في فترة إمامة المهنا بن جيفر(226-237 هـ) اجتمع الأشياخ- أي كبار علماء الإباضية- في دما (السيب حالياً) ليقرروا التخلي عن التصريح بـ«مقالة خلق القرآن»، والرجوع إلى «قول السلف»غير المصرح بخلق القرآن أو عدمه، والمكتفي بوصف القرآن بأنه كلام الله ووحيه وتنزيله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم1، هذا التخلي عن التصريح بـ«خلق القرآن» – ربما- فُهم منه أن الإباضية يقولون بـ«قدم القرآن»، ومع أن معاصري الاباضية يشككون في صحة نسبة القول بقدم القرآن لكبار علماء المذهب القدماء. إلا ان هذا القول شاع لدرجة أن نسب لبعض مَنْ جاء مِن كبار علماء المذهب، مثل عزان بن الصقر (ت: 268 أو 278هـ)، ومحمد بن إبراهيم الكندي(ت:508 هـ)، وابن النضر (ت:690هـ؟)، فهل مَثلَ التخلي عن التصريح بـ«خلق القرآن» تراجع المذهب عن مقولته هذه، طبعاً لا. لم يغير علماء الإباضية موقفهم، والرأي الرسمي للمذهب الإباضي هو القول بـ«خلق القرآن» كما هو معروف(2).
من هنا فالسؤال الذي يطرح نفسه -بقوة- في هذا السياق: لماذا قرر «الأشياخ» كبار علماء المذهب التخلي عن التصريح بـ«خلق القرآن»، وفي هذا الوقت بالتحديد؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد لنا أنْ نقدم بعض التوضيحات حول عناصر الموضوع، وهي التعريف بـ«خلق القرآن»، والمنهج الذي سنتبعه في تحليلنا لهذه القضية في نسختها العمانية، ونموذجين سابقين لدراستها، ثم أخيراً نقوم بتحليلها في إطارها الديني والسياسي للإجابة عن سؤالنا.
1: محنة خلق القرآن في إطارها الإسلامي العام:
«محنة خلق القرآن» من أشهر القضايا في تاريخ الإسلام الفكري والسياسي، ونحن هنا نعرضها من زاوية محددة تخدم تحليلنا لقضيتنا، فليس هدفنا دراستها-أي المحنة- بل نتحدث عنها كمدخل لموضوعنا، وقد تحدثت عنها مصادر ومراجع كثيرة قديمة وحديثة، لكننا سنختار كتابين حديثين، يفسران هذه الحادثة تفسيراً موضوعاً وعلمياً-كما نظن- بعيدا عن التحيز والتحزب أياً كان نوعهما، ويكشفان عنْ أسبابها التاريخية وتداعياتها السياسية والفكرية، وهما كتاب: المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد للمفكر الراحل محمد عابد الجابري، والكتاب الثاني المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام للأستاذ فهمي جدعان، لنلخص منهما أطروحتي الكاتبين في القضية.
(1)
نبدأ بالكتاب الأول كتاب الجابري، حيث يتعرض لقضية خلق القرآن في إطار حديثه عن دور المثقفين والثقافة والأفكار في التاريخ الإسلامي، ويصل في تفسيره لهذه القضية إلى أن المأمون (198-218هـ) والمعتصم (218-227هـ) والواثق (227-232هـ) وظفوا القول بخلق القرآن توظيفاً سياسياً، فالصراع بين القائلين بالخلق والقائلين بالقدم لم يكن فقط صراعاً كلامياً عقدياً بل كان صراعاً سياسياً هدد فيه القائلون بالقدم سلطة الخلفاء الثلاثة، فالقائل بالقدم معارض للسلطة، فما كان من المأمون إلا أنْ يتبنى المقالة المضادة أي القول بالخلق ليس على المستوى العقدي كما يبدو في الظاهر، بل كشعار سياسي يحافظ به على سلطته، من خلال استقطابه للقائلين بالخلق ضد القائلين بالقدم(3).
