بقلم جينيفرنانسوبوكا ماكومبي*
ترجمة: هناء خليف غني-أكاديمية ومترجمة عراقية
لو تدخل منزل السَّيدة نِنام في هذه اللَّحظة، ستخنقك رائحة الدِّهان مع أنَّها لا تجدها منفرةً. إنَّها تستلطف هذه الرَّائحة مثلما كانت أمَّها تفعل مع رائحة المرحاض الخارجيَّ، أو المبولة الأرضيَّة الصَّغيرة في مدة حملها. كانت أمَّها تجلسُ على مسافةٍ قريبةٍ من المرحاض تؤدي الأعمال اليوميَّة الرَّتيبة، أو تأكل، وتُثير القرف في نفوس الجميع حتَّى يحين موعد الولادة. لكن نِنام ليست حاملًا. إنَّها تستلذ برائحة الطَّلاء لأنَّ زوجها، كييتا، توفي قبل عامٍ، وما تزال رائحته عالقةً في المكان، وصورته منطبعةً على الأشياء، وصوته ملتصقًا بجدران غرفة النَّوم. كانت كلما تستلقي على السَّرير لتنام، تُعيد الجدران عزف أنغام صوته مثل مقطوعة موسيقيَّة. في الأسبوع الماضي، طغت رائحة الطَّلاء على الرَّائحة الشَّخصيَّة لجسم كييتا، وبعد وفاته، غمر الهدوء جدران الغرفة. واليوم، تُخطط نِنام لمسح صوره من على الأشياء.
قبل أسبوعٍ من ذلك، أخذت نِنام إجازةً من العمل أمدها شهر، وأرسلت ولديْها، لوممبا وسانكارا إلى والديْها في أوغندا لحضور المراسم الأخيرة لدفن والديْهما. إنَّها لوحدها في المنزل، ولهذا السَّبب، تجردت من ملابسها. فأنْ تكون عاريًا ووحيدًا يُحيط بك الصَّمت هو علاج بطريقةٍ ما. فهمت نِنام، عندها، السَّبب في أنَّ أوّل شيء يفعله المجانين هو خلع ملابسهم. الملابس مُقيدةٌ مع أنَّك لا تدرك ذلك حتَّى تمشي في منزلك عاريًا طوال اليوم، جميع أيام الأسبوع!
توفي كييتا في الخامسة والأربعين من عمره، في الحمام! كان سرواله الدَّاخلي ما يزال نازلًا إلى الأسفل في حين كان عليه أن يرفعه قبل أن ينهار. تعاظم الشُّعور بالحرج لوفاته في عيد الفصح. منْ هذا الَّذي يموت عاريًا في عيد الفصح!؟
في صبيحة ذلك اليوم نهض كييتا، وحرك ساقيه المتدلِّية وهو ما يزال في السَّرير. ومع أنَّه وقف، إلَّا أنَّه جلس ثانيةً كما لو أنَّ أحدًا سحبه إلى الأسفل. ثمَّ وضع يده على صدره، وأصغى. وأسندت نِنام، المُستلقية قريبًا من الحائط، رأسها بمرفقها، وقالت:
“ما الأمر؟”
“أظن بأنَّي لم أستيقظ بعد”، قالها وهو يتثاءب.
“إذن عُد إلى السَّرير”.
لكن كييتا وقف، ولف المنشفة حول خصره. وعند الباب، استدار نحو نِنام، وقالَ لها:
“عودي إلى النَّوم. سأعد الفطور للأطفال”.
جاء لومومبا لإيقاظ والدته، فهو في حاجة إلى استخدام الحمام الَّذي ’دخله أبوه ولم يخرج منه.‘ نهضت نِنام عن السَّرير وهي تلعن البنائين الَّذين جعلوا الحمام والمرحاض مشتركين في الغرفة. ثُمَّ دقَّت الباب وفتحته، وهي تقول: “إنَّه أنا، نِنام”.
كان كييتا متكومًا على الأرض، رأسه بالقرب من السَّخان، أحد طرفيّ المنشفة في وعاء المرحاض، والطرف الآخر على الأرض، وهو عارٍ تمامًا فيما عدا السِّروال الدَّاخليّ المتهدِّل حول كاحليه.
لم تصرخ نِنام، ربما لأنَّها خشيَّت من قدوم لومومبا ورؤيته لوالده عاريًا، وربما لأنَّ عينيّ كييتا المغمضتين كانتا كما لو أنَّه مُغمى عليه. لذا، أغلقت الباب، ونادت عليه باسمه، ورفعت سرواله إلى الأعلى، وسحبت طرف المنشفة من وعاء المرحاض، ورمت بها إلى حوض الحمام. ثم صرخت:
“هات الهاتف، لوم”، وأبقت الباب مُغلقًا عندما ناولها الهاتف.
وقالت وهي تُجري الاتصال: “أجلب لي ثوب أبيك، أيضًا”. أغلقت نِنام الباب وغطت كييتا بردائه الرَّمادي. وأخبرتها الممرضة، عبر الهاتف، بما يجب عليها فعله في أثناء انتظارها وصول سيارة الإسعاف: “ضعيه في وضعيَّة الإفاقة… أبقيه دافئًا ومستلقيًا… أنت بحاجة إلى التَّحدث إليه… تأكدي من أنَّه يسمعك”.
شرحت نِنام للمُسعفين الَّذين وصلوا أنَّ الشَّيء الوحيد الَّذي لاحظته هو سقوط كييتا ذلك الصَّباح في السَّرير. ترقرقت الدُّموع قليلًا في عينيها بينما كانت تقول للطفلين: “والدكما ليس على ما يرام، لكنه سيكون بخير”.
