مبكراً ، اشتبك الشاعر والكاتب خيري منصور (1945 ـ 2018 ) مع إحساس باهظ بلعنة تحوم في الأجواء من حوله أنّى أقام وأنى ارتحل، لعنة تبث سمومها الخفية الى قرارة النفس، والى تقلبات المزاج وأحوال البدن . وكان لحساسيته الفائقة ولثقافته الواسعة ان رفدتا ذلك الهاجس الوجودي الذي رافقه، والذي امتزج مع شعور عميق ومرير بالخسران الدائم، فقد خسر منذ البدء قريته الوادعة دير الغصون بمفارقته للطفولة والصبا، ثم بوقوع تلك القرية وبلاد التين والزيتون، بلاده، كلها ، تحت نير الاحتلال الصهيوني . ومما يورده في كتابه الشيق «صبي الأسرار» وهو كتاب في السيرة الذاتية ( وزارة الثقافة الاردنية 1993 ) ان أمطارا غزيرة طال امدها شكّلت سيولا هائلة في قريته وأغرقت ثلاثين رجلا وامرأة بينهم عريس وعروسته، وأن تلك الذكرى القاسية انطبعت في ذاكرته وصاحبته مدى حياته، وجعلته يمقت فصل الشتاء وهطول الأمطار، وذلك خلافا للصورة العامة التي تقرن المطر بتجدد الحياة أو بكلمة « خير» التي يرددها اهل بلده لدى استقبال الهطل المدرار. وتتمثل اللعنة بعدئذ انه بات محروما من زيارة مسقط رأسه رغم الذكريات القاتمة التي تختزنها ذاكرته عن قريته ،التي فقدها كما فقد ابناء شعبه آلاف القرى والبلدات والمدن التي استولى عليها «احفاد ضحايا المحرقة النازية» واقتلعوا ابناءها.
والاحساس الدائم بالفقدان هو أحد اذرع اللعنة التي حاقت به، كما بسواه من مبدعين مطرودين من نعمة الراحة وجنة الطمأنينة ولا سبيل لاستعادة تلك النعمة ،او العثور على بوابة تلك الجنة الأرضية. وهو ما يفسر ولو جزئيا نبرة الغضب التي اعترت مزاجه، واتشحت بها مقالاته على مدى ربع قرن تقريبا بدءاً من العام 1992 في عديد من صحف العواصم العربية. من دون ان يكون باعثه ذاتيا محضا، فقد امتلك خيري منصور انشغالا حميما بالشأن العربي العام، وأفقاً قومياً للتفكير والتنظير، وقناعات قومية راسخة لكن بغير ادلجة ظاهرة على الأقل، وبدون انتساب او حتى قربى فكرية الى مدرسة سياسية أو حزبية، وقد نجح خلال اقامته في العراق منذ اواسط سبعينات القرن الماضي الى ما قبيل سقوط بغداد، في ان ينجو من غوايات السلطة وإكراهاتها. وساعده على ذلك ما يبدو عليه من خارجه من نزعة مثقفة نخبوية ومتخصصة تجعله بمنأى عن التحزب والسياسة اليومية، وهو ما ظفر به قبل ذلك مواطنه جبرا ابراهيم جبرا الذي ظل بمنآى عن التجاذبات السياسية وتضارب رياحها في بلاد الرافدين حيث أقام على مدى اربعة عقود تقريبا. ويروي عنه احد اصدقائه( محمد كعوش «الرأي» الاردنية 19 سبتمبر ) انه بكى حين توفي الرئيس جمال عبدالناصر، كما بكى حين سقطت عاصمة المأمون. وذلك من جملة اربع مرات استسلم فيها خلال حياته لغريزة البكاء. وبهذا فإن بكاء الرجل اقترن بتطورات عربية، خارج وطنه الأم وأحوال عشيرته.
من المقاطع الدالة على الشعور الفادح باللعنة، تلك التي استهل بها قصيدته «قبل الأوان « في ديوان «لا مراثي للنائم الجميل»:
سوف أوقن يوماً بأن الذي
ضاعَ .. ضيعْتُهُ للأبدْ
وسأوقن حتماً بأني أخطأت باب الدخول
فالشكوك القديمة كانت كفيض الجسدْ
والتردد .. كان ابتداء القبول
كان حبلاً يحزّ الخطى .. من مَسَدْ
يعترف الشاعر بسطوة «الشكوك» عليه، بجنوحه الى «التردد» قبل الجهر بالقول، واعداً نفسه بأنه سوف يوقن من ذلك ذات يوم، فالشاعر هنا التزاماً بداعي الصدق حتى أقصاه، يبدو متردداً في الاعتراف بتردده! رغم ثقته ان الشكوك هي زاد المبدعين والمفكرين ، بل هي بعض من جبلتهم ونسيج ارواحهم، ومن الطبيعي ان تقود الشكوك الى التردد، فالمبدعون لا يجنحون الى ترديد الأجوبة وبخاصة الجاهزة منها. وفي اعتصامه بالتأمّل سعى خيري منذ بواكير حياته لأن يجترح ذات نفسه، بعيدا عن التنميط والقولبة العامة ، وإن ادّى ذلك الى دفع اثمان اجتماعية وهو ما يروي بعضه في كتابه «صبي الأسرار»، فقد دفع مبكرا ثمن لجوئه الى التأمل ، بالاحساس المرير بالاختلاف الذي يحرمه من هناءة الحياة الخفيفة واليسيرة. وقد ظلت مثل هذه المشاعر العميقة تلازمه في الحل والترحال، وهو الذي طاف مقيما بين دير الغصون وعمّان والقاهرة والكويت وبغداد. وما كان للاستقرار المعيشي والوظيفي ولا حتى لـ» النجاحات» ان تحد من مفعول تلك الهواجس، بل إنها قد زادت منها، ومن يقرأ مقالاته المفعمة بالنقمة والهجاء والتي تستبطن التأمل، والتقاط مظاهر الأعطاب والخراب في أحوال الأمة والبُلدان والمجتمعات، يلمس مدى خيبته من الشأن العام والمجتمعي ومن أداء النُّخب، بما غذّى لديه حال السويداء التي رافقته منذ سني صباه ويفاعته مثل ظله، وهو ما عبّر عنه بكلمات تنضح بالمرارة وبالجدّة التعبيرية، في شهادة ابداعية له: «نحن جيل لم يولد حتى هذا المساء بما يكفي لأن يصبح ابناً أو حفيداً لأحد. إننا نبتكر آباء من هذا اليُتم المزمن، وأحياناً نبتكر أمهات من نشارة الخشب، أو سلاف الزيتون». هذا رغم ان خيري لم ينشأ يتيم الوالدين او أحدهما. لكنه فارقهما في مقتبل شبابه لدى التحاقه بالدراسة الجامعية. غير انه يتحدث عن يُتم مركّب، يلازم صاحبه حتى وهو ينعم بالدفء العائلي، بجوار أحد الوالدين أو كليهما، والذي لا ينبثق من فراغ عائلي او عاطفي، بل من مكابدة النفس ازاء اشواق حرّى نحو الغامض المستتر، ومن فقْدٍ واضحِ ومبهم، وعاطفة مكتومة نحو حياة محلوم بها ومتخيلة، يتعذر استحضارها ويتعسر استجلاؤها.. لهذا يواكب الموتُ الحياة ،ويختلط بها في دخيلة الشاعر، كما يختلط إهاب النساء بالرجال في دوامة تراجيدية، وينوء الشاعر بحمله الثقيل: « ثقيل حِملنا/ التوابيت مرصّعة وموتانا نائمون/ اودعتنا النساء أجنّتهن، والأرض أثقالها»( قصيدة «مهلك يا بحر» ، « الأقلام «العراقية اكتوبر 1982).
لخيري منصور تسعة إخوة أحدهم الشهيد نشأت الذي قضى في البقاع اللبناني في سبعينات القرن الماضي. كانت ولادة الإخوة سهلة ، ينزلق واحدهم من الأصابع على ما أحاطته به امه، وعلى ما يروي في» صبي الأسرار».» أما انت فكنت أشدك من الموت بيد، وهو يشدك باليد الأخرى».حتى ان أمّه لعارضٍ صحي لم ترضعه، وقد تولّت ذلك عائشة الغجرية « ان شيئا من الحليب البري قد تسرب الى دمك» هكذا صارحته أمه، وكانت تداعبه بـ»يا ابن الغجرية»..
واقع الحال ان تبعات الكارثة الفلسطينية إذ كانت أكثر ثقلا وأشد وطأة على المشردين في خيام اللجوء ( وهو ما يفسر انطلاق الثورة المعاصرة من المخيمات) ، فإن الثقل او الرزء كان مضاعفا على نفر من مبدعين يتمتعون بحس تأملي وجودي عميق، من أصحاب الأرواح المشردة، وخيري منصور احد ابرز هؤلاء، مما جعله ينوء تحت ضغط التشريد مرتين. مرة بصفته انساناً ذا وعي مرهف بكينونته وبشقاء المصير البشري الفردي، ومرة بانتسابه الى وطن وشعب تكالبت عليه الصهيونية ومن يوالونها. وهذا التشريد المزدوج ألقى بكلكله عليه، وقد تبادل مصدرا التشريد تغذية أحدهما الآخر، ومضاعفته في وعي الشاعر ولا وعيه. وهو ما برع في تجليته محمود درويش في قصائده الأخيرة وبالذات قصيدة « لاعب النرد» علما ان شعر درويش ازداد كثافة وشساعة مع بدء مزاوجته بين هواجس الكينونة الوطنية والوجودية منذ ديوانه «أحبك ولا احبك».
اما خيري فقد اجتمع رهانه على الكتابة ( مقالاتٍ وأبحاثاً) وعلى الشعر معا ،خلافاً لدرويش الذي أخلص الإخلاص كله للشعر، وانقطع اليه انقطاعا تاما. لهذا افتتن خيري الموزع بين النثر والشعر بدرويش ، غابطاً اياه على صنيعه الشعري الذي اوقف حياته وجُماع طاقته الإبداعية والروحية عليه، وبغير تردد. وقد نشأت بينهما صداقة وثيقة في السنوات العشر الأخيرة من حياة درويش التي اقام خلالها في عمّان. ولدى فوز خيري منصور بجائزة الصحافة العربية في حقل المقالة( 2005) ، وفي حفل تكريمي أقامته صحيفة «الدستور» فقد شارك درويش بتكريم منصور، وحيّا صديقه الكاتب المُحتفى به بكلمات عذبة « انك فنجان قهوتنا الأول.. لا نبدأ نهارنا إلا بك.. أحببناك وأدمنّاك، وكم تبدو تقليديا، يا خيري، وأنت تدافع عن حق العرب في الهواء والغنائية في الشعر، لكي لا أقول: عن فلسطينهم ووعيهم لذاتهم، وعن غد يؤجله حاضرهم إلى أجل غير مسمى، وتطرده تبعيتهم إلى زمن مائع، لا ماضيه يمضي، ولا مستقبله يلوح ولو من بعيد».
يا لمحطات الموت والفجيعة كيف تُسلّم واحدتها للتالية.فحين نعى الناعي محمود درويش، بكاه خيري منصور وكانت تلك هي المرة الثالثة في حياته التي يبكي فيها، وشد رحاله من القاهرة عائدا الى عمّان، وكتب مقالته القصيرة تحت وطأة الصدمة بعنوان «لكل منا محموده» وورد فيها «كانت زوجتي تدرك جيدا انني لن احتمل ذلك الرحيل وحيدا في القاهرة، فأعدت لي مفاجأة لعلها رد حاسم على الموت، ففي صبيحة اليوم التالي دق جرس الباب وجدت امامي حفيدتي التي عمرها شهور ولم ارها من قبل، وحين احتضنتها احسست انها تحملني، وتمنيت لو ان محمود حي لأقول له بأن حفيدتي هي جدّتي !». هكذا تتناسخ الأرواح ويتناسخ النسل وتتبادل المواقع في مرآة الشاعر الكاتب، فإذا الحفيدة جدة، وإذا بالجد حفيد.
ولأن لخيري أكثر من حفيد ولا يقتصرون على تلك الحفيدة الوليدة، ، فقد شاءت المصادفات ان يتفاجأ ذات يوم لدى عودته الى المنزل ،بعدد من هؤلاء وقد احتلوا في غمرة اللعب سريره وتمطوا على فراشه. اثار المشهد اعمق شجونه، وووجد نفسه ( وفق مقال كعوش ، سبقت الإشارة اليه) وقد اندس بينهم وغشيته نوبة من بكاء مرير، وكانت تلك هي المرة الرابعة والأخيرة التي بكى بها. ولعل خيري قد اصغى لحظتها، في دخيلته لهاتفٍ يهتف به، ان حياته في سبيلها الى الانقضاء، وان الحضور المشع لهؤلاء الأحفاد ، قرينُ على ذبول حياته وانطفائها، وان احتلالهم البريء لسريره، لتذكرةٌ له بأن الحياة برمتها لا سريره فحسب ، لم تعد تتسع له ولا تفسح له مكانا فيها.
وها إنه قد وجد له في نهاية المطاف، وهو الساهر الأبدي، متسعاً على سرير الأبدية ، «ولا مراثي للنائم الجميل»، لا مراثيً لخيري الجميل.
( رحل الكاتب والشاعر الفلسطيني/ الأردني خيري منصور عن دنيانا في الثامن عشر من سبتمبر / ايلول في عمّان عن 73 عاماً ،إثر مرض عضال لم يُمهله طويلا.
مؤلفاته الشعرية:»غزلان الدم» ، «مراثي للنائم الجميل» ، «ظلال» ، «التيه وخنجر يسرق البلاد» ، «الكتابة بالقدمين». « ثرثرة بيضاء « ، «نعاس أزلي» و «سيرة خاطفة».
في الدراسات والأبحاث: «الكف والمخرز»: «أبواب ومرايا: مقالات في حداثة الشعر»، و»تجارب في القراءة»، «الاستشراق والوعي السالب» ، « العصا والناي»، و»ثنائية الحياة والكتابة»).
محمود الريماوي *