وأما الكتاب الثاني فيعيد قراءة القضية من خلال «نظر» يهدف إلى فهم أعمق لطبيعة النظام الديني-السياسي في الإسلام، ويصل إلى أنه ليس هناك دليل على اتهام المعتزلة بتحريض المأمون على امتحان الناس، وما تبني المأمون لهذه العقيدة-أي القول بخلق القرآن- إلا تعبير عنْ قرار سياسي(4).
إن الجيد في هذين الكتابين هو المنهج والرؤية المتبعان فيهما، وخروجهما عن التفسيرات التقليدية الغارقة في التعصب المذهبي، والصادرة من رؤية متحيزة، إنه منهج بعيد عن الإيدلوجيا بمقدار كبير، وذلك يساعد في فهم الأموركما ينبغي، وسنقوم بتفصيل الحديث في الفقرة التالية عن المنهج.
(2)
لماذا، وكيف نفسر حادثة «اتفاق دما»؟
إن تفسيرها ضروري، لأسباب منها: نحن بحاجة إلى اكتساب فهم علمي موضوعي لحوادث تاريخنا العماني يكون أقرب ما يمكن من الحقيقة الموضوعية، فتاريخنا العماني بنواحيه المختلفة لم يدرس دراسة كافية، وما أجري عليه من دراسات يسيطر عليها النواحي المدرسية والتوجه الديني المذهبي في تفسير التاريخ-إلا ما ندر-، فنحن في حاجة ماسة لتطبيق المنهج العلمي في دراسة تاريخنا واكتساب وعي صحيح عنه يفيدنا في فهم ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا.
أما كيف نفسر حوادث التاريخ تفسيراً علمياً موضوعياً، فإننا نحتاج لننجح في هذا الهدف إلى شيئين: منهج علمي، ورؤية تاريخية تربط بين مختلف الجوانب المكونة للأحداث؛ أما الرؤية: فهناك ارتباط بين الفكر أي النظرية، والسياسة أي الواقع المعاش، وما النقاشات الفكرية سوى تعبير عن المواقف السياسية، وأنه لا يمكن الاعتماد في تفسير الأحداث التاريخية على البعد الديني أو المذهبي فقط، أو القيمي الأخلاقي، بل ينبغي الانطلاق من نظرة شمولية لجميع الأبعاد المكونة للتاريخ، وخاصة البعد السياسي.
وأما المنهج-لانقصد طبعاً المعنى العام والواسع للمنهج- الذي سنسير عليه فهو منهج يضع له الأستاذ الجابري(5) ثلاثة شروط، وهي:
1- عدم التحزب، ويعني عدم الانحياز لجانب دون الآخر، وكذلك يمكن أنْ يعني الفصل بين الانتماء المذهبي أو الديني وبين الموضوع حين يكون الباحث منتمياً إلى المذهب أو الدين موضعي الدراسة والبحث، فليس البحث العلمي الموضوعي مجالاً لتمجيد الأنا أو تأكيدها، أو تشويه الآخر المخالف وإلغائه، بل الوصول للحقيقة.
2-وضع الحوادث التاريخية في إطارها الحقيقي الذي تنتمي إليه، أي أن الحوادث التاريخية ليست معزولة عن الجوانب الفكرية التي ينتجها العلماء، والنظر بصورة شمولية لكافة نواحي المجتمع.
3- كشف الغطاء عن الجوانب الغامضة والمهملة أثناء تحليل القضايا التاريخية المدروسة، فكثير من المؤرخين غالباً ما يركزون على جوانب معينة من التاريخ حسب وجهة نظرهم.
2: وصف وتحليل القضية:
اتضح لنا السبيل لتحليل وتوضيح الأحداث التاريخية وتفسيرها التفسير العلمي القريب مِنْ الحقيقة، وقبل أنْ نطبق ذلك عملياً على قضية «اتفاق دما»، نعرض تحليلين سابقين لها، الأول للإمام السالمي (ت: 1332هـ)، والثاني للشيخ أحمد بن حمد الخليلي.