ارتدت نِنام ملابسها، واتصلت بصديقةٍ لها لتسألها المجيء واصطحاب الولدين. كان المسعفون قد وضعوا قناع أوكسجين على وجه كييتا عند إخراجهم له من غرفة الحمام، وهو ما هدّأ قليلًا من روعها. لم تذهب نِنام مع زوجها في رحلته إلى المستشفى لأنَّ الصَّديقة لم تكن قد وصلت بعد لاصطحاب الولدين. ستنتظر اتصالًا من الأطباء المعالجين يخبرونها فيه عن المستشفى الَّذي يرقد فيه زوجها.
وحال وصولها المستشفى، طلبت موظفة الاستقبال من نِنام أن تجلس وتنتظر. وبينما هي على هذه الحال، تقدمت نحوها ممرضة، وسألتها:
“هل جئت مع أحدٍ؟” فهزت نِنام رأسها، واختفت الممرضة. لكنها عادت بعد دقائق قليلة، وسألتها:
“هل تُحسنين قيادة السَّيارة؟”
كانت تعرف، واختفت الممرضة مرةً أُخرى.
نادتها باسمها: “السيدة كييتا؟” فنظرت إليها نِنام مباشرةً.
“تعالي معي”. قالت الممرضة الأفريقيَّة: “الطَّبيب المُشرف على حالة زوجك مستعدٌ؟”
قادت الممرضة نِنام إلى غرفة الاستشاريَّة، وأخبرتها بالبقاء فيها، وقالت لها: “سيتكلم معك الدُّكتور بعد قليل”، ثم أغلقت الباب خلفها.
وما هي سوى لحظات حتى جاء طبيبٌ شابٌ، ببدلة عمل زرقاء، وقدمَ نفسه إليها قائلًا بصوتٍ هادئ:
“السَّيدة كييتا، يؤسفني إبلاغك أنَّنا لم نتمكن من إنقاذ زوجك؛ لقد وصل ميتًا إلى المستشفى. لم يكن بوسعنا فعل شيء. أشعر بالأسف لخسارتك”. شبك الطبيب يديه، ووضعهما على صدره، ثم رفع إحداهما، وضغط بأصبعه على شفته: “هل هناك ما يمكننا فعله من أجلك؟”.
الحزنُ مسألةٌ شخصيَّةٌ في بريطانيا- هل تعرف كيف تندفع النِّساء في العويل هنا، والصّراخ هناك في بلدي الأم؟ لا شيء من ذلك في بريطانيا. لا يُمكنك أن تفرض حزنك على الآخرين. وما أن استوعبت نِنام الخبر حتَّى هرعت إلى الحمام، ووضعت رأسها في حوض المغسلة. وبينما هي تغسل وجهها استعدادًا للخروج، تذكرت بأنَّها لم تجلب معها حقيبة يدها، فعادت أدراجها إلى غرفة الاستشاريَّة حيث كانت الممرضة الأفريقيَّة تُمسكها بيدها. وليزغو هو اسم الممرضة الَّتي سألت نِنام: “هل هناك ما يُمكنني فعله لأجلك؟” فهزت نِنام رأسها، “هل هناك شخصُ تُريدين الاتصال به؟ لا يُمكنك قيادة السَّيارة بهذه الحالة”. وقبل أن تُجيبها نِنام بـ ’كلا،‘ قالت ليزغو:
“أعطني رقم هاتفك”، ففعلت.
راجعت الممرضة قائمة جهات الاتصال ونادت على الأسماء. وحالما أومأت نِنام برأسها، اتصلت ليزغو بالرَّقم وقالت: “اتصل من المستشفى الملكي في مانشستر… يؤسفني إبلاغك بأنَّ… السَّيدة كييتا ما تزال هنا… نعم، بالطبع… سأبقى معها حتَّى وصولك”.
بدأت نِنام بتنظيف الحمام الَّذي استُبدلت أرضيته بقطع فينيل فسيفسائيَّة زرقاء. وبدلًا من سطل الغسيل، وضعت حصائر الحمام في سلة القمامة، وتوجهت إلى الدولاب لجلب حصائر أُخرى نظيفة. أخرجت جميع الحصائر، وحشرتها في السَّلة أيضًا: سقط كييتا على إحدى هذه الحصائر! ثُمَّ شرعت بتبييض حوضيّ الاستحمام والغسيل، ووعاء المرحاض، وخلعت ستارة الدُش، ووضعتها في السَّلة أيضًا. وعندما فتحت الخزانة، وجدت نِنام علبة مسحوق معالجة البثور، وماكينة ومعطر حلاقة، ومرةً أخرى، كان مصير هذه الأغراض سلة القمامة. ولاحظت نِنام تجمع العفن على رفوف الخزانة الَّتي خلعتها من مكانها، ونقلتها إلى الباب الأمامي لأنَّها سترميها خارجًا لاحقًا. وعندما عادت، وجدت الحمام أرحب مساحةً وكثير النَّسمات. وختمت كل ذلك بربط كيس القمامة، وحمله إلى الباب الأمامي كذلك.
كان لدى كييتا طفلتان قبل لقائه بنِنام، تركهم في أوغندا مع أمهما الَّتي انتهت علاقته بها قبل وقتٍ طويلٍ من لقائه بزوجته الحاليَّة الَّتي طلبت منه، في مناسبات متفرقة، جلبهما إلى بريطانيا، لكنه كان يقول:
“أغلقي فمك، أنت لا تعرفين أمهما مثلما أعرفها؛ الطِّفلتان هما بقرتها الحلوب”.
لكن نِنام لم تكن مرتاحة لحرمان الطِّفلتين من أبيهما، ولهذا، كانت تصر على أن يتصل بهما في نهاية كل أسبوع: حتَّى أنَّها اشترت بطاقات الهاتف، وكانت تُرسل لهما الملابس عند عودة كييتا إلى الدِّيار.
