(وقلة من البشر، على مرّ التاريخ، هم الذين رفعوا رؤوسهم عاليا للسؤال عن الحقيقة)ص59
يمكن القول على منوال هذه الجملة الواردة في نص “أبو العرفان”، قليلة هي النصوص في السرد العُماني التي تبحث عن السؤال وجوهره، ومن تجعل السؤال مركز تركيبها، ومعمارها ، من دون أن تسحب النص القصصي إلى جبال الأسئلة العميقة والوجودية في روح الإنسان المعاصر. الإنسان المتعب من كثرة الأقنعة المزّيفة والتي يلبسها في كل مناسبة ومرحلة، والمُتعب كذلك من البحث الدائم والأبدي عن حريته التي هي أساس وجوده وسيرورته الحياتية.
تأتي المجموعة الثانية ( دُرُوب) الصادرة عن دار سؤال البيروتية 2015، لتؤكد على تفرّد صوت هذا القاص العُماني في أسلوبه وتقنياته السردية، المجموعة تضم تسعة نصوص في 159 صفحة من الحجم المتوسط. جاءت بعد عامين من أول إصدار قصصي لناصر صالح في عام 2013 مجموعة (ما لاذ بالحلم). وكذلك صدر له عام2001، كتاب عبارة عن مقالات نقدية في بعض الروايات العربية، وفاز به في جائزة سعاد الصباح في الكويت.
ومن الملاحظ أن جميع النصوص كُتبتْ في سنة واحدة وهي 2014 وفي مكانين مختلفين هما مسقط والمملكة المتحدة (مدينة برايتون). وقد قام القاص بتوثيق تاريخ كتابة كل نص. ( ما عدا نص فراغ الذي لم يضع القاص له أي تاريخ وهو أقصر نصوص المجموعة).
النص/ السؤال
يمكن للقارئ والمتتبع لتجربة ناصر صالح القصصيّة أن يُلاحظ بشكل واضح وجلي أحيانا وخفي أحيانا آخر دمج ناصر بين السؤال والنص السردي، حيثُ إن كلّ نص من نصوص المجموعة يحمل في جوهره سؤالا ما، هذا السؤال ليس بالضرورة أن يكون واضحا وبارزا في النص، إنما يتخفى هذا السؤال خلف أشجار السرد وأصابع اللغة وفي عوالم الشخصية وقلقها الدائم واليوميّ والوجودي. وهذا ما ميّز هذه المجموعة القصصية في رأيي الشخصي ،وكذلك المجموعة السابقة لناصر صالح، هي المقدرة الفائقة على صهر السؤال الفكري والفلسفي في نص سردي مكتمل البناء بدون أن يتورط النص في عالم الفلسفة أو الفكر، بل يظلُّ محافظا على خيطه السردي. حيث لا نلاحظ طغيان الفلسفة على السرد ولا طغيان السرد على الفكرة العميقة. والتي هي محور النص، بل هناك سلاسة في الطرح، وانصهار السؤال العميق في مجريات النص القصصي.
على سبيل المثال وليس الحصر، نجد مثلا في النص الأول المعنون بـ(المواجهة) نجد سؤال الذات، وهو السؤال الفلسفي الذي حيّر الكثير من الفلاسفة منذ أقدم العصور، استطاع القاص في هذا النص بذكاء ومهارة صهر هذا السؤال الكبير والعميق في نص متزن ومشوق، نلاحظ كذلك إن الشخصيات هي التي تقود الخيط السردي للأحداث. وليست ثقافة القاص الفلسفية. من خلال الحوارات العميقة بين المريض النفسي والطبيب، ومن خلال شخصية المريض يكشف لنا القاص زيف الواقع وكثرة الأقنعة، ومقدرة الأفكار المجتمعية على أن تسيطر على أفكار الفرد وتهميش طموحاته، بل ومقدرتها على تحطيم أحلامه وطموحاته مثلما فعلت في الطبيب النفسي الذي درس في فرنسا.
حيث إننا نجد في هذا النص بأن الشخصية المحورية في القصة هي التي تطرح الأسئلة التي يريدُ القاصُ ان يُوصلها للقارئ، شخصية هذا النص ـ والذي يمكن أن نضع له عنوانا آخر سؤال الذات ـ شخصية متوترة وباحثة عن ذاتها. استطاع القاص في هذا النص قلب المعادلة حيث إن المريض في مستشفى الأمراض النفسية هو الذي صار يطرح الأسئلة والطبيب النفسي هو الذي صار يبحث عن إجابات. ويكسر بعض قناعاته الشخصية.