(1)
في كتابه تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان يتحدث الإمام السالمي عن «قضية خلق القرآن العمانية» في سياق حديثه عن إمامة المهنا بن جيفر (226-237هـ)، حيث يشير إلى فتنة خلق القرآن التي حدثت في البصرة مبيناً أن سببها رجل يهودي حاقد على الإسلام، يهدف من خلال نشر تلك المقال إلى إشاعة الفرقة والخلاف بين المسلمين، وتلقى المسلمون هذه المقولة وتناقشوا فيها، ثم انتشرت بين المسلمين في الأمصار الإسلامية ومن بينها عمان، يقول:
«وفي زمانه[زمن إمامة المهنا بن جيفر(226-237هـ)]وقع الكلام بعمان في خلق القرآن، وهي مسألة جيء بها من البصرة، فانتشر الكلام فيها، وعظمت بها البلية في عمان وغيرها، وسببها شبهة ألقاها إلى أهل الحديث في البصرة أبو شاكر الديصاني وكان ممن يقول بقدم الأشياء، فحسد المسلمين على حسن الحال الذي رآه فيهم، فأظهر الزهد والتقشف، ثم ألقى إليهم أن القرآن قديم ليس بمخلوق فقبلها قوم وأنكرها آخرون، وانتشرت في الآفاق وتكلم فيها علماء الأمصار(6)».
ثم ينتقل إلى توضيح ما حدث في عمان بعد أنْ وصلت إليهم القضية منْ البصرة منْ خلال ما ينقله عن الفضل بن الحواري:
«قال الفضل بن الحواري: اجتمع الأشياخ بدما في منزل منهم: أبو زياد، وسعيد بن محرز، ومحمد بن هاشم، ومحمد بن محبوب وغيرهم من الأشياخ، فتذاكروا في القرآن، فقال محمد بن محبوب: أنا أقول إن القرآن مخلوق، فغضب محمد بن هاشم، وقال: أنا أخرج من عمان ولا أقيم بها، فظن محمد بن محبوب أنه يعرض به، فقال: بل أنا أولى بالخروج من عمان لأني فيها غريب، فخرج محمد بن هاشم من البيت وهو يقول: ليتني مت قبل اليوم، ثم تفرقوا، ثم اجتمعوا بعد ذلك، ثم رجع محمد بن محبوب عن قوله، واجتمع من قولهم إن الله خالق كل شيء وما سوى الله مخلوق، وأن القرآن كلام الله ووحيه وكتابه وتنزيله على محمد صلى الله عليه وسلم، وأمروا الإمام المهنا بالشد على من يقول أن القرآن مخلوق»(7)
بعد أنْ ينقل السالمي كلام الفضل بن الحواري (ت: 278هـ) يقوم بعملية تحليل للنص وتفسيره، حيث يعلل سبب اتفاق العلماء على التوقف عن إطلاق القول بخلق القرآن، تعليلاً دينياً كلامياً، يقول:
«وظاهره أن الأشياخ توفقوا عن إطلاق القول بخلق القرآن، وأمروا بالشد على من أطلق، وأدخلوه تحت معنى الآية من قوله تعالى: (خالق كل شي)، فيستلزم أنه من جملة الأشياء المخلوقة، لكن لا يصرحون بذلك نطقاً فراراً من مقولة الجهمية، القائلين بالمقالة الباطلة، المفترين على الله في صفاته، الزاعمين أن صفات الذات حادثة تعالى الله عما يقول المبطلون علواً كبيراً، فخاف الأشياخ أن تكون هذه المسألة مفرعة على اعتقاد الجهمية بحدوث الصفات الذاتية، فتوقفوا عن إطلاق القول بخلق القرآن صراحة، مع اعتقادهم الحق في حكمه بإدخاله في جملة المخلوقات اعتقاداً، فهذا هو المعنى الذي لحظوه، ولم يكن مرادهم نفي حقيقة الخلق عن الكتب المنزلة، ولا أرادوا إثبات قديم مع الله حاشاهم عن ذلك، وإن الذي لحظوه لمعنى دقيق لا يسقط على فهمه إلا من منحه الله تعالى من مواهبه(8)».
