تقديم وترجمة: خالد النجار
صورة جانبية غير مكتملة
بيتور من آخر الكتَّاب الذين يمتلكون ثقافة إنسانية ورؤية شاملة للعالم. كاتب متعدد الشواغل، هو من تلك الأرومة من الكتَّاب والفنانين الذين بزغوا منذ عصر النهضة الأوروبي في القرن الرابع عشر. الأرومة التي تكاد تختفي اليوم والتي اصطلح عليها بالكتَّاب الموسوعيين أو البوليغراف POLYGRAPHES المتعدد الكتابة. مارس بيتور أشكالا مختلفة من الكتابة الشعرية والنثرية. فهو شاعر، وروائي وكاتب نثر تجريبي. وله نصوص في أدب الرحلة ما أطلق عليه عبقرية المكان، وهو مفكر، ومترجم وكاتب مقالات تنظيرية، وناقد فني وأستاذ في الجامعات الفرنسية والسويسرية والأمريكية. نتاجه شديد الغنى، ظل يكتب على امتداد أكثر من سبعين سنة، صاحب تجارب الرسم الحديث في فرنسا وخارجها كما مارس التشكيل: فن اللصق حتى في رسائله الخاصة التي يرسلها إلى أصدقائه.
بيتور يتنزل في تقليد غربي منذ كتَّاب عصر النهضة إلى غوته وكافافي وبول فاليري وجورج لويس بورخيس… هكذا كان بيتور منذ بداياته الأولى، فقد نشأ ضمن التقليد الثقافي الكلاسيكي، قبل طغيان الاختصاص صديقه الفيلسوف الفرنسي جون فرنسوا ليوتار، التقاه مبكرا، اذ كان زميلا له في الدراسة واستمرت صداقتهما على مدى الأيام؛ يتذكر ليوتار صديقه الشاب ميشال بيتور يقول: قرأ بيتور كثيرا، وله معرفة كبيرة بالشعر والرسم والموسيقى وكان بالنتيجة لكل ذلك متفوقا على بقية أقرانه.
وهو بالنظر لكل هذا ليس ذاك الروائي المحترف الذي نراه اليوم يغزو العالم، والذي يقف عالمه داخل حدود الرواية كما لو كانت الكتابة الروائية جسدا مغلقا، منفصلا عن المعرفة الإنسانية الشاملة.
***
ولد ميشال بيتور عام 1926، ارتبط اسمه بحركة “الرواية الفرنسية الجديدة”. وأنت لا تستطيع الإحاطة بهذا الكاتب لغزارة إنتاجه، ومن الصعب بل الاستحالة وضع ملخص يشمل كل أعماله؛ يشمل حوالي المائة عنوان، من الممكن أن تشير إلى مساراته الكبرى، أما أن تختزل حقبة من الكتابة تمتد من سنة 1944 ولم تنته سوى يوم انطفأ سنة 2016 فذاك أمر صعب لأن في هذه الحياة من الكتابة ثمة حيوات كثيرة أخرى.
كان ميشيل بيتور قد نشر في عام 1945 مقالًا احتفائيا بالرسام ماكس إرنست، بمناسبة معرض أقامه بالضفة اليسرى بباريس، وفي عام 1948 نشر نصا عن جيمس جويس بعنوان “أرخبيل جويس”، الذي يظهر تأثره به في روايته عبور من ميلانو التي تحكي في اثني عشر فصلًا أحداث اثنتي عشرة ساعة من حياة سكان إحدى العمارات الباريسية، من الطابق الأرضي حيث الحراس إلى السطوح حيث مشغل الرسام مارتن دي فير، وتنتهي بالحفلة التي أقيمت للفتاة أنجيل فارتيغ بمناسبة بلوغها العشرين. والمقارنة صارخة هنا مع إطار زمن رواية جيمس جويس يوليسيس التي تدور أحداثها في يوم واحد، ورواية بيتور التي تدور أحداثها في اثنتي عشرة ساعة.
