خالد الحروب
على صفحات نزوى ومنذ سنوات عديدة كتبت نصًا مطولًا عن العمل الملحمي للروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله «زمن الخيول البيضاء»، بكونه واحدًا من الأعمال الروائية الاستثنائية في الأدب الفلسطيني. ملحمة نصر الله التي اعتلت مكانًا رفيعًا في السرد الروائي الفلسطيني بدأت بالزمن العثماني وانتهت مع النكبة 1948. اليوم يأتي نص جديد للروائي الفلسطيني1 عباد يحيى2، رواية «رام الله»، ليقدم إضافة نوعية ومتميزة، يغطي سردية الفلسطينيين من الزمن العثماني وحتى راهن أوسلو، ومُبدعا واحدة من ذرى ملحميات الرواية الفلسطينية. «رام الله» تنتمي إلى الرواية التاريخية الاجتماعية، حيث تدور حبكة النص حول فرد أو مجموعة أفراد عاديين، أو حدث صغير، هامشي الأثر في الصورة الأكبر. الأحداث الأكبر، أو التواريخ الرسمية والحروب والتحولات الأشد وطأة نلمحها من بين شقوق الحدث الأصغر، وفي عاديات الناس العاديين الذين هم شخوص العمل الرئيسة. وهكذا هي حال «رام الله» التي تدور تفاصيلها حول عائلة «دار النجار»، إذ يقحمنا الراوي في حميميات تاريخها الصغير وتحولات أفرادها، وفي خلفية تلك التحولات نرصد أحداث فلسطين الكبرى. ثمّة توازنات دقيقة تواجه كاتب الرواية التاريخية الاجتماعية تفرض نسج علاقات وتداعيات عفوية بين أبطال الرواية العاديين وقصصهم، والسياق الأعرض وأحداثه وتواريخه الكبرى. إذا فاضت الأحداث الكبرى على النص، فقد العمل سِمَتَه الروائيّة وتحول إلى كتاب تاريخ. وإذا بهتت التواريخ الكبرى كثيرا في نص رواية تاريخية، خرج النص من هذا التصنيف وصار عاديا. هنا وفي ضبط التوازن الدقيق بين علاقات صغير الأحداث وكبيرها، عاديي الناس وقادة الحروب، تكمن براعة النص وكاتبه. نص «رام الله» يحقق نقطة التوازن بامتياز، وكاتبها يخلط بين يوميات الناس وتعقيدات السياقات الكبرى بدقة خيميائي قدير.
عباد يحيى كتبَ في «رام الله» نصًا سوف يُعرف ويُعرّف به سنين قادمة. في قولبة درامية مُمتعة، بالغة الكثافة والحميمية، صاغ تاريخَ المدينة، وفيه دمج تاريخ فلسطين، الاجتماعي والسياسي والثقافي منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى الألفية الراهنة. حجم الرواية الضخم، 736 صفحة، أهاب كثيرين من مطالعتها، وأخّر قراءتها لآخرين، أنا منهم، وربما قلل من انتشارها. عنوانها المختصر والمُبهم «رام الله» ربما ظلمها أيضا إذ أحال إلى تداعيات كابية مرتبطة بمقر السلطة الفلسطينية الراهنة لا تني تنثال سلبا على المخيلة فور ورود اسم المدينة العريقة. إخراج الغلاف والصورة التجريدية عليه، وكذا طريقة كتابة رام الله بشكل مُتداخل ربما عسرت قراءته لغير الفلسطينيين، وأوحت بعمل رتيب وناعس. هذا من الخارج. في الداخل، يتلقفنا إتحاف حقيقي، تواريخ متلاحقة، سرد جذاب ولغة رشيقة، بشرٌ يفيضون حياة، مدن وقرى وفضاءات تزخر بصغير الأحداث وكبيرها. يُبدع يحيى في ترسيم المكان وتكثيف زمانه، وفي مساحاتهما الواسعة نحملق في تفاصيل وجوه الناس ودواخلهم، نكاد نلمس أرواحهم. يدير يحيى أزمانًا متباعدة تفصل بين الأول والأخير مائة وثلاثون عاما. يجري بالزمن الأول من نقطة البداية- الحكم العثماني، ثم يجوس أزمان الإنجليز والصهاينة والحكم الأردني وصولا إلى زمن أوسلو والسلطة الفلسطينية (تحت السيطرة الاستعمارية الإسرائيلية). في منتصف السيرورة الزمنية تتراكم المرارات سيرًا نحو الكارثة التي نتوقعها، النكبة. يمسك الزمن الأخير، زمن رام الله الآن وهنا، ويسير به إلى الوراء في استرجاع مُتلاحق. تتكوم مرارات أخرى تُشابه وتُفارق سابقاتها، تتجسدُ شخوصًا وأحداثًا، صمودًا وهزيمة، مُفتتح حكايات وخواتيمها، تقول لنا أشياء كثيرة عن أرواح شاردة وجميلة تظل منشدة بأمل وربما ببلاهة نحو أفق ما، لكنه انشداد يرفض أن تكسره الأزمنة.
أصل الحكاية وعتباتها
دراما «رام الله» محورها عائلة بطرس النجار الذي جاء جده إلى رام الله من صفد وكان يعمل نجارا. نعرف أن الجد كان قد قدِم في الربع الأخير من القرن التاسع عشر إلى فلسطين من شرق الأردن ولدا صغيرا، ومسلمًا، مع شقيقيه الأكبر. في رحلتهم تلك تعرضوا لمقتلة بشعة من جنود أحمد باشا الجزار، ذُبح فيها شقيقاه، وأخرسَ هولُها لسانَ الصغير الذي هرب بأعجوبة. نجا الولد وتبناه نجار مسيحي في عكا، واخذه الى صفد حيث رعته العائلة وأصبح واحدا منها. انتقل النجار، الأخرس، شابا يافعا الى رام الله، بعد أن صار مسيحيا بحكم تبني العائلة وتربيتها له. اختار عباد يحيى ان يُسكت الولد منذ البداية، الجد الأكبر لعائلة النجار. يثير هذا الإسكات الدرامي للجد، أو إسكات أصل العائلة وأصل الحكاية، تأملا ابتدائيا مداره أن لا أحد في رام الله يعرف على وجه الدقة تاريخ عائلة النجار. من أين جاءوا، أصلهم وفصلهم، دينهم الأولي؟ تختلط الجذور، تذوب في بعضها، تتلوى أصول حيوات البشر بعد ذلك على بعضها بغرائبية لا تُفسر. كانوا مسلمين وبدوًا، صاروا مسيحيين وحضرا. هل نُحمل النص ما لا يحتمل أو يقصد إن قرأنا فيه نزوعًا نحو تجاوز ما كان وما صار في التاريخ، تجاوز سؤال أصول الناس، وماذا كانوا، وعوض ذلك، وتبعًا لتنظير ماكس فيبر، تقديم عمل الناس وفعلهم وما ساهموا به (حرفة الجد كنجار، وما قدمه لرام الله)؟ هنا يتعزز الأهم وهو حاضر تماهي الناس في المكان والزمان، لا الماضي الذي كانوه. أيًا ما كان. تظل ثيمة إسكات تاريخ الجد لفتة إبداعية مفتوحة التأويلات والإحالات.