تكيَّف كييتا مع الظُّروف المتغيرة للزواج الغربي على العكس من غيره من الَّرجال الأوغنديَّين الَّذين تزوجوا بنساء سبقنهم في الهجرة إلى بريطانيا. كثيرٌ من هذه الزيجات يُصيبها التَّوتر بعدما يُصاب العريس، الواصل توًا من أرض الوطن، بـ ’الصَّدمة الثَّقافية‘، فيبدأ بالشُّعور بالضّعف وضياع الرُّجولة مع الزَّوجة العارفة بالحياة في بلد المهجر. لم يكن كييتا يشعر بأيَّ حرجٍ من العمل في المنزل في الأوقات الَّتي لا يعمل فيها. حفلُ زفاف متواضع هو ما كان يُمكن لكييتا ونِنام تحمل تكاليفه، وطفلان فحسب هما ما كان بوسعهما تحمل تكاليف الإنفاق عليهما. كانا يجمعان راتبيهما في نهاية الشَّهر، إذ يعمل كييتا في شركة خدمات أمنيَّة عالميَّة براتبٍ شهريّ ضئيل، مع محاولته التَّعويض عن ذلك، بالعمل ساعات إضافيَّة. وبعد دفع الفواتير وتأمين احتياجات المنزل الأخرى، يقتطع الزَّوجان جزءًا من المال لإرساله إلى الطِّفلتين، وأحيانًا المشاركة في المناسبات العائليَّة: وفاة أحدهم، مرض أحدهم، زواج أحدهم، إلى آخره.
ابتاعت نِنام قطعة أرض مساحتها تسعة فدادين في منطقة كالولي الرَّيفيَّة قبل لقائها بكييتا، وكانت تحلم بالعودة إلى أوغندا والاستقرار فيها بعد عقودٍ من إقامتها في مانشستر. لكن كييتا اقترح عليها، بعد ارتباطهما، شراء قطعة أرض في العاصمة كامبالا وبناء منزلٍ في المدينة، أوّلًا. إذ قال لها: “لمَ نشيد منزلًا لن نعيش فيه في العقدين التَّاليين في كالولي الرَّيفيَّة حيث لن يرغب أحدٌ باستئجاره منا؟ سندخر قيمة إيجار المنزل في المدينة لبناء منزل لنا في كالولي”. بدا حديثه معقولًا حينها.
وهكذا، اشتريا قطعة أرضٍ في نسانغي. لكن والد نِنام، الَّذي كان يتابع مسألة الشَّراء، سجل العقد باسمها لعلمه بأنَّ الجزء الأكبر من ثمنه يعود لها مع أنَّها أخبرته بأن يكتب كل شيء باسم كييتا بعد احتجاج الأخير، وقوله بأنَّه قد تعرض للتجاهل.
ولضيق ذات اليد، وعدم قدرتهما على توفير أجرة السَّفر لجميع أفراد الأُسرة، كان كييتا هو الَّذي يُسافر بانتظامٍ إلى أوغندا لمتابعة بناء المنزل، الَّذي أشرف على أغلبه والد نِنام، فهو الوحيد الَّذي يُمكنها أن تأتمنه على مالها فضلًا عن أنَّه مهندسٌ. وما إن اكتمل بناء المنزل الَّذي زارته نِنام ذات مرة حتَّى وجد كييتا مستأجرين لشغله. كان ذلك في 1990، قبل ست سنوات من وفاته. ولم يتغير المستأجرون، الَّذين التقتهم نِنام، طوال هذه السَّنوات!
نِنام منهمكة، في هذه اللَّحظة، في تنظيف غرفة النّوم. كانت حافة الشّباك وسخة لأنَّ كييتا كان دائمًا ما يضع عليها محفظته، ومفاتيح سيارته، ونظارته، وبطاقة الجي فور إس في المساء. ووضع أيضًا ذات مساء استمارة قرب الشّباك الَّذي كان مفتوحًا، فابتلت الورقة بعد هطول المطر، وسال منها الحبر إلى الحافة حتَّى تغير لونها. رشَّت نِنام منظف ماسل لإزالة بقع حبر لم تتزحزح من مكانها، فلجأت إلى التَّبييض. وعملت، بعد ذلك، في إخراج حقائب اليد، والأحذية القديمة من أرضية خزانة الملابس، وكانت قد أرسلت ملابس زوجها المتوفى إلى أحد المتاجر الخيريَّة بعد مدةٍ وجيزةٍ من دفنه. لكنها وجدت حزامًا وزوجًا من الملابس الدَّاخليَّة خلف الحقائب. ربما يُعلل ذلك استمرار رائحته في الغرفة، ورشَّها موادَّ معطرة على أرضية الخزانة بعد انتهائها من التَّنظيف. تجمع المغتربون الأوغنديون حولها في الأسبوع الأوّل للوفاة، إذ تولى الرِّجال متابعة الأمور المتعلقة بالدّفن في حين اعتنت النِّساء بأمور المنزل، وتقلبت حال نِنام بين بكاء تارةً ونومٍ تارةً أُخرى. ورتب المعارف والأصدقاء مسألة الجنازة في مانشستر، وخططوا لجمع الأموال قائلين: “لن ندفن أحدًا منا في الثَّلج!”
في ذلك الأسبوع، نامت النَّساء اللَّائي عملنَّ في نوبات في منزل نِنام، فكُنَّ يرعين الطفلين ثم يتجهنَّ صباحًا إلى العمل. وجلب النَّاس الطَّعام والمال مساءً، وصلوا وأنشدوا. وأخذت اثنتان من صديقات الزَّوجة المكلومة إجازةً من العمل، واشترتا بطاقات سفر للعودة معها إلى أوغندا.
تساءلت نِنام، بينما كانت تشتري التَّذاكر، عن المكان الَّذي سيقيمون فيه الجنازة في أوغندا لأنَّ المستأجرين ما يزالون يشغلون المنزل، فاتصلت بوالدها لسؤاله عن ذلك، فأخبرها أن أُسرة كييتا لن تحضر الجنازة.