فهو يفسر سبب قول العلماء بهذه القول أي عدم التصريح بمقولة خلق القرآن نطقاً، هو الفرار من مقولة الجهمية أي المعتزلة الذين يقولون ان القرآن مخلوق انطلاقاً من كون صفات الذات حادثة، وهذا يخالف مقولة الإباضية الذين يرون قدم صفات الذات، إذن يجب الفرار من هذه المقولة حتى لا يُتوهم أن الإباضية يقولون بحدوث صفات الذات.
بعد ذلك ينتقل لتحليل موقف محمد بن محبوب (ت: 260هـ ) الذي كان مع التصريح بخلق القرآن، ثم أنه تبين له مغزى بقية العلماء من عدم التصريح، فغير رأيه ورجع إلى رأيهم، يقول السالمي:
«وقد تبين لأبي عبدالله الفرق بين هذه المقولة، وهي القول بخلق القرآن، وبين مقولة الجهمية بحدوث الصفات الذاتية، فقال: القرآن مخلوق، فلما رأى ان أصحابه لا يوافقونه على هذا التصريح تركه ورجع إلى الإجمال الذي اتفقوا عليه إذ ليس في ترك التصريح بذلك محذور، لدخول القرآن تحت الإجمال، وهي العقيدة التي كان عليها السلف، وحصلت بها السلامة العامة، وإنما المحذور كل المحذور في إنكار صفة الخلق عن القرآن، وإعطائه صفة القديم تعالى، فتفطن لهذا المقام، فإنه مزلة الأقدام، ومضلة الأفهام(9)» .
(2)
في كتابه الحق الدامغ يناقش الشيخ الخليلي في المبحث الثاني قضية خلق القرآن، ويتعرض للقضية في إطارها العام:
«..وقد أشعل نار هذه الفتنة بعض الدخلاء في الأمة الذين تقمصوا الإسلام لحاجات في نفوسهم أرادوا قضاءها، أهمها إذكاء نار الفتنة بين طوائف الأمة، وتقسيمها إلى شيع وأحزاب «كل حزب بما لديهم فرحون»، ولعل على رأس هؤلاء أبا شاكر الديصاني الذي قيل عنه أنه يهودي تظاهر بالإسلام(10)»، ثم ينتقل للحديث عن الفتنة في محيطها العماني، فيقول:
«..وهذا الذي اتفقت عليه كلمة علماء المسلمين بعمان في عهد الإمام المهنا بن جيفر، بعدما غشيتهم موجة من الخلاف في هذه القضية بعد أن طمى عبابه وهاجت عواصفه بمدينة البصرة الحافلة بمختلف التيارات الفكرية آنذاك وكانت للعمانيين صلة وثيقة بها بحكم العلاقات الثقافية والاقتصادية التي تربطهم بها (11)».
ويذكر رأي الإباضية العمانيين، مشيراً إلى «اتفاق دما»: «وأما أهل المشرق فقد حاول إمامهم الأكبر محمد بن محبوب رحمه الله أن يعلن ما أعلنه إخوانه أئمة وأعلام الجناح الغربي غير أن محمد بن هاشم اشتدت معارضته فانثنى عنه، واتفقت كلمتهم على الاكتفاء بما كان عليه سلف الأمة(…) على أن الله خالق كل شي، وأن ما سواه مخلوق، وأن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله(12)»، ويعلل هذا الموقف من علماء الإباضية، بقوله:
«ولا أراهم وقفوا هذا الموقف الصامت إلا سداً للذريعة، وتجنباً لمشايعة الظالمين، فإنهم رحمهم الله من أرسخ مبادئهم وأبرز سماتهم مناهضة الظلم ومصارعة الظالمين(13)»، فهو يرى أن سبب «إتفاق دما» سد الذريعة التي تُوصل إلى مشايعة الظلم والظالمين.