حكاية دار آل النجار، أداة الإبداع التي اجترحها عباد يحيى لنسج رواية المدينة وفلسطين، هي حكاية البيت الأولي الذي بناه إبراهيم النجار الجد في المنطقة التي تُعرف اليوم برام الله القديمة. وعلى وجه مكاني دقيق، تقع الدار عند تقاطع شارع السهل مع شارع يافا، شريان المدينة التاريخي مع مدينة يافا، المُفضي إلى قلب المدينة وصولًا إلى دوار المنارة، والمُتفرع يمينا نحو القدس. ظلت الدار تتوسع مع الزمن وتكاثر الأولاد والأحفاد. لما يتسلم كبارهم إدارة الدار، يُضيفون إليها غرفة أو أكثر، شرفة أو ساحة، أبوابًا أو نوافذ. مع كل توسعة للدار ومع كل باب إضافي تنبسط عتبة جديدة، تفتتح زمنا وتؤشر لحقبة كأنما تؤرخ لجيل جديد من آل النجار، ولرام الله وفلسطين. نلاحق في الرواية ظهور عتبات ثمانٍ يدلف منها الراوي ويخرج بتناوب لا يحكمه ترتيب معين، يُبقي أزمنة الرواية مفتوحة مرنة ومتداخلة تتباعد في التواريخ لكنها تلتقي في نقطة واحدة، بيت آل النجار في رام الله. العتبة الأولى هي دار النجار نفسه في أواخر القرن التاسع عشر، والأخيرة رام الله اليوم وهنا.
العتبة الأخيرة، أو البداية الزمنية الاسترجاعية للرواية وحيث يبدأ السرد، هي رام الله اليوم، 2017، وفيها نتعرف في مطالع النص إلى الدكتور عماد عايش أستاذ علم الاجتماع في جامعة بيرزيت. تموت زوجته ريما، وهي في أوائل الخمسينيات من عمرها، على نحو مفاجئ. ريما تمتلك حصة في دار مهجورة كبيرة وحجرية يسرح نظرها فيها، وهي تجلس مع عماد أو بدونه في شرفة شقتهما المطلة على الدار، هي بيت آل النجار. بيعت دار النجار لعم ريما وأبيها سنة 1993 ضمن تسوية تجارية بين شركاء ابن خليل النجار وعم ريما، وصارت ريما ضمن الورثة الشرعيين للبيت. من هذه البداية-النهاية العريضة يعود بنا عباد يحيى تدريجيا إلى الوراء من خلال بحث الدكتور عايش عن سر هذه الدار التي يشرع في زيارتها بعد وفاة ريما وتعرضه لأزمة نفسية عميقة مدارها شكوكٌ حول وجود علاقة مريبة لزوجته مع رجل غامض. في تردده حول الدار المُتربة تتطور علاقة حوارية غريبة وخيالية مع البيت ويتهيأ له أن لعتبات الدار أصواتا تتوجه إليه وتحادثه. الدار القديمة تتكلم وتحاور الدكتور المُشتت ذهنه- حيلة الراوي في ابتداع سارد يعرف تفاصيل وأسرار وتاريخ الدار. يتجرأ الدكتور عماد بالتدريج ويفتح الباب الصدئ للدار ويدخله. في الرواية نرى الدار بريشة عباد يحيى في صورتين، واحدة كابية، حزينة مهجورة، الآن، وأخرى ضاجة بحياة ساكنيها من آل النجار طيلة عتبات الزمن الماضي.
بيت النجار وعتباته ترميز معمق وكثيف للتاريخ الفلسطيني ومراحله وتحولاته ونكساته في الحقب الزمنية التي تغطيها الرواية. تتبدل حالات الأرض والناس والجمال والكفاح والاجتماع والثقافة والسياسة والهزائم وتغول الأجنبي وتلاعبه بمصائر فلسطين. كل تبدل ندلفُ إليه من واحدة من العتبات. ركضت فيها العقود، وعبرتها أجيال، عاصرت العثمانيين، الإنجليز، إسرائيل، والسلطة، أفندية، ثوار، لاجئون، أطفال، مبشرون، معلمون، منتفضون، محبطون، وغيرهم. يتناظر بيت النجار مع الأرض، والمدينة، وفلسطين كلها، ويلخص الحكاية – «اقتحمه جنود من أربع دول» (ص535). تنداحُ في السرد بانوراما تاريخية متعددة الطبقات ينمو فيها مجتمع الناس، تتعقد سياستهم واقتصادهم، تتوتر تقاليدهم مع جديدهم، تنضج نضالاتهم، ومعها خيانات بعضهم. في كل حقبة يهاجر شبابهم، طوعًا لضيق الحياة، أو قسرا لتواصل النكبات والنكسات. في رحلة آلامهم الطويلة تتكرر دروس تراوغ تعلمهم منها، فيُلدغون من جحورها تباعًا.