’لن تحضر الجنازة؟‘
’إنَّهم مراوغون.‘
’لكن ما السَّبب؟‘ سألته نِنام.
’إنَّهم فلاحون، ننمايا، كُنت على علم بذلك عند زواجك به.‘
التزمت نِنام الصمت. كان أبوها كما عهدها به، فهو لم يحب يومًا كييتا لأنَّه لم يحز الدَّرجة العلميَّة ولا الخلفيَّة الاجتماعيَّة الملائمة.
’أعيدي كييتا إلى أرض الوطن؛ وسنرى ما يمكن فعله عند وصولك،‘ قال أبوها أخيرًا.
وحالما رأت نِنام أفراد أُسرة كييتا في مطار أنتيب، أحست أن هناك خطبًا ما. فهولاء ليسوا نفس الإخوة الَّذين قابلتهم في الماضي، بل بدوا عدائيَّين. وحينما سألت أباها وأخوتها عن أُسرة زوجها المتوفى الحقيقيَّة، أين هي؟، قالوا لها: “هذه هي أسرته الحقيقيَّة!”
حكَّت نِنام ذقنها طويلًا، وترددت أصداء صوت ما في أذنيها. وعندما أُطلق سراح التَّابوت من قسم الجمارك، أخذته أُسرة كييتا وحَمَلته على شاحنة صغيرة جاؤوا بها، ثمَّ رحلوا بعيدًا.
كانت نِنام فاغرة الفم دهشةً وهي تشاهد كل ما يجري أمام عينيها.
“هل يظنون أني قتلته؟ لدي وثائق تشريح الجثَّة”.
“وثائق تشريح الجثَّة! من يكترث لها؟” قال الأب.
“ربما كان يشعر بالخجل من أُسرته. ربما يتصورون أنَّنا متعجرفون”، قالت نِنام ذلك بينما بدأت بإلقاء اللَّوم على عجرفة أبيها.
صعدت نِنام في إحدى السّيَّارات التَّابعة لأُسرتها للحاق بإخوة كييتا.
“كلا، ليست عجرفةً”، قال ميا، أكبر أخوة نِنام، بهدوءٍ. ثم استدار نحو أخته الَّتي كانت جالسةً في المقعد الخلفي، وأضاف: “أعتقد أنَّك بحاجةٍ إلى التَّحلي بالقوّة، نناميا”.
وبدلًا من سؤاله عما يقصده بذلك، لوت نِنام فمها وصكَّت على أسنانها كما لو أنَّها تتوقع تلقي ضربة ما.
“كييتا…كان متزوجًا. لديه الطِّفلان اللَّذان حدثك عنهما، لكن في المرات القليلة الَّتي عاد فيها إلى البلاد، أنجب طفلين آخرين من زوجته”.
بقيت نِنام واجمةً مُطرقة الرَّأس. شيءٌ ما خيطي لزج كان عالقًا في أسنانها الأماميَّة السُّفلى، وكانت تحاول دفعه بلسانها المضطرب، ثُمَّ إخراجه بظفر إبهامها.
“لم نكتشف ذلك إلَّا بعد وفاته، وفضلَ الوالد أن نؤجل إخبارك إلى حين عودتك إلى هنا”.
رافقها في السَّيارة ثلاثة من إخوتها، كلهم أكبر منها سنًا، أمّا أخواتها فكُنَّ في سيارةٍ أخرى تسير في أثرهم. واستقل والدها وولداها سيارة ثالثة؛ وأعمامها وعماتها سيارة رابعة.
“نحتاج إلى إيقافهم، وسؤالهم عن المسافة الَّتي سنقطعها، إذ ربما احتجنا إلى ملء الخزان”، قال أخٌ آخر، وهو يُشير إلى الشَّاحنة الَّتي تحمل التَّابوت.
لكن نِنام بقيت صامتةً. كانت جسدًا مُقطعًا- لا مشاعر تُحركها. وصلت أُسرة كييتا إلى مدينة نديبا، وانعطفت الشَّاحنة الصَّغيرة نحو طريق ماساكا. وفي المدينة الصَّغيرة، بالقرب من الأكواخ الخشبيَّة، تمكنوا من تجاوز الشَّاحنة وإيقافها. نزل أخوة نِنام من السَّيارة وتقدموا باتجاه أسرة كييتا في حين استمرت هي في محاولاتها إخراج الشَّيء المزعج من أسنانها. وكانت مدينة نديبا معروفةً بالرَّائحة العطنة للأخشاب شبه الجافة ونشارة الخشب.
تساقطت ألواح خشبيَّة ثقيلة على بعضها، ودوى صوتها عاليًا. كانت الألواح المقطوعة تبدو مثل مجزٍ للعشب. نظرت نِنام عبر الطَّريق إلى محطة الوقود المُزودة بماكينة غسل للسيَّارات، وابتسمت: ’عليكِ أن تكوني قويةً، نناميا كما لو أنَّ لديها خيارًا آخر.‘
سأل ميا، أخوها، أخوة كييتا: “كم المسافة الَّتي سنقطعها؟ قد نحتاج إلى ملء الخزان”.
فردَّ عليه أحدهم: “إلى نسانغي فقط”.
“لا تحاول تضليلنا: سنتصل بالشّرطة”.
انطلقت الشَّاحنة بعنفٍ. وحينما عاد الأخوة إلى سيارتهم، أخبروا نِنام بما حدث.
“نِنام، إنَّهم يأخذونه إلى نسانغي، كنت أظن أن منزلك في نسانغي يشغله مستأجرون، أليس كذلك؟”
ومثل كلبٍ رفع أذنيه، تنبهت نِنام وتوثبت. انتقلت عيناها من أحد إخوانها إلى الآخر كما لو أنَّ الجواب مكتوبٌ على وجوههم.
