(1)
يمكن القول، بالنظر إلى آخر أعماله الشعرية، أن أمجد ناصر جرّ الشِّعر، عربيًّا، من غرّته المتطايرة، وفرّق الغُرة في ساحة النثر. الشكل والغنائية ما نعنيه، هنا، ونحن نستعير «الغُرّة» من موطنها العالي. في التقليد المعهود كان، ولا يزال، ينظر إلى الغُرّة بوصفها مظهرًا لإغراء، على نحو رومانسي أو غرامي؛ يحرص عليه العاشق أو العاشقة: غُرّة عالية أو سائبة. أمجد ناصر لم يكن ذا نهج غراميّ في شعره. بداياته – وهذه الملاحظة ليست مكمن فروق فردية- تنمّ عن نبرة فتوة عمرية وصخب مرحلة: «أرعن كان القلب، صبيًّا طائش الشعر». (قصيدة «أبواب للسماء ولكنها ضيقة»، ص5، مديح لمقهى آخر)
الشاعر الذي خلع على عمله «سر من رآك» هوية إيروتيكية توطّنتْ، للوهلة الأولى، كدليل نزوي للشهوانيين، على تلة شعرية مجالها الحيوي ساحةٌ مزروعة بأعشاب هائجة: «عشب الوحش اللطيف الهائج في السفح»- (وصول الغرباء، لندن،1990، ص53)، لكن جذورها ضاربة في كنه عميق سعت لتهييجه، أولاً، قصيدة «وردة الدانتيل السوداء» التي ختم بها الشاعر ديوانه «وصول الغرباء» السابق على «سر من رآك». لكن في مختارات شعرية من مجموعات مختلفة بعنوان «وحيدًا كذئب الفرزدق» (دار ممدوح عدوان، دمشق، 2008)؛ ستظهر «وردة الدانتيل السوداء» الساخنة في رأس فهرس قصائد منتخبة من ديوان «سر من رآك»؛ الوردة التي تعاني البردَ والجراح:
البرد يطوينا من الأعماق
نرتجف لأن النمش الذي
ترميننا به
يهطل على الجراح. (وصول الغرباء، لندن، 1990، ص52)
حيث وردة الدانتيل السوداء تذهب بالنزعة الإيروتيكية إلى مكانة بين الإصاتة بأمر مشتهى والغمغمة بعذاب. إنها تشبه موجات تشويش على كلمات أغنية حزينة بتقنية معينة، لاختبار قدرة المستمع على معرفة المغني والكلمات معرفة عميقة. هذه المعرفة ستحمّل القارئ إرثًا وجوديًّا غائرًا وقاتمًا. تشي بذلك إغارةُ الشاعر على حقل الكتابة بالممتلئ وبالراجح من الغلمة والمشتبه: «العذاب مُصوّر/ مُغتلم/ ومشتبه» (وصول الغرباء، ص57). تكرار «الأبيض» يشي بذلك، أيضًا.
لكننا نعود لنتوقف عند الصفات المباشرة في شاهد مرحلة الفتوة والصخب السابق، من أجل التخلّي عنها لصالح تصعيد الحديث بلغة نقدية تتوخّى ما لحقل الشعرية من خصوصية. فالغرّة لن تعود خفيفة وطائشة، حين ننسب إليها – والمطرُ يسقط على وديان الذاكرة والأخاديد- عملية رفع المعادل الموضوعي في غنائية رطبة. فبقراءة فاحصة، لا تخلو من الإحصاء، في «مديح لمقهى آخر»؛ تقابلنا شواهدُ قابضة على الثيمة:
«آه يا امرأة الأشرفية،
غرتك العالية» (قصيدة «فيفا»، ص37)
«الصباح اشرأب على غرة المرأة القادمة» (قصيدة «مبايعة»، ص56)
«دائمًا
مثلما يكتب الشعر
لامرأة في جنوب العراق
لها غرة كالخيول الصغيرة» (ثلاث قصائد لسعدي يوسف، ص60)
«كلُّ بلادِ على بُعد مرمى الحجرْ
والبلادُ التي لم تصلها اليدانْ
لم تصلها الحجارةُ بالناس،
منبوذةً في عراء الأباعد.