ويعلق في هامش رقم 1 صفحة 107 على رأي الإمام السالمي في سبب «اتفاق دما»،حيث يشير إلى عدم تنافيه مع رأيه في هذه المسألة، ولا يستبعد-أي الشيخ الخليلي- أنْ يكون السبب للاعتبارين معاً، أي الفرار من مقولة الجهمية، ورفض الظلم.
3: قول في القضية:
(1)
كما اتضح فإن الإمام نورالدين السالمي يفسر سبب «اتفاق دما» هو الفرار من مقولة الجهمية أي المعتزلة، والشيخ الخليلي يرى أن السبب هو تجنب الظلم ومشايعة الظالمين، أما الفرار من مقولة الجهمية أي المعتزلة الذين يقولون أن القرآن مخلوق انطلاقاً من كون صفات الذات حادثة، والإباضية وإنْ كانوا يقولون بخلق القرآن لكنهم لا يقولون بذلك انطلاقاً من حدوث صفات الذات، فعندهم صفات الذات هذي عين الذات، فهل هذا سبب كاف لإصدار «اتفاق دما»، وتخلي الإباضية عن إعلان خلق القرآن والتصريح به عند العامة والخاصة، ولماذا هذه القضية بالذات التي يفر منها الإباضية من مقالات الجهمية أي المعتزلة، ألا يوجد قضايا يتفق فيها الإباضية مع المعتزلة يمكن أنْ توهم باعتقاد الإباضية بأمور ومقالات لا يتفقون فيها مع المعتزلة، ولا نذهب بعيداً عن مسألة الصفات، إن «مسألة الصفات هل هي عين الذات أو زائدة عنها»-وهي مرتبطة أيضاً بقضية الصفات- من القضايا التي يتفق فيها الفريقان، لماذا يصرح بها الإباضية، ولا «يفرون» من التصريح بها من مقولة الجهمية، ألن يؤدي هذا إلى التوهم بإن الإباضية يقولون بحدوث صفات الذات؟
إن إعلان توقفهم هذا عينه – ربما- أدى إلى قول بعض علماء الإباضية بقدم القرآن-كما ذكرنا سابقاً، وهو يؤدي إلى القول بوجود قديم مع الله عزوجل، كما يُلزم القائلون بهذا مخالفيهم.
أما تحليل سماحته فهو تحليل يرتكز على رؤية دينية للأحداث في تحليلها وتفسيرها، وهو هنا ينطلق من ثنائية العدل/ الظلم، ومثالية أتباع المذهب الأباضي، وهو وإنْ كان فيه جانب من الحقيقة التاريخية، إلا أنه لا يفسر لنا السبب الحقيقي لـ«اتفاق دما»، فليست هذه الحادثة الوحيدة التي ارتكب فيها الظلم، وهل الرد على الظلم يأتي-فقط- من خلال التخلي عن التصريح بإحدى مقولات المذهب الأساسية؟
إذن يوجد سبب أقوى لهذا الاتفاق بين العلماء، وقبل أنْ نعلن هذا السبب، نناقش ثلاث نقاط على قدر من الأهمية، تساعدنا على وضع الأمور في نصابها التاريخي المنطقي، وهي: دور العلماء العمانيين في الحياة السياسية، وتحرج الإباضية من مناقشة القضايا الخلافية الشائكة كقضية القدر، وأخيراً نورد نصا من كتاب الإمام السالمي «التحفة».
(2)
من المعلوم في تاريخ الإسلام أنه كان للعلماء أدوار هامة ومؤثرة في الحياة وسير أحداثها بصفة عامة، وفي السياسة بصفة خاصة، يصدق هذا وبصورة أقوى على ما كان في التاريخ العماني، حيث كان لهم دور كبير وخطير، فهذا الدور لم يقف عند الدور العلمي المجرد، بل امتد إلى الواقع أي السياسة.
