءه التي تحول لزعيق ، فقد بقيت لها ضربة واحده على المسمار و تثبت اللوحه .. و لكنها إلتفتت؛ فقد سمعت دوي إرتطام كوب القهوة من يده على الأرض فهالها شكل البقعة التي تسبب بها بتصرفه الأخرق -هل كان متعمداً؟- ، لم تصدر منها سوى تلويحة غاضبة في الهواء فـخرّ الرجل على الأرض .. ألقت نظرة على المطرقة التي بيدها ثم نظرة على الرأس المهشم الذي إنبجست منه خريطة دموية ..
للدم قوام متماسك يشكل طبقة لامعة كالمرآة ، لمحت في البركة الحمراء إنعكاس وجهها الصارم، لكنها تمكنت من التعامل مع كل تلك الفوضى ، فقد كانت على أتم الإستعداد لمثل هذا الموقف لأنها تدرك أن عودته للمنزل تعني رجوع الفوضى لـحياتها ، لم يمض على وجوده ٤ دقائق ، و ها قد لوث المكان.
ثابت خميس النعماني