ترجمة: صلاح محمد خير
مترجم سوداني
وُلِد كُوامِي دوز في غانا، في عام 1962، وأمضى معظم سنوات طفولته في جامايكا. بصفته شاعرًا، تأثر دوز بإيقاعات البلد وبنياته الثقافية؛ حيث ذكر في حوار أُجْرِي معه مؤخرًا، “ارتباطه الروحي والفكري والعاطفي بموسيقى الريغي.”يظل كتابه الموسوم: بوب مارلي: عبقرية غنائية (2007)، دراسة موثوقة حول أغنيات فنان الريغي الجامايكي بوب مارلي.
يقف دوز على أراضٍ كتابية عدة تتراوح بين الشعر والرواية والمسرح والنقد الأدبي. قام بتأليف العديد من الكتب، وتضم مجموعاته الشعرية: وِسْتارية: قصائد من بلاد المستنقعات (2006)، تحليق مستحيل (2006)، العودة من جبل السلام (2009)، الأمل هو المأوى (2009)، عجلات (2011)، الغازي الشبحي: قصائد جديدة مختارة (2013)، مدينة من عظام: وصية (2017). تضم أعماله الروائية: هي ذاهبة (2007)، مخيم (2010). تضم أعماله غير الروائية: صرخة بعيدة من صخرة بليموث: سردية شخصية (2007)، فقدان الذاكرة وكتابات أخرى (2012). ضُمنت أعماله في العديد من المختارات، منها: كثير من الأشياء ِلتُقال.
يعمل كُوامِي دوز حاليًا أستاذًا للغة الإنجليزية في جامعة نبراسكا لينكولن الأمريكية، ورئيسًا لتحرير مجلة براييري إسكونر.
(1)
لقد هَجر المجْدُ المعْبدَ
إلى: غابرييل غارسيا ماركيز.
لأرويه، يجب أن أُسميه حلمًا.
حلمٌ زارني في الشاطئ الكاريبي لكولومبيا،
حيث يقدمُ رجلٌ أسود وسيمٌ في منتصف الليل
عِجةً ثخينة يُخالطها البصل والفطر،
لتشكيلة من صعاليك وعُمال ميناء
وأساتذة وثلاثة من رجال الشرطة
وخمس غانيات وفريق من محامين،
يمتصون شراب الرُمْ المتخثر في بطونهم
مع قطع سميكة من خُبْز أبيض سائغ.
أنطونيو، ذلك الطاهي الأسود الذي يَرفُل
في ألْبسة من الِكتان الفضفاض،
يملكُ يدًا تتدلى من جوفه،
لتلتقط قِطع الفحم المشتعلة،
وأعلى رأسه، تدورُ عجلات متشابكة،
يشيحُ ببصره بعيدًا وعيونه تغرورقُ بالدموع،
لكنه يُتابع كل حركاتنا،
لقد سَئِمت الأرض من إراقة سيل الدماء.
كُلَ شَخْصٍ يُحصْي الضحايا،
مِثلما يُحصي أهدافًا في مباراة لكرة القدم،
بإمكاني أن أطلق على هذا حلمًا،
نوعًا من حلم يحملُ نبوءة من نبوءات ماركيز؛
مذكرات روائي، سلموه رزمة من الورق
سيكتب عليها نبوءاته للريح.
بدلًا من ذلك، سأعترف بالحقيقة:
كنت أجلس في غرفة ساخنة تعبق برائحة البخور
وعَرَق كهنة أضاعوا لغة مواساة الثَكالى؛
كهنة تحولت أصنامهم إلى أشلاء رماد.
أنا أستأنس لهبوب الريح؛
أصغي لصوت الريح يحثني على كتابة حلمي.
إذًا، أنا أكتب حلمي.
(2)
ترتيلة جنائزية
أَنْشدتُ ترتيلةً جنائزية لموتى،
علقوا في ذلك الجنون التجاري.
لمْ نُشَيِّد أنصابًا من حجارة قاسية،
تَنْتصِب قبالة البحر، الرحم المائي،
لذا، أسمي هذه الأغنيات أضرحة الذكرى،
حيث يقف الأحفاد الأوفياء،
ويراقبون الدخان يتموج في السماء،
إحياءً لذكرى أولئك الذين التهمهم الأطلسي البارد.
في كل أغنية حزينة،
أنصت لصوت ركوب المستنقع الرطب،
أرى العظام تُمْتَص في جوف
بَحْرٍ يتمادى في العناد.
لا تقُل لي، ليس من الصواب النحيب،
لا تقُل لي، إن النحيب يصيب بالتعب.
إن لم ننتحب نحن،
فمن غيرنا سيستعيد في ترتيلة جنائزية
ما لاقته قبيلتي من تشتت؟
في كل ترنيمة من موسيقى الريغي،
أُسْرِع الخطي فخورا نحو بابل،
أسمع في كل درجة موسيقية مختلفة من النحيب،
ترتيلة لعدد لا يحصى من الأموات.
تَسَللت وسط الأصداف والمرجان وحِدة قوس قزح،
أقدام مكشوفة تبدو وكأنها ترتفع،
وتسعى جاهدة للتحليق
في سماوات أزمنة جديدة.
(3)
تحديد الأرض
لا أقْوى على التحدث بلغات
يتحدثُ بها رُكاب تلك السفينة،
لا أقْوى على قراءة سطور
مِسْبَحةٍ تَعِدُ بالخلاص.