“اتصل بأبي في الهاتف”، قالتها بسرعةٍ.
اتصل ميا وفتح سماعة الهاتف. وحالما سمعت نِنام صوت أبيها، بادرته بالسُّؤال: “أبي، هل لديك عقود شراء المنزل في نسانغي؟”
“إنَّها في وديعة آمنة”.
“هل هي باسمه؟”
“هل أنا غبي؟”
أغلقت نِنام عينيها: “شكرًا أبي، شكرًا أبي، شكرًا شكرًا لك”.
لكنه لم يرد عليها.
وسألته نِنام: “متى كانت آخر مرةٍ دفعوا فيها الإيجار؟”
“قبل ثلاثة أسابيع، أين أنتِ الآن؟”
“لا تتصرف به، أبي. نحن في نديبا. لن ننفق المزيد من الأموال على الجنازة. أُسرته ستدفنه: لا يهمني إن ألقوا به في حفرةٍ. إنَّهم يسيرون به إلى نسانغي”.
“نسانغي؟ هذا غير مفهوم لي”.
“ولا لنا”.
وحالما أغلقت نِنام الهاتف، قالت لإخوتها: “المنزلُ بأمانٍ”، وكما لو أنَّهم لم يسمعوا ما قالته، أردفت: “يُمكنهم الآن أن يقيموا صلوات المساء في كهفٍ إذا راق لهم ذلك”. لكن إخوانها لم يردوا عليها.
فجأةً دبَّت الحياة في صوت نِنام، وهي تخاطب أخاها: “عند وصولنا إلى نسانغي، ستكتشف ما يجري هناك، وسأبقى أنا في السَّيارة. ثُمَّ ستُرافقني إلى المدينة: أحتاج إلى الذَّهاب إلى صالون تجميل وتدليل نفسي قليلًا. وبعد ذلك، سأشتري ثوبًا بوسوتيًا طويلًا وأنيقًا، واعتني بمظهري. لست أرملةً بعد اليوم!”
“لا حاجة لـ..”. همّ ميا بالحديث.
“قلت: سأذهب إلى صالون التَّجميل لتصفيف شعري، والعناية بأظافري ووجهي. لكنَّني سأستحم، أوّلًا، وأتناول وجبة طعام لذيذة. وسنعتني بعد ذلك بأمر الصَّلاة”.
ثم ضحكت نِنام بدت فيها مثل معتوهة.
“تذكرت للتو”، قالت نِنام وهي تسعل، وتربت على صدرها لترتاح قليلًا، كانت تبلع ريقها بصعوبةٍ: “عندما كُنا صِغارًا، أتذكر كيف كان النَّاس يقولون إنَّ نساء جماعة الغاندا مشغولات بالممتلكات؟ وظاهريًا، عندما يموت الزَّوج ميتةً مفاجئةً، فإنَّ أوّل شيء تفعله الزَّوجة هو البحث عن وثائق الملكيَّة، والعقود، وأوراق تسجيل السَّيارة ومفاتيحها، وجميع الأشياء المماثلة. ثمَّ تلفها كلها بعنايةٍ في كيسٍ من القماش الَّذي ترتديه مثل منشفةٍ صحيَّةٍ. وعندما تكون بأمانٍ بين ساقيها، عندها تُطلق صرخةً تقطع نياط القلب”. ضحك إخوانها بعصبيةٍ بعد سماعهم ذلك.
“حالما أدركت أنَّ منزلي مُهدد-بشووووو”، حركت نِنام يدها أعلى رأسها حركة دالة على أزيز دوامة رياح: “الحزن والألم، والصَّدمة- اختفى كل ذلك”. وما إن لاح أمامها المنزل ذو الطَّابقين المشيد بالطَّابوق الأحمر في نسانغي، حتَّى لاحظت نِنام، بتوجسٍ واضطرابٍ، العناية الكبيرة بالسِّياج والمبنى. وما إن دخلت الشَّاحنة الصغيرة حتَّى تحلق حولها أقارب كييتا الحزانى. كانت النِّساء يبكين، ويمسحن الدَّموع بمناديلهنَّ. أمّا عويل زوجة كييتا الأولى فكان الأشد وقعًا، فهو مرثاة لزوج مات وحيدًا في بلاد الغربة الباردة. كان بكاؤها أشبه بموسيقى تصويريَّة مصاحبة للنعش الَّذي أنزل من الشَّاحنة، وحُمِل إلى داخل المنزل. لكن الضَّوضاء تلاشت، وقد تأكدت نِنام للتو من أنَّ زوجة كييتا كانت هي المستأجر طوال هذه السِّنين! لقد قابلتها حالًا. كان كييتا يدفع إيجار المنزل الَّذي تُقيم فيه زوجته من نقود نِنام الَّتي بقيت فاغرة الفم ومستغرقةً في حالةٍ من التَّعجب والذُّهول.
“لم يكن كييتا سارقًا وحسب، بل قاتلًا كذلك”، حركت نِنام شفتيها ثانيةً للتفوه بهذه الكلمات.
لكن القلب وجلٌ وفزعٌ، ونِنام تشعر بالهلع. لقد انتهت رحلة السَّفر، وها هيّ الحقيقة تُحدقُ مباشرةً إلى وجهها. وصلت أخوات نِنام أيضًا. جئن وجلسن في السِّيارة معها. وأوقف أبوها، والأولاد، وأعمامها، وعماتها سياراتهم خارج المنزل بعد نُصحهم بالبقاء فيها. لم يكف الوضع برمته عن التَّحديق إلى وجه نِنام الَّتي لم تُشاهد حتَّى الشَّيخ الَّذي جاء للحديث معها. انحنى الشَّيخ بجسمه قليلًا، وكان يُمعن النَّظر في داخل السِّيارة حينما لمحته. قدم الشَّيخ نفسه لنِنام بصفته والد كييتا، وخاطبها قائلًا: “أعرف أنَّك المرأة الَّتي كُنت تعيشين مع ابني في لندن”.