العتبة الثانية للدار، بُنيت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وهي مدخل الرواية التاريخي وزمنها الثاني. وسع إبراهيم النجار الدار وأضاف إليها غرفة جديدة استعدادًا لتزويج بطرس «… دحل المصطبة ورصّها وصقلها فصارت كأنها صحن نحاس، قصر الحيطان والعقد بالجير الأبيض والماء. ثم طلى بالنيلي واجهات وبأخضر أخرى، استخدم أصباغا جلبها من القدس. نقش نقّاش على قوس الباب صليبا وتاريخ السنة 1875.» بعد وفاة إبراهيم النجار صار بطرس وريث صيت أبيه وداره. بنى عتبات في الدار، ومعها بنى سمعته النقية في رام الله. صار أحد رجالاتها الموثوقين، يحترمه الناس، ويصير لاحقًا جزءا من مجلس بلديتها الأول. بطرس هو نجم حكاية رام الله، وواسطة عقدها. قبله كان أبوه وجده، بعده صار ولداه، خليل وسالم وأحفاده. عندما مات بطرس النجار عن عمر 82 سنة 1929 مشت كل رام الله في جنازته، «لم يدروا أين يدفنونه في مقبرة رام الله الجديدة في الماسيون أم في مقبرة الفرندز، أم في الغربية حيث دفن أبوه وجده،» (ص432). رفيقة دربه هيلانه، تطل على ماض فات، وغدٍ يخلو من الغم يستعصي القدوم. خليل، ابن بطرس، سافر إلى أمريكا، رغم أن قلب أبيه ظل رافضا قبول سفر ابنه. بعد سنوات، عاد خليل مؤقتا من أمريكا، وبنى عتبة الدار الرابعة. وسع الدار القديمة وبنى عليها واحدة جديدة مع شرفة عريضة وكبيرة تتقدم على البناء القديم وتقف على أعمدة ثلاثة، أعلاها صليبان من حجر نقش عليها «دار بطرس إبراهيم النجار، بناها خليل بطرس إبراهيم النجار سنة 1921». يُرفق عباد يحيى رسما معماريا لدار النجار (ص361)، تظهر فيه الدار الجديدة التي بناها خليل في مفتتح سنوات حكم الإنجليز فوق القديمة التي بناها أبوه بطرس خلال سنوات الحكم التركي. كلاهما بُنيت زمن سيطرة الآخرين على الأرض والناس. يبدو البيت بكليته مكونا من طابقين مُنسجمين ظاهرًا لكن منفصلين جوهرًا، زمن الاتراك وزمن الإنجليز. تتكامل الداران، الحقبتان، في الشكل الخارجي كأنهما سيرورة تاريخ متواصل. في العمق ثمة كثير يفصلهما، طابق الزمن الأول يتجمد، وطابق الزمن الجديد يتسع. الطابق الحديث، يركب فوق الطابق التقليدي القديم، عاليًا ومستقرا لمن يراه من بعيد. علو الجديد واستقراره خادع وهش. يتأسسُ حقيقة على مداميك الطابق القديم ولا يصمد بدونه.
سالم أيضا، ابن بطرس، وكان قد هاجر إلى أمريكا، عاد وأضاف إلى الدار. صار ذلك في زمن اقترب كثيرا في الحاضر، في ثمانينيات القرن الماضي، مُفتتحا العتبة السادسة لدار النجار والرواية. هذه العتبة زمنها قصير يأخذنا إلى أوسلو ويتوقف عندها، لكنه زمنٌ عميق في التحولات، ثقافة ووطنيّة وتدينًا. عندما عاد سالم عجوزًا إلى رام الله، انتبه أنها تغيرت، لاحظ ذلك وهو يراقب أحوال الشعر، «يُغطى على رؤوس النساء ويظهر في وجوه الرجال» (ص634). ووجد أن جوار الدار لم يعد كما كان. «جلب سالم مهندسًا وبنى سورا عاليًا ومنيعًا أحاط بالدار. لم يفكر بطرس النجار يوما بسور يحمي داره، لكن رام الله تتغير، والصليب المنقوش على الدار التحتا وجده سالم محطمًا. قال له أحدهم «البلد بتتغير، فيه مجانين كثير، والدور الفاضية بتغري ولاد الحرام» (ص631). عاش الناس تحت الحكم العسكري الإسرائيلي، محبطين ومهزومين. غاب من يشبه بطرس وكمال، ابن عرب الخليل الذي عمل سرًا مع ثوار 1936. كان ذلك في عتبات أكثر نقاءً من حال اليوم حيث ساءت أخلاق الناس. سالم يواصل زيارته لرام الله والبيت مع كبر سنه، ورغم النصائح المتكررة لابنته ربى بعدم الذهاب خشية عليه، عندما وصل أوسلو انقلب تاريخ رام الله وعتباتها، ودخلت النفق!
عتبة أوسلو: دار النجار
تتحول إلى «مطعم بلدنا»
«رام الله» الرواية هي صور رام الله المدينة، المتعددة والمتنافرة. يُختصر عديدها في صورتين: رام الله التحتا، ورام الله بقية المدينة. رام الله التحتا، هي رام الله دار النجار المتجذرة في الأرض والهواء. تزدادُ الأولى أسطرة ونوستالجيا فيما الثانية تغرق في الحيرة. كلما ابتعد الزمن وتعمق الماضي تتكثف الأسطورة، تتخلق حولها خيالات ومبالغات تهرب من حاضر سمته البشاعة. عتبات دار النجار، وعلى ما فيها من مرارات وهزائم، تتمجد كأيقونات معبد. تصير أسطورة. آخر العتبات، رام الله اليوم، تزدحم فيها النذالات، تستعرض «انتقام العادي من الأسطوري» (ص649)، تشهد انهيار الرومانس المُحبب الذي انداح عتبة عتبة منذ زمن الأتراك. يتجسد الانتقام والانهيار في تحول دار النجار الغائرة في وجدان رام الله العتيقة والمُعتقة إلى مشروع ربحي، إلى مطعم. المُستثمر أراد التقاط لحظة التغيير الكبيرة بعد أوسلو وقيام السلطة في المدينة، وتكاثر مالها وشخوصها المتكرشة الجديدة. حمل المطعم الجديد اسم «بلدنا»، مُخفيا هدف الربح والاستثمار خلف اسم يدغدغ الوجدان. في العتبة المعاصرة ليس ثمة صعوبة في تنزيل المعمار السردي والشخوصي برموزه المكشوفة، على الواقع. قراء رام الله الرواية، ممن يعرفون رام الله المدينة، سوف يسقطون الأقنعة التي ألصقها عباد يحيى على الأسماء والأحداث والأماكن، وقصدَ أن يكون اللصق هشًا سهل القلع.
في مطعم «بلدنا»، وفي سيرورة تحويل دار النجار إلى مطعم، حدثت كارثة ما يمكن وصفه ب «صدام العتبات». هنا يرسم عباد يحيى واحدة من ذرى الرواية والنص بحبر المرارة. ندخل معه دار النجار، قبل قلبها إلى مطعم لا طعم له، ونمضي إلى الصالون الرئيس، نتسمر أمام واجهته الكبيرة التي تحمل عشرات الصور لأفراد العائلة. صور غير ملونة أولًا، ثم أخرى ملونة مع تقدم الزمن والتصوير. الكبار والصغار، صورهم في مدارس الفرندز، أمام عتبات الدار، في الشرفة، في أمريكا، صور تخرّج من مدارس وجامعات، وصور زواج واحتفالات عيد الميلاد، صور هيلانة تضحك، خليل يركض، بطرس يأرغل متكئا، سالم، كاثرين، إيفلين (زوجات خليل وسالم). يسهب يحيى في وصف الصور في صفحة كاملة، نتماهى في تفاصيلها واحدة إثر أخرى، نتحسس وجوه ناسها، نشم رائحتهم، نسمع ضحكاتهم (ص653). تختزل هذه الصفحة وما فيها من وصف عناوين الرواية، وجانبا كبيرا من سيرة رام الله، تُعيد تكثيف تاريخ دار النجار وترسيمه أمامنا. إذا رجعنا عدة خطوات إلى الوراء ونظرنا إلى واجهة الصالون المطرزة بالصور، تتبدى جدارية كنعانية منقوش عليها تاريخ المكان بعرق الناس ودمهم وشقائهم وبهائهم وغربتهم وتشتت وجدانهم، ولاحقا تمزق هوياتهم. ثمة رغبة تتراكم عند القارئ للوثوب إلى داخل النص لحضن هذه الواجهة وحمايتها، ونصب سياج أمامها يدفع عنها الغدر الآتي سريعًا وباطشًا. كلما تكثف وصف عباد يحيى للواجهة، أحسسنا بالخطر، كأنه يحضرنا لمأساة قادمة، ترافق بيع الدار كلها لمالك لا يفكر إلا بالربح. هذا ما تقوله لنا العتبة السابعة. ما إن تنهي كلامها هذا حتى ينسف قلوبنا عهرُ المال والسياسة: «وقف معلم المقاولات أمام الواجهة عدة ثوان، وبحركة آمرة من يده لأحد شغيلته اختفت الصور كلها. وحلت محلها صورة واحدة كبيرة في واجهة المطعم الجديد، … صورة أبو عمار» (ص654).