من المهم أيضا أن نضع ملاحظة أخرى في هذا السياق أن السؤال الذي يطرحه القاص في نصوصه لا يبحث عن إجابات جاهزة، بل هي أسئلة تبحث عن أجوبتها في ذهن القارئ. وهي كذلك أسئلة تثير أسئلة أخرى. لذا يمكننا القول أن نصوص هذه المجموعة يمكن أن تُسمّى نصوص الأسئلة. أسئلة كثيرة وعديدة نثرها القاص في مجموعته مثل سؤال الذات وسؤال الحرية وسؤال الفن وسؤال الشعر وسؤال المثقف ومواقفه، وسؤال الحب.
“أتساءل فعلا ما جدوى الكتابة؟ هل يمكن للكتابة أن تحرر الإنسان من عقده النفسية؟”ص15
: “ما أنا؟ ماذا أريد؟ لماذا وجدت في هذا العالم؟ وماذا أحب؟… “ص17
ـ “وكيف أعرف أن صوتي هو صوتي، وأن الكلمات التي سأكتبها هي كلماتي؟” ص19
ـ “عمّ كنتُ أبحث وأنا أمشي على دروبك؟ هل كنتُ أبحث عن نفسي أم عنك؟ “ص104
ـ “عمّ أبحث؟ ما الذي كنت أبحث عنه طوال خمسين عاما؟ من أنا يا ترى؟ هل عرفتُ من أنا؟ “ص109
ـ “هل رسم نفسه في اللوحة؟ هل يعقل ألا يوجد في اللوحة؟” ص114
من خلال الأمثلة السابقة والكثير من الأسئلة المبثوثة في كل نصوص المجموعة، يتضح للقارئ أن القاص يطرح الأسئلة التي تحرّضُ على التفكير وليست الأسئلة التي تبحث عن إجابة قصيرة. الأسئلة التي تكسر جليد اليقينيات الجاهزة في ذات المتلقي، ينوّع القاص طرح الأسئلة من خلال الحوارات أو المنولوجات الداخلية أو من خلال التأملات الداخلية للشخصيات.
الشخصية المُتفاعلة
يمكن أن نطلق على شخصيات القصص في هذه المجموعة بالشخصيات المتفاعلة والناطقة والمحركة للأحداث، شخصيات ناطقة تتحدث عن هواجسها الداخلية وقلقها وأحلامها. وليست شخصيات جامدة ولا صامتة، وليست ديكورا صامتا لتأثيث النص، بل هي شخصيات محورية مثل المريض النفسي في النص الأول (الصدمة) الذي كان مركزا للنص ومحركه، بحواراته المُتقنة مع الطبيب، ومع ذاته، ومع تأملاته.
وكذلك في النص الأخير نلاحط أن شخصية المعلم عبدالسلام هي شخصية فاعلة ومركزية في النص، حيث هي محرك السرد في النص، وتقوم أحيانا بوظيفة السارد للأحداث، وهي محرك حوارات النص وأحداثه. وكذلك في بقية النصوص. شخصية نصوص هذه المجموعة مصنوعة بدقة وبذكاء مهارة عالية، ويقوم أحيانا القاص باستراجع ماضي هذه الشخصية ليدرك القارئ الحالة النفسية والفكرية للشخصية لتتضح الصورة.
كذلك نلاحظ أن الشخصية تنمو بطريقة متوازية مع فكرة النص. وهذا النمو ليس بالضرورة في مسار التطور الإيجابي للشخصية بل أحيانا تتراجع الشخصية في نمو أفكارها ومعتقداتها مثلما نجده في نص (حديث عيسى ابن مسعود)، حيث ان هذا المعلم الذي كانت له شهرة وسمعة في المدينة التي يعيش فيها، نجده في اللحظة التي من المفترض أن يكون صادقا مع أفكاره السابقة، يتراجع في هذا الموقف ويصاب بفوبيا الخوف بمجرد أن يطلب منه زميله وتلميذه السابق الأستاذ عبدالسلام أن يوقع على بيان تنديدي ضد ضرب المعلمين. وهذا التراجع التراجيدي يقود أحداث النص إلى تصاعد الأحداث والكشف عن زيف هذه الشخصية وعقدها الداخلية والنفسية.
وهنا تصعد شخصية الأستاذ عبدالسلام وتنمو، في اللحظة التي تخفت شخصية عيسى ابن مسعود.
وكذلك نجد شخصية الرسام شفيق جلال في النص الثاني (العربة) شخصية فاعلة في النص، شخصية قادمة من خارج البلاد، لكي تدخل السجن، ولكي لا تخون مواقفها وأفكارها. لذا نجده حتى وهو قادم من أمستردام في الطائرة يتحاور مع الطالبين في مفهوم الحرية والحياة.
ـ أحيانا لا يوجد أمام المرء خيار آخر عدا السجن.
ـ لكنك تعيش في هولندا منذ عام أو أكثر.
