لا ترغب بالرضى أبدا
فيما تدركه (…)،
بل فيما لا تدركه.
نشيد روحي.
سان خوان دي لا كروث
(1542-١٥٩١)
٭ ٭ ٭
مضاعفة معاني القصيدة أعلى من كل معانيها المحتملة ولو أن تلك المعاني كانت معطاة لنا فالقصيدة ستبقى كذلك على طبيعتها، على ما يشكلها في الواقع ألا وهو فتنة اللغز.
الكلمة الشعرية عليها أن تكون قبل كل شيء مدركة لا في معالجة المعنى، بل في فورية تجليها الفجائي.
القصيدة تعني هكذا أنها موضع الظهور البراق للكلمة.
الكلمة التي على هذه الحال تبدو إنما هي حبلى بالدلالة، تحوي المعنى كاحتمالية ولا محدودية.
٭ ٭ ٭
٭ Logos spermatikoi (١) بذرة المعنى، تماما
كما يفكر بها الرواقيون، حاملة بذور _spérmata _ العالم.
يئن اللوجوس كي يتجسد، اللوجوس هو الأنتروبوفيليا(٢) لما هو موجود بذاته.
(في النقطة التي تهجرك فيها القناعة توجد حدود إلهامك)
(هولدرلين، رسالة من الإقامة الأولى
في هامبورج 1800- ١٨٩٨).
٭ ٭ ٭
لا يتعلق الأمر بطول العمل أو قصره، ليس مهما أن تكتب كثيرا أو قليلا
ما يهم هو امتلاك اللطف أو موهبة #الوفرة المضبوطة» كما يرغب ليثاما ليما في #ابتهال تومائي»
من مقالات في هافانا.
٭ ٭ ٭
في الطاو، الحمل هو بالفعل ولادة الكائن البشري.
في التراث الصيني لا يحسب عمر الطفل بدءا من ولادته، بل من الحبل به.
القصيدة كذلك تولد مع بدء حمل طويل سابق فيما يمكن تسميته كتابة خارجية،
عش مع قصائدك قبل أن تكتبها، يقول كارلوس دورموند دي أندرادي بلغته الجميلة.
في الواقع القصيدة لا تُكتب، بله تنجلي لذلك اعتادت الظهور كالطفل الشيخ لاوتسو
الدي هجر رحم أمه لِي (اسمها الديني عذراء يشب البرق المظلم) عن واحد وثمانين عاما.
٭ ٭ ٭
التعديل ليس أبدا تعديلا لما هو جوهري. في مجرى الكتابة، الكلمة المختبرة تنوجد أو تنولد بنفسها. يكون التعديل فقط في إعادات الضبط التي تفرضها الكلمة الأساسية. المجرى الطويل الذي تتطلبه القصيدة كي توجد هو المجرى الغاطس أو بشكل جذري هو طي حبلها. القصيدة الحبلى هي القصيدة الطبيعية.
القصيدة زائدة التعديل هي منتج مصطنع، كحمل خارج الرحم.
٭ ٭ ٭
في الخزف الصيني، يعزل الإطار ما هو ممثل )فينيق، خفاش، سمك، تنين، غصن شجرة لوز
مختزله إلى وحدته الجوهرية. لوتس، شجرة لوز، وجه بشري في حالة تأمل، فوق ما هو أبيض، فوق الفراغ الجوهري.
٭ ٭ ٭
الكتابة مغامرة شخصية بامتياز.
لا تستوجب حكما بل لا تطلبه. يمكنها الولادة، تُولِّد أحيانا داخل آخر إرادة فعل، عاطفة داخلية. مغامرة شخصية أخرى
هذا هو كل شيء.
فقط سيصبح كاتبا عندما يبدأ بامتلاك علاقة لحمية مع الكلمات.
٭ ٭ ٭
غناء العصفور سائل كذلك الكلمة الشعرية تتعرف علي نفسها فقط في سيلانها.
٭ ٭ ٭
ليس الشعر فقط لا تواصل، فهو، قبل أي شيء أو قبل أن يمكنه بكثير أن يصبح تواصلا، لا تواصل.
شيء من أجل أن نجوس فيما هو خفي، من أجل إطلاق أشواك القنفذ والبقاء داخل حفرة دون أن يرانا أحد، من أجل إيجاد خلاء سري، من أجل أن نتوغل في غرفة مهجورة بابها يمكنه الإغلاق من الداخل دون أن يشتبه أحد في الخارج أن بابا يستتر في الحائط، من أجل البقاء هناك في الرحم الأمومي، آمنين ومختبئين، دون أن يظهر أحد، دون أن يخرجنا أحد إلى الضوء العمومي، عرايا وبلا دفاع، أن يخرجنا وأن يستعطفنا وأن يعيد علينا الابتهال اليومي الأصم، الابتهال المشئوم للموت.
٭ ٭ ٭
عندما، في الطريق نحو الكتابة، نستشعر إيقاعا، جملة استهلالية، إشارة، شيئا ما هو، دون شك، بالطبيعة موسيقي بشكل جذري، شيئا يحيل إلى العدد وإلى الهارمونية، تكون الكتابة قد بدأت تتشكل.
تتطلب الكتابة، قبل كل شيء، من السمع حدة عظيمة.
٭ ٭ ٭
الروح هي المجاز عن لامحدودية المادة.
٭ ٭ ٭
يُكْتَب عبر ستكانة، عبر اصغاء، عبر انتباه مفرط لجميع الحواس لما قد يمكن أن تقوله الكلمات.
٭ ٭ ٭
أن تخلق، باختصار، ما هو بالفعل أطلال، ديمومة، حجر مشروخ؛ أن تدخل ليس إلى الحاضر، بل مباشرة إلى الذاكرة.
جنيف، أغسطس 1992
مشهد بعصافير صفراء
من قلبك الغارق يصلني، كصوتك من قبل،
البخار المظلم للموت. سكّنّي معه. ولا حتى الموت
يمكنه أبدا انتزاعك مني.
في الساعة المحددة. لم تأت إلى الموعد. غائب أنت.
شكل أخير لرجائك الأعمى: التحليق المحطم للمساء
والانفجار في النهاية لظلال كثيرة.
على الرمل أرسم بأصابعي خطا مزدوجا لا ينتهي
كدلالة على الدوام الأبدي لهذا الحلم.
ببطء. من الجانب الآخر. بالكاد استطعت الآن أن أسمع صوتك.
في عيني يتزاحم الضوء الفجائي. كما لو أنك، فجأة،
تعود للحياة.
جسد لشخص مجهول. رَفْعُ جسدك
في المساء الغفل. لم تعد فيك أية علامة
تجعلك لنا.
لا الكلام ولا الصمت. لا شيء أفادني
كي تحيا أنت.
يبدو لي الآن كما لو أن المحبة بقيت معلقة.
ولم يكن كذلك. فقط أنت لن تعود أبدا.
مشهد غارق. دخلت إليك.دخلت إليك ببطء.
دخلت بقدم حافية ولم أجدك. ومع ذلك، كنت هناك. لم ترني.
لم تعد لدينا أية إيماءة يمكننا أن نقول بها حضورنا المتبادل.
نتلاقى هكذا، وحيدين، دون أن يرى أحدنا الآخر. عصافير صفراء.
شفافية مطلقة للتقارب.
مساء أخير. يميل الصوء شاحبا. أنا أنساب من الجرح
المفتوح في جانبي إلى النهر المتصلب لشرايينك.
تقارب. الورقة تسقط على الورقة. المطر
في الانبساط الكلي للدموع.
كنت أظن أنني أعرف لك اسما يجعلك تحضر.
لا أعرفه أو لا أجده. أنا من مات
ونسي، أقول لنفسي، سرك.
رجل يحمل رماد ميت في ربطة صغيرة تحت ذراعه.
تمطر. ليس ثمة أحد. يمشي كأن باستطاعته أن يحمل كيسه
إلى مكان ما. يُرى وهو يمشي. يُرى في صحراء بلانهاية.
أخيرا، الدخول الضاري ينتظره من المتاهة العمياء.
ما هذه الغيوم، قل لي، التي تجرها الريح كشعرات
في النهاية المشتعلة للمساء؟ هل أنت من فتح هذا الطريق؟
فتحته دوني؟ متى؟
عند حلول المساء، اليد غير المرئية لآلة تمحوك
مثل جناح عصفور ساقط نحو ظل بالغ الكثافة فيما وراء الظل.
ذائب أنت، أخيرا، في نظرتك ذاتها.
جرحت نفسك الأن بإعياء كي لا تقبل
اليد التي لم تعد ممدودة. جثة صلبة مجهولة، جسدك، في
هذا المساء غير المؤكد. لم يكن هناك
أحد بجانبك. إذن، لم تستطع أن تموت.
انمحت صورتك في المرآة. لم أرك
عندما كنت أنظر لنفسي.
أعرف الآن أننا كانت لدينا طفولة مشتركة أو
متقاسمة، لإننا متنا سويا. وأنه تحركني
الرغبة للذهاب إلى المكان الذي توجد به كي أُودِع، كأزهار تنمو ببطء، رفاتي بجانب رفاتك.
ثمة سلام معدني هادئ في الهواء تحت الرمادي الممتد
الذي تضاعفه البحيرة الراكدة. الماء فضة بلون الرماد،
الجناح، الطيران، الهواء، ما هو لك، ولون هذا الغياب.
كنت تعرف أنني في النهاية كنت أعرف اسمك. ليس
الذي ينتسب إليك، بل الاسم الآخر، الأكثر سرية،
ذلك الذي للآن تنتسب إليه أنت.
مارسنا فنا ضئيلا، وفقيرا، ولا سوق له،
إلا في مرات معدودة، أبدا لا تُعْلِن، تماما
كهذه المرة، هنا، في المساء، في الساعة غير المؤكدة
للاختفاء المطلق.
ماذا كانت الوحدة، أسأل، وجهك في النهاية
أمام اللاشيء، الزمن الذي فجأة لم يعد راكدا في نفسه،
الخط الجارح لضوء مظلم كان يغزو عينيك وأنت تبدأ بالحركة داخله، دون
شَرَك ودون شهود، عندما انساب الظل عبر دمك إلى داخلك وهناك مت.
برجك كان القمر. نورك، القمري. كآبة. بصمة
شديدة البطء لغيابك. أبدا لم تكن مني أكثر قربا.
أنا واهن. لا أعرف أين أتسند. الهواء
فارغ من كل شيء. أنت لست موجودا. أنا لست موجودا.
أي جسد دوار هذا الذي للعدم.
أصبغ الظلال عند هبوط المساء، في الامتلاء الشمسي للصباح،
مستيقظ أو بالأحرى نائم، وربما أفرد ذراعي أمامي، أتلمس جانب وجهي الأعمى
الذي أفشل في تسميته، أعتقد أنني رأيت كائنات ما زلت للآن أحبها والتي لن
أعود لرؤيتها أبدا أو أنها لن تتعرف علي، فمن يمكنه الآن التعرف على مَنْ بينما
أنت الآن غير موجود والصيف الأخير سحب إلى البعيد صورك، إلى بعيد جدا،
ومعها سحب السند الوحيد المؤكد على ما هو مرئي.
وددت لو أكون موجودا في الأماكن نفسها التي كنت فيها،
كل الأماكن حيث ربما توجد للآن أو تنجو نتفة منك او من نظرتك.
أيكون فراغك هذا الممض من يجعل فجأة من فراغ مكانا؟مكانا، غيابك؟
لم أستطع أن أكشف، على مدار الايام والسنين، من
كان الآله الذي كنت أبتهل إليه حينذاك.
الأقمار تتبع الاقمار في بطء، مثلما يتنازل
الضوء للضوء، الأيام للأيام، الجفن الدبق للحلم نفسه.
أن تحيا لهو أمر هين. الصعب أن تنجو بما عشت.
البياض التعيس للثلج. السقف الرمادي الواطئ للهواء.
السحب كبهائم حقيرة بمحاذاة الأسقف. دكنة الجناح
أو دكنة الفراغ كشارة معدنية فوق رؤوسنا. مدينة
من الربا الباهت. باستطاعة آخرون أن يروك
بقلب أكثر بهجة. وليس أبدا الطائر الذي لم يجد فيك قط
لا الراحة ولا المقام.
أشعر أحيانا أنني قريب جدا من الموت. أسأل
نفسي عمن يمكن أن تفيده هذه الملاحظة. لا نكتب
في النهاية عما هو مفيد، أظن. إذن لماذا لا ينبغي أن أقول
ابتذالا واضحا؟ الاقتراب من الموت هو اللقاء بين سطحين مستويين وعاريين
في تدافعهما يذوبان. أهذا كل شيء فقط؟لا أعرف.
العبور إلى الجانب الآخر ليس كافيا دون شهادة أكيدة
من الشاهد الذي لم ألقه حتى الآن كي ينقل.
بماذا يفيدنا أن نعيش قليلا. ما أقصر الوقت
الذي كان لنا كي نعرف أننا كنا أنفسنا. بينما الطائر
خفيف الهواء يحضن رمادك، بالكاد في الحافة أنا طرف نحيل
لظل لا وجود له.
الآن وأنا جالس وحيدا أمام النافذة نفسها
أرى مرة أخرى السماء وهي تسقط كستارة بطيئة
في نهاية العرض، ما زلت أقول لنفسي أهذه هي النهاية
لحبنا البسيط يا أجوني؟ (٣)
الهوامش
١ – logos spermatikoi المصطلح باليونانية هو :
logoi spermatikoi ويمكن ترجمته ببذور العقل أو البذور العقلية التي يتشكل منها الكائن الإنساني حسب الرواقيين.
٢- ailifoportnA في أحد تعريفات المصطلح نجد #شهوة انتقائية للدم البشري من قبل بعض المفصليات» كقمل الرأس وغيرها.
٣ – Agon أجوني حسب كلمات بالنتي نفسه : #أجوني شخصية شديدة القرب، بذوبانه تنشأ محاورة مستحيلة.
يتعلق الأمر بكائن موجود مسبقا في مداري الإبداعي الشعري {…}
كائن مختف، كان، بشكل كبير، أنا نفسي».
كذلك تجدر الإشارة إلى Aghone الشخصية التي ابتدعها لوتريامون في أناشيد مالدرورو وبالتحديد في النشيد السادس.
٭ تمت الترجمة عن الاسبانية .
ترجمة: أحمــد يمــاني
شاعر من مصر