اختفت دار النجار وعتباتها. ورثتها العتبة الثامنة المحطَّمَة والمحطِّمة، «عتبة المطعم» في الزمن الاوسلوي «الواعد»، وبتبجح تخبرنا قصتها: «أنا عتبة المطعم … جهز صاحب المطعم مطعمه ليكون وجهة للنخبة الجديدة وهي تخلع زيها العسكري وتلبس بدلات سوداء ورمادية وكحلية، تستعيض عن أطقم السفاري بربطات عنق مقلمة، تلتقي بالخبراء والدبلوماسيين ورجال الأعمال… ولم تمض إلا بضعة أشهر حتى صار مطعم بلدنا الوجهة المُعتمدة لقيادة السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله وضيوفها» (ص657). نجح المطعم من ناحية نظرية، دخله كبير لكن معظمه بالدَّين لكبار الشخصيات السياسية والأمنية وغيرها، ممن لا يجرؤ المالك حتى على مطالبتهم بسداد الدين. نصحه أحدهم بأن يشارك أحد كبار مسؤولي الأمن فيضمن استرداد فواتيره وديونه، وهكذا دخل «أبو شادي»، أحد أهم القيادات الأمنية المتصارعة على السلطة، شريكًا في المطعم لكن عن طريق اسم زوجته التي لم تزر المطعم يوما. اشتغل المطعم عدة سنوات ثم أغلق في أواخر التسعينيات، وعاد إلى أبناء عم ريما الذين أغلقوا الأبواب والنوافذ.
رواية سوسيولوجيا
فلسطين وثقافتها
«رام الله» الرواية حافلة برام الله المكان والجغرافية، وسوسيولوجيا الناس وثقافاتهم وهوياتهم المُتصارعة، أمس واليوم. يفيض النص بأسماء حقيقية لشخوص وعائلات، شوارع وبيوت، كنائس وجوامع، أوتيلات وعيون ماء، تنساب بعفوية في مئات صفحات الرواية. اشتغال تاريخي مُذهل قام به المؤلف. تستحق الأسماء وحدها وقفة وتأمل، فكل منها يروي جزءًا من الحكاية. يبعث هذا كله حياة حقيقية روادها بشر نراهم ونعيش معهم، تواقيعهم هي روح المدينة، وأماكنهم حجارتها التي ظلت كعبات الأجيال يلتصقون بها حتى الآن. من يعرف بعضا من رام الله وتاريخها وشوارعها سوف تلسعه حرارة الأسماء ووجوهها، تاريخا وحاضرا. تاليًا بعض وجوه الناس: المصور حنا تومايان من القدس، خليل طوطح أحد رواد التعليم في فلسطين، المحامي المقدسي مغنم مغنم، حنا عودة وزوجته اللبنانية زهيرة مرهج، سليم الزرو، يهودا ماغنس رئيس الجامعة العبرية، خليل بشارة مغنم، داود عطالله، مارسيل خليفة، سميح شقير، الخوري يوسف حرب، أسماء موتى في مقبرة رام الله، عبدالله طوطح، ظاهر العمر، أحمد باشا الجزار، إلياس عودة أول رئيس بلدية لرام الله، وأعضاء المجلس منصور أبو خلف، وإلياس سابا شطارة، وعبد منصور حنا، ومتري القسيس، وباسيل حنا حرب، عصابة السرهد (في رام الله)، أودين صامويل (إبن المندوب السامي)، رئيس الوزراء الفرنسي ليونيل جوسبان.
وجوه المكان، تلتحم مع وجوه الناس.قارئ «رام الله» يكتشف ويتابع تواريخ العديد من الأماكن التي يعرفها ناس المدينة الآن. شوارع ودور ومطاعم اليوم هي إرث عتبات تتابعت بغير اكتمال، لكل واحد منها قصة أو طرف قصة نقرأها هنا، كلها تموج بالحياة، كما في الوصف: «… بنى داود دارًا على طريق الطيرة، بعد دار زيادة، التي صارت سرية رام الله3 ببعض عشرات من الأمتار …». وعلى هذا المنوال ينسال جزء من القصة من كل اسم لمكان في الرواية: بيت عين حريوت وعين سنيا، حنا أوتيل، غراند أوتيل، فندق رام الله الكبير، أوتيل كازابلانكا، أوتيل الحمرا، فندق حرب بالاس، أوتيل البانوراما، كازينو كت كات، بارك هوتيل، جمزو، بعلين، مخيم الأمعري، دار زيادة، بيرزيت، قاعة كمال ناصر، حاجز سردة، عمارة البكري، مركز تحقيق عوفر، عين مصباح، شركة جوال، مدارس المستقبل في الطيرة، شارع مدرسة الفرندز، شارع يافا المفضي إلى دوار المنارة، نصب عائلة راشد الحداد، تصميم نبيل عناني وسليمان منصور، الماسيون، عطروت، طريق رام الله، اللطرون، عين فارة، بطن الهوا، وادي النار، الجامع العمري، مطعم البردوني، مصنع شوكولاته سلفانا، شارع السهل، عمارة طنوس- شارع ركب، سهل البالوع، بيت أيل، عمارة النتشة، مدخل دير اللاتين، شارع الإذاعة، موقف سرفيس القرى الغربية، نزلة البريد، شارع النزهة، شارع القنصلية الألمانية، شارع عيسى زيادة، مدرسة فرندز للبنات، دار أبو شهلا العجلوني، شارع الكندرجية، المحكمة العثمانية، شارع الكلية الأهلية، دوار الساعة، عمارة السنترال، حديقة السردانة، مطعم آزور، حي مار جريس، دوار جورج حبش، مطعم ترويقة في رام الله التحتا، التعامرة، مخيم الأمعري.