“مانشستر”، صححت له إحدى أخوات نِنام بفظاظةٍ.
“مانشستر، لندن، نيويورك، إنَّها مثل الذُّباب بالنسبة لي: لا يُمكنني تمييز الذَّكر عن الأُنثى”. عاد الشَّيخ إلى مخاطبة نِنام، وقال لها: “تعلمين أن كييتا كان لديه زوجةٌ غيرك”، وأضاف، قبل أن ترد عليه: “هل بوسعك السَّماح لها بقضاء هذه اللَّحظة الأخيرة مع زوجها بكرامةٍ. لا نتوقع منك الإعلان عن وجودك. لكننا نقبل بالأولاد، إذ سنحتاج إلى تقديمهم إلى العشيرة عندما تكونين مستعدة لذلك”.
لم تنبس الشَّقيقات ببنت شفةٍ، وراقبت نِنام الرّجل وهو يعود إلى منزلها. وصلت الصَّديقتان من مانشستر، وتوجهتا إلى السِّيارة حيث تجلس ننام الَّتي قررت، في تلك اللَّحظة، مواجهة الإذلال الَّذي تعرضت له. إذ نظرت مباشرةً في عينيّ الصَّديقتين، وشرحت تفاصيل خداع كييتا لها مثلما يشرح طبيبٌ حجم الإصابة لمريضٍ. كان هناك إحساسٌ بالكرامة في توليها بنفسها شرح الأمر لهنَّ.
لم يكن هناك الكثير لتنظيفه في المطبخ، لكنَّ نِنام أخرجت الأجهزة الَّتي يُمكن إزالة السّخام والأوساخ المتراكمة عنها. تحت حوض الغسيل، خلف أكياس التَّسوق، يوجد قدح كانت قد أهدته إلى كييتا في عيد زواجهما الخامس- فهو أفضل زوجٍ في العالم! حملت نِنام القدح إلى الباب الأمامي ووضعته في صندوقٍ. وفوق أدراج الخزانة العلويَّة، رأت علب الحلويات الفارغة من ماركة كوالتي ستريت الَّتي كان كييتا يشتريها تدليلًا لنفسه في أعياد الميلاد. كان يُحب تناول الحلويات من نحو الكعك والآيس كريم، والمُكسرات بالزَّنجبيل، وحلوى الأصبعيَّة، ودأب في جمع العلب الفارغة قائلًا إنَّهم قد يحتاجون إليها يومًا ما. ابتسمت نِنام بينما كانت تحمل العُلب إلى الباب الأمامي. إنَّ ولع زوجها الرَّاحل باكتناز الأشياء بات منطقيًا الآن!
رجعت نِنام، وصديقاتها، وأفراد أُسرتها إلى الجنازة في حوالي السَّاعة الحادية عشرة مساءً. في المكان الَّذي اختارته لجلوسها، كانت قادرة على رؤية زوجة كييتا الثَّانية الَّتي بدت كبيرة بما يكفي لتكون أمها. آلمها ذلك بدلًا من أن يمنحها بعض الشُّعور بالعزاء. لم يُفلح التَّدليل ولا ثوبها، ولا الجواهر باهظة الثَّمن في انتشالها من الشُّعور بالألم لبقاء كييتا وفيًا لامرأة مثل هذه. أحدث هذا الأمر ثلمةً في إحساسها المصطنع باللَّامبالاة. لم تكن الغيرة هي ما يفطر قلبها في كل مرةٍ تنظرُ فيها إلى الزَّوجة، بل كانت العبارة المهموسة في أذنها: ’لم تكوني زوجة جيدة كفاية.‘
عندها فحسب، جاءت عمتها، الَّتي أشرفت على تجهيزها للزواج، لتذكرها، همسًا، بالتَّقليد المُتبع في هذه المناسبات. اِنحنت العمة قريبًا منها، وقالت: “عند موت الزَّوج، يجب عليك وضع فوطة صحيَّة فورًا. وبينما يُلف بالكَفن استعدادًا لدفنهِ، يجب وضع الفوطة على أعضائه التَّناسليَّة لكي لا يعود إلى..”.
“اللَّعنة على هذا الهراء!” أجابتها نِنام.
“كُنت فقط..”. ردت عليها العمة.
“اللَّعنة عليه”، لم تأبه نِنام لقولها ذلك باللُّغة اللوغنديَّة المحليَّة.
وعندها تسللت العمة بعيدًا.
توافد على المنزل المزيد من أقارب نِنام، وأيضًا مجموعة من النسَّاء متوسطات العمر اللَّائي لا تعرف نِنام منْ دعاهُنَّ!. لكن شيئًا واحدًا بدا واضحًا: هو أنَّهن غاضبات. الظَّاهر أنَّ قصتها كانت معروفةً للجميع؛ فقد سمعوا بمحنتها، وقدِموا لمد يد المساعدة لها. بدت النِّساء مثل كناسي الشَّوارع من المهاجرين الَّذين سافروا إلى البلدان الغربيَّة لجنيّ المال. كانت ملابسهنَّ مُكلفة، ولُغتهن خليطٌ من اللُّوغنديَّة والإنكليزيَّة كما لو أنَّ اللُّغتين أختان، والشَّعر في رؤوسهن متموج أو ربما كان شعرًا مستعارًا، ومساحيق التَّجميل على وجوههن فيها شيء من التَّحدي والتَّمرد كما لو أنَّ أحدًا قد تجرأ على تَكليفهن بفعل ذلك، وبعضهن وضع مساحيق تبييض. أفرغ المعزُّون عددًا من صناديق البيرة، وعلب مشروب الواراغي المحلِّيّ، وجلبوها معهم إلى الغرفة الَّتي تجلس فيها نِنام وأُسرتها، وبدأوا بتناول الشَّراب معًا. تقدمت إحداهن نحو نِنام وسألتها بصوت مُزعجٍ مثير للأعصاب بينما كانت تستلذُّ بِشراب الواراغي:
“أأنت نِناميا من مانشستر؟”
أومأت نِنام برأسها، فبادرتها المرأة الَّتي اِنحنت لتقترب منها: ’إذا كُنت راغبةً في أداء دور الأرملة المُنتحِبة، هيا افعلي ذلك، لكن دعينا وشأننا.‘
“هل في مظهري ما يدل على البكاء؟” ردت عليها نِنام.