ـ لكنني لا أنتمي إلى هذا المكان. هذه الحرية الموجودة هنا ليست لي، إنها لمواطنيها، وأنا لي وطني حتى ولو كان هذا الوطن هو السجن. ص29
وتستمر شخصية الرسام في تحريك الخيط السردي للنص، من خلال الحوارات التي تدور مع المحققين، وكذلك مع رفاقه داخل السجن، وكذلك من خلال التأملات التي يخلقها الرسام شفيق جلال مع ذاته حول مفهوم الحرية وضرورة النضال من أجل تحقيق هذه القيمة في الحياة. لذا يمكن القول من خلال الأمثلة السابقة ومن خلال الكثير من شخصيات نصوص المجموعة القول إن ناصر صالح وفّق في صنع كل شخصياته بدقة، لذا نجده يصنع لكل نص شخصية مختلفة بما يتوافق مع جو النص، ومع السؤال الذي يطرحه النص.
مثلا لو تأملنا شخصية الرسام جلال شفيق في نص العربة وشخصية عيسى ابن مسعود في نص ( حديث عيسى ابن مسعود) أولا ثيمة النصين متشابهة وهي ثيمة الحرية المطالبة بها والنضال من أجلها، ولكن القاص رسم لنا شخصيتين مختلفتين تماما، وذلك لتوضيح فكرة مهمة جدا وهي قيمة المثقف أمام مسؤولية الحرية، وثانيا قام القاص بكشف وتعرية المثقف الساكن فقط في أوراق الكتب وقواميس اللغة. حيث في نص العربة نجد شخصية الرسام جلال شفيق يترك هولندا حيث معدل الحرية العامة مرتفع، ويأتي إلى السجن ليقول لنا : إن دور المثقف دائما هو الصدام مع السلطة المطلقة التي تحاول أن تسيطر على كل شيء. وإن دور المثقف يتمثل في معايشة واقع المجتمع وليس في عوالم اللغة والقواميس.
ـ ولكنني سأحترق هنا ألف مرة كل يوم. لن يهدأ لي بال وهم في السجن. الأفضل لي أن أكون معهم. لقد تشاركنا الحلم والسجن والحرية، فهل يمكنني الآن أن أتركهم وحدهم؟
ـ كل الأشياء يمكن تعويضها إلا خيانة المبدأ؟ ص38
فشخصية هذا الرسام واضحة المعالم من حيث موقفها ومن خلال فهمها للحرية ومتطلباتها وأشواكها.
أما شخصية عيسى ابن مسعود في النص الأخير من المجموعة نجدها شخصية مهزوزة وخائفة متلوّنة، وهنا تتمثل شخصية المثقف الانتهازي المرعوب من السلطة، وهذا الرعب يتمثل في خوفه ليس فقط من التوقف على بيان تنديدي ضد ضرب المعلمين بل حتى مجرد قراءة البيان. ووصل رعبه إلى درجة معاتبة الأستاذ عبدالسلام على البيان التنديدي.
قد قام القاص في هذا النص ـ الحامل لثيمة الحرية والمثقف ـ بتعرية شخصية المثقف ورسم رعبه من السلطة وجشعه وطمعه في فتاتها الزائل، ونجد أن هذا المثقف يفكر في مستقبل أولاده ( بشكل أناني جدا) حتى يجدوا وظيفة في الحكومة ، هو خائف من ذلك ولا يفكر في مستقبل بلاده ولا تهمه قيمة المعلم. وقد شبه عبد السلام وهو كذلك معلم ( وقد ضُرب في الوقفة الاحتجاجية) صورة عيسى ابن مسعود بالبومة.
“وكأنه بومة حكيمة ترى الحاضر والمستقبل، ولكنها لا تريد أن تشارك في صنعه!” ص149
ويواصل القاص رسم هذه الشخصية المهزومة والمهزوزة من نفسها وأحلامها، لدرجة تجعل القارىء يشفق عليها، فهو يتمنى أن يُعتقل كمريض نفسي وليس كمعارض سياسي. فشخصية عيسى ابن مسعود تمثل نموذجا للمثقف المنفصل عن واقعه وواقع مجتمعه، المثقف الانتهازي، المثقف الوهم، لذا نجد في نهاية النص يفضل العيش في مستشفى الأمراض النفسية بدل أن يقول كلمة لا. ولو كانت هذه لا لن تغير شيئا. ويرفض حتى تضامن الناس معه في مركز الشرطة ويقوم بمسرحية المريض النفسي، ونحن نقرأ هذا النص نشم فيه رائحة تشيخوفية من حيث الطرح.