ناس البلاد مجبولون فيها، يتماهون مع أرضها ومكانها. ينسج عباد يحيى حوارًا عفويا بين ميري إحدى معلمات مدرسة الفرندز الأمريكية ونعمة، الفلاحة الأمية ابنة بطرس. ميري تُذهل من معرفة نعمة بالأرض والأشجار، وعندما تسألها من أين جاءت بكل تلك المعرفة، تبتسم نعمة وتقول لها «عادي زي كل أهل البلد». تتابع نعمة إبهار ميري وتقول لها «زلمة أعمى بشوفش (ضرير) اسمة أبو عزمي، ما بعرفش إذا شفتيه أو سمعتي عنه، أبو عزمي بعرف نوع الشجرة من صوت الهوا لما يمرق بين ورقها». ينضم مستر مل للاندهاش وهو يسمع معرفة نعمة بكل ما تنبته الأرض ويخبرها بأنه يُعد موسوعة للنبات في البلاد المقدسة. «لم تفهم نعمة معنى كلمة موسوعة، ولكن كل ما تعرفه عن نباتات هذه الأرض وحشائشها كان كافيا ليسألها مستر مِل فتجيبه فيكتب ما تقول في موسوعته» (ص 214).
«رام الله» تكبر ومعها مبشروها
بطرس، ابن إبراهيم النجار ونجم الرواية، يتزوج هيلانه العبد بعد أن توسعت الدار. يكبران معا، ومعهما يكبر الابنان خليل ونعمة. يأخذهما بطرس إلى مدرسة الفرندز التي يديرها المستر مِل الأمريكي البروتستانتي؛ ستلعب هذه المدرسة وأساتذتها وطلبتها دورا مهما في «رام الله»، الرواية والمدينة4. نتعرف هنا على تكاثر الكنائس الأجنبية وجماعات الكويكرز في الأرض المقدسة والذي كان على حساب مسيحية الروم الأرثوذكس أهل البلاد الأصليين، ويصلنا توتر خوارنة الطائفة من هذا الغزو المتزايد (ص 207). بطرس كان مترددا في تسجيل خليل ونعمة في المدرسة، لكنه اقتنع بعد أحاديث مطولة مع المستر مِل. استمع له «يحكي عن رعاية بريطانيا وروسيا وفرنسا وألمانيا للطوائف وأهدافها منها، وهو ما أكد أن العثمانيين يفهمونه ويعرفونه ويناورون سياسيا في التعامل معه. بدا كلامًا عن عالم كبير وواسع، كلام عن دول ضخمة وحروب وإمبراطوريات، كلام أكبر بكثير مما يشغل بال بطرس النجار. أسهب مستر مِل في توضيح مقاصد البعثة وعلاقتها مع الناس هنا، وقيم التحضر والتقدم والعلم التي ليست قيمًا أرضية فقط، بل دينية… لدينا طالبات من بيروت وبرمانه والناصرة ويافا واللد والسلط، والطلاب الخريجون من المدرسة يمكن أن يكملوا تدريسهم في الكلية السورية البروتستانتية في بيروت.» استطرادا هنا، تختلط صراعات السياسة وأطرافها على كسب أهل البلاد، مسيحييهم ومسلميهم، ويتعقد الأمر مع تكاثر وصول الهجرات اليهودية. يكتب مستر مِل البروتستانتي لصديق له في إسكتلندا قبل مغادرته البلاد «ما فائدة الأعداد إن كانوا سيظلون كما هم؟ إنهم يتغيرون وهذا الأهم بالنسبة لي. هناك قيم جديدة وأفكار جديدة وحياة جديدة وهذا الأهم والأبقى. تاريخ هذه البعثة يخبرنا بوضوح أن اليهود لن يصيروا مسيحيين وأن قليلا من الروم الأرثوذكس سيغيرون معتقدهم، سيصيرون كاثوليك على الأغلب، والبعثات الأخرى أنجح منا في الأعداد، ومع كل نجاحهم لن يكونوا أكثر من المحمديين. نحن نُدخل كثيرين هنا حياة جديدة، بدأنا بأبناء الفقراء والبسطاء واليوم يأتينا الأغنياء والمسؤولون العثمانيون ببناتهم يريدون أن يدرسوا في مدارسنا. إن رجلا فاعلا يصير من نخبة هذا المجتمع أفضل من مئات الفقراء الجوعى الذين يؤمنون بكنائسهم وما تقدمه من مال وطعام أكثر من إيمانهم بالرب» (ص279). كان مستر مِل يكتب كل ملاحظاته ويرسلها لتنشر في مجلة The Ramallah Messenger الأمريكية. مجلة بالإنجليزية خاصة برام الله ومبشريها في وقت كان قليل من أهلها يفكون الحرف بالعربية.
هويات «رام الله»،
إذ تهاجر إلى أمريكا
خليل ابن بطرس يسافر إلى أمريكا (سنة 1907) ليتابع دراسته، في ترسيم مُبكر لفصل الهجرة الفلسطينية الأولى قبل النكبة. هناك تزوج وأنجب، فانشطرت علاقته مع رام الله، واهتزت معرفته لنفسه. الـ»نحن» التي تساءل حولها ذات مرة أخوه سالم أصبحت هنا أكثر تعقيدا. يومذاك وفي صخب ما يصل رام الله من مرويات أحداث وأخبار الحرب العالمية الأولى «… بدأ سالم يسأل نفسه عن نفسه، وحين تردد على القدس لأسباب جلها متصل ببطرس، بدأ يسأل نفسه عما يسميه الناس في رام الله «نحن». حين يتكلم أحدهم بلسان مجموع يبدو أنه يشمل السامعين. كانت رام الله المكان الذي تساءل فيه سالم الفتيّ إن كانت «نحن» تعني الجالسين حول المتحدث، أم تعني عائلته وحمولته، أم كنيسته، أم طائفته، أم أهل رام الله. في القدس تساءل إن كانت تعني المسيحيين، أم غير المسلمين، أم العرب، أم أهل هذه البلاد، أم أي جماعة أخرى.» (ص 316). خليل يواجه نفس السؤال، ولكن هذه المرة في أمريكا، من «نحن» من «أنا»، وهو يصبح أمريكيا رسميا كما بقية المهاجرين. يتساءل «كيف يصبح كل هؤلاء أمريكيين، كيف يصبح القادم الجديد … أمريكيًا؟» توكيدا لهويته الجديدة وبلده الجديد قرر خليل أن ينضم إلى الجيش ويشارك في المعارك المتوقعة ضد ألمانيا بعد أن أعلنت أمريكا انخراطها في الحرب العالمية الأولى. اعفته الحرب ذاتها من تنفيذ قراره لما انتهت على نحو شبه فجائي. عندما تزوج من كاثرين وأنجب منها أخذ أولاده منه تقاطيعه وقسمات وجهه، وفكر في سره «ولكنكم لا تبدون أمريكيين.» (ص325). يقرر خليل زيارة رام الله سنة 1919، ويكتب إلى أبيه بطرس رسالة يخبره فيها بنيته، ويتردد في استخدام تعبير «أنا قادم للزيارة» أم «أنا عائد»، الأولى جوهر ما يقوم به، والثانية حلم أبيه.