ضحكت المرأة ضحكة اِنتصار. بدا الأمر كما لو أنَّها قد مُنحت أذنًا بأن تفعل ما يحلو لها. وحَسِبت نِنام أنَّ مجموعة النِّساء هُنَّ سيدات أعمال، ربما، نساء عازبات، وثريات، وضَجِرات.
وفي تلك اللَّحظة وصلت ابنة عمها الَّتي بدا واضحًا أنَّها تحمل معها أخبارًا مُلحة همست بها في أذنها حالما استقر بها المقام بجوارها: “ابناك هما الابنان الوحيدان لكييتا”.
فركت ابنة العم يديها كما لو أنَّ نِنام قد ربحت للتو في جائزة اليانصيب، وأدارت وجهها، وندت عنها إشارة بفمها نحو أرملة كييتا، وقالت: “ذريتها بنات فقط”.
اِبتسمت نِنام، واِستدارت، وأخبرت أفراد أُسرتها بصوتٍ خفيضٍ: “لوممبا هو الوريث. ليس لصديقتنا أولاد ذكور”، فسَرت موجة من الفرح في الغرفة مع تناقلهم للخبر.
في البدء، نعت مجموعة النِّساء المتوفى بهدوء، وشربن البيرة، واستعلمن عن بريطانيا، كأنَّهن جئن إلى العزاء بدافع من طيبة قلوبهنَّ وتعاطفهنَّ مع كييتا. وفي حوالي الثَّانية ظهرًا، ومع شعور جوقة النِّساء بالتَّعب، انتصبت إحداهن واقفةً، وبدأت بصوتٍ لطيفٍ كما لو أنها تود أن تحمل للمعزيات أخبار الآخرة السَّارة:
“أيَّتها المُعزِّيات”، خيم صمتٌ وقورٌ عليهن حال سماعهنَّ ذلك، “دعونا نسردُ هذه القصة سردًا مناسبًا”، وتوقفت لحظة، ثم أردفت: “ثمة امرأة أُخرى في القصَّة”.
خيم على المكان صمتٌ ذاهلٌ مطبقٌ.
“وهناك أيضًا طفلتان بريئتان في داخلها”.
“آمين..آمين”. كان يُمكن لدعوات الـ’آمين‘ المُتتالية هذه أن تصدر من مبشرين!
“لكنَّني سأبدأ بقصة المرأة”.
وبحسب هذه المُعزِّية، بدأت القصَّة حينما أرسل والدا نِنام ابنتهما إلى بريطانيا للدراسة وتثقيف نفسها. وقد اجتهدت الابنة في العمل، وثابرت في دراستها، و ادخرت المال، لكن كاذبًا ولصًا كان يتربص بها.
“لقد تعرضت للخداع”، قاطعتها المرأة ذات الصُّوت المزعج بنفاد صبرٍ، ثم وقفت كما لو أنَّ المرأة الحكاءة ليس لها تأثير يُذكر، وواصلت: “تزوجها كييتا- لدينا الصُّور، وشريط الفيديو أيضًا. بل إنَّه كذب حتَّى على أبويها- انظري هذا الفعل المُخزي!”
“بالله عليك”، احتجت بلطفٍ المرأة الَّتي تعرضت للمقاطعة، “كُنت أسرد تفاصيل القصَّة سردًا مناسبًا: لكنك تتدخلين فيها”.
“اجلسي. ليس لدينا اللَّيل بطوله”، قالت المرأة ذات الصُّوت المُزعج.
فامتثلت المرأة المهذبة، وجلست. أمَّا المُعزِّيات الأخريات فكُنَّ ما يَزلن مذهولات من جسارة المرأتين.
واصلت المرأة ذات الصَّوت المُستَفز القول: “يسأل أحد الحاذقين سؤالًا: أنى لكييتا المال لبناء منزل مثل هذا في حين هو محض كناس شوارع في بريطانيا؟ عندها، تُدرك أنَّه، أوهههههه، تزوج امرأة غنية، محامية ممتازة في مانشستر”.
“كيف عَرَفت كل ذلك؟”، همست نِنام لابنة عمها.
“هممممممم، للكلمات سيقان”، ردت عليها.
“أخبرها أنَّه غير متزوج، لكن زوجته هنا علمت ما كان يجري”، هذا ما كانت المرأة تقوله. “هل يُدرك أيُّ منكم هنا الصَّدمة الَّتي تمر بها هذه المرأة؟ لا، ما السَّبب؟ ألأنَّها إحدى أولئك النِّساء اللائي هاجرنَ؟ لِمن لا يعرف، هذا منزلها شيدته بنقودها. هذا ما أود قوله”.
علا التَّصفيق بالأيدي مع جلوس المتحدثة ومسكها لعلبة البيرة.
اكتسبت أجواء الحداد -بعد قولها هذا- تلك الإثارة المميزة للتجمعات السِّياسيَّة.