هذا ما لا أعرفُ سِواه،
حينما انْبَثق اخضرار الأرض،
كالضوء بعد رُعب هذا العبور،
عَدَلنا من وضع انحناء ظهورنا،
ووشحنا بساطة الأيام الجديدة بالوهج.
أدركُ أني أحملُ دماء الناجين،
تجري في عُروقي؛
أدرك أن التَّحَسر على ضياعنا،
يجبُ أن يبعثَ فينا الدفء المرة تلو المرة،
ونحن نستقرُ أسفل بَطْن الحوت؛
هنا في أعماق بَطْن الحوت،
حيثُ لا نزال نبحثُ عن ديار.
نحن نشدو بمَراثٍ قديمة وخالصة،
وبعد ذلك نعيد تعديل وضع انحناء ظهورنا.
(4)
رقائق مرتعشة
بِقاعُ الأرض عامِرة بِمَحبة الخالق.
في الغابات الخلفية، الضوء الأخضر
يُذهله ازْهِرار التُوْجيّات البيضاء،
الممرات الرقيقة المنذورة للطيور المُتَبتِّلة
تمدُ أياديها للرحيق،
وتندفعُ لعناق بدايات،
وسْط أرض تتشابك فيها الأجمة والأشجار.
خطواتي المترنحة داخل هذا الكهف المُبَقَّع،
تَثْمَل بنداوة أنغام موسيقى الريغي القصيرة،
وتَعْثُر على لحنها في نداوة خفوت أنفاس الأرض.
أجد النهر الضيق مثل كلب يتحسس طريقه بالشم،
وأغمس أقدامي المتعرقة في البرودة،
وأنا جالس في رحم الفضاء هذا،
شَيَّد المزيج الرومانسي في داخلي قصيدة.
هذا كل ما أقوى على حشده،
قبل أن يذهل ضجيج أطفال المدارس،
الذين يتحسسون ميلان أغصان الجوافة،
الجميع بشتائهم وصرخاتهم؛
ينخرط الطفل الراكض بعجرفة في انتحاب دائم،
تصحبه وقفات طقوسية لالتقاط الأنفاس واستدرار العطف.
في أعقابهم، أعثر على أحشاء بلون الفضة،
شحوب واصفرار الواقيات الطبية الملقاة،
البريق البني المهشم لقناني البيرة،
مزيج من العظام والفاكهة الفاسدة،
في ذات المكان لحظة الظهور المفاجئ لضوء النهار.
يا لسرعة تلاشي البهاء في ثنايا القصيدة،
يا لسهولة تداعي كل ما يحملُ قبسًا من أحلام اليقظة.
أمشي سيرًا على الأقدام من النهر،
خلال ثوانٍ يتخلل العرق رقبتي وظهري،
تُثْقِل الحجارة على خطو حذائي،
يلهبُ وخز الذباب وجهي وأُذنيّ،
ترسمُ الأسلاك الشائكة خيوطا رقيقة من الدم على ذراعيّ.
ثمة فيوض من الحب تختبئ في هذا المكان،
على الأقل هذا سبيل لتأكيد حضور الإخلاص.
ألوحُ من وادي المتناقضات،
تزداد نبضات قلبي من أثر الجهد،
أقف لألقي نظرة على المنحدر،
يلوح بعيدا في مرفأ كينغستون،
وزرقة البحر الكاريبي المائلة للون الرمادي.
تراودني أحلام تحكي زهو تلك الرحلة،
وهي تحمل دفئًا رائعًا يتناغم مع
أصوات موسيقى الريغي ورِقة أغنيات الشجن،
تصدح بكلمات تجوال في أرض ملساء ولودة؛
تشتبك مع أعواد الطبل المتقاطعة؛
وأنغام خربشة الجيتار،
والتلاعب الإلكتروني بالأصوات الرقمية،
والنواح الحزين للصوت الرنان.
وأنا مغمض العينين، يسكرني الشجن الطروب،
وأسبح، أسبح في عوالم خضرة الأيام المدهشة،
وأنهض من بركة الأصوات،
أنزلق والموسيقى الدافئة تلتصق بجلدي،
وأدخل في تفاهة طريق
يؤدي إلى مدينة انتظار الأضواء الساطعة.
(5)
نوم الأنبياء
تنامُ العرافة الصامتة نومًا هنيئًا في الليل،
حيثُ أن لَذائِذ النوم ضَرْبٌ من ضُروب السلام.
حينما ينزفُ أحدهم نزفًا وحشيًا،
ويستحيلُ الحَشْد المتجلي للعيان إلى
أنهار من دماء، قواقع فارغة،
جداريات كوارث، تفشي باقات أزهار، وأسف مهيب،
تتهيأ العَرافة للحزن.
لقد بكت بصوت عالٍ في صومعتها،
وأصابعها تَشُدُّ على خصلات شعرها الطائش،
وتطهُر وجهها من كل مستحضرات التجميل.
إنها، كما تقول للمدينة المحترقة،
تبدو كفتاة تقع في حب قلب بعيد المنال.
تحملُ حلاوة ألمها في الأعماق،
وجسدها يَسْتسْلِم حتى في حالات الحزن؛
لذا، في كل ليلة تضع رأسها،
وتغرق باطمئنان في نوم العارفين.