ثيمة الهجرة والسفر تحضرُ مبكرًا في رام الله المدينة، وفلسطين. و»رام الله» الرواية، تفتتح مُبكرًا واحدة من أوديسات الفلسطينيين (والسوريين عمومًا)5. يسافر سبعة من شباب رام الله إلى أمريكا سنة 1903 بحثا عن العيش الكريم، لهم ولعائلاتهم التي تنتظر ما يرسلون من مال المهجر. هؤلاء السبعة، بطرس طوطح، إلياس عبد النور طوطح، وعبد موسى ركب، وحنا دعيبس، وسليم سابا شطارة، وصليبا حنا عجلوني، وداوود عبدالله بلاط، معروفون بأسمائهم وحكاياتهم. قبل أن يغادروا أخذوا صورة جماعية في القدس. بطرس طوطح لم يحتمل السفر أسابيع في البحر ومات في خليج المكسيك «كان أول رجل من رام الله يموت في العالم الجديد»، وافتتح باب موت المهاجرين في البحار باكرًا جدًا. أمهاتهم وأخواتهم بكينهم حزنًا في أغنيات تقطر دمعًا:
لمَّنْ سافروا طاحوا البحر الأزرق
بخاف عليهم من الموج ليغرق
سافروا الشباب طابور ورا طابور
دشروا رام الله وطاحوا في البحور
ليش تسافروا والتين على إمّه
ليش تسافروا تتاكلوا منه
ليش تسافروا والتين حامل تين
ليش تسافروا شباب يا حلوين
فلاحون ومِدِن، قرويون وأفندية
ينبش عباد يحيى في إشكاليات ثنائية الفلاحين وأهل المُدن (المِدِن، باللهجة الفلسطينية) وعلاقتها بالهويات الرمزية الفلسطينية والماضي الذي يُراد تأبيده في الحاضر. يُمرر نقاشًا عميقا على لسان الدكتور عماد العايش في مؤتمر أكاديمي يتحدث فيه عن موضوع «الأصوات الخفية في التاريخ الاجتماعي الفلسطيني». يفكك هوس الاحتفاء بالفلاح وما يرتبط به من رموز. يقول «لا يحتفي الفلاح بنفسه… لا بد أن يكون الاحتفاء من موقع آخر… (له)… دلالة على موقع المُحتفي… ثمة تحميل مسؤولية مستمر للفلاح حتى يظل فلاحًا معبرًا عن كل الرمزيات المؤسسة للهوية الفلسطينية. إن محاولته التخلص من واقعه الاجتماعي أو تبديله يعني تخريبًا للصورة التي يعبر عنها. ولعل أكبر «العنف الرمزي» الذي يجابه به الفلاح المحاول الخروج من حالته الفلاحية الفلكلورية، هم فلاحون سابقون، من يمكنهم أو يمكن آباءهم على أبعد تقدير تذكّر أهلهم يلبسون السراويل والقمباز ويركبون الحمير سارحين صوب الزيتون.» (ص503). يتابع الدكتور عايش تأملاته وهو يسمع الصوت في دار النجار «ينظر إلى أهل رام الله الذين يعودون إليها في الصيف من أمريكا، يلحظ هذا الإصرار المستمر على تجميد الزمن، هيئاتهم، لحاهم، وشواربهم، نطقهم الفلاحي المفرط في فلاحيته، كأنهم في مسرحية تراثية ومؤلف النص مهووس بتأكيد نطقهم للكلام كما كان يحكيه أجدادهم، ذكر اسم جذر الحمولة والمبالغة في إظهار الاعتزاز بالأصل والاحتفاء به، هل يعني هذا أنهم ما زالوا هنا أم أنهم انتقلوا إلى موقع آخر حسب افتراضه؟
في عتبة حكم البريطانيين، نلاحق توتر ثنائية المدني والفلاح. يتمثل الفلاح في كمال، ابن قرى الخليل الذي يأتي إلى رام الله باحثا عن عمل، ويشغله بطرس عنده لبناء «السناسل» الحجرية حول البيت. كمال جاء بزوجته وابنته وأمه وشقيقه وابن شقيقه وعاشوا في دار النجار التحتا، بعد أن خلت من أفراد عائلة النجار الذين كانوا انتقلوا إلى الدار الفوقا. تطل عليهم الدار وأهلها، هيلانة وحنة وبطرس. أم كمال، فرحة، العجوز الطيبة تحمل خبزا ساخنا من الطابون الذي بناه كمال وتحمله إلى أهل دار النجار… «اعترى هيلانة أسى بالغ، شعرت بعار لا يمكنها هضمه، فالعجوز بادرت إلى تقديم طعام لها كأنها هي المضيفة، وهيلانة لم تقدم لهم شيئا منذ ثلاثة أسابيع». (ص 401). في الوقفات الطويلة على عتبة الباب عرفت هيلانة عن فرحة وابنها الكثير، أكثر مما يعرف بطرس عن كمال. قالت: «بين الخليل وبير السبع، إحنا بالنص، مش مِدِن زيكم»، صححتها هيلانة: «إحنا مش مِدِن، فلاحين من جد جدنا، ردت فرحة بثقة عجائزية: «اسكتي الله يرضى عليكي يا ام خليل، انتو -ما تزعلي مني- خلص طلعتوا من ثوبكم ولبستوا ثوب ثاني» (ص 408). كان لكمال وجه آخر مسيس، فقد التحق سرا التحق بثوار سنة 1936. كان لا يخفي تعجبه «من سلوك وجاهات مسلمين في دار النجار، شربهم ورقصهم ولهوهم، ولا يفهم سالم استغرابه. بعد عدة جلسات وأحاديث شبه سياسية بين سالم وكمال، يبدو أن كمال وصل لاستنتاج يشاركه مع سالم: «أنا فهمتْ… الأفندي أفندي، فش مسلم ومسيحي» (ص 455). لكن في مشهد آخر تذوب هذه الهويات حين يوحد الخوف الجميع إثر هجوم بريطاني على الثوار وخوف فرحة على كمال. يومها صلت فرحة وراقبتها هيلانة بارتجاف وكثب: «خوف فرحة أنهضها لتصلي، توضأت والكل يراقبها، ثم بدأت صلاتها. أول من صلى صلاة مسلمين في أرض النجار. صلاتها دليل على عظم ما يجري، تبعث طمأنينة وخوفا معا. أخذت نفس هيلانة تهدأ وهي ترى فرحة تركع ثم ترفع جذعها ثم تهبط ساجدة مرة ثم أخرى ثم تنهض. الحركات والأنفاس وطرقعة الركب وصفير السين والصاد وطقة الكاف مع كل «أكبر»، بدت لهيلانة ملائمة لما يجري، الأمر أكبر من مجرد تمتمة أو همس.» (ص 417).