وهو يرجع – في شيء منه – إلى النظرية السياسية الإباضية، ووجود الإمامة الإباضية فعلياً التي تأسست على يد علماء المذهب أهل الحل والعقد، فهم-فقط- الذين يختارون الإمام أي رئيس الدولة، وهم الذين يعقدون له البيعة، وهم أيضاً الذين يعزلونه من منصبه، وكل ذلك في إطار إقامة شرع الله عزوجل، إذن فدورهم كان خطيراً جداً في الحياة السياسية.
فإذا كانوا هم من يصنع الإمامة أي الدولة، فبالطبع والضرورة هم أيضاً من يحافظ عليها ، من أي خطر يهدد بقاءها واستمرارها، وعليهم لأجل ذلك أنْ يتخذوا كل ما مِنْ شأنه تحقيقه، فهاهم وفي مناسبات كثيرة يقدموا النصح والمشورة للإمام فيما من شأنه مساعدته على القيام بأعباء الإمامة.
هذا الدور لم يبق في إطار النظرية بل تمثل من خلال وقائع عديدة كاختيار الأئمة كما هو معروف، وعزل بعضهم عندما لا يتمكنون من القيام بواجبهم تجاه المحافظة على الإمامة «وسلطان المسلمين»، وللتأكيد على دورهم فإنا نذكر ماقام به العلماء عام 179هـ من عزل محمد بن أبي عفان حين لم يرضوا بسيرته.
(3)
من بين الاستراتيجيات التي استخدمها جماعة الإباضية كتنظيم في فترة الكتمان، أو حتى دولة في طور الظهور -للحفاظ على الوحدة- عدم نقاش القضايا التي يمكن أنْ تؤثر على وحدة الجماعة تنظيماً أو دولة، وهذا التكتيك يبرز منذ بدايات الحركة في البصرة فقد كانوا يتحرجون من الخوض في القضايا الشائكة التي يمكن أنْ تجلب الخلاف الفكري بين أعضاء الجماعة، والذي هو غطاء للخلاف السياسي، وأبرز قضية هي قضية القدر الشائكة والمعقدة والتي تجلب الخلاف بطبيعتها، وقد ورد هذا النص في بيان الشرع وهو نص يدل دلالة قوية على ما نقول:
«البلية بأمر القدر شديدة، لانه سريع بخروج المرء من دين الإسلام، لان أتباع مذهب المعتزلة أجمع ضلوا بكلمة في القدر، وكم من مذهب أهله في ضلال بسبب القدر فالقدر بحر عميق قد هلك فيه بشر كثير»(14)
كذلك ما أورده السالمي عن جابر بن النعمان: «اختلف المسلمون في صحار في الذي يعمل الحسنات والسيئات…، فخرجنا من صحار إلى سمائل فسألت هاشم بن غيلان عن ذلك فقال: كفوا عن هذا، فقد وقع بصحار وكتبوا إلينا فلم نجبهم، وعند هذا ومثله تقع الفرقة(15)».
يتضح من خلال المثالين تحرج الإباضية من الخوض في النقاشات الفكرية التي يمكن أنْ تشق وحدة الجماعة، فمناقشة قضية مثل قضية القدر سريعة بخروج المرء من دين الإسلام أي المذهب، وقضية الحسنات والسيئات لا تستحق النقاش والإجابة عليها لإنها مما يقع منه الفرقة والاختلاف، الفُرقة هنا ليست-فقط- فُرقة كلامية عقدية أي اختلاف في الرأي الكلامي، بل فُرقة واختلاف على المستوى السياسي، بمعنى آخر، فالكلام ليس كلاماً-فقط- أي أنه ذو مضمون ديني عقدي بعيد عن الواقع، بل مرتبط أوثق ارتباط بالواقع أي بالسياسة.
