لعلي بخوان غويتيسولو وهو يغادرنا إلى مثواه الأخير، يقول ما قاله خوليو كورتاثار أثناء مرضه، “ليتني بقيت قادرا على الكتابة، لأريتكم كيف يكتب الموتى”. لأن أشياء كثيرة بفعل الصدف العجيبة، جعلت عاشق مدينة مراكش يغادرها، منفيا قرب صديقه الأبدي جان جونيه بمقبرة بمدينة العرائش. سيكتشف غويتيسولو نهاية مسار خطط له دون أن ينهيه، لكن المصائر لها قدرها، ولها صدفها المحتومة، التي تجعل كل شيء يشتغل من أجلها، وهو هنا الالتقاء بجونيه وإلى الأبد فعلا. في كثير من أحاديثي اليومية، منذ 1989، مع غويتيسولو سواء في منزله أو في مقهاهٍ بجامع الفنا، كان مسكونا بالكلام عن جان جونيه، وفي وجهه ترتسم ابتسامة العاشق الذي يرتوي من تفاصيل صداقة حقيقية، مسكونة بالانجذاب نحو الآخر، في محبة aimance ( كما اشتغل عليها عبد الكبير الخطيبي)(1) تجعل غويتيسولو في تماه مع حياة جونيه، مقتفيا آثار كتابة قوية، ساخطة، مدمرة، منتبها إلى صدى التجربة في تلك الوصية التي ستغير مساره: “ينبغي أن تختار بين الأدب أو الحياة الأدبية- يقول جونيه لغويتيسولو- وأن تختار الكتابة لجماهير القراء أو لقلة من معيدي القراءة”. كانت هذه الكلمات فاصلة وقادرة على جذب كل ما سيأتي.لعلي بخوان غويتيسولو وهو يغادرنا إلى مثواه الأخير، يقول ما قاله خوليو كورتاثار أثناء مرضه، “ليتني بقيت قادرا على الكتابة، لأريتكم كيف يكتب الموتى”. لأن أشياء كثيرة بفعل الصدف العجيبة، جعلت عاشق مدينة مراكش يغادرها، منفيا قرب صديقه الأبدي جان جونيه بمقبرة بمدينة العرائش. سيكتشف غويتيسولو نهاية مسار خطط له دون أن ينهيه، لكن المصائر لها قدرها، ولها صدفها المحتومة، التي تجعل كل شيء يشتغل من أجلها، وهو هنا الالتقاء بجونيه وإلى الأبد فعلا. في كثير من أحاديثي اليومية، منذ 1989، مع غويتيسولو سواء في منزله أو في مقهاهٍ بجامع الفنا، كان مسكونا بالكلام عن جان جونيه، وفي وجهه ترتسم ابتسامة العاشق الذي يرتوي من تفاصيل صداقة حقيقية، مسكونة بالانجذاب نحو الآخر، في محبة aimance ( كما اشتغل عليها عبد الكبير الخطيبي)(1) تجعل غويتيسولو في تماه مع حياة جونيه، مقتفيا آثار كتابة قوية، ساخطة، مدمرة، منتبها إلى صدى التجربة في تلك الوصية التي ستغير مساره: “ينبغي أن تختار بين الأدب أو الحياة الأدبية- يقول جونيه لغويتيسولو- وأن تختار الكتابة لجماهير القراء أو لقلة من معيدي القراءة”. كانت هذه الكلمات فاصلة وقادرة على جذب كل ما سيأتي.إن افتتان غوتيسولو بجان جونيه، يجعلنا نكتشف أن في الكثير من تفاصيل الكتابة عن هذا الأخير، لهي كتابة عن الذات في رؤيتها للآخر، ومن تم تشبه حالته حالة الرجل “الذي اقترح عن نفسه مهمة رسم العالم: وخلال سنوات طويلة من عمره أثث الفضاء بصور الأقاليم، والممالك، والجبال… والأشخاص. وقبل أن يقضي نحبه بقليل، اكتشف أن متاهة الخطوط الصبورة التي دأب على وضعها إنما تخط صورة وجهه هو”(2). لذلك أقترح أن نرى في كل ما كتبه غويتيسولو عن صاحب “الأسير العاشق” إنما يخصه هو في كثير من تفاصيله، وكأنه يقوم بتشكيل صورته الخاصة به في أبعادها المختلفة، وتبقى لنباهة القارئ القدرة على تمييز الفروقات والخصوصيات المتباعدة، وإن كانت هي الدليل على هذا الانجذاب حد التماهي.1 – الافتتان بجان جونيه(3): عُرف خوان غويتيسولو منذ بداياته، مساندا لمجتمعه، مدافعا عن حقوق مواطنيه ضد فرانكو ونظامه، مما جعله ينخرط في كتابة إبداعية واقعية، تجسد ما يعيشه الإنسان الإسباني من معاناة وقهر وجور. كتابة هدفها فضح الخروقات، وجعل المسكوت عنه يطفو إلى السطح، لذلك هيمن الوصف الواقعي المباشر لفضح الواقع الإسباني المأساوي. ورغم مرور أكثر من نصف قرن ما زال غويتيسولو يدافع عن حقوق المواطن في العالم، ويناضل من أجل الأقليات المضطهدة، فنجده يتواجد جسدا أو كتابة في مناطق التوتر في العالم: البوسنة، الجزائر، فلسطين، الشيشان، العراق، اسبانيا… وإذا كانت الأخلاق السياسية لهذا الكاتب الكبير لم تتغير، فإن كتابته عرفت تحولات جذرية، بدأت مع انتقاله إلى باريس في أواخر الخمسينيات، حين أحس بعدم قدرته “مواصلة العيش في الجو الثقافي والسياسي والاجتماعي الخانق المسيطر في اسبانيا”. في هذه الفترة ستتغير أشياء كثيرة في حياة صاحب “الأربعينية”، بعد انغماسه في الجو الثقافي الباريسي: سارتر، سيمون ديبوفوار، كامو، مونيك لانج… هذه الأخيرة، الكاتبة والصحافية ورفيقة حياته فيما بعد، ستفتح له الأبواب على مصراعيها على جان جونيه، الكاتب الاستثنائي، المعروف بنقده اللاذع للمجتمع، وللشخصيات الثقافية المهترئة التي تعتمد على بروتوكول الأنتلجنسيا الفرنسية المتعالية. ويؤكد خوان غويتيسولو في كثير من المناسبات أن جان جونيه هو “الكاتب الذي أثر في(ـــه) من أي أحد سواه، لا سيما أخلاقيا”. وشائج كثيرة ساهمت في هذه العلاقة بين غويتيسولو وجونيه، وجعلتها تستمر من 1955 إلى بداية الثمانينيات، قبيل وفاته، ولعل هذا التأثر القوي بصاحب “يوميات لص”، هو السبب الرئيسي في التحول العميق الذي عرفته كتابة غويتيسولو؛ لأن الأخلاق قد تخلخل كل شيء، وهاهي تزعزع حياة هذا الكاتب الإسباني الأدبية والوجودية. لقد افتتن غويتيسولو بجان جونيه أيما افتتان، وشكلت علاقته به انعطافة بارزة في حياته، جعلته يعيد النظر في أموره الحياتية والأدبية. فأن يغير من سلوك حياته فهذا يعني أن ذلك سيمس إبداعه عبر إبدالات حقيقية، تقلب التربة من أجل إبداع جديد، مغاير ومغامر، يفسح المجال للآتي: كتابة فيها كثير من الجرأة الإبداعية والأخلاقية، مسكونة بالفضح والكشف عن الأعطاب التي تلحق بالإنسان في هذا “العالم الشرس”. يقول غويتيسولو: “إن جان جونيه هو في الحقيقة صاحب التأثير الناضج الوحيد على المستوى الأخلاقي المحدد. لقد علمني أن أتخلص، شيئا فشيئا، من غروري الأول، ومن كل وصولية سياسية، ومن الرغبة في الظهور في الحياة الأدبية، لأعكف على شيء أكثر جوهرية وصعوبة: امتلاك تجربة أدبية خاصة، واكتساب ذاتيتي الحقة”، لم يكن فقط افتتانا بجونيه، بل انجذابا نحو تجربة مغايرة بصمته طوال حياته. وقد أفرزت لنا هذه العلاقة مجموعة كتابات، توزعت على مدى ثلاثة عقود تقريبا، من بداية الثمانينيات، الوقت الذي خفتت العلاقة بين غويتيسولو وجونيه بسبب مرض هذا الأخير وانعزاله، حيث “اختزل عالم أصدقائه إلى جاكي ومحمد ورفاقه الفلسطينيين”. وبعد ذلك ستتوالى كتاباته عن جونيه التي ستمتد إلى 2009، وهي السنة التي سيجمع فيها كل هذه الكتابات، إضافة إلى الرسائل المتبادلة بينهما، ويصدرها في كتاب بعنوان: “جان جونيه في برشلونة”. 2 – غويتيسولو والكتابة عن جونيه: لقد غاص خوان غويتيسولو إلى أعماق حياة جونيه، لتقصي منابع هذه الشرارة المتيقظة في الحياة والكتابة، فعاد ليحكي لنا عن السنوات التي قضاها في اسبانيا، في الثلاثينيات من القرن الماضي، أيام شبابه وعنفوانه، حيث عاش سنوات عديدة، وخصوصا في برشلونة، بدون أي فلس ولا أوراق، محترفا التسول والسرقة والدعارة، ولعل صعلكته هذه، هي ما جعل منه كاتبا كبيرا، سيكتشفه كوكتو، وسيتعاطف معه جان بول سارتر، نظرا لنبوغه الأدبي، ولما شكله من سلطة مدمرة. فارتماء جونيه في هذا المستنقع كان نتيجة لما عاشه في طفولته، أولا كطفل يتيم من أب غير معروف، وأم تخلت عنه، وأيضا لما عاناه داخل الإصلاحيات والسجون، وما هذا الانغماس في الدناءة والخزي إلا “بحث عن تطهير داخلي”، ستظهر نتائجه فيما بعد، في “أعمال أدبية ذات فرادة مقلقة”. فهذه المرحلة الحاسمة التي قضاها متسكعا في أقصى ما يمكن من الصعلكة، ستجد مرتعها في الحكي الباذخ والسحري في كتابه المدمر “يوميات لص”. ولهذا النوع من الحياة، الذي انتهجه جونيه في عيشه ويومه لمدة طويلة من الزمن، آثار بارزة في سلوكاته وعلاقاته، وأيضا في شكل كتابة قوية ومعقدة وغير قابلة للاحتواء، لمن لا يمتلك آلة قرائية قادرة على اختراق سمكها والتعايش مع جرأتها، فما بالك بالتعامل المباشر مع صاحبها. ذاك ما سيغامر غويتيسولو باقترافه، فهل سيسلم من “لعنة” جونيه المدمرة؟ وهذا هو ما سنكتشفه في تفاصيل هذه العلاقة المباشرة مع صاحب “يوميات لص” منذ 1955 حتى وفاته. مسار علاقة تخللتها أوقات وقادة وأخرى طالها الفتور، لأن جونيه دائم الانفلات والابتعاد والاختفاء، لذلك يقول غويتيسولو بأن: “مجال جونيه متقطع: مكون من انحناءات، وصعود، وهبوط، ومن انقطاعات وزوالات للمحبة مفاجئة. يعد، بأناة وصبر، لمشاهد سرعان ما يتخلى عنها، تاركا ممثليه يتامى، مهجورين. وإذا كان شديد التضحية والوفاء والكرم، وخاضعا في الظاهر للمعشوق، فهو، في الوقت نفسه، متقلب المزاج، متملك للآخر، متزمت، وقادر على الفضاضة والقسوة. غير أن هذا التقطع ينزع، مع كل شيء، إلى أن يتكرر، ويتبع أطوارا حاذقة وعصية على القبض، ويكتسي مع مرور الأعوام تماسكا بالغ السرية”. وضمن هذه العلاقة التي جمعت بين الرجلين، فإن غويتيسولو استحضر اللحظات الوهاجة والفاترة في الآن ذاته، في حياة جونيه الشخصية، خصوصا علاقته بــــ عبد الله وجاكي، ومساندته لهما، بل ودعمهما ماديا من أجل تحقيق الانتصار الخارق، وهو ما جعل انشدادهما له حافزا من أجل ما لن يتحقق أبدا، رغم كل التحدي والجرأة والمثابرة. لقد “كان جونيه عاقدا العزم على أن يصنع من عبد الله فنانا كبيرا، وقد رسم له برنامج بهلوان يتطلب تمرينا طويلا وصارما”، وحين فشل عبد الله في تحقيق أمنية جونيه، بسبب حادثة الكسر في الرجل، التي تكررت حين عاد إلى التداريب في تحدٍ مضاعف لإصابته الأولى، جعلته ينهار ويتوارى شيئا فشيئا من حياة صديقه جونيه، الذي سيعوضه بــ جاكي في ميدان سباق السيارات، لكن، دون جدوى، لأنه سيلاقي نفس المصير، في حادثة سير كادت أن تودي بحياته. فعبر هذه العلاقة تمكن غويتيسولو من “رسم فضاء الشاعر الطبيعي والأخلاقي: حيويته، دعابته، نزواته، و”تمثيلياته”، وسورات غضبه الحقيقية والمصطنعة، والبركة الفعلية، ولكن اللعنة أيضا، اللتين تنجمان عن معرفته”. ولعل ما عاناه جونيه في طفولته من إهمال وتهميش، وتجارب الزج به في الإصلاحيات والسجن، أثرت على علاقته بالمجتمع، فكان دائم الانتقام، هو الذي يعتبر نفسه “شاعر الجريمة والسرقة والمثلية الجنسية”، فيرد بوقاحة على الناس الأكثر احتراما ووقارا في المجتمع، ويأخذ الأموال من الأثرياء ليوزعها على المهمشين، ويرفض الظهور في صالونات باريس أو غيرها من المحافل، لذلك كان يتحاشى الحديث عن كتاباته، لأنه “يقيم مسافة متعذرة الاختراق بينه وبين عمله الأدبي، ويهرب كما من الطاعون، من جميع أولئك الذين تدفعهم بواعث خبيثة أو طيبة إلى إبداء إعجابهم به”. لعل كل ذلك جعل خوان غويتيسولو، يطرح مسألة الصورة التي سعى جونيه إلى تكوينها عن نفسه، وهي التي ما زالت تثير جدلا حادا في الأوساط الثقافية، حول جمالية أعماله وأخلاقياتها وسلوكاته الشخصية. ” إن احتقار أو رفض تعاطف الغير وإعجابهم، واللامبالاة برأي “الرجل الوحيد في الزحام” (مثلما يعرف ابن عربي “الملامتي”) ليقدم لنا أحد المفاتيح الأولية لحياة جونيه خلال حقبها الأخيرة. فأتباع “الملامتية” يتلافون كل تصرف ينم عن ورع ويتظاهرون، خلافا لذلك، بكل سلوك يحث على الزجر من وجهة نظر الغير، بغية حجبهم عن أنظار الناس حالتهم الصوفية وتقاهم العميق”. هكذا فغويتيسولو يشبه جونيه بالمتصوفة الملامتيين، أولئك الذين يتعمدون إظهار سلوكات لا أخلاقية من أجل إخفاء تورعهم وفضائلهم. وهناك نقاط مشتركة بينه وبين هؤلاء لا يمكن إنكارها، فرغم ما اشتهر به من سلوكات غير قابلة للفهم، ومن تصرفات غادرة، ومن خيانة وعدم الوفاء،، فهو في نظر غويتيسولو “قديس بفعل السهو، شأنه شأن عدد من الملامتية ذائعي الصيت، عندما يتحمل ببسالة تعبه وألمه العضوي في خدمة المستضعفين والمضطهدين بحيث يتجلى وقد نسي إطراء الخيانة، وفيا وفاء مباغتا ومثيرا للعواطف في الساعات البالغة القسوة لإحدى المحن أو البلايا”، والدليل على ذلك هو أن الصورة التي كان جونيه يظهرها بدأت تتلاشى، بعد وفاته، وبدأ يطفو على السطح ذلك القديس، الذي كان بقرب المظلومين والمقموعين، وصديق للقضية الفلسطينية. ولقد استأثرت فعلا علاقة جونيه بالفلسطينيين زمنا طويلا في حياته، ولعل كتاب “الأسير العاشق” لهو الدليل على العلاقة الوطيدة لجونيه بالقضية الفلسطينية، (دون أن ننسى نصه القوي والعميق ” أربع ساعات في شاتيلا”)، وهو آخر كتاب لجونيه، اشتغل على لمساته الأخيرة وهو يصارع المرض، ولن ير النور إلا بعد وفاته. ولقد أكد غويتيسولو، على أن كتاب “الأسير العاشق” قد استقبل برفض شبه إجماعي من لدن النقد الباريسي، بالإضافة إلى أن هناك بعض الكتابات التي لا قيمة لها أدانت الكتاب دون أن تتجشم عناء اكتشاف غناه، ومرد ذلك، حسب غويتيسولو، أنهم أمام “كتاب غريب عن معايير الأدب المعروفة، حيث يتموضع التفكير التاريخي والسياسي والاجتماعي والثقافي والجنسي، على طرفي نقيض تعاقدات الفكر المضبوط، لذلك كان النقد معارضا، كما يفعل عادة في مثل هذه المواقف”. بهذا الفعل همش كتاب ” الأسير العاشق”، ونفي إلى مملكة النسيان، حيث ما زال، رغم كل المجهودات المبذولة من لدن الكتاب العرب وبعض الغربيين المتنورين. “فقليلون هم الكتاب، يقول غويتيسولو، الذين امتلكوا الجرأة، لتأكيد أن كتاب جونيه الصادر بعد وفاته، هو أحد أعمق الكتب المكتوبة بالفرنسية، وألذعها، وأكثرها انتقادا، خلال السنوات الأخيرة”. كتاب عن القضية الفلسطينية، لكنه، أيضا، كما يؤكد الكاتب، هو موسوعة معرفية، تغطي الموضوعات الأساسية في التاريخ الإنساني: تأملات صادمة، غير مألوفة عن الكتابة، الذاكرة، المجتمع، السلطة، المغامرة، السفر، الثورة، الإيروتيكة، الموت. “فاضطراب القارئ أمام هذا العمل، الذي لا يخضع لا لقوانين الجنس الروائي، ولا للتصنيفات المتعارف عليها، تتغير عند اقتحامه، من أجل تشفيره واستيعابه”، لذلك فهذا الكتاب يحتاج إلى إعادة القراءة لاستيعاب استراتيجية عمل بناه ومدلولاتها. من هنا فالقارئ سيجد نفسه أمام كتاب متعدد البؤر السردية التي يشتغل عليها في الآن ذاته، فمن موضوع إلى موضوع إلى أن يلفي القارئ نفسه في متاهة، استطاع جونيه بمهارة فائقة، التحكم في مساراتها، ويعود ذلك حسب غويتيسولو إلى سعة اطلاعه، وغنى ثقافته ومعرفته في ميادين مختلفة ومتباينة، إضافة إلى أن منطق السرد عنده كثيرا ما يتماها مع مسارات حياته. وبتتبع تفاصيل علاقة جونيه بالفلسطينيين، كان غويتيسولو شديد التعلق بالكشف عن استراتيجية الكتابة في كتاب “الأسير العاشق”، والوقوف عند لعب الذاكرة في تماسها مع فعل الكتابة: الوقائع وهي تعبر الشاعر لتمتد في الورقة البيضاء، وتتحول إلى كتابة، لأن هدف جونيه ليس هو إخبار القارئ عن الثورة الفلسطينية بتفاصيل أحداثها، بل كتابة ثورته الفلسطينية هو محكية بالطريقة التي اختارها، وفي ذلك نلتقي بعمق الأشياء وفداحتها. هكذا وحتى سن الثمانين كان غويتيسولو لا يزال يفكر بجد في حياة جونيه وكتابته، ومن النادر أن نجد مبدعا كبيرا له سيط عالمي، بهذا الوفاء لمبدع آخر أثر فيه، لكن غويتيسولو كانت له هذه القدرة وهذه الجرأة وذاك الوفاء، بل له الأهلية للحديث عن جونيه، منطلقا من حياته إلى كتاباته الباذخة والمدمرة، وغير القابلة للاختزال. ولعلنا بهذه العجالة، نكون قد وقفنا على هذه العلاقة الخاصة بين حياتين متشابكتين، متشابهتين وغير متطابقتين، حيث يقتفي الواحد خطى الآخر بوعي، لكن بيقظة العارف، المسكون بالمغامرة والمغايرة، والمؤمن بالسير على حافة الأشياء.الهوامش1 – Abdelkebir khatibi: Jaques Derrida , en effet, Ed, Al Manar, 2OO7, pp 65-78 2 – خورخي لويس بورخيس: الدنو من المعتصم، ترجمة إبراهيم الخطيب (مدخل الترجمة)، 1992.3 – Juan Goytisolo: Genet à Barcelone, Ed, Fayard, 2012-Abdelatif Ben Salem (cordinateur): Juan Goytisolo ou Les paysages d’un Flaneur Ed, Fayard,1996 -خوان غويتيسولو: على وتيرة النوارس، ترجمة كاظم جهاد، دار توبقال للنشر، 1990- خوان غويتيسولو: علامات هوية، ترجمة إبراهيم الخطيب، منشورات وزارة الثقافة، 2005.
إبراهيم أولحيان