في سياق «فلاحي» سابق أقل توترًا، أخذَنا عباد يحيى إلى موضوعات مُحببة في اللهجات الفلسطينية حينما كان مستر مِل مدير المدرسة يتحدث بلغة عربية فصيحة لكن تعجزه الكثير من الكلمات المحلية، وخاصة طريقة نطق بعض حروفها. فيقرر «تدوين الكلمات كما يلفظها أهل رام الله، وبدأ بالقاعدة الأولى، ليست ك أو K بل «إتش» أو «CH»، وظل يمرن نفسه عليها لعدة أيام. هذه الـ CH هي ما سينهر مدرس في الفرندز سالم عند لفظها بعد عدة سنوات فقط لأنها تقرر هوية فلاحية. سيلقنه كلامًا لن ينساه: إذا بدك تصير إنسان مهم، لازم تحكي مثل أهل المُدن وتلبس مثلهم، انسى حياة الفلاحين وحكيهم، إنك تكون مدني أو فلاح هذا قرارك، مش مهم من وين جيت ومن وين أهلك، بالمدرسة ما تحكي بالإتش»، (ص211)6.
ثوار وثورات
سمع خليل عن اليهود أول مرة سنة 1907 في حديث مع المستر مِل نقل فيه أخبارا عن توتر في يافا بين «مستعمرين يهود والعرب». ظل الحديث مبهما إلى أن زار خليل يافا ورآهم، وجلس بجوار المستر مِل مع رجل أمريكي «مسرف الهندام والأبهة» يتحدث عن مستعمراتهم. ابتسم خليل بغرابة واندهاش عندما عرفه مستر مِل على الرجل الأمريكي بوصفه «أوَر سن» our son. بعدها بسنة، أي في 1908، تغيرت أحوال الدولة العثمانية وأمسكت تركيا الفتاة زمام الحكم، وتلا ذلك أحداث سياسية منها الانتخابات لمجلس المبعوثان، وهي التي أصبحت والمرشحين لها حديث الناس. ومنها أيضا الحديث عن تجنيد المسيحيين للجيش مثل المسلمين. اندلعت الحرب العالمية الأولى بشرارة اغتيال ولي عهد النمسا في سراييفو، ودخل العالم الأوروبي ومستعمراته ومنها فلسطين الحرب. انتهى ذلك بهزيمة الدولة التركية واحتلال فلسطين من قبل البريطانيين، وقبيله صدر وعد بلفور سيء الصيت سنة 1917 يمنح فلسطين لليهود. زادت الهجرة اليهودية بتسهيلات من المستعمر البريطاني، وتوالت انتفاضات وثورات الفلسطينيين. بعد ثورة وصدامات 1929، عندما يدخل سالم الدار في ليل الخامس عشر من آب في تلك السنة، «يجد خليل واجما وهيلانة تهرع إليه لتطمئن. يقول إنها صدامات عابرة وستمضي والناس تبالغ. هكذا وصف سالم اليوم الأول مما سيسميه الفلسطينيون «ثورة البراق». لم يعد «الأجانب» محايدين كما كانوا خلال الحكم العثماني وارتبكت علاقات «الأفندية» معهم. في أوائل الثلاثينيات، يُنطق عباد يحيى المربي الشهير خليل طوطح مدير مدرسة الفرندز مُحذرا بمرارة «اليوم نسبة اليهود في فلسطين تقترب من ثلث عدد السكان. لا أحد يدري كيف ستكون السنوات القادمة. مدارسهم أفضل ومجهزة بكل أدوات العلم الحديث، ويترك لهم الإنجليز فعل ما يحلو لهم، لا يتدخل أحد في منهجهم وما يفعلون. أما المدارس الوطنية ففقيرة وبلا أي دعم. الكل يريد ان يصبح محاميا أو طبيبا أو مهندسا أو معلما، ماذا نفعل بالأرض؟ لماذا لا توجد مدارس زراعية للفلاحين في بلد كلها فلاحون؟» (ص 434).
ثم جاءت ثورة عام 1936 وقلبت كل الأوضاع. تعطلت المدارس، والمواصلات، والحياة الطبيعية. تصاعد سلوك جنود الإنجليز قساوة وزاد تحرشهم بالنساء، وقدم الناس شكاوى متواصلة إلى المندوب السامي، (ص 466-469). مشاعر الفلاحين والبسطاء مع عز الدين القسام وثورته، وكمال الذي يعمل عند بطرس واحد منهم. يتحدث ابنه، جميل ويقول «من يوم ما استشهد القسام وأبوي عقله مش معه. بعد استشهاده كان كمال قد قرر الالتحاق كليا بالثورة، وقال لابنه جميل انه لن يعود إلى الدار وإن «سالم أفندي ما بقصر». تذكر (كمال) كلام شهداء سقطوا في وديان بعيدة، ربطهم الإنجليز بحبال إلى الآليات وشحطوهم حتى تفتتت أجسادهم على تراب الأرض وصخرها، تذكرهم في حياتهم يحمسون المقاتلين، يشددون على علاقتهم بالناس وعدم تحميلهم ما لا يحتملون، ويحذرون من فتنة البواريد، تذكر وجها من الجليل، خطب فيهم وقال: «هذا مش سلاح ثارات ولا عشاير، اللي بحمله لازم يكون قده، بدك تجوع عشان يوكلوا الناس. بدك تعطش عشان يرتووا، بدك تخاف عشان يأمنوا، بدك تموت عشان يعيشوا،» (ص 476). استشهد كمال في الثورة الكبرى في رام الله، وكانت الأرض قبره، (ص 483).