(4)
ينقل الإمام السالمي نصاً على قدر كبير من الأهمية التاريخية، لأنه-كما نظن- يساهم في تفسير «اتفاق دما» تفسيراً علمياً، يقول السالمي رحمه الله: «وفي زمانه [الإمام عبدالملك بن حميد (207أو208-226هـ)] أظهر قوم من القدرية والمرجئة دينهم بصحار، ودعوا الناس إليهم وكثر المستجيبون لهم، حتى صاروا بتوام وغيرها من عمان فخاف هاشم بن غيلان رحمه الله تعالى على المسلمين من ذلك، فكتب إلى الإمام:
وأنه بلغنا أن قوماً من القدرية والمرجئة بصحار، قد أظهروا دينهم، ودعوا الناس إليه، وقد كثر المستجيبون لهم، ثم قد صاروا بتوام وغيرها من عمان، وقد يحق عليك أنْ تنكر ذلك عليهم فإنا نخاف أنْ يعلو أمرهم في سلطان المسلمين، فأمر يزيد أو اكتب إليه لا يترك أهل البدع على إظهار دعوتهم، حتى يطفأ الضلال والبدع، واكتب إليه رحمك الله أن يظهر الإنكار عليهم، ويرسل إلى كل من بلغه شيء من ذلك، فيعرض عليهم الإسلام، ويصف لهم الدين، وإثبات القدر، وتكفير أهل الإصرار، فإن قبلوا ذلك وإلا فاحبس وعاقب(16)».
يظهر هذا النص وجود حركة تمرد ضد دولة الإمامة الإباضية، يقوم بها قوم من القدرية والمرجئة، وهذا الحركة بدأت في صحار وامتدت إلى توام (البريمي حالياً) وغيرها من مناطق دولة الإمامة، فأصبحت تهددها، من خلال كثرة المستجيبين، وتوسعها في بقية أنحاء عمان، وخوفاً من أنْ يعلو أمرهم في «سلطان المسلمين»= دولة الإمامة، يوجه الشيخ هاشمُ الإمامَ-انطلاقاً من دوره كشيخ من شيوخ المذهب- إلى اتخاذ الإجراءات والتدابير التي من شأنها أنْ توقف هذه الحركة،حتى ينطفئ الضلال والبدع، حيث يتوجب عليه-حتى لا يترك أهل البدع على إظهار دعوتهم-: «أنْ يظهر الإنكار عليهم»، أي على جميع بدعهم، ومنها البدعة الأخطر في تلك الفترة التاريخية على خصوم المعتزلة، وهي القول بخلق القرآن.
(5)
نستطيع الآن بعد عرض المعطيات السابقة، أنْ نحدد ما نراه سبباً حقيقياً يقف وراء «اتفاق دما»، إنه الخوف على دولة الإمامة من أنْ تكتسحها حركة التمرد القدرية/المرجئية.
فالتصريح بمقولة خلق القرآن يعني توفير شعار جاهز للحركة القدرية/المرجئية لكسب مزيد من المستجيبين، كما كانت شعاراً للمأمون ولمن جاء بعده من الخلفاء العباسيين ، ووفرت لهم حماية سياسية باعتبار المعارضين لهم يتبنون المقولة المضادة، وبالتالي الشعار المعاكس وهو القول بقدم القرآن.
إن دور العلماء ليس فقط اختيار مقولة كلامية بدل أخرى، أو تغيير معتقد مكان أخر هكذا اعتباطاً، بل كان دورهم أخطر، إن الوضع يحتم عليهم اتخاذ السبل الكفيلة للمحافظة عليها، فاتساع نفوذ القدرية والمرجئة في مناطق نفوذ «سلطان المسلمين» أي دولة الإمامة الإباضية، وكثرة المستجيبين لهم، كل ذلك يهدد دولة الإمامة، مما جعل واحدا من الأشياخ وهو هاشم بن غيلان يمارس دوره السياسي كعالم لا يقف عند حدود العلم المجرد بل ينغمس في الواقع السياسي.