ويمكن أن نضع ملاحظة أخرى في هذا السياق وهي الوصف الدقيق للجانب النفسي للشخصية، وتطور هذا الوصف مع نمو الخيط السردي، وكذلك الدقة في وصف الانفعالات الداخلية للشخصية، وخير مثال على ذلك شخصية عيسى ابن مسعود. نلاحظ كيف تطور الجانب النفسي منذ لحظة معرفته بالبيان التنديدي في المقهى لحد وصوله إلى مركز الشرطة، والانتكاسة النفسية والأخلاقية والفكرية التي وصلت إليها الشخصية.
الداخل/ الخارج
من خلال تتبع المكان العام الذي تشتغل عليه النصوص نلاحظ إن هناك مكانين لكل نص في معظم نصوص المجموعة، مكان خارجي ومكان داخلي، وهذا التقسيم يتناسب مع الجو العام للمجموعة وكذلك للشخصيات، ولكل مكان وظيفة تمارس فيه الشخصية دورا. في نص الصدمة نجد المكان الخارجي هو المجتمع الذي هربت منه الشخصية بسبب الأقنعة والزيف والوهم والأمراض المجتمعية إلى مكان داخلي وهو مستشفى الأمراض النفسية، حيث تجد الشخصية نفسها وتجد إنها وجدت ما تبحث عنه منذ ثلاثين سنة. وكذلك في نص العربة هناك مكان خارجي هو هولندا والمجتمع الذي تعيش فيه الشخصية ومكان داخلي وهو السجن الذي تشعر الشخصية (وهو الرسام ) بالراحة والتصالح النفسي مع ذاتها وأفكارها التي تؤمن بها.
“وتشعر أنها ستكون أكثر انسجاما مع نفسها حين أكون مع أصدقائي في السجن، ألا ينبغي عليَّ إذا أن أكون وفيا لذاتي.” ص38
وكذلك في نص أبو العرفان هناك مكان خارجي وعام وهو المجتمع، الذي لم تنسجم معه الشخصية، ومكان داخلي وهو المصحة النفسية. وفي نص الكورنيش المكان الخارجي هو الواقع والمجتمع ومكان داخلي هو الحلم والطموحات التي ذهبت مع العمر. وفي نص صحوة متأخرة كذلك هناك مساحة للصمت التي عاشت فيها الشخصية وكنت مسجونة في أقفاص الخوف، ومساحة أخرى عندما كتب ما تريده في شبكة الإنترنت، حينها شعرت بالحرية لأول مرة.
وفي نص حديث عيسى ابن مسعود. المكان الداخلي هو المجتمع والواقع والوقوف مع الناس، والمكان الداخلي هو مستشفى الأمراض العقلية والهروب والهزيمة والخوف.
يمكن القول في هذا السياق كذلك هناك منطقتان تتحرك فيهما النصوص منطقة ظاهرة ومنطقة الظّل. بعض الشخصيات تجد نفسها أن الظل هو منطقة الراحة والسلام، قد تكون هذه المنطقة هي السجن أو مستشفى الأمراض العقلية أو الموت.
شرفة أخيرة للمجموعة
ما بين مستشفى الأمراض النفسية الذي ذهب إليه المريض النفسي بنفسه في النص الأول هروبا من الواقع المزيف وبين مستشفى الأمراض النفسية الذي ذهب إليه المعلم/المثقف في النص الأخير هربا من أفكاره ومبادئه. هناك عوالم كثيرة حاول القاص التوغل إليها من خلال تقنية الأسئلة الظاهرة والأسئلة المبطنة. ومن خلال الشخصيات الباحثة عن خلاصها والهاربة من أمراضها وأوهامها. وقد كشفت المجموعة كذلك عن المعنى الحقيقي للسلطة والمثقف والسجن والجمال والحب والفن والصدق الإنساني وعن التاريخ المسكوت عنه. طبعا ليس بشكل مباشر وتلقيني جاهز بل من خلاص نصوص محكمة البناء مشتغل عليها كثيرا.
ولكن يظل سؤال الحرية هو المسيطر على جو المجموعة؛ حرية الذات وحرية المجتمع وحرية الفن وحرية الجمال، وحرية المعرفة، وحرية الكتابة.
وقد وظّف القاص أحداث الحراك الشعبي في عُمان والوطن العربي في أجواء المجموعة. لا ليقدم وصفة جاهزة لمفهوم الحرية بل ليعمّق هذا المفهوم في حياة الإنسان. وليحفر عميقا داخل وعي الإنسان العربي مفهوم الكرامة المهدورة.
مجموعة دروب لناصر صالح مجموعة تطرح الكثير من القضايا والكثير من مشاكل الإنسان المعاصر. مجموعة تحتاج إلى المزيد من الدراسة والنقاش للكشف عن مكامن الجمال فيها.
حمود سعود