جاء تهديد من إحدى فصائل الثوار لخليل طوطح مدير مدرسة الفرندز بسبب استقباله الإنجليز في ملعب المدرسة، وأمروه بإغلاق المدرسة التزاما بالإضراب الكبير سنة 1936. صارت رام الله القريبة من القدس مركز قيادة الثورة. ذات يوم، جاءت مجموعة من الثوار بأسلحتهم بعد أن وجدوا مع سالم ابن بطرس أوراقا باللغة الإنجليزية تخص مدرسته، اقتادوه إلى قائدهم الذي اطلع على الأوراق وقرأها. قال له سالم: «أنت مثلي بتعرف إنجليزي، شايف الورق… قاطعه القائد الثلاثيني بأنفة بالغة: «مش مثلك… أنا بعرف إنجليزي عشان أفهم الإنجليز، إنت بتعرف إنجليزي عشان تتفاهم معهم» (ص479).
نهايات مفتوحة.. «المقاطعة»
ربما يصح اختتام هذه المطالعة بإشارة سريعة إلى انفتاح النهاية في نص عباد يحيى. رواية «رام الله» وفلسطين ما تزال قيد السرد والحدث. البداية كانت فلسطين الثرية والغنية بحياتها، وهو ما يقوله لنا وصف جميل في مطالع الرواية: في مقهى يطل على بحر يافا، في العشرية الأولى من زمن فلسطين و»رام الله» الرواية، نقرأ ما كانت عليه البلاد آنذاك وما كان فيها من خيرات على لسان يافاوي يتحدث إلى بطرس: «اسمع يا شيخ، البن… القهوة من آخر الدنيا، من بلاد أمريكا والبرازيل ومن اليمن، الرز من إيطاليا، السكر من فرنسا، القطن من إنجلترا وسويسرا، سيدي وسيد سيدي وبجوز أبوي كانوا يزرعوا قطن ويبيعوه في مينا عكا، اليوم خلص. الخشب … راح عن بالي من وين. المهم … ومن ألمانيا بجيبوا يا شيخ الحديد، يعني كل المواكن بجيبوا القطع من ألمانيا، من النمسا وانجلترا وغيره. من كثر اقعادي صرت أميّز اللي جاي بالبحر، مرات بتيجي شغلات بتخوف. شغلات للكبار اللي فوق بتسوى ذهب… (والنبيذ) من كروم لبنان إلى بيروت إلى البحر ثم إلى يافا ثم إلى زلعومك يا بطرس» (ص 73).
أما النهاية، نهاية «رام الله» الرواية على الأقل، فيتكثف أحد -وربما أهم- ترميزاتها في مقر «المقاطعة»، التي تشير إلى ديمومة مركز الحكم والسلطة الذي شهدته فلسطين- والتي هي راهنا مقر السلطة الفلسطينية في رام الله المدينة. يخبرنا عباد يحيى عن أصل المقر وفصله حيث بناه البريطانيون أثناء حكمهم فلسطين7: «… صار بناء جديدا غريبا في تكوينه، مُقتحما أعلى جبال رام الله، شاهدا بصلادته على ما كان وما سيتبدل، ممثلا الكفاءة الإنجليزية في إدارة الناس والسيطرة عليهم. بنى (المُستعمر) «المقاطعة» شمال شرق رام الله، مقرًا عسكريا وسجنا ومحكمة، قلعة حصينة يريد بها وبمثيلاتها تأديب المتمردين» (ص470). بعد النكبة سيطر الأردنيون على المقاطعة وصارت واحدًا من مراكز إدارتهم للضفة الغربية والقدس، وبعد هزيمتهم سنة 1967 استولت عليه إسرائيل وحولته مقر إدارة عسكرية، وبقي جاثما على صدر رام الله وسكانها. رأت السلطة الفلسطينية أن ترث المكان وتكون المقاطعة مقر الإدارة والرئاسة… والسيطرة والقمع أيضا!
الهوامش
مجلة « »، عدد 54، نيسان (أبريل) 2008.
قبل هذه الرواية صدر لعباد يحيى الروايات التالية: «رام الله الشقراء»، دار الفيل، 2013؛ «القسم 14»، المركز الثقافي العربي (2014)؛ «هاتف عمومي»، الدار الأهلية للنشر (2015)؛ «جريمة في رام الله»، دار المتوسط (2017).
سرية رام الله اليوم هي مقر أحد أهم مؤسسات المجتمع المدني في المدينة، وتقدم أنشطة ثقافية واجتماعية وفنية متعددة.
شهدت رام الله، في زمن العثمانيين ثم البريطانيين، أنشطة تبشيرية متواصلة خاصة من الكنائس البروتستانتية التي رعت بشكل أساسي تأسيس مدارس تابعة لها. وكانت الكويكرز من أهم الجمعيات المسيحية النشطة وأنشأت مدرسة الفرندز التي تأسست في رام الله سنة 1869، ولها دور وحضور رئيس في رواية عباد يحيى، ولاحقًا خلال حقبة الاستعمار البريطاني كان مديرها خليل طوطح. انظر ما كتبه طوطح نفسه عام 1937 حول بدايات الكويكرز في فلسطين ورام الله تحديدا (في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر): Khalil Totah, ‘Quakerism in Palestine,’ Bulletin of Friends Historical Association, Vol. 26, No. 2, Autumn 1937, pp. 79-88.
أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين شهد هجرات من بلاد الشام إلى أمريكا بحثا عن فرص عمل وحياة أفضل، وعُرف هؤلاء المهاجرون في الولايات المتحدة بكونهم سوريين (سواء أكانوا من سورية نفسها، أم من فلسطين، أم من لبنان). وقد صور الروائي اللبناني ربيع جابر تجربة هؤلاء في الهجرة والعمل في أمريكا ومحاولة العودة إلى أوطانهم بشكل مُبدع في روايته «أمريكا»، المركز الثقافي العربي ودار الآداب، 2009.
انظر حول اللهجات الفلسطينية مقالة مركزة لـ عمر عاصي، «كي لا ننسى .. لهجة الريف الفلسطيني»، مدونات الجزيرة، 27 كانون ثاني (يناير) 2018،https://bit.ly/3rJ46D7
صمم المقاطعة وأشرف على بنائها المهندس وضابط الشرطة البريطاني تشارلز تيجارت Charles Tegart. وقد استقدمه البريطانيون من الهند نظرا لخبراته في بناء قلاع أمنية ضد حركات المقاومة. ودرس فلسطين وجغرافيتها واقترح بناء عشرات القلاع العسكرية فيها خاصة في المناطق الحدودية مع سورية ولبنان، ومن ضمن تلك القلاع المبنى الذي في رام الله وصار يُسمى المُقاطعة. وكان تيجارت وراء بناء «مراكز التحقيق العربية» التي كانت عمليا مراكز تعذيب للمقاومين الفلسطينيين وانتزاع معلومات منهم. انظر:
Richard Cahill, ‘Sir Charles Tegart: The “Counterterrorism Expert” in Palestine,’ Jerusalem Quarterly, No. 74, Summer 2018, pp. 57-66.