قالت إحدى الحاضرات بصوت حادٍ بعد وقوفها: “يأتي الموت مثل لصٍ. لم يطرق الباب لتنبيه كييتا. أُسدِلت السِّتارة، ويا للقرف!” وأردفت:
“لو لم تُكافح هذه المرأة بقوةٍ لإرجاع كييتا إلى أرض الوطن، لدفنه البريطانيُّون في بلدهم. إنَّهم لا يمزحون. ليس لديهم أراض يضيعونها في دفن جثث لا يُطالب بها أحدٌ. لكن، هل كلف أيُّ أحدٍ نفسه لشكرها؟ لا. بل إنَّ والد كييتا يقول لها أن تلتزم الصَّمت. يا له من جلفٍ!”
بدأت مجموعة النِّساء الحاضرات بقذف الكلمات يمينًا وشمالًا، وقد تحولنَ إلى قذف الشَّتائم! ولذا، بادر أحد الشُّيوخ الحاضرين بتهدئتهنَّ، بالقول: “لقد أوضحتُنَّ وجهة نظركنَّ، يا أمهات هذه الأرض، وأنا أوكد صحة ما تفضلتنَّ به لأنَّه دعونا نواجه الأمر: لقد كذب عليها، ومثلما قلتنَّ، هناك طفلتان بريئتان في هذه القصَّة”.
لكنه لم يُكمل، إذ قاطعته إحدى المُعزِّيات: “دعنا أوّلًا نسمع الزَّوجة البريطانيَّة. اسمها نناميا. دع العالم يرى المرأة الَّتي استخدمتها هذه العائلة الفلاحيَّة مثل مناديل مسح المؤخرة”.
لم تكن نِنام راغبةً بالوقوف. لكنها، في الوقت نفسه، لم تكن ترغب في أن تبدو جاحدة بصنيع النِّسوة. ولذا، وقفت مرفوعة الرأس.
“تعالَيْ”، أمسكت امرأة ثَمِلة بيدها، وقادتها عبر المعزِّين إلى غرفة المعيشة، وقالت لأفراد أُسرة كييتا: “انظروا إليها”.
لم يبق أحدٌ من المعزِّين، حتَّى من كان منهم في الجزء الخلفي من المنزل، إلَّا أتى للتحديق إلى نِنام الَّتي أشاحت بنظرها عن التَّابوت لأنَّ الدُّموع كانت على وشك أن تخذل موقف ’ارفعي رأسك عاليًا‘ الَّذي تبنته.
قالت نِنام: “تسرقون مني ما يُمكنني أن أُقيم به أودي، لا بأس، لكن ماذا عن أطفالي؟”
في تلك اللَّحظة، تبدد ولان موقف المواجهة الَّذي تبنته زمرة النِّساء، وهززنَ رؤوسهن، ومسحنَ عيونهنَّ، ومصمصنَ شفاههُنَّ، ثَمَّ أردفت:
“الأطفال في الواقع… آباؤنا وأمهاتنا… يييه… لكن الرِّجال أيضًا… هذا العجز عن الاختيار الَّذي نولد به… من قال أنَّ الرَّجال بشرٌ”.
وعندها، مالت المُعزِّيات إلى التَّعاطف معها.
وفي هذه اللَّحظة تحديدًا، فضحت عينا نِنام ما يعتمل في داخلها، إذ ألقت نظرة على التَّابوت المفتوح. لم يكن هناك منظر أكثر إثارة للاشمئزاز من جثة قُبض عليها متلبسةً بقول الأكاذيب.
نِنام في حجرة الجُلوس بعد أن اِنتهت من التَّنظيف، وإزالة الصُّور المُعلقة على الحائط -صور الزَّفاف، وأعياد الميلاد، والمدرسة، وأعياد رأس السَّنة- وجميع الصُّور قبل وفاة كييتا، سواء أكان موجودًا فيها أم لا، أو التقطها بمعزل عن الآخرين. رمت الصُّور الأخيرة في الكيس وعقدته، وأخذت الأُخرى إلى غرفة النَّوم. ثُمَّ ارتدت نِنام قميص النَّوم، وحملت الكيس الَّذي ألقت فيه الصُّور إلى الباب الأمامي الَّذي ما إن فتحته حتَّى تنسمت الهواء العليل. ونقلت بعدها جميع أكياس القمامة، واحدًا تلو الآخر، ووضعتهم تحت فتحة المجاري. ألقت بالأكياس الأصغر حجمًا، أوّلًا، وتدافعت الأكياس بسرعة كما لو أنَّها في مجرى بول طويل وجديد، فتأخر معه صدى وقوعها. وفتحت دولاب الخزانة، وأسقطت من يدها الأكياس. وأخيرًا، حشرت أكبرها، الكيس الَّذي يضم الصُّور، في داخل الأنبوب حتَّى شارف على الاختناق، وقفلت راجعةً إلى المنزل لجلب مكنسةٍ مع أنَّ كلمات والدها الأخيرة ما تزال ترن في ذهنها: “لا يُمكننا رميهم خارج المنزل هكذا، بهذه السُّهولة. هناك أربعة أطفال أبرياء في ذلك المنزل، وقد ورثهم لوممبا مع المنزل لأنَّه الابن الأكبر لكييتا. دعونا لا نثقل كاهله بهذا الذَّنب”.
استخدمت نِنام المقبض لنبش ما في الحقيبة. وبعد لحظة من كسر الزُّجاج وإطارات الصُّور، لم يبق متسع في كيس القمامة. وعندما عادت إلى المنزل، كانت رائحة الدِّهان ما تزال طاغيةً. حملت نِنام المكنسة إلى المطبخ، وغسلت يديها. ثُمَّ فتحت جميع النَّوافذ، فعصفت الرِّياح بالسَّتائر. ثُمَّ خلعت قميص النَّوم، ومست الرِّياح الباردة جسدها العاري، وأغلقت عينيها، ورفعت ذراعيْها. كان إحساسها طاغيًا بالرِّيح، وهي تضرب بشرتها، والإحساس بعُريها، وبالصَّمت في منزلٍ فارغ… لكنها لم تبكِ.
الهوامش
* روائية وكاتبة قصة أوغندية