وفي ظل هذه الأوضاع سيقوم العلماء بدورهم الذي يتوجب عليهم، وهو رسم السياسة المناسبة لدولة الإمامة لمواجهة التمرد القدري/المرجئي، وتجلت في إجراءات عملية،هي: وضع شعار مضاد لشعار القدرية والمرجئة، وشعار القدرية في ذلك الوقت القول بخلق القرآن، وهذا من خلال إعلان عدم التصريح بمقولة الخلق ،وأما من يخالف ذلك فقد «أمروا (أي العلماء) بالشد على من أطلق(17)»، أي كل من يصرح بمقولة خلق القرآن، هل يخيف إعلان مقولة الخلق- وهي رأي المذهب الرسمي- دولة بأكملها، لا، إذن هو إجراء سياسي.
القول الصريح بخلق القرآن والذي ينتشر على مستوى العامة، يشكل تهديداً لأمن الدولة ووحدتها، فلا يعرف من المنتمي إليها من عدوها لتشابه الشعارات المرفوعة، إنه إجراء وقائي يُعرف من خلاله الموالي للإمامة مِن المستجيب لدعوة القدرية والمرجئة، فالاختلاف فيها يعني الاختلاف في الموقف السياسي، إنه يعني الانتماء لهذا الطرف أو ذاك.
ولقائل أنْ يقول إن تمرد القدرية والمرجئة كان في فترة الإمام عبدالملك (207أو208-226هـ) بينما كان اجتماع الأشياخ في فترة إمامة المهنا بن جيفر(226-237هـ)، فأين العلاقة بين الأمرين، فنقول: إن سيرة ابن غيلان تُظهر توسع نفوذ حركة التمرد وعدم توقفها، وقد خلف الإمام المهنا الإمام عبدالملك مباشرة، لذلك لاشيء يمنعنا من تصور، استمرار تمرد القدرية والمرجئة، خلال الفترة الممتدة من 207-237هـ، وبالتالي استمرار التهديد لدولة الإمامة الإباضية.
إن ما اعتبره الإمام السالمي من خلال قوله:» وإن الذي لحظوه لمعنى دقيق»، ليس فقط على المستوى الاعتقادي أو الكلامي بل الأهم هو ما لحظوه على المستوى السياسي، وهذا المعنى الدقيق» لا يسقط على فهمه إلا من منحه الله تعالى من مواهبه»، نعم، ولكن بلغة السياسة من كان على مستواهم في المسؤولية عن الدولة، فلا بد أنْ يفكر ويدبر للدولة ما يحفظ كيانها ووحدتها، وما تبين لأبي عبدالله محمد بن محبوب، وجعله عَدَل عن موقفه-إي إعلان القول بالخلق- ليس هو خطورة التصريح بهذه المقولة، مقولة خلق القرآن كرأي كلامي، بل ما يشكله التصريح بها من خطورة على مستقبل دولة الإمامة الإباضية.
إن «اتفاق دما» بعدم التصريح بمقولة خلق القرآن، بين الأشياخ كان قراراً سياسياً لوقف تمدد الحركة القدرية المرجئية، وحفظ استقرار دولة الإمامة الإباضية العمانية وبقائها.
هوامش:
1 -عبدالله بن حميد السالمي، تحفة الأعيان في سيرة أهل عمان،153-155.
2 -أحمد بن حمد الخليلي، الحق الدامغ،105.
3 -محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية،97.
4 -فهمي جدعان،المحنة،105.
5 -محمد عابد الجابري، المرجع السابق، 85-86.
6 -عبدالله بن حميد السالمي، المرجع السابق،1/153-154.
7 -المرجع السابق، 1/154.
8 -المرجع السابق،1/155.
9 -المرجع السابق،1/ 155.
10 -أحمد بن حمد الخليلي، المرجع السابق،105-106.
11 -المرجع السابق، 106.
12 -المرجع السابق، 107.
13 -المرجع السابق، 107.
14 -محمد بن إبراهيم الكندي، بيان الشرع، 2/84.
15 -السالمي، المرجع السابق،1/135.
16 -السالمي، المرجع السابق،1/136-138.
17 -السالمي،المرجع السابق،1/155.