أيُّ القصائدِ لم تبتدئ بالانا واليباس؟
وأيُّ الرياحِ التي لا تهبُّ على غرّتي؟
لمْ تكن رغبةً في عبور الضباباتِ والمطر
المتساقط في العينِ ولكنه الجسدُ المتواثبُ يحملنُي
للنشيدِ أو الانتحار» ( «كلام آخر»، «مديح لمقهى آخر»، ص31)
في الجزء الثاني: «محادثة حول فن الرواية»، في كتاب «فن الرواية»؛ يعود ميلان كونديرا للحديث عن «الحياة هي في مكان آخر»، فيقول: «تعتمد هذه الرواية على عدة أسئلة: ما هو الموقف الغنائي؟ ما هو الشباب بوصفه مرحلة غنائية من العمر؟ ما هو معنى هذا الزواج المثلث: الغنائية، الثورة، الشباب؟ وماذا يعني أن يكون المرء شاعرًا؟ أذكر أنني كتبت هذه الرواية مع فرضية عمل تتمثّل في هذا التعريف الذي سجلته في مفكرتي:» الشاعر هو شاب تقوده أمّه إلى أن يعرض نفسه عارياً أمام عالم يعجز عن الدخول فيه».(فنّ الرواية، ميلان كونديرا، ترجمة: د. بدر الدين عرودكي، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط 1، 1999. ص37).
(2)
خلف منزلها
تنشر الشمس راحتها الليلكية
ومنزلها واقع
بين دارينِ،
بين حصان من الخشب الشتويّ،
ومقهى، به يشرب الشعراء الصغار
شايهم
ويزهون بما دخّنوا من سجائر،
وما كتبوا من قصائد. ( فيفا، مديح لمقهى آخر، ص33)
يبدأ أمجد ناصر مطلع قصيدة «فيفا» بمشهد وصفي. لكن سرعان ما سيغادر الوصفُ بساطة العرض البانورامي إلى مهمة التعريف. تعريف ظاهرُه تحديدُ منزل، ولكنه يضمر، في ممارسة واحدة، أكثر من سمة شعرية تخصّ داخل المنزل وخارجه.
على ضوء الشمس في بداية الشاهد، أقدّم قراءة للمنزل – المركز والمحيط، موزّعة على أربع إضاءات:
– تحديد الشاعر موقع منزل فيفا بصياغة أثارت التقاربَ مع طريقة وصف المنازل والديار عند شعراء العربية القدامى.
– علاقة بينية قوية، تضيء صلب مسار الكتابة الفنّي، بين المنزل والترميز المتمثّل بـ «بين حصان من الخشب الشتوي». قراءة هذه العلاقة تنضج على ضوء نظرية المعادل الموضوعي.
– تمدينُ الوصف بإضافة المقهى جارًا للمنزل المصاب بعدوى وصف الموقع بأسلوب يذكّر بالصياغة الكلاسيكية. وجيرة المقهى للمنزل – المركز هي مشحونة بالإشارة إلى الهامش.
– وقوع الترميز، حليف المعادل الموضوعي، بين محددين مكانيين شكّلا علاقة نيوكلاسيكية: «منزلها واقع بين دارين» و» مقهى، به يشرب الشعراء الصغار شايهم»
البناء السابق على تفصيل صغير لكنه عامر بالوشاية، نطلّ به على تجربة «مديح لمقهى آخر» الأكثر إشراقًا، من جهة ارتباط لغة الشاعر، على نحو أصيل، بانتقاء موزون للمفردات، وبإيقاع الوصف المعوّل على السرد.
ربما وجد بعضنا في ضوء هذه القراءة الفرصة مواتية لانتقاد التعّسف في استخدام الحقّ بتحميل النصّ أكثر من اللازم. فبساطة تحديد أي منزل، إذا ما استحضرنا صوت شخص من عوام الناس، تعود بنا إلى نافلة من نوافل الرواج اليومي لأمر لا يعدو كونه مطلبًا تواصليًّا بين الناس. ولأننا أمام نصّ شعري، يحقّ لنا أن نظهر حساسية تجاه النبرة في هذه النافلة بوصفها مفتاحًا صائت الدلالة؛ يفتح الباب على سمة كلاسيكية منظورة في «سطوة انتقاء الكلام» (ص42، صحراء «عودة أبو تايه») كهوية لا يكتنفها لغز محيّر في ضوء مصطلح الإيكولوجيا. فالنظرة تعتني بإيقاعها في المجال الحيوي: الأخاديد والصحراء:
فلا خيل تصهل في مقبل الليل،
ولا راحل يهتدي بالنجوم. (صحراء ”عودة أبو تايه“، ص45)
فالمدينة أو «فيفا» لم تروّضه تمامًا، لكنها صقلته فنّيـًّا. لقد كان «يحدثها عن لغة الصخر وميكائيل أنجلو»(ص36، فيفا) .. «تاركًا بين أيدينا لغة الصخر تحاورنا بأصابعها الخمسة» ( فيفا، 39)
يحلو لي، هنا، أن أقدّم بديلاً لـ «وادي عبقر». البديل هو «الذات»، لكن بمفهومها عند هايدغر: و»كلمة «ذات» هذه، في الحقيقة، يجب أن نفهمها كترجمة للكلمة الإغريقية «أيبوخيمنون» التي تعني: ما هو ممتداّ أمام.. أي ما هو بمثابة عمق يجمع ويسند إليه كلّ شيء» (القنية – الحقيقة- الوجود، ترجمة محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح، المركز الثقافي العربي، 1995، ص159)
إزاحة الوادي وتقديم الذات، هنا، لا يعني تفضيل ذات الإغريق على وادي العرب. فالغرب اليوم، ويا لها من مأساة، يستند في امتداده / احتلاله للوديان والمنابع العربية – ولايزال يَجمع- على خطاب المركزية الإغريقية.
الإزاحة السابقة، في ظاهرها، لا تخلو من لعبة المرادفة. تقنيًّا، وهذا هو المغزى المراد بيانه، هناك توقّفٌ متدارك عن غنائية «وادي عبقر» كمفهوم يشير إلى مصدر الشعر. في المقابل، هناك مشيٌ يثير الإعجاب في طريق «الذات»، ومعاينة للأخيرة أو لكلّ ما تؤثّثه دلالة كلمة الوادي كعمق منظور: هبوط وحجارة تلمّ نفسها وتدخل وتخرج وتستبيح، كما يحلو لها. لنرى، هنا، ماذا وكيف تفعل حجارة الوادي/ الذات في «مديح لمقهى آخر»:
مرة ثانية
يهبط الشوق مختلطًا في الأصابع
مشتبكاً في دمي البكر
والحجارة الكبيرة داخلة في ضلوعي
وخارجة من يدي
وطالعة كالحديد على غرّتي المغضية.(الشجر -2- ، «مديح لمقهى آخر»، ص50)
إذًا، هناك أشياء منظورة وملموسة وهي مصدر كشعر بمعاينتها في النصّ نقطع طريق الغيب على من تحرّضهم الدلالة الميتافيزيقية لكلمة «عبقر» فيعطون الشعرَ تسمية لا غبار عليها، أو نسبة مطلقة؛ انطلاقًا من حلوله وبالتالي مجيئه، كما في ظنهم، ليس من الوادي كامتداد. لكن من ترسّخ كلمة «عبقر» كطغراء في رأس المخيال الجمعي:
«هذا خاتم آخر، خاتم مختلف. ولتكن قاعدته من فضة مُغْبرة، وليكن مفلطحا بعض الشيء، غير أنك متفائل بحجره الخامّ الذي قطعه صانع لم يعد يشم، أغلب الظن، رائحة القهوة التي تشمها، الآن، في مقهى يضج بأصوات ما تني تتلاشى. كلا، ليس الخاتم القيرواني الذي كاد جهلك بطغرائه يوردك مورد الهلاك، إنه خاتم آخر. خاتم مختلف.» (فرصة ثانية، وزارة الثقافة، عمّان، 2010، ص 13)
المعنى أن نعتبر كلمة الوادي محضَ ذات، ونغض النظر – كيف ذلك والجنّ غير مرئي؟- عن «عبقر». وإذا كان لكلّ شاعر قرين في الوادي، فإن قرين أمجد ناصر هو يحيى النميري النعيمات، بالذات.
(3)
هل لم تعدّ لأمجد ناصر غرّة أكيدة؟ هل قطع المرحلة التي راح يشيع فيها حوله الغناء؟ هل ابتعد عنها، لأنه كان محاطًا بها وهي لا تناسبه؟ إنها ضرورة، كطابع بريدي، كعلامة جمركية باهظة. ولأنّ من طبع الشاعر أنه متقلب، ستعود الغرّة عودة نادرة ذات «صباح مزدوج» إلى «رعاة العزلة»؛ العمل الذي استهله الشاعر بقصيدة «منفى» انتقالاً إلى قصيدة «قمصان جديدة». في ذلك الصباح المزدوج رأينا المرأة «ترفعُ غرّةً شرسةً / في حركة من الرأس/ اليدان كتابٌ من الحركات/ والفمُ تاريخٌُ من الرِّضا والغضب». وسيفاجئ أمجد ناصر القارئ، ستكون «مبارزة» مناوئة لشرط العزلة – أي متواطئة مع الازدواجية – بغنائية سادرة في مديح الملْكيّة، ليس لمقهىً آخر، ولكن:
وسأغني للمتعة
أو للمفاجأة:
عرفتُ الفرقَ والتشابهَ،
الإعصارَ والسكينةَ.
عرفتُ اليدَ التي تقودُ المرأةَ إلى الحبِّ
والحصانَ إلى المبارزة.
لديَّ خنجرٌ له رائحةُ النعْناعِ،
وفرسٌ لها رائحةُ العشيقة.
لديَّ قميصٌ مطرزٌ بالذهب،
وقبعةٌ من جلد الوحوش.
مشيتُ في الظَّهيرةِ
فمشى معي الغمَام.
خرجتُ من عشيرتي ولدًا
فعدتُ متوجاً بالزيزفون والطَّعناتِ،
والقُبَلِ الحرامِ
وفي يدي صرّةٌ من النجوم الشرسة.
وإذا اشتدّ بي الغناءُ،
وهبَّ النسيمُ على غرَّتي
مزدهياً سأقولُ:
أنا لا أنامُ في السرير مرتين،
وإذا مالتْ عليَّ الفتاةُ بخدها الأيمنِ
لا أقبلُها على خدها الأيسر،
ولا أسألُها عن اسمها،
وأتركُ وردةً وغمامةً في نحرِها العاري
ولا أعود.
وأعرفُ أكثرَ مما تعرفون. (وحيدًا كذئب الفرزدق، دار ممدوح عدوان، دمشق، ص83)
سيغادر الشاعر تلك المبارزة على قطار العمر الذي هو ذاته قطار التجارب. ما كان له أن يتمسّك بعبء النبرة السابقة التي سينقلب عليها في قصيدة «أغصان مائلة»، حيث تتوالي قصائد «الوحدة 1»، «الوحدة 2» و»الحُمّى». فلأجل أن يكون مخلصًا إلى «رعاة العزلة»، أراد الشاعر أن يمشي وحيدًا دون الزهو والمديح، وأن يتشارك مع لغته تنظيف هذا العبء:
أُريدُ أن أُنظَّفَ وجهي
من سيماء السّلالة،
وأغصان شجرة العائلة.
ملامح المغادرة أو المغايرة، كانت تبدّت إرهاصاتها في عمله الأول نفسه. ألا نلاحظ إصراره على تكرار «آخر» في العناوين الفرعية لقصيدة «مديح لمقهى آخر»: «مقهى آخر»، «صباح آخر»، «كلام آخر». هناك نبرات سردية قابضة على الشعر بقوة، الحسّ الجديد الذي سيتحلّى به شعراء، ناصر منهم، أثقلت رؤوسَهم تركة العروض وُدكّت، في الوقت ذاته، بالتنظير الوافد عن الشعر الحر وقصيدة النثر.
سينتبه محمود درويش إلى الشعراء الشباب، وستظهر نبرتهم، لاحقًا، عنده. ستنضج تجربة درويش في «لماذا تركت الحصان وحيدًا» متلمّسة الكثير من براعة الشباب. مع البقاء، في الغالب، على عبادة، الغرّة بصفتها علامة الكمال والجمال في الحصان حتى وهو متروك لعودة مشوّهة ناقصة.
مثال على النفس الشعري الجديد، مبكرًا، نجده عند أمجد ناصر، مثلاً، في قصيدة «نشيد وثلاثة أسئلة»، والتي جاءت بمثابة بيان جديد في ختام الديوان، تنطوي الكلمة الأولى من عنوانها على مناهضة لنبرة السرد، وبقية العنوان تنطوي على فراق، للنشيد، بثلاثة أسئلة تُخصّب تحوّلاتٍ كثيرة في المتن الشعري:
لنبدأ دونما استعارات أو تهويل
ولننظر إلى الأشياء الحية بيننا،
بكثير من التبجيل.
وليكن النشيد:
احتفالاً بالرضى
والمسرّات المقتصرة على الرعاة
البسطاء
أولئك الذين تبعثرت ألحانهم، ورائحة آباطهم
بين الحطب، والهشيم السائب
ومضوا إلى غير رجعة.
…….
هل نهتف في بوق الفضة:
كيف يحيا الرعاة دون أغان
وحملان،
وغواية،
بل سنهتف:
كيف يكون ثمة رعاة بلا مهار ونايات
وجروح لا تندمل. (مديح لمقهى آخر، ص79-80)
في «منذ جلعاد كان يصعد الجبل»، سيختار أمجد ناصر عنوان أولى قصائده: «أيّ الأناشيد تلك؟» إنها، إذًا، غنائية الأسئلة، أو بلغة الناقد كمال أبو ديب: دوار الأسئلة وأسئلة الدوار. فليس للسؤال أن يكون له طابع غنائي، ورغم ذلك هي أناشيد من أسئلة مفتوحة على فضاء المكان والذاكرة.
مرونة اللغة وتمتّع تدفقها من سليقة بدوية، بحركة لا تعرقلها موجبات التأمّل الحاضر في نصه؛ كل ذلك يساهم في التغلّب على تجهّم الخاسر: «لن أكلَّفَ حاجبيَّ بالتحية». كما في قصيدة «هجاء». في قصائد تلي قصيدة «مطالب» يأخذ الشاعر اهتمامه إلى تأمل أشياء فردية مستعملة. وإن عيّنت تلك الأشياء كعناوين بصيغة الجمع مثل: «قمصان»، «أحذية»، «الأيدي» … إلى أن يعود ناصر إلى فضاء جماعي في قصائد تسودها ايقاعات تخاطب أثاث الصحراء والبداوة والناس، كما في القصيدة التالية ومطلعها المكرّر هو عنوانها:
أيتها الهوادجُ
أيتها الهوادجُ
يا أجراسَ الصحراءِ
من هنا مرَّ الأردنيون حفاةَ السيوفِ والأقدامِ
في أرواحهم يقدحُ حَجرُ الصّوانِ
وفي لحاهم المغبّرةِ تعوي الذئاب.
أيتها الهوادجُ
أيتها الهوادجُ
من هنا مرَّ شعبي
عاريًا وضامرًا يَسْحَبُ خَلفهُ
نهرًا يابسًا
وصقوراً كهلة.
(4)
دخل أمجد ناصر جولة مباحثة طويلة مع شعريته في خلوة نثرية: «حياة كسرد متقطع» و «فرصة ثانية». فهناك إيقاع السرد ونكهته نتاج مشية ذئب، بعد شبعه، بوطئه الواثق على آثار الفريسة الواضحة المنتشرة جراء مقاومتها ومحاولة الهروب.
إيقاع سردي يتجاوز مصطلح شعرية السرد إلى غنائية سردية وفية للنثر لكنها تتجاوزه إلى الشعر. ويظل النثر بطلاً في رحلة الارتقاء. إنها حيرة التصنيف، لكنها حيرة ليست سلبية، عند من يُعنى بتتبع التجديد. فهي ترسم كتلة الرضاء عن لحظة التكامل أو المصالحة – إذا توخينا مبالغة الإعجاب بتجربة التجديد – بين الشعر والنثر. كان هذا كله، بالنسبة لأمجد ناصر، هاجسًا لم يبدّد مهارة اقتحامه أرضًا كانت، حتى وقت قريب، وقفًا على النثر الوظيفي. في مقالته «الشعر والوظيفة الاجتماعية يقول ت س اليوت:
«وإذا كان لنا أن نتبين الوظيفة الاجتماعية للشعر، فعلينا أن ننظر، أولاً، إلى وظائفه الأكثر وضوحًا، وهي تلك التي لابدّ أن ينجزها إذا كان له أن ينجز أية وظيفة. وأعتقد أن أولى وظائفه التي نستطيع أن نكون على يقين منها، هي أن الشعر يجب أن يمنح المتعة. وإذا سألت أي نوع من المتعة فلا أستطيع عندئذ أن أجيب إلا بأنه ذلك النوع من المتعة الذي يمنحه الشعر. وذلك ببساطة، لأن أية إجابة أخرى ستذهب بنا بعيدًا إلى علم الجمال، وإلى السؤال العام حول موضوع الفن. وأعتقد أن مما يتفق عليه، أن أي شاعر جيد، سواء كان شاعرًا عظيمًا أم لا، يجب أن يعطينا شيئًا ما إلى جانب المتعة، لأن المسألة لو كانت متعة فحسب لما كان من النوع الأسمى. فوراء كل غرض نوعي يمكن أن يكون للشعر هناك دائمًا نقل بعض الخبرات، أو بعض الفهم الجديد لما هو مألوف، أو التعبير عن شيء عانيناه، ولكننا لا نملك الكلمات اللازمة له، ومن شأنه أن يوسع جمال وعينا أو يرفه إحساسنا» (في الشعر والشعرية، ت س اليوت، ترجمة: محمد جديد، دار كنعان للدراسات والنشر، دمشق، 1991، ص13).
نصر جميل شعث