عام 1957، حصل على جائزة Renaudot رونودو عن رواية التحوير La Modification التي منحته صيتا مكنه لاحقا من نشر نصوص جريئة ومبتكرة بل مثيرة للجدل من حيث بنيتها التجريبية…
شكلت التحوير قطيعة جذرية، وحدا فاصلا بين الرواية الفرنسية التقليدية والسرد الجديد الذي مثله فيما بعد آلان روب غرييه ونتالي ساروت وكلود سيمون. والمفارقة أن بيتور الذي ارتبط اسمه بالرواية الجديدة كان لدى ظهور هذا التيار قد أنجز أعماله الروائية الأربع؛ هجر الرواية وانتقل إلى كتابة أخرى وأصدر كتابه حركة أو تجوال Mobile، والذي يفجر الشكل الروائي، كما يعد هذا الكتاب استقصاء شعريا. أجل ارتبط اسم بيتور بالرواية الجديدة ولكنه لم يشارك ولم يلتحق مطلقا بأي من الجماعات الأدبية. ظل محافظا باستمرار على مسافة من الآخرين، قبلها تردد على أندري بروتون ولكنه لم ينتمِ لجماعة السرياليين، كما تردد على الرسامين السرياليين، وكان الوحيد بين أبناء جيله من حصل على تكريم جون بول سارتر، رغم رفض سارتر لتيار الرواية الجديدة.
الأدب التجريبي
كما لبيتور نصوص وتأملات حول الأدب التجريبي الذي ازدهر في حقبة الستينيات، هو نفسه مارس التجريب بواسطة اللغة، كان يقول: الشعراء هم البحّاثة، وتِقَنيُّو اللغة. وأنا وإذ أشتغل على اللغة، ومن خلال عملي على اللغة، يمكنني تغيير العالم بشكل أفضل. كما يعرّف هذه الكتابة بقوله: عندما أكتب أريد ممارسة الرسم والموسيقى في نفس الوقت وهذا ينتج أدبا.
بدأت نصوصه التجريبية بإصدار الجوال: دراسة لتمثل الولايات المتحدة، باريس، غاليمار 1962، علق أحد النقاد على هذا الكتاب بقوله:
نص جريء كما تتنفس هواء 50 ولاية أمريكية” من مدينة إلى مدينة، من الحدود إلى الحدود، من ساحل المحيط الأطلسي إلى ساحل المحيط الهادئ! ذكر مئات الأنهار ومئات الطيور ومئات الأصوات! أجناس من الأوروبيين إلى الهنود إلى السود.
أن تعيش اليوم مع عائلتك المتعة والمغامرة ودراما أمريكا الماضي والحاضر والمستقبل.
كتاب تجوال وليمة كبرى من الإثارة والمفاجآت!”.
بعد تجوال نشر كتاب الشبكة الجوية سنة 1962، ثم بورتريه الفنان في صورة قرد صغير 1967، تليها سلسلة عبقرية المكان في خمسة كتب، وكتاب مسألة الأحلام في خمسة كتب كذلك، وآخرها نص كتاب بعنوان: أين هي خرائب الماضي، وقد صدر عن دار فاتا مورغانا.
وامتد تأثير أدب بيتور التجريبي إلى المستعمرات الفرنسية. الكاتب التونسي عزالدين المدني التقط هذه المقولة في الستينيات عندما كانت الثقافة التونسية وكذلك النخبة السياسية التونسية مستلبة بالكامل، واقعة تحت ما يسميه الفيلسوف الألماني أوزفالد اشبنغلر بالتشكل الكاذب (راجع كتابه تدهور الحضارة الغربية)، كانت الكتابات التونسية صدى للنص الفرنسي أكثر مما تعبر عن حقيقة وحركة المجتمع التونسي. ووضع عزالدين المدني كتابا صغيرا بعنوان الأدب التجريبي، كما كتب نصا تجريبيا خليطا من العامية التونسية والمهجور من لغة العرب القديمة بعنوان “الإنسان الصفر” أثار جدلا لدى صدوره آخر الستينيات… نص اعتمد فيه اللغة كأصوات ومرادفات وإيقاعات كعناصر أساسية في بناء السرد.
طبعا كانت هناك استثناءات لهذا التوجه الثقافي الكولونيالي: نصوص بشير خريف وكذلك نخبة تونسية من الكتاب القادمين من الزيتونة من أهم ممثليها حسن نصر ومحمد صالح الجابري كان جميعهم امتدادا لنص علي الدوعاجي.
الكتابة
والكتابة لدى بيتور ضرورة كيانية وجودية، شكل من الكوجيتو كما لو كان يقول: أنا أكتب إذن فأنا موجود، وعن دور الكتابة في حياته: من الضروري أن أكتب كتابا، سيكون ذلك السبيل الوحيد بالنسبة لي لملء الفراغ الذي اتسع وليس لي خيار آخر غيره…
والكتابة لدى بيتور تختلف عن الأدب، يقول: الكتابة لدي هي فعل الكتابة وليس ممارسة الأدب L’écriture dans le sens “acte d’écriture” plutôt que de littérature بهذا الفهم ثور السرد الفرنسي الذي لم يواكب تطور مفهوم الكتابة في العالم الغربي وبخاصة عالم الرواية الإنكليزية. وقد ظلت الكتابة الروائية في فرنسا بالمقارنة متأخرة عن الإنجاز الذي تم في العالم الأنجلوسكسوني. تأخرت من جراء سطوة النظام الأكاديمي الفرنسي الذي انتقده ميشال فوكو في حديثه عن أنظمة المراقبة والسجن والمدرسة التي هي في جوهرها أرقى أشكال المراقبة والتأطير؛ وظلت الثقافة في فرنسا أسيرة المؤسسة التعليمية. وما امتاز به بيتور أنه اكتشف جيمس جويس مبكرا وخرج عن الطوق…
عن الرواية يقول: في العمل الروائي ما يقال لنا باستمرار هو أيضا ما يرويه شخص ما لنفسه ولنا في الآن.
كما لبيتور نصوص في أدب الرحلة أو ما يسميه عبقرية المكان:
مارس الكولاج حتى في رسائله ولدي بعض من تلك الرسائل المكتوبة على ورق ملون ذي أشكال هندسية؛ ورق في شكل مربعات ومثلثات غير متوازية الأضلاع، مشدود باللصق.
كانت رسائله تأتيني أيام أصدرت كتاب الأسئلة غير الدوري، ودعوته أن يساهم بنصوصه.
أتذكر رسالته الأولى، كتب لي : أعتقد أنه آن الوقت لتصدر هذا الكتاب غير الدوري، وفهمت؛ لأن بيتور يعتقد أن الفكرة إذا ما خطرت على بال الإنسان فلابد أن لها مبررها في الواقع، وأنها ضرورة.
وأرسل لي نصين صدرا في العدد الأول من كتاب الأسئلة. كان النص الأول بعنوان هواجس والثاني بعنوان أجندة. كان لوران غسبار هو الذي عرفني بميشال بيتور لدى زيارته إلى تونس حيث قضينا يوما معا زرنا فيه مدينة القيروان ومتحفها حيث المخطوطات الأغلبية والفاطمية المكتوبة على الأردية والرق وعلى بعض الأواني النحاسية. رأيته مأخوذا بهذه الكتابات أكثر من أي شيء آخر، كان يلتفت إليّ من حين لآخر ليعبر بابتسامة خفيفة وكلمة عن مدى إعجابه بالخط الكوفي والمغربي. وتذكرت حسن حسني عبد الوهاب الذي جمع كل عاديات وآثار الحقبة الإسلامية التي لم يكن المؤرخ الفرنسي يوليها أي اهتمام إلا فيما ندر.
***
ملمح آخر لبيتور هو تداخل النصوص مع الجغرافيا، كتب أحد النقاد يقول: ميشيل بيتور محاور مثير للاهتمام لاستكشاف العلاقات بين الجغرافيا والأدب بطريقة معاصرة. في الواقع، هو رحالة عظيم وراصد كبير للعالم، لديه حساسية جغرافية حقيقية وجزء من هذه الثقافة الجغرافية تجلي في كتاباته. الجغرافيا هي ثابت حقيقي لعمله: “ثابت آخر لهذا العمل الشعري، الجغرافيا.
على هذا الترحل والسفر أن يكون تحررا وتجديدا للحيوية وتطهيرا كبيرا لجسدك وعقلك. ألا يجب أن تحس بالفعل بفوائده وبالبهجة التي يبعثها في أعماقك؟
هذا النص الشعري التجريبي “دارة الأمير” هو إعادة تركيب شعري لإقطاعية فرعونية بأميرها ورهبانها وخبازيها وفلاحيها وبحارتها على النيل ومستكشفيها الذين ذهبوا إلى بلاد ما وراء البحر، وكتبة النصوص الدينية المقدسة والسرية وطواحينها وأنواع نباتها ومحاصيلها، وصناعاتها وتقاليدها السياسية والدينية؛ نص، هو إيغال شعري لواقع متخيل مليء بالمفاجآت الرائعة التي تأخذك بعيدا…
1 – كبير الخبازين
أروز السنابل في الحقول
على امتداد المياه
وأراقب المحاصيل
ونقلها إلى الأهراء
وفي الطواحين وبلطف
أتلمس الدقيق بين أصابعي
لأختبر دقته بنعومة
ومدى بياضه
ونكهته المحتملة
أوزع على الخابزات
اللواتي أختارهن بنفسي لحذقهن
الأكياس التي أفتحها بيدي
وأراقبهن وهن يخلطن
الخميرة بالعجين مسويات
أقراص خبز، وأرغفة
تتذهب في أفران
أوقدها الفحامون
تحمر وتنضج
بالضبط ساعة الغذاء.
2 – الساقي الكبير
سأدرس غراسة الكروم
حتى في أبعد الأقاليم
وسأستقدم بالمراكب
دوالي سوف تغرس
لتظلل أغصانها
المماشي والعرائش
الغرف والباحات
حيث نتنشق روائح العناقيد
الملفوفة في الشباك
لصونها من الطيور النهمة
أعلم مساعدي
تنظيف التلاع من الأعشاب
تشذيب الاشجار
والسقاية كل صباح
تسريح القنوات
ومراقبة أوان الإزهار
والنمو والاستواء
وجني الحب
واختبار مذاقه
مع حفظ البذور
لبذرها في الأصص
وإذ يقترب الاعتدال الخريفي
في سبتمبر فهو أوان
الطواف على المستنقعات
للعثور على الخوص
التي ستجدل بها
القفاف والسلال
حيث تكوم العناقيد
لتودع
في براميل بيت المؤن
حيث ستتخمر
ثم يجيء مزارعو النبيذ وهم حفاة
ويشرعون في الدعك بأقدامهم
بكل قواهم لاستخراج عصير العنب
تستحثهم ترانيم
نسائهم المنشدات
فلا تلبث أن تتصاعد الأبخرة
وهي مسكرة
بحيث تصير حركاتهم
رقصات حسية
بينما الليل يخيم
فيهبون إلى نسائهم
وفي صباح الغداة
بعناء يستيقظون
أفكارهم مشوشة
بأضغاث الأحلام
ومترنحين قليلا
يحملون الجرار الكبيرة
حيث يسكبون العصير المحول
الذي أذيقهم
وقبل وضع رسم الموافقة
الخاص بتلك السنة
لأتحقق من النبيذ
الذي سوف أقدمه
أثناء الولائم والشعائر
حتى يتناول مع الخبز
ومع اللحوم، والخضر والفواكه
وعندما يتعتق جيدا
يدرج حسب الأصول المرعية
في أقبية تمتد على مدى النظر.
3 – كبير البساتنة
كل سنة وبعد الفيضان
أعيد تخطيط السواقي
لأتمكن من إجادة ري
الأرض التي تجف ببطء
حيث سنغرس
النباتات الأكثر تنوعا
محافظين على سقاية
الأحواض المخصصة
لشجر الزيتون والتفاح
والنخيل والتين والرمان
هنا، هاهي الزهور
التي تزين في المساء
نواضر زوجاتنا
والتي نستقطر منها
العطور التي سنهديها لهن
في زجاجات صغيرة جدا
وفي تلك الناحية أحواض السمك
حيث نرقب الشبوط
والسلور وهو يكبر
إلى أن يحين صيده
وأبعد بقليل هناك المستنقعات
حيث يتوارى البط
والمراعي حيث
تلد الخرفان
وهي التي نعود بها عند الغروب
إلى حظائرها الأمينة
مراعٍ نحصد منها الأعلاف
لتسمين الثيران
والأبقار في زرائبها
والخيول في اسطبلاتها
وفي هذه االناحية ثمة الأقفاص
التي تحفظ فيها الطيور
والوحوش والحيات
المستقدمة من بلاد بعيدة
والتي غالبا ما تهلك
لأننا لا نعرف بالضبط
تدبير طعامها
بيد أن بعضها يتوطن
وعندما يتكاثر
نبحث إن كان مستساغًا أكلها
ولأنني لست جنائنيا فقط
بل طاهٍ
لدي فريق بأكمله
لمعالجة النيران
قرب أفران الخبز
وهم حطّابوي
الذين يزودونني بحزم الأخشاب
ونساؤهم ينظفن ويقشرن
ويقطعن قطعا صغيرة
ثم تغلى أو تشوى
بيد أنه أنا بمفردي الذي يقرر
ما يجدر جنيه
وأي حيوان ينحر
ويقصب ويقطع
وكيف يجب أن يطبخ
أنا الذي يصنف وجبات الطعام
كما أرسم وأعتني
بأحواض زرعي وأبراج طيوري
في الأيك والمماثي
للترويح على النفس.
4 – كبير الخياطين
أهيب بالبستاني
أن يزرع لي البردي
وآمر بجز صوف القطعان
ثم حلجه وفتله ونسجه
وأصبغه أحيانا
في ورشي الكثيرة
وآمر بجمع ريش كل
هذه الطيور والجلود
التي يسلخها القصابون
إنها مئات الفوط
التي يجب قصها ورفي حواشيها
وتنظيفها، وتجفيفها، وتنضيدها
كذلك الأردية الشفافة
التي يجب أن تطوى بإتقان
لأجل الحفلات
كذلك المسوح والبرانس
ولأوقات البرد
الشالات والبراطيش
التي يتدثر بها
في بعض الشعائر الخاصة
أو لأجل بعض النزوات
لابد من جلد ظباء
رقيق كأفواف الزهر
محزز
إلى خيوط الرمل الناعمة
تداعب البشرة كالأنفاس
وإن لم يكن فجلد وحوش
بوبرها ومخالبها
بلبدها وأسنانها
أو ريش طائر بأكمله
لبازي أو نسر أو أبو منجل
يوضع على الرأس
لتقبل وحي الآلهة
الرهيبة أو الرحيمة
التي تحوم على تخوم
أعمالنا
على صلاتنا وبؤسنا
لتؤثرنا بأجنحتها
حتى نبصر العالم مثلها
وإذ نزين النسيج
برسوم وتطريزات
أوعز إلى الصاغة
أن يخلدوا ريش الرأس هذا
بصفائح ذهب مطلية بالمينا
والعيون التي في الريش
توشى ببلور حجري
وللحلية اليومية
أطلب من الخزافين
ومن المعدنين والزجاجين
جواهر للأقراط
ولابد أيضا من نعال
وأخفاف وجزم
لحفظ أقدامنا من الحصى ولسع العقارب.
ولا بد لنا أيضا من مظلات ريش
تحمي رؤوسنا من ضربة الشمس
ومراوح ومنشَّات
فالصناع الذين أشغلهم
يملؤون حيًا بأكمله
من قريتنا الكبيرة.
5 – كبير حفظة الوثائق
ونجني أوراق البردي
لنستخلص منها ليفها
ثم نخلطه
بدقة وإلصاقه
لتدوين الصلوات وكتابة المراسم.
وللحياة اليومية
تكفينا ألواح الخشب
وللواجبات المدرسية
نستعمل قطع الفخار
وهكذا أجعل أطفال المدارس
يستنسخون
الأناشيد، والحكايات سيما تعاليم
كتبة الماضي الكبار
الذين أثبتوا إلى أي حد
هي ضامنة للمستقبل
هذه المهنة
وهي الوسيلة الوحيدة للترقي
عندما لا يكون الإنسان
وريث إحدى العائلات الكبيرة
نسجل الحقول
حيث بذرنا القمح
ونقيد حزم الحصاد
ومقدار المكاييل التي في الأهراء
وكمية الخبز
التي يوفرها الخبازون
وعدد الدوالي في كل فدان
وكمية الجرار المختومة
التي تحت أنظار الساقي الكبير
نحن نعرف أكثر بكثير
من كبير البساتنة
محصول جني
العام الفارط
ومقدار إنتاج قفير النحل
وحجم الأقمشة
من كتان وصوف ووبر
المستعملة
في الفرش وفي الخزائن
أو في غرف الغسيل
وعندما نتجول
وسط لفافاتنا
وألواحنا وشقف الفخار
فنحن كما لو أننا
نطوف بكامل ضيعتنا
وبفضل العلامات التي نضعها
لكل شيء يمر تحت أيدينا
يكفي أن نقوم ببعض العمليات الحسابية
لنعرف الأشياء التي علينا تحسينها
وإذا ما رغب أحد الأمراء
أن يتعرف على صلته الدموية
بالعائلة الملكية أو أي سلالة حاكمة
نكشف له
عن وثائق تسجيل الميلاد
التي تسمح بتتبع نسبه
حتى نصل إلى أسلافه القدامى
الذين نتمكن من تحديدهم
بفضل شبكة من الصداقات
وفي خفايا غرفنا
نرتب أيضا
قائمة الملوك
مع الاضطرابات الصعبة لانتقال الحكم
ساعين إلى إضافة
بعض الإيضاحات
عن الفترات الغامضة
حيث كل شيء يبدو مغمورا
كما أرادوا إخفاءه
وإذ يزورنا بعض الكهنة
لمباركة مولود جديد
أو إحدى الزيجات أو بصفة أخص
لإقامة شعائر الموتى
فيأذنون لنا بتدوين صلواتهم الأطول
مخافة نسيانها
وفي الليلة الموالية
نستنسخها ثانية لأنفسنا
وهكذا يمكننا في الحالات المستعجلة
أن نقوم مقامهم في إقامة الشعائر الرسمية
وفي انتظار أن يصلوا
نواجه الأمر المستعجل
وهذا لايقبلون به مطلقا لو علموا
بيد أنه لا داعي للخوف
إذ لا أحد يبلغ عنا
لأنهم في أوكد الحاجة إلينا
الأطباء أيضا
يطلبون المساعدة
الأمر الذي يتيح لنا
أن نتدخل قبلهم
بيد أنه لا وقت لنا
للبحث عن الخلطات
أو تحضير عقاقيرهم
فلدينا أشغال كثيرة
تتمثل في ترتيب الوثائق
وبالخصوص إعادة نسخها
وفي كل مرة يتوقف فيها
أحد المتنفذين عن التنفس
يسرع إليه المحنطون
بيد أن هؤلاء المتنفذين كانوا
في حياتهم يعرفون
– أن وراء البوابات المظلمة
ولعبور كل البرازخ
والسفر في عالم الأموات
بين الآلهة، والأبالسة –
أنه لابد من معرفة القواعد
وتهيئة الأجوبة
لأجل هذا يطلبون منا تزويدهم
بخرائط المسالك، وبالأدلة
لإنارة سبلهم في الفوضى السوداء
لعوالمهم السفلية
كما يطلبون منا أدعية غفرانية لتلاوتها
أمام سدنة العالم السفلي
من قضاة وزبانية
وهو مكان اطمئنان
وهكذا يمدوننا
يكاد على غير وعي منهم بحلول
لا أدري من أين
من أنبياء أو من أحلام أو من رؤى
أم من خرائب قبور
استبيحت إثر إغارات
البرابرة المتغلبين
الذين يأمروننا باستنساخ
نقوشها الرديئة
لتدعيم أرزاقهم
ويمكننا أن نكتب لأنفسنا
في صمت الليالي
وفي ضوء زجاجة
تحميها شقوف
أن نكتب تعاليم
على مزق أوراق البردي
لإحباط المكائد
بكل لطف
كي نتمكن من حضور
الولائم الأبدية.
6 – كبير البنائين
بفضل عمالي القائمين على الغابات
نجاريَّ وبنائيَّ
ونقاشي الحجارة والسباكين
أشيد طواحينَ وأفرانًا
للخبازين
وبيوت مؤن ومعامل
يحتاجها الخمار
وزرائب واسطبلات
أبراج حمام وأهراء
لحاجيات البستاني
وورش الحياكة
والدباغة والرتق
والغسيل والتنضيد
لإبداعات كبير الخياطين
وخزائن مبنية لحفظ وثائق
المدونين الكتبة وتلامذتهم
ومجموع الكتاب
المستهلكين للمداد والبرديات
ومن حولها بيوت العائلات
التي تموج بالحركة
وعلينا أيضا
صيانة القصور الموروثة
والحفاظ كل يوم
على فخامتها التي تبلى
مع مرور الزمن
والتي يجب ترميمها
بكفاءة ويقنها توسيعها وتحسينها
بتحديد أعمدتها
وبلاطها ودهانها
وفي الباحة أقمت
بركة مستطيلة
حيث رتبت نباتات
انتقيتها من المستنقعات
مع أجمل الأسماك
التي تتلاعب في المياه الجارية
وهاهي مرسومة في فسيفساء
القاعة الكبيرة مع بقية القرية
فوق الجدران الأربعة
وثمة أيضا صور سواحل وصوارٍ
وقصور أخرى من نفس الحي
وذؤابات أشجار
وعمد معابد
أمام الجبال البحرية
وفي قاعات أخرى وددت أن أترك صورا
للقرية والمدينة والمشهد العام
كما كان قبل هذه التغييرات
ولا ننسى السجون
حيث وجب أن يقبع
شاب عبراني
عثر عليه في الصحراء
وبيع كمملوك
لخدمة زوجة أحد أكابر الوزراء
وقد سجن ظلما
إثر إحدى الوشايات
فصار يفسر أحلام
القُوَّاد المعتقلين
وعملي لا يقتصر
على بناء ملاذ الأحياء
التي يجب ترميمها وتقويتها باستمرار
ولأنهم يهتمون بأمواتهم
علي أن أهيئ لهم
حجرات العبور
حيث تظل أجسامهم
مضغوطة في تلك الأقمطة
حين تسافر الروح
حذو قبور الملوك
الضخمة عليّ
أن أحفر مآوي كفخاخ
لتضليل اللصوص
الذين يريدون أخذ الأثاث
والمصوغ، واللفائف
لبيعها أحيانا
ولكن وبالخصوص لاستعمالها
في قبورهم البائسة
للاحتيال على البقاء.
7 – الأميرال الكبير
فوق الرصيف على امتداد النيل
آمر بصنع سفن
وقوارب صغيرة كثيرة
لنقل المواد
من أخشاب وحجارة وتربة
وبصنع قوارب أخرى أكبر
لحمل الأمراء لحفلات أمراء آخرين
ولإقامة شعائر
لأجل الآلهة الأكثر تبجيلا
لهذه القوارب نضع أشرعة كبيرة
وقمرة مغلقة
بأستار تتموج
حسب حركة سواعد المجدفين
وأهازيج المغنيات
المصحوبة بعزف القيثار
والمزمار والطبلة
وسلال ثمار ناضجة
وكتبة لتدوين
أحداث اليوم
وسفن أكبر
تستخدم للبعثات البحرية
أقودها منزلقة
عبر فروع الدلتا
حتى البحر الخطر
مالئا ناظريَّ
بمشاهد الحدائق والقصور
وبزينة نسائنا
مدركا أني بعد وقت قصير
سأرى أشياء أخرى
وأنا أبحر على امتداد الشواطئ الوحشية
ذهبت إلى لوبيا
وإلى سوريا وحتى إلى إقليم كاريا
رأيت أقواما غريبة
وعدت بأقمشة
وريش وأسفاط
وثمار أذنت بطهيها
في العسل لتصبيرها
ولأطلعهم لدى عودتي
على غرابة مذاقها
وعندما صعدنا
إلى الشلالات الصخرية الأولى
بلفات من الخشب
وبجهد يفوق طاقة البشر
تمكنا من الاجتياز بسفينتنا
إلى ما وراء
هذا الحاجز العملاق
من مياه غاضبة
كما لو أنني كنت بصدد استباحة
حد مقدس
بيد أني أعلم أن بدوًا
وقوافلَ تأتي
عبر هذه المضائق
حاملة إلى مدائننا
السلع الجنوبية الأصيلة
من عاج وأصداف
وتوابل وقرون وبذور
وبلورات مضيئة
لدينا منها في الضيعة
أشباه مثيرة
وقد واصلنا
صعودنا التيار
وشاهدنا قرى
وأسلحة النوبيين
الذين كانوا يردون علينا
ليتفحصوا
كل جزئيات السفينة
بعضهم يتكلم لساننا
ونتخذهم مترجمين
كما في رحلات الشمال
وبعضهم يعرف أيضا القراءة
واعترضَنا شلال صخري آخر
سد علينا الطريق
ويذكر النوتية الجهود
التي تطلبتهم لعبور
الشلال الأول
وشاهدوا السفينة
تتلف بسرعة
وهم لا يجدون خشبا
لإصلاح تشققاتها
ولم أستطع أن أفعل لهم شيئا
بيد أننا جلبنا معنا
كثيرا من التبر وقناطر الذهب
مما حداهم بتكليفي
ببعثة جديدة
وستكون أسطولا تاما
ببحارته ونجاريه
ووفرة من القناطر
واحتياط كبير من الحبال
وبطبيعة الحال مع كتبة مدونين
وقد أردت فيما مضى ارتياد بحر آخر
أزرق ولكن يسمونه أحمر
بسبب مرجانه
وفي ترسانة الضيعة
صنعنا
كل قطع السفينة
التي نقلناها من واحة لأخرى
حتى نجمعها على الضفة
والتقينا في سفرنا
بسفن مختلفة عن بعضها
كان بحارتها يحكون لنا
بواسطة المترجمين
عن أسفار لا تنتهي
إلى بلاد قصية
حتى إننا لم نكن نعرف هل كانت
جزائر وأقاليم الموتى
فوق سطح الأرض
أم تحتها
وعدت باللبان
وبالرغبة في البحث
إن كان في الأقاصي وعلى ضفاف بحر آخر
غرب بلاد اللوبيين
ينتصب ذياك العمودان
اللذان يحكى عنهما بإعحاب
وإن كان ثمة وراءهما برازخ مياه أخرى
تهدر ويمكن اجتيازها
للعثور على عوالم جديدة
بين الأحياء أو الموتى.