(1)(1)تعامل النقاد والمفكرون عموماً مع مصطلح “ما بعد الحداثة ” كحالة زمكانية مرتبطة بالمركز الحضاري المسيطر شمالاً وغرباً، أوروبا وأمريكا الشمالية(1). وغلب على هذا التعامل منطق الاستقراء الوصفي- وصف حالة ما بعد حداثة أكثر من نقدها – وما ينتج عنه من قيم في مختلف الفنون المرئية والسمعية والسردية قبل التوسع في مجالات الفكر والفلسفة وعلم الاجتماع(2) وربّما كان اختيار كلمة “قيم” بدلاً من كلمة “رؤى” أو “أفكار” للتعبير عن صفات العمل ما بعد حداثي ناتجاً عن طبيعة فهم ما بعد الحداثة كحالة ملازمة للمجتمع الاستهلاكي بعد الصناعي.(3) وربما يكون هذا الاختيار صحيحاً في مجمل إفرازات ما بعد الحداثة السلبية والمزيفة ذات الطبيعة الاستهلاكية حقيقة.(4) لكن ماذا بشأن التمرّد الفكري والإبداعي على رؤى وأفكار الحداثة بحكاياتها الكبرى؟.(5) وماذا بشأن التشابهات بين السمات الحداثية(6) وما بعد الحداثية؟ . وهل يجوز الحديث عن قيم ما بعد حداثية في مجتمعات لم تنجز حداثتها، أو لا تفكّر بذلك حتى الآن؟(7) أسئلة كثيرة لا يمكن الإجابة عليها نظرياً، وبعجالة، ليس لضيق المجال وحسب. وإنما لأنّ مفهوم النظرية ذاته بات مشكّكاً به، وخاضعاً للتفكيك، وربما المحو. ومع أنّ عدم الإمكانية النظرية هذا يبدو لي طارئاً، ككثير من قيم ما بعد الحداثة، غير أنني لا أودّ التوسع في نقده الآن، بل أرغب بجعله شيئاً إيجابياً، ومن فضائل ما بعد الحداثة، وربما أفعل ذلك لأسباب تتعلق بطبيعة عملي النقدي وحاجته الدائمة للبراهين من جهة. وربما لكي أقول أيضاً: إنّ من فضائل ما بعد الحداثة الأخرى أن تسمح للهامشي والمنبوذ بمجاورة المركز والحضور معه وربما محاورته من جهة أخرى. وقد يكون من حسن الحظ أن تقدّم هذه الفضائل إجابة ما على سؤالي الأخير، لولا أنّ الحظّ الكبير يبقى في اكتشافي المتأخّر لروايات خليل النعيمي، وذلك لما توفّره هذه الروايات من إجابات عربيّة على سؤاليَّ السابقين, كأن تكون دراستي، هنا، لروايته الأولى “الرجل الذي يأكل نفسه”(8) ، مستفزّة لمزيد من الأسئلة التي تواجه حالة ما بعد الحداثة بارتداداتها العربية (9)، وتستنطقها معرفياً. لا أن تهرب منها، أو تصمت عنها.
(2)صحيح أنّ رواية (الرجل الذي يأكل نفسه ) هي رواية خليل النعيمي الأولى، ومكتوبة عام 1971، لكن هذا لم يفقد هذه الرواية رونقها الإبداعيّ، وراهنيّتها، وحاجة القارئ اليوم إليها. بل تبدو الحاجة النقدية ملحّة للتركيز على ريادتها الما بعد حداثية في السرد السوري، ليس في بنية سردها المتعدّد بين التأملات والمحاكمات الذهنية ووصف الواقع التقريري ومقترحات الخيال الممكن واقعياً وحسب. وإنما في الطابع البلاغي لأحداثها ودلالاته الحفرية معرفياً- باستذكار ميشال فوكو، ولكن بتوظيف عمله ضمن جدوى مقولات الرواية ومقاصدها (10). وألا يطال هذا التوظيف البنية الدلالية وحدها، فذلك لأنّ تحليلها يعتمد أساساً على اختلاق الروائي لأحداثه، بما يسمح به الواقع المهزوم، وكيفية روايته. لكن، قبل البدء في ذلك – بدء دراستي للرواية، وتحليلها قدر ما أستطيع- ألا يجدر بي التساؤل عن جدوى التأكيد على ريادة هذه الرواية ما بعد حداثياً؟ وهل قراءة الرواية من خلال مصطلح ما بعد الحداثة شيء ملّحّ ولا بدّ منه؟(11). وأجيب بأنه بقدر ما لهذا التساؤل من مشروعية ووجاهة نقدية من جهة القارئ ربما، سيكون جوابي مماثلاً في أنّ التأكيد على جدوى ما أقوم به إنما يتعلّق بالفهم. بمعنى أنّ الرواية لا يمكن فهمها إلا من خلال ارتدادات ما بعد الحداثة على الوعي العربي. ولو كان هناك طريقة أو منهج أسهل مما بعد الحداثة ، وتفترضه الرواية لفهمها لما تردّدت في اعتماده، طالما لا يمكن فهم الرواية إلا من خلاله. وماذا أفعل إذا ما كانت الرواية لا تفهم من خلال المنهج الرومانسي وحده ؟ أو المنهج الواقعي – بتعدّد خطاباته الطبيعية والنقدية والاشتراكية – وحده؟ أو المنهج البنيوي وحده؟.. إلى آخر ما هنالك من مناهج شمولية أنتجتها الحداثة أو ما قبلها من عصور النهضة والتنوير. ومن المؤكّد، أيضاً، أنّني لن أعتمد هذا التبرير المنطقي لكيفية دراستي للرواية. ومن المؤكّد، كذلك، أنّه ليس لديّ أيّ منطق، أو منهج، سوى ما تقترحه الرواية عليّ. وما تقترحه الرواية هو متشظٍّ وآني وعابر. ولكن ليس بالمعنى الذي أضفاه شارل بودلير على الحداثة ومشروعاتها المتلاحقة .(12) وإنما باللا معنى الذي يفضي إليه فقدان الرواية لأيّ مشروع حقيقي يمكن أن ينقذ السارد، أو شعبه، من واقع هزيمة 1967، ربما، سوى شيء متوهم ، ليس أكثر من طباق بلاغي قد لا يعني شيئاً، بدوره، مثل تبدّل مزاج السارد حين النظر إلى وجوه الناس من حال الحزن واليأس بسبب بؤس السارد في بداية الرواية إلى حال الانشراح والتفاؤل في نهاية الرواية بسبب مقتل أبيه. وقتل الأب قد يكون احتجاجاً على شيء ما، لولا أنّه بحدّ ذاته لا يشكّل مشروعاً منقذاً لأيّ أحد داخل الرواية أو خارجها. أن تلهمني رواية (الرجل الذي يأكل نفسه) هذا التمايز الأساسي بين الحداثة وما بعد الحداثة. لا يعني أنها كتبت من أجل ذلك. فقد كتبها خليل النعيمي، أساساً، وكما تقول سطورها، لشيء آخر يبحث في هزيمة العرب، ونكستهم في حزيران 1967، وكيفية تجاوز الهزيمة. بل هي بحث يتكئ في جدواه على أفكار الحداثة. ولكن مثلما أوقع إنجاز الحداثة – بشكلها الرأسمالي على الأقل – مركزها الحضاري الشمالي – الغربي، في أزمة الفكر، وغياب معناه. أوقع الفشل العربي في إنجاز الحداثة – وفشل السارد في إنجاز مشروعاته من بينها- الفكر في اجترار أزماته. وأهمية هذه الرواية أنها تفضح هذه الأزمات العربية، وتكشف خوائها ولا معناها، بما يجعل واقع “ما بعد الحداثة” حالة عربية ارتدادية، بمعنى أنها حالة معيشة، ومكتوبة، وليست تقليداً، أو اتباعاً سطحياً لأشكال ما بعد الحداثة.(13)
(3)لا تصرّح رواية (الرجل الذي يأكل نفسه) بشكوكها في الحكايات الكبرى، كما يفعل منظرو ما بعد الحداثة، بقدر ما ستعتمد عليها في بناء أحداثها وسرد شخصياتها. ومع ذلك تقترح فوراً جديدها من خلال الرصد العرضي لحياة طالب جامعي جاء من مدينة الحسكة شمال شرق سوريا، إلى جنوبها الغربي إلى العاصمة دمشق، تحديداً، لدراسة الفلسفة. – يتضح قصدي بهذا الجديد من خلال معرفة مسيرة الرواية السورية الفاعل والمنتشر، واهتمامها، عموماً، بأبطال بسطاء عمال وفلاحين وصيادين.. من قَبْل. لولا أنّ هذا الجديد لا ينفي أو يلغي ما هو مشترك بين بطل رواية (الرجل الذي أكل نفسه) وأبطال تلك المسيرة، فبطل رواية خليل النعيمي هذه ينتمي لطبقة الفقراء البسطاء أيضاً. وهو شخصية متمردة كذلك. وربما ما يميّز تمرّدها هو الطابع النقدي أو بالأحرى هو النقد المعرفي للواقع الذي تعيشه، بما في ذلك نقدها للأفكار والرؤى التي تصوغ هذا الوقع، بداية من نقد الوعي الجمعي في القرى . وليس انتهاءً بنقد الفلسفة التي يدرسها في الجامعة. لكن، ميزة هذا التمرّد الأساسية أنّه لا يرتكز إلى وعي حاسم يؤطره ويدفعه باتجاه أو سياق محدّد إيديولوجي أو نظري. وما الاتكاء على مقولات الأدباء والفلاسفة الوجوديين أمثال فرانسوا دي ساد وألبير كامو وفريدريك نيتشه، سوى مقترحات تبقى تشغل وعي السارد، ليبقى اختبارها أو تجريبها في هدم الواقع وتغييره هو المعيار لمشروعية ما تنتجه من معرفة أو حراك وفقاً لرغبة السارد، وعلى طريقته.بهذا المعنى تبقى الحداثة وأصداء التنوير حاضرتين كمقولات وعناوين يأخذها الروائي – السارد من الفرنسيَ دي ساد، منطلقاً لمشروعية هدم القديم ، ولو بالعنف، تمهيداً لبناء الجديد. ومن حداثة الألماني نيتشه منطلقاً لمشروعية الإنسان المتفوق والبطل الذي يحمل على عاتقه مهمة تغيير العالم وتحريره من مردودات الهزيمة والجهل والتخلف. وتأتي أهمية لفت الانتباه إلى هذا الأخذ المعرفي كون السارد هو من يصرح به، للإحالة إلى مجهود الروائي السردي، المتمثل في بناء الرواية وحكيها بعد أن منح قارئها بعض مفاتيحها الرؤيوية، أو لأقل الفكرية لمن يتشاكل عليه التمييز بين الرؤيا والرؤية. ولكن، هذا كله لا يمنع من تصريحي المبكّر، بأنّ هذه المقابسة للأفكار “الباستيش pastiche” سوف تختلط بالمحاكاة الساخرة “الباروديا (parody ” (14) – ، بسبب عجز السارد على تمثّلها الحداثي، فيخترع من لدنه أفعالاً لا يمكن فهمها إلا من خلال التسطح ما بعد الحداثي.(4)قبل التوقف عند أفعال الرواية أو أحداثها أرى أهمية تأويلية في مقاربة التمييز بين الرؤيا والرؤية الذي ذكرته، لأشرح من خلاله الفارق بين الرؤيا الحداثية والرؤيا ما بعد الحداثية. فكما هو معلوم، ربما، يحيل معنى الرؤيا معجمياً إلى الحلم، واصطلاحياً إلى شيء متهالك ومهزوم في الحداثة العربية، ولاسيما الشعرية منها، الأساطير مثلاً.، أو الوعي الكلّي الشيوعي – ولا أقول الماركسي لكيلا يعمّم الرأي على نتاج كارل ماركس الفلسفي- مثلاً. حيث الإنسانية منتصرة سلفاً إما بانبعاث قدري كما هو الحال في الأساطير، وإما بالحتمية التاريخية كما هو الحال في الوعي الشيوعي، وما حكاية الاثنين، مهما كان جنسها قصيدة أو رواية، سوى تأكيد لهذا الانتصار أو التبشير به، بلا رؤية بأسباب الهزيمة وبلا رؤية بكيفية تجاوزها. ومعنى الرؤية – كما هو معلوم أيضاً – من الرأي وما يدلّ عليه من معرفة وحاكمة نقدية.(15) بعد استذكار ذلك ربما لا أجد مخاطرة نقدية في القول إنّ الروائي خليل النعيمي يبني روايته على الرؤيا، وقد نفى عنها مصطلحها الحداثي الآنف شرحه. لتأخذ مفهوماً جديداً هو أقرب إلى السريالية حيث يختلط في عمله الحلم واليقظة، أو الواقع والخيال، السيرة الذاتية وما يمكن أن تتبنّاه من سير أخرى، عايشها أو سمع بها أو تصلح لتدخل في نسيج سيرته ذاتها. ومعرفة ذلك ضروري لكسر التماهي مع السارد من جهة. ولتمايز عمله كجنس روائي موضوعي وليس مجرّد كتابة مذكرات شخصية من جهة أخرى. وتبدو ضرورة شرح ذلك من قبلي: أولاً لفهم بناء رواية (الرجل الذي يأكل نفسه)، ومقولاتها الجمالية والمعرفية. ثانياً لفهم ريادة رواية (الرجل الذي يأكل نفسه) الما بعد حداثية بانفتاح الأجناس الأدبية أو طرقها وأساليبها على بعضها. لكن هذا الشرح لبناء الرؤيا في رواية خليل النعيمي قد لا يمنحها ميزة مضافة سوى كونها شكلاً مستعاراً “باستيش pastiche “، – قلتُ: إنّه اقتباسات نظرية وليست سردية – ومتلاعباً به بحيث يبدو الحلم واقعاً، والواقع مستغرباً، أو أقرب إلى الجنون المرضي. لولا أنّ القول بأنّ هذه الرؤيا ما هي سوى استعارة من استعارات الرؤية البلاغية، سوف يحرّرها من ثباتها الدلالي الحداثي. فهي ليست مشروعاً سريالياً حداثياً، وإن تشابهت معه شكلياً من جهة، ومن جهة سوف يطلقها في احتمالات التأويل الما بعد حدائي ويمنحها مشروعية فنية في السرد الروائي، قد لا يسوغها الواقع أو حكيه العادي والشفوي. فالرؤيا، أكانت نقلاً للواقع كما هو، أو خيالاً، أو مزجاً بينهما، هي خاضعة لإرادة الراوي، ولكن بما يتجاوز الرؤى الكلية: سريالية أو تلك التي يقيمها غاستون باشلار على الرموز الأربعة للخيمياء القديمة: النار والماء والتراب والهواء (16)، لتدخل في لعبته السردية آنياً وإجرائياً بما يمنحها وظيفة بلاعية لا أكثر (17). لتكون الرواية، بهذا المعنى، نصاً مفتوحاً دلالياً، على الرغم من تماسك بناء الرؤيا فيها كحامل للسرد من خلال سينوغرافيا أحداثها وتفاصيلها. وهذا البناء الفني هو ما يمتاز به عمل خليل النعيمي كمقترح إبداعي دائم التجدّد داخل الحالة الما بعد حداثية، على الرغم من غلبة المقابسات الغربية والعربية على هذه الحالة التي تصل إلى حدّ السرقات في أشكالها المزيفة والهابطة.
(5)ينطلق سرد الرواية من دمشق سنة ا197 لتكون فضاء الرؤيا كواقع مرئي ومحسوس في الزمن الراهن للرواية حين كتابتها – وأن يكون هذا الواقع الروائي أو بعضه حلماً أو متخيلاً أو يقظة حقيقة لم يعد، بعد الذي شرحته، بالشيء الهام- يشاهده شاب جامعي، يفكّر بأسباب هزيمة العرب في حزيران سنة 1967. وبما أنّ الفهم الحداثي العام للرؤيا يجعل الناس مستسلمين للهزيمة، وحتى غير عابئين أو شاعرين بها – كما يلاحظ أثناء تفحّص وحوههم في شارع الصالحية بدمشق – يحاول هذا الشاب الذي يتولى سرد الرواية، أن يتولى أثناء ذلك، فعل شيء ما يجعل البحث عن أسباب الهزيمة، والتفكير بها، ذا جدوى. رافضاً وصفها بالنكسة كما يفعل الآخرون، تلطيفاً لها، أو رغبة منهم بإشاعة أمل غير مرئيّ باحتمال تجاوزها. و ربما أوّل شيء كان لافتاً في تفكير هذا الشاب هو أن يرى في الهزيمة شيئاً إيجابياً، لأنّ هذه الهزيمة توقظ العرب من وهم تفوقهم الماضي، وتريهم ضعفهم الحالي. ولأنّ هذه الرؤية تتجاوب مع الفهم السادي للتغيير حتى ولو جاء من الخارج، ومن الأعداء. وربما ثاني شيء كان لافتاً هو إقراره بأنَّ هذا العنف الخارجي لم يكن كافياً ليقظة الناس وتغييرهم. وربما أهمّ شيء هو أن يذكر، ولو مستعجلاً، أنّ الأسباب السياسية ليست وحدها وراء هزيمة 1967. وربما، بدافع من هذه الأشياء جميعاً، يتمهل في البحث عن أسبابها الداخلية، ويقترح حلولاً ذاتية لها، تنسجم ورؤية نيتشه للتغيير.(18) لولا أنّ الروائي يلبسها طرافة “باروديا – parody”، بما يجعلها هي وحلولها في مجال النقد الفكري، وربما النقض أيضاً.
(6)قد لا يظهر البعد السريالي في حياة السارد اليومية من خلال علاقته مع إحدى زميلات الدراسة في جامعة دمشق. أو من خلال علاقته مع عائلته الفقيرة في الحسكة. وذلك كي يبقى للسرد – كما تقترح الرواية – مرتكزاً واقعياً يمكن المناورة التخيلية من خلاله. ولكن كلا العلاقتين تظهران أنّ السارد شخصية غير نمطية، ويصعب فهمها من قِبل شخصيات الرواية على الأقل.
و ما يجدر التنويه به بداية في قراءة شخصية السارد أنّها محكومة برؤية الروائي لكيفية وجودها فنياً في بناء الرواية وحياتها الأدبية في الرواية. وقراءة هذه الفنية سوف تشكل ميزة مضافة إلى بنيتها الدرامية: إن كان من ناحية كسر استيهامها الواقعي من خلال غرائبية أفكارها وانزياحها عن المجتمع الذي تعيش فيه، أو من خلال كسر كآبة السرد من خلال طرافة بعض أحداثها من الناحية ذاتها . بهذا الشكل يمكن فهم الدافع لعلاقة السارد بزميلته اتكاء على الرؤية السادية، ولكن من غير أن يلحق بها أيّ أذى جسدي على غير ما هو مشاع عن السادية. وربما من المفيد التذكر أنّ السادية في أساسها هي تصعيد، أو تحفيز، أو تعزيم دائم للشهوة، قد تكون القسوة إحدى أدواتها، ومن يعود إلى سيرة فرانسوا دو ساد الحقيقية في الواقع ?19? قد لا يلحظ هذه القسوة إلا لماماً. وربما يلحظ أنها قسوة اختبارية لأطروحاته النظرية، أو لما تزخر به سردياته الأدبية من تخيلات مشينة في انتهاكها للجسد الأنثوي. وربما معرفة الروائي بهذه السيرة وسردياتها هو ما جعل التعزيم الجنسي لدى السارد سلمياً، أو هو في الحقيقة لم يكن بحاجة إلى هذا التعزيم أصلاً بسبب كونه شاباً ومقدرته الطبيعية على ممارسة الجنس فائقة لما هو معتاد مقارنة بزميلاته المماثلات له في العمر. وربما لو توفّر له عدد من النساء كافٍ لتفريغ شهوته لما عانت إحداهنَّ من رغبته الدائمة في ممارسة الجنس وأكثر من مرّة في اللقاء الواحد. ومن غير أن يستجيب لرغبة أخرى في الزواج، أو يبدي أيّ شيء عاطفيّ في علاقته بها سوى رغبته الجنسية المحضة بحجّة التفرّد والحرية وعدم الذوبان بالآخر. لولا أنّ ذلك كله لم يزل يبيح، أو لا يمنع الحديث عن نوع من القسوة الساديّة في الفعل الجنسي المرهق تجاه جسد غير قادر على احتماله. أو عن نوع من السادية المرضية المضمرة أو الملتبسة بنوع من الحقد والانتقام: – أحتقرك، تطرح نفسك كالأبله، كلمة حنان واحدة لا تعرف، مسدسك مهيّأ للإطلاق دائماً.- قبحك يزيد عدم انسجامي مع العالم، يزيد شعوري بالفشل، كلّ مرة آخذكِ فيها أشعر بالخسران، أحسّ أنّ جسدي ينهب، أنّ عمري ينهب، تملأين نفسي بشبق حاقد لا يطفئه غيرك. بك أحسّ أنّني أنتقم من كلّ النساء اللواتي امتنعن عليّ، وجهك لا تعلوه ذرّة طهر واحدة، أشبع منك كيف؟” ?20?.احتقار زميلة السارد له هو إعلان لتمردها على قسوته، بداية بتشبيه المسدس الواضح في دلالته العنيفة وأذاها، لينتهي في لجوئها إلى العنف حين تطعنه في صدره للتخلص من إقامة علاقة جنسية لم تعد ترغب بها معه. بينما يظهر السارد من حديثه أنّ فشله في تدمير العالم القديم غير الراغب به قد تحوّل إلى نوع من المازوشية، المناقضة في فحواها لمفهوم السادية، وكان ذلك قبل أن يقدّم كأس ماء لزميلته بعد طعنها له لتخفّف من توترها، وتغادره بسلام. فما يصرّح به يوضح أنّ ما كان يعزّم شهوته تجاهها، ليس القوّة وإنما الضعف، وليس الثورة وإنما الاستسلام، وليس الجمال وإنما القبح!.
هذا الجدل بين الرجل والمرأة، وتبادل الأدوار الدلالية في علاقتهما، أترك شرحه موسّعاً إلى قراءة روايات أخرى لخليل النعيمي. ليس قفزاً عن هذه الرواية، وإنما لأنّ ما يراد فيها من خلال هذه العلاقة قد تمّ شرحه، تمهيداً لشرح زيف الادعاء البطولي وعدم فهمه كفاية من مصدره الألماني نيتشه، كنوع من نقد الروائي من خلال حكاية سارده لمفهوم الفحولة العربية، ولاسيما حين صار هذا المفهوم يرتكز في الوعي العام على القدرة الجنسية وحدها.7ربما هزيمة 1967 تشكّك بالوجود العربي فكراً وممارسة، أحزاباً ومؤسسات.. وهذا التشكيك الذي يبدو ما بعد حداثي في دول قوية أنجزت مهامها الصناعية والفكرية الحديثة، ما هو في رواية خليل النعيمي، سوى تشكيك في عدم المقدرة على النهوض والتقدّم الحداثي، مما يعني استمرار الانحطاط في مرحلة ما قبل الحداثة. لذلك يبدو السارد عاجزاً عن الفعل، ويسوّغ وجوده بنوع من الرغبة الواهمة، واللوم لمن لا ينتظر مردود أفكاره واقعياً، مهما كانت مضطربة، وغير قابلة للتحقّق. وكما ذكرت كان من مهمات الرواية ومقاصدها أن تكشف ذلك وتنقده وتعريه. بل إنّ الروائي لا يترك القارئ بلا استدلالات حفرية في تاريخ شخصية السارد، بل واستدلالات جينية في نزوعها الذاتي منذ الطفولة نحو ما هو غرائبي وطقسي يقارب الأسطورة ولكن لنقضها أؤكّد مرة أخرى. يظهر ذلك من جهة أبيه الذي لا يتقن أيّ عمل سوى رواية الحكايات البطولية لأمه كعامل جذب وصراع بينهما, أو التشرد والسرقة. ويظهر ذلك من جهة طفولته في الحسكة حين يطارد المطر إلى قمة التلّ ويعود محموماً، ويضطر والداه لذبح العنزة الوحيدة التي يمتلكانها لتدفئته بجلدها دون جدوى، وخيراً فعلا أخيراً بعيادة الطبيب لينقذه من موت محقّق.لكنّ السارد لا يستطيع أن يفعل شيئاً حيال موت أمّه، ولا حيال وصيتها له برعاية العائلة من بعدها. ويعود إلى سيرته المعتادة في دمشق إلى حين موت أخته ليواجه هذا الموت بلامبالاة أيضاً، لكنها لامبالاة جادة ومدروسة، وليست عبثية كلامبالاة بطل رواية “الغريب” لألبير كامو حين وفاة أمه مثلاً ?21?. فموت الأم أو الأخت لدى سارد خليل النعيمي شيء عادي، ولا يغيّر في صيرورة التاريخ بينما “الحياة جديرة بالمواقف الكبيرة والانعطافات الحادة” ?22? كما يقول لنفسه في وداعها. 8إعلاء شأن الذات وأفكارها هو ما يجعل السارد دائم المونولوج، والتبرير لعجزه ومداراته. وربما باستثناء تبادله الرسائل مع قريب له في الحسكة يثنيه فيه هذا الأخير عن رغبته بالانتحار في إحداها، ويحثّه على الدراسة، يكاد السارد لا يتكّلم مع أحد سوى مع نفسه. ولأنه نيتشوي، وبطولي، والعالم من حوله سلبي ولا يفعل شيئاً لتدارك الهزيمة وأسبابها. ولأنّ الأفكار تبقى أفكاراً لا أهمية لها بلا فعل يحقّقها، يقرّر أن يفعل شيئاً، وهو نسف سيارات الموتى. نسف جثة الميت بالديناميت، ولكن من غير أن يسبب أيّ أذى لموكبه!. وأن يبدو هذا الفعل دادائياً، مضحكاً بسبب عدم نجاعته في التحول والتغيير في واقع الهزيمة، إلا أنه كافٍ بالنسبة للسارد الذي لا يعترف بالكمال، ولا بالحشود، ليحقّق شيئاً ذا شأن لذاته الحاقدة، شيئاً يميزه عن الآخرين ويجعله بطلاً أمام مرآة نفسه. وككلّ شيء يفعله أو لا يفعله سوف يجد له تبريراً منطقياً مهدّئاً لاضطرابه طالما فيه إدانة للآخرين، الآخرين الموتى الذين لا يفكرون ولا يفعلون شيئاً:” أنتظر مواكب الجنازات، أراقبها، أفجرها، أفرح. مثل هذه الأشياء تبدو غير ذات قيمة، أية قيمة ينشدها الآخرون؟ كان شوبنهور يقول: السعادة في الحياة محال، أكثر ما يسعد المرء أن يحيا حياة البطولة، العبث كامن في بنية الأشياء، لا شيء يبرر انسحاقنا وفشلنا، سأحارب في ساحة أريدها أنا، سأحدّد أهدافي بوضوح، الأحياء لا يستحقون أن يحاربوا، الأموات أعداء ألدّاء، لا يستحقون غطاء ترابياً، لن أدع الأرض تذويهم، لم يشبعوا حتى من الهواء في حياتهم، احتراقهم يعني إعطاؤهم أكبر كمية من الأوكسجين ” ?23?.قد يجد قارئ جادّ في نسف الموتى تأويلاً ألسنياً، رمزياً ربما، أو كما يؤول الحلم مثلاً، ولاسيما وفقاً للفهم السريالي الذي شرحته سابقاً، وعلى الأغلب قصده الروائي. لكن لفت الانتباه إلى الطبيعة المركبّة لشخصية السارد واحتمالها لعدّة تأويلات، ربما -إذا ما جادلت بين الفهم والتفسير على طريقة ريكور في التأويل- يبقى أكثرها إقناعاً ذلك الذي يكشف الواقع ويستشرف مستقبله، أو يقترح عليه شيئاً من أجل هذا المستقبل،. وعلى هذا سوف يبقى نسف سيارة الموتى فعلاً طريفاً، وغير عقلاني. ولكن بتأويل ألسني أيضاً سوف يبقى فعلاً دالّاً على نوع من العنف السلمي المرتجى، تفصح عنه رغبة السارد بأن يشبع الموتى مزيداً من الأوكسجين من خلال احتراقهم. هذا العنف السلمي المولّد للطاقة الإيجابية المتمثل بالفعل الديناميتيّ، هنا، لم أكن أريدُ ربطه جينياً بروايات أخرى، كرواية “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ تحديداً، التي تنتهي بانتشار الزجاجات الحارقة أو المتفجرة شعبياً، غير أنّ إشارتي إلى هذا الربط، لن تخلو من أهمية تأويلية حين السؤال عن فاعلية رواية لمّا تُقرأ بشكل جيد من قبل المعنيين بها من متكلّمي العربية، حتى يأخذوا دلالة الديناميت أو الزجاجات المتفجّرة على محمل الجدّ، كمرتكز علميّ أو كمرتكز قوّة ?24?!؟9عبثية التفكير وما يصدر عنه من أفعال غير فعّالة أو غير عقلانية في الواقع، هي ما تجعل الذات تأكل نفسها، من خلال تبديدها لطاقتها فيما لا يمكن تصنيعه أو إنتاجه، كأن يحاول السارد صياغة الوعي الرافض للهزيمة أو المتمرد على الاستسلام لها، على أسبابها، وعلى نتائجها. لكن الوعي الزائف لكيفية ذلك هو ما جعله يفعل ما يفعله. وربما معاينته لنتائج هذا الزيف بعد أن أفرغ طاقته المتمردّة على النحو الذي حصل في سيارات الموتى، هي ما جعلته أكثر اتزاناً في محاكمة حياته الشخصية، وبدء التفكير جدياً بالحصول على عمل يمكن من خلاله توفير بعض المال لإعانة ما تبقى من عائلته، أقصد أباه وأخوته.لا يفصح الروائي عن طبيعة الوظيفة التي أوكلتها الحكومة للسارد في إحدى قرى ريف دمشق. ربما لأنّ الفعل الدرامي لا يستلزم ذلك، طالما أن أهالي القرية التي يعيش فيها ينظرون إليه كموظف دولة غريب لا شأن لهم به، وربما أراحه أنّهم يعيشون قدرهم ببلادة ورضا، ولا يكترثون سوى لزراعتهم ومواشيهم، وأنه يعيش وحيداً بينهم من أجل أمل ما. لولا أنّ حلاق القرية، ربما لأنه ليس من سكان القرية الأصليين، ارتاب من السارد حين لاحظ أنه بمشي لساعات طويلة أثناء الليل، ولما كان غيوراً على زوجته، أرسلها إلى أهلها، ليزور السارد، ويستكشف أمره. لكن ما حصل أنّ الحلاق سرد للشاب الموظف الواقع بلا أفكار ، كما هو فعلاً، على حقيقته ، حقيقة الفلاحين الذين يعيشون كدوابهم وكيف تمتص المدينة نتاج عملهم، وحقيقة الموظفين الأذكياء والمطيعين لرؤسائهم بل يذهب به المديح لهم إلى حدّ تشبيههم بغنم الدولة. وباعتباره نازحاً بسبب الهزيمة يشرح للسارد ذل النزوح ومهانته، وضرورة التمسك بالأرض، وكيف تحولت النازحات إلى عاهرات.. وكيف ضرب رأسه بالمقص لأنه رأى جندياً يغازل نازحة، وكيف قبل بكلّ ذلك فيما بعد لأنّ الدولة أفهم منه، ويستمر الحلاق في الثرثرة على هذا المنوال إلى أن يستيقظ السارد صباحاً ويجد الحلاق نائماً لديه. لا يوقظ الحلاق لدى السارد النقمة على واقع الهزيمة من جديد، وإنما النقمة على وظيفته وأجرها الهزيل، الذي لا يناسب طموحات العظمة التي تهجس بها نفسه. فيشعر بضيق ثياب موظف الدولة عليه، وثياب الأهل، والبيت القديم، فهو نازح أيضاً وإن بسبب الفقر، ولن يستطيع من خلال هذه الثياب أن يقنع الناس بالتحول، لذلك يتعرى ويقفز فوق الحلاق ويتبول عليه لأنه رضخ لكل ما تحدّث عنه ولم يثر ضدّه. ويخرج إلى القرية وسط دهشة الأهالي من رؤيته عارياً، وفرحة الأطفال بذلك، ولحاقهم به إلى حين تمدّده على الأرض ليلتصق بالتراب ويتمرغ به، ويطلب من الأطفال أن يمرغوه كذلك، متقلباً على بطنه وظهره إلى أن يلتحف بالغبار، وينام.لا أدري إن كان القارئ ضحك، أو سوف يضحك ضحكي، أو مثله، من ردّة فعل الحلاق حين تبول السارد عليه؟، ولم أوردها هنا، ربما لأسباب تقنية، وإنما ذكرتها لأدلّل على الروح المرحة التي يتمتع بها خليل النعيمي، نتيجة أفقه الواسع الذي لا يحيطه سوى السرياليون الكبار- طرافة سلفادور دالي أو بابلو بيكاسو مثلاً. فالفعل التمردي الذي قام به السارد من خلال التعرّي، لا يمكن رصده إلا من خلال الأحلام، وأن يكون الروائي قد عاشه حقاً، فلا يغيّر ذلك شيئاً في دلالته، ولاسيما أنّ الرواية تذهب به في سياق منطقي واقعي، يدخل نتيجته السارد إلى مشفى الأمراض العقلية. وإن صار من الواضح أنّ الوعي السريالي هو مرتكز هذا التعري . فإن قراءة ميشال فوكو لتاريخ الجنون ?25? سوف تفسّره، كأن أقول: إنّ ما جعل السارد يتخلّى عن اتزانه، هو احتكاكه بلاعقلانية الواقع الذي يعيشه، لاعقلانية الناس، ولا عقلانية أجور العمل في الدولة.لا يطول المقام بالسارد في مشفى الأمراض العقلية ربما لاقتناع الطبيب برجاحة عقله من جهة، وربما لأنّ ثمة حالة مرضية تبحث عن مكان لها في زحام المشفى تنتظر في غرفة الاستقبال من جهة أخرى. وحصل أنّ السارد لم يكن لديه نقود بعد خروجه من المشفى، وحين رأى أحد المتسوّلين المقعدين على الرصيف، طلب منه مالاً يكفي للوصول إلى دمشق، ولمّا تجاهله المتسول، جلس إلى جانبه، وفرد ورقة المشفى التي تتضمن تقريراً بحالته المرضية العارضة وشفائه منها وإمكانية عودته إلى الوظيفة، ليتسول عليها. وحين لم يفلح ذلك، سرق النقود التي تملأ صحن المتسول، وألقى إليه عوضاً عنها بورقة المشفى، كقرار صريح بعدم رغبته بالوظيفة، وكدلالة على أنّ التسول يمنح أجراً أكثر منها. لكن، هل فعل السارد هذا كان اضطرارياً أم أنّ الأمر جرى مجرى طبيعياً من خلال وراثته لطبائع والده في التسوّل والسرقة؟ ومهما كان الجواب، يبدو أنّ السارد قد أضمر شيئاً يمكّنه فعلاً من تحقيق رغبته بدراسة الطبّ كما صرّح لأحد أطباء مشفى المجانين. أذكر ذلك لأنّ الروائي خليل النعيمي حاصل فعلاً على شهادة أكاديمية عالية في الفلسفة، وهو حالياً طبيب مختصّ بالجراحة.10لم يتخلّ السارد عن الوظيفة وحدها. وذكرت كيف تخلّت عنه زميلته في الجامعة. ويوم صادفته إحدى قريباته في أحد شوارع دمشق، وأخبرته بالوضع البائس الذي تعيش به عائلته، نهرها بجفاء، منكراً أن يكون له أهل. بل وصل به الحال إلى رفضه المشاركة في مسيرة داعمة للثورة في العراق لأنه لا يريد أن يتحمل ضريبة عاطفية لأشياء لم يفعلها.هكذا يتخلى السارد عن كلّ شيء، أو بكلمة أدقّ عن كلّ سلطة، ساهمت في فشله، وبدّدتْ طاقته. لكن أن يعود إلى البيت، ويرى والده هناك، فهذا شيء فاقم من حالته ولاسيما أنّ والده لم يتغيّر وبقي على بهورته وادعاءاته الكاذبة بعزة النفس والعطالة في نفس الوقت. وربما لأنّ السارد لا يملك طعاماً وشراباً يقدمهما لأبيه قام بإحراق المطبخ. واجتمع الناس، وبدأت سطول المياه بالتوافد، والبيت يحترق والسارد سعيد بذلك، لأنه سيتخلص من البيت أيضاً، ولم يبقَ من ماضيه إلا أبيه فأثار نخوته بالاقتراب من النار، ليشارك في إطفائها، وبينما يناوله سطل الماء، انزلق الأب داخل البيت ليحترق فيه. وغادر السارد بيته غير آسفٍ، وغير مستجيب لمن يصيح عليه:” أطفئ النار، بيتك يحترق، أبوك فيه!؟” ?26?.و وجد نفسه في شوارع المدينة يمشي بتصميم على وقع خطوات جديدة. وأكثر من ذلك، حين نظر في وجوه الناس لم ير ذلك الخزي واللؤم وتلك الخسة، وإنما سمات أخرى احتلت قسماتهم: عنف، شراسة، قسوة.. وشعر بقشعريرة حادة تعتريه كأنّ جلده صغر إلى نصفه، وتابع سيره وهو يصفّر بلحن حزين كان يصفّره في طفولته.إذا كان كره الأب والرغبة بقتله إحدى الحكايات الكبرى لعلم النفس الحديث بدءاً من سيغموند فرويد،?، حتى وجد صداه في قراءة الرواية العربية من خلال جورج طرابيشي ?27? ، إلا أنّ هذا الصدى بدأ يتبدّد من خلال قراءتي لروايات حنا مينه، بل ومن خلال تفكيكي لأسطورة أوديب ذاتها، واقتراح حلول ثقافية وتربوية لها، قد لا يكون لها علاقة بعلم النفس وكيفية حله للعقد ?28?. أقول ذلك، لأنفي أيّة علاقة لعقدة أوديب برواية خليل النعيمي هذه، على الرغم من تصريح السارد المتكرّر بكراهيته لأبيه، ومساهمته الواضح بقتله. وقد لا يحتاج ذلك إلى تأويل، طالما أنّ ما يفسّر هذه الكراهية هو عطالة الأب وإعادة إنتاجه لحكايات الأسلاف على سبيل التسلية، لا الفعل. بما يجعل هذا الأب أقرب إلى حالة ما بعد الحداثة بشكلها الارتكاسي الذي حذّر منه كثير من كتاب ما بعد الحداثة ومفكروها. بينما كان مسعى السارد أقرب إلى الحداثة في مشاريعه الباحثة عن الإنقاذ من الهزيمة. وإذا كان تاريخ بعض شعوب العالم الثالث يقول: إنّ حكاية الحداثة والتصنيع قد تحتاج إلى أبّ صارم وربما مستبدّ، أكثر من حاجتها إلى موته. فهل تشكّل رواية “الرجل الذي يأكل نفسه” رغبة بالحداثة وإنتاجها ولو عن طريق الاستبداد أم أنها تبحث عن التحرّر من الانحطاط بسبل ما بعد حداثية أقل تسلطاً وعنفاً؟. لا أريد أن أقدّم إجابة حاسمة على ذلك، لولا أنّ هذه الرواية الرائدة تشكّل مقاربة لحالة ما بعد الحداثة على أكثر من صعيد وجهة، ليس أهمها كشفها لفشل الحداثة العربية وزيفها، وهذا بحدّ ذاته يفتح المجال واسعاً لسؤال ما بعد الحداثة بحالتها العربية. وروايات خليل النعيمي اللاحقة سوف تقدّم أكثر من إجابة.
هوامش وشروحات إضافية?1?- يرجع بيتر بروكر ظهور مصطلح “ما بعد الحداثة” في مقدمة كتابه (الحداثة وما بعد الحداثة، ترجمة د. عبد الوهاب المؤدب، مراجعة د. جابر عصفور، منشورات المجمع الثقافي، أبو ظبي، الطبعة الأولى 1995، صفحة 22) إلى أربعينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية. بينما يرجع أندرياس هويسن في مقاله ” رسم خريطة لما بعد الحداثي” والمنشور في كتاب (مدخل إلى ما بعد الحداثة، ترجمة وإعداد أحمد حسان، وزارة الثقافة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1994، صفحة 227) ظهور مصطلح ما بعد الحداثة في النقد الأدبي إلى أواخر الخمسينيات حين استخدمه ايرفنج هاو وهاري ليفين للتأسي على تسطح الحركة الحداثية.?2?- غالباً ما تبدأ الكتب التي تتناول “ما بعد الحداثة” بالأعمال الفنية أو الأدبية، هكذا يفعل تيري أيغلتون مثلاً، في مقاله “الرأسمالية والحداثة وما بعد الحداثة” المنشور، في كتاب (مدخل إلى ما بعد الحداثة، مصدر سابق، صفحة 19). وربما يكون الاهتمام الأولي بالأشكال الفنية دلالة على اهتمام ما بعد الحداثة بالسطح والمنتوج أكثر من العمق والأسباب التاريخية.?3?- استنتاج مبني على ما كتبه تيري أيغلتون (مدخل إلى ما بعد الحداثة، مصدر سابق، صفحة 24). بمعنى أنّ القيم مرهونة بالتداول الشيئي السلعي، وليس على أساس النقد أو التمييز بين الخطأ والصواب، وقد شرح تيري أيغلتون عدم إمكانية النقد هذه في نفس المقال صفحة (40).?4?- يقدم جان بودريار شرحاً وافياً لمظاهر ما بعد الحداثة المزيفة في دراسته “الصور الزائفة وصور الزيف” المنشور في كتاب (الحداثة وما بعد الحداثة، مصدر سابق، صفحة 238).?5?- يبدأ جان فرانسوا ليوتار مقاله “الوضع ما بعد الحداثي” المنشور في كتاب (مدخل إلى ما بعد الحداثة، مصدر سابق، صفحة 178) بالقول:” أعرف ما بعد الحداثي بأنه التشكك إزاء الميتا- حكايات”. والمقصود بالحكايات هي النظريات الفكرية، والفنية الكبرى، ولاسيما الحديثة منها.?6?- هذه التشابهات من أكثر المسائل تعقيداً في فهم ما بعد الحداثة. ولذلك تتعدّد المداخل لهذا الفهم، مرة من خلال الفنّ التشكيلي والنحت، ومرة من خلال العمارة، ومرة من خلال الأدب، ومرة من خلال التشكيك بالحكايات الفكرية الكبرى وهكذا. وقد وردت عدّة تلميحات في الدراسات الغربية التي قرأتها إلى هذا التشابهات، وضرورة التمييز بينها في وضعها الحداثي ووضعها ما بعد الحداثي، ولكن من غير شرح كافٍ لفهمها. ويرى د. بدر الدين مصطفى في كتابه ( حالة ما بعد الحداثة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، صفحة 29) صعوبة في الفصل بين الحداثة وما بعد الحداثة بما يهدّد إمكانية التمييز بينهما. وربما من مقاصد دراستي هذه أن أقوم بشيء من هذا التمييز وشرحه في مواضعه في رواية خليل النعيمي.?7?- يمكن الاستفادة من أفكار جان فرانسوا ليوتار حول “البارالوجيا” من أجل تمكين ما بعد الحداثة في العالم الثالث التي وردت في مقاله المذكور في الهامش قبل السابق(صفحة 188). إضافة إلى أنّ بيتر بروكر (الحداثة وما بعد الحداثة، مصدر سابق، صفحة 8) يقرّ بإمكانية ذلك صراحة. بينما صبحي حديدي في دراسة، معاد نشرها، أو مجتزأ منها ، في كتاب ( ما بعد الحداثة “تحديدات”، إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2007، صفحة 68)، يناقش اعتماداً على نيتشه وهايدغر، إمكانية هذا التمكين من غير التوصل إلى نتيجة واضحة سوى تشويش المركز وخلخلته. ?8?- خليل النعيمي، الرجل الذي يأكل نفسه، دار العودة، بيروت، الطبعة الأولى 1972. ?9?- حول هذه الارتدادات العربية لما بعد الحداثة، نشرت حتى الآن ثلاثة كتب تتناول أعمال ثلاثة كتاب سوريين: (الوعي وبناؤه في مسرح سعد الله ونوس، دار نقوش عربية، تونس، 2010) و(انتصار الجسد وهزيمته في روايات حنا مينه، دار بيرم، تونس، 2014) و(زلزلة الحداثة العربية، دار ديار، تونس، 2017).?10?- مع أنّ ميشيل فوكو يرفض أن يكون لحفريات المعرفة أيّة وظيفة تأويلية أو مجازية إلا أنّه يشرح كيف يمكن قراءة الخطاب، وهو الرواية هنا، كنصب أثري مستقلّ بذاته وليس كوثيقة تاريخية مثلاً (ميشال فوكو، حفريات المعرفة، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، بيروت- الدار البيضاء، الطبعة الثانية 1987، صفحة 129) ?11?- من فضائل كتاب (ما بعد الحداثة “تحديدات”، مصدر سابق) أنه يتضمن مجموعة من الآراء حول ما بعد الحداثة لمفكرين وكتاب عرب أو من أصول عربية. فيرى محمد أركون في الصفحة (44) أنّ مصطلح “ما بعد الحداثة” مصطلح خاطئ، ويقترح بدلاً منه مصطلح “العقل المنبثق” للدلالة على الشيء نفسه. ثمّ في الصفحة (50) يعدّد سمير أمين سلبيات مصطلح ما بعد الحداثة ويقرنه بنظرية فرانسيس فوكوياما حول نهاية التاريخ. وفي الصفحة (74) ينظر الطيب تيزني بإيجابية إلى ما بعد الحداثة بما توفره من بروز نخب أدبية وفنية وسياسية جديدة وجامحة. وإن كان فكرها يعبّر عن فكر أزمة في بعدها التفكيكي، ويحذر من دخولها إلى الفكر العربي لأنها تجعل العرب خارج التاريخ إذا ما اقترنت بفكر فوكوياما مثلاً. طبعاً لا أرغب بمناقشة هذه الأفكار إلا في حدود ما تسمح رواية خليل النعيمي به. وإنما ذكرتها للدلالة على تأخّر التعامل مع مصطلح “ما بعد الحداثة” والتخوّف منه واستخدامه بعدم فهم غالباً في المقاربات النقدية للأدب والفن والثقافة عموماً. الشيء الذي نبّه إلى بعضه محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي في مقدمة هذا الكتاب.?12? ? ينقل فيصل دراج في الصفحة (25) من الكتاب المذكور بالهامش السابق، قول بودلير :” الحداثة هي الانتقالي، العابر، الجائز، وهي نصف الفن الذي يشكل الأزلي اللا متغيّر نصفه الآخر”. ومن الواضح أنّ لكلمة “الأزلي” مردودها في طابع المشروعات الحديثة التي يمتدحها فيصل دراج. وذلك على ما غير هو الحال في المشروعات الما بعد حداثية ذات الطابع الاستهلاكي التي يشنّ فيصل دراج عليها هجوماً عنيفاً في مواضع أخرى من هذا الكتاب.?13?- لا أعتقد أنّ المصادفة هي ما جعلت شاعراً سوريّاً مجايلاً إبداعياً لخليل النعيمي ، يكتب قصائده من ذات الحالة الما بعد الحداثية العربية، وربما كتابي ( زلزلة الحداثة العربية من خلال الأداء التحرّري لما بعد الحداثة في شعرية هادي دانيال، دار ديار، تونس، 2017) سيجعل مهمة دراساتي لروايات خليل النعيمي أقلّ مشقة، ولكن أكثر غنى وفهماً لمقاصدها. وحول غياب المعنى الثوري للحداثة العربية، أو زيفه، وتشظيه الما بعد حداثي يمكن العودة إلى الفصل الثالث من هذا الكتاب، صفحة (25).?14?- يشرح أحمد حسان في كتابه (مدخل إلى ما بعد الحداثة، مصدر سابق) “الباروديا ? parody” في هامش الصفحة (19) بأنها محاكاة ساخرة لأسلوب عمل أو أعمال تستهزئ بالعادات الأسلوبية لمؤلف أو مدرسة بالمبالغة بالعادات مثل محاكاة ثربانتس للرومانس الفروسي في رواية ( الدون كيخوته ? 1605)، و “الباستيش ?pastiche” في هامش الصفحة (20) بأنها مزيج مختلط من عناصر متنافرة، واقتباسات أسلوبية وتقنية، بهدف الإطراء أكثر من التهكم. وإذا كان فريدرك جيمسون يرى في متن الصفحتين أنّ المقابسة “الباستيش ?pastiche” هي النمط الملائم لثقافة ما بعد الحداثة كما نقل عنه تيري أيغلتون. لكن هذا الأخير يعود إلى شرح الكم الهائل من السخرية والتهكم في أعمال ما بعد الحداثة، صفحة (21).?15?- يقرأ الياس خوري في كتابه (دراسات في نقد الشعر، دار ابن رشد، بيروت، الطبعة الأولى 1979) قصيد ة ” أنشودة المطر” للشاعر العراقي بدر شاكر السياب على منوال هذه الرؤيا الحديثة.?16?- يمكن العودة بهذا الصدد إلى ما كتبه جون ليتشه عن غاستون باشلار في كتابه (خمسون مفكراً أساسياً معاصراً، ترجمة د. فاتنة البستاني، مراجعة د. محمد بدوي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى 2008. صفحة 26).?17?- يقول بول ريكور شيئاً يقارب ذلك: “قبل سنوات قليلة كنت معتاداً على ربط مهمة التأويلية ربطاً أساسياً بفكّ مغاليق طبقات متعدّدة من المعنى في اللغة الاستعارية والرمزية. أما اليوم فأرى أنّ اللغة الاستعارية والرمزية ليست نموذجاً إرشادياً لنظرية عامة في التأويلية” في كتابه (نظرية التأويل: الخطاب وفائض المعنى، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الثانية 2001، صفحة 126).?18?- حول منطلقات السارد الحداثية وتشكيك الرواية بها، أرى فائدة في مشاركة القارئ التأكيد مجدّداً على أنّ ذكر نيتشه، وغيره في سرد الرواية، يبقى متكأ لفهم بعض أحداثها، ولا يطرح نقاشاً فلسفياً حولها سلباً أو إيجاباً. بمعنى أنّ قول السارد في رواية (الرجل الذي يأكل نفسه، مصدر سابق، صفحة 26): ” نبتشه، عندما نادى بإرادة القوