في بيته «الأندلسي» بمدينة مراكش، عاش خوان غويتيسولو لحظاته الأخيرة، لحظات عصيبة، مؤلمة، عبر احتضار يتعايش فيه بشكل فاجع انكسار الجسد واتقاد الروح. هل حضر نفسه لهذه اللحظات؟ هل كان يستعيد، متوتراً غاضباً كعادته، تفاصيل متفرقة من حياته المستعصية على التعليب؟ نضاله المستميت ضد نظام فرانكو، شغفه بأمريكا اللاتينية، عشقه للعالم الإسلامي، هل النهاية تشبه شيئاً مما رآه، أو توجس منه، أو كان في انتظاره؟ لا أحد يستطيع الجزم بشيء، ربما جرب أن يمشي وحيداً خلف جنازته، يظلله أذان «الكتبية» وأهازيج «جامع الفنا». إلى أين؟ إلى ضريح سيدي يوسف بن على، أو إلى مقام سبعة رجال، لم لا؟ هل سيعترض ولي صالح على إيواء الرجل الخجول الذي أهدى العالم روبورتاجات روائية عن الحضارة الإسلامية بعنوان يشكل في حد ذاته صلاة رقيقة: «قِبْلة»؟، ربما أدرك، أن «المقبرة» (عنوان إحدى رواياته) هي غضبه الأخير؟ لماذا لا تتسع له مقبرة المسلمين في مراكش، هو الذي اتسع لها قلبه حتى صارت حديقة بلا ضفاف؟ يا لها من لحظة عسيرة، أن يفاوض عاشق مراكش على قبر خارج المدينة وخارج المقابر في بلد سيشتهر ولا ريب بتخصيص خلاء بلا اسم للخُلَّص من أبنائه الروحيين. ومع ذلك فقد كانت بطريقة ما لحظة وئام مع النفس، ألم يكن الحب واليأس أهم ما تأرجحت بينهما حياة خوان غويتيسولو؟ لذلك سيقول صديقه ماريو فارغاس يوسا: «إن هذه النهاية الصعبة، والمتشابكة، والتراجيدية، لم يكن خوان ليستاء منها، فقد كانت بطريقة أو بأخرى، تعكس طابعه المعاند، وحياته المؤلمة والمليئة بالتجوال».
كانت إسبانيا وطن خوان غويتيسولو، وجرحه الدائم، لم يستطع أبداً أن يغفر لها مرحلتها الفرنكوية، كأن ديكتاتورية فرانكو لم تكن مرحلة عابرة بل هوية إسبانية مستعصية على المحو، نوعا من الإهانة الأبدية للكائن، لذلك كان دائم الغضب من شيء في هذا الوطن القسري الذي يكرهه بطريقة تشبه الحب بتعبير ماريو بارغاس يوسا، مرددا دائما عبارة الشاعر الإسباني سيرنودا: « أنا الإسباني رغم أنفه»، وبالمقابل فإن اللغة الإسبانية كانت وطنه الأثير، يبحر في مياهها المتلاقحة بين الأندلس والمكسيك وكوبا، ينحت لغة داخل اللغة، ويطرق من خلالها في كل تجربة أرضاً جديدة، وقد كانت الثقافة الصوفية الشعبية، والسرود العربية القديمة، إحدى تجليات تجواله الثقافي، وقد أصبحت جزءا لا يتجزأ من اختياراته في الكتابة وفي الحياة. كان دائم الغضب من إسبانيا ولكنه لم يكن عدواً لها، ولا أظن أن للأمر علاقة بتاريخه الشخصي فحسب، بالرغم من سقوط والدته وهو في السنة الثالثة من عمره صريعة لإحدى غارات فرانكو، ربما اعتبر المرحلة الديكتاتورية والمرحلة الكولونيالية نوعا من الاعتداء على الروح الإيبيرية التي جمعت في هوية واحدة بين الأبعاد المتوسطية، واللاتينية والعربية الإسلامية، الشيء الذي كان يؤهل إسبانيا لدور أهم من مجرد الاندماج الأعمى في النسيج الأوروبي. وسيحتفظ خوان بروحه المتمردة على مؤسسات وطنه حتى بعد إنجاح الانتقال الديمقراطي، الذي لم يكن ينظر إليه باطمئنان كبير، بل ويرى في بعض تجلياته السياسية، خصوصاً في قضايا تصفية الاستعمار والقضية الفلسطينية والعلاقة مع أوروبا، استمرارا في الاعتداء على الدور التاريخي للأمة الإسبانية، ومحاولة لتدجين روحها المتوثبة. ولعل انتفاضة الشارع الإسباني في السنوات الأخيرة وما تمخض عنها من ميلاد جديد عبر حركة بوديموس قد أنعشت إلى حد بعيد حماس الكاتب المشاكس لحد جعله يشيد بهذا الاندفاع المنقذ وهو بين يدي ملك إسبانيا يوم تسلمه لجائزة سيربانتس.
لا شك أن الحياة الخاصة للكاتب خوان غويتيسولو كان لها وقع كبير على اختياراته في الكتابة وفي الحياة، فانتقاله من علاقة حب وزواج من الأديبة الفرنسية مونيك لانج، إلى علاقة مثلية علنية، وتزامن ذلك مع تفاقم علاقة تشنج دائم مع الأوساط السياسية والثقافية الإسبانية لم تهدأ نسبياً إلا في السنوات الأخيرة، كل ذلك دفعه إلى اعتماد الكتابة وسيلة للمقاومة والاحتجاج، وفي نفس الآن مجالا لسبر أغوار اللغة، ولتشييد قيم جمالية متحررة من «الأهداف المرسومة» للأدب كما تلقاها في بداياته الأدبية من «الوجودية» «والالتزام»، غير أن إخلاصه العميق للأدب، وتعلقه بالمغامرة الإبداعية القائمة على التجديد والمجازفة، لم تثنه عن اعتبار القضايا الإنسانية محكاً حقيقيا لجدوى الكتابة، وقد استطاع خوان بمخاطرة شخصية مؤكدة، أن يرتاد كثيرا من مواقع العذاب الإنساني في هذ العصر، ويخرج منها بنصوص مخلخلة، في الجزائر وسراييفو والشيشان وغزة، وأنجز نصاً رؤيويا عن مآسي الهجرة: «مشاهد ما بعد المعركة»، وكلها نصوص يجب اعتبارها جزء لا يتجزأ من مشروعه الإبداعي.
عندما تعرفت على خوان في منتصف الثمانينات كنت أعرف مقالاته الذكية التي نشرتُها في الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي بترجمة الصديق إبراهيم الخطيب، فكان يبدو لي مثقفا «عالم ثالثياً» يناصر المستضعفين في الأرض ويهاجم الجبابرة، كان ذلك قبل أن أكتشف رواياته «حداد في الجنة» و»حكايات جزيرة» و»خوان بدون أرض»، لأعثر في هذه الأعمال على الشخصية المركبة والغنية للكاتب الذي أنجبته مراكش للإفلات بجلدها.
وذات مساء، وكنت وقتها وزيرا للثقافة، زرت خوان، وذهبنا معا لمكتبة متواضعة في المدينة لأتسلم منه في حفل مؤثر، هدية إلى مدينة مراكش، هي مخطوط روايته الشهيرة «مقبرة»، ثم ذهبنا بعد ذلك إلى سطح من سطوح المدينة القديمة، وهناك في مطعم بين السماء والأرض، بدا لي «خوان الذي بلا أرض» وقد حسم أمر نفسه، لقد أصبح واحداً من «سبعة رجال»، ولكن حدس المبدعين له رأي لا يرد، خوان الذي كان يحب جان جينيه ويعتبره قيمة أدبية عليا، وكتب عنه مقالاً بليغاً بعنوان «مدار الشاعر»، لم يجد بدا من اللحاق به في «روضة العابرين»، بشاطئ العرائش، على مرمى حجر من الشاطئ الآخر.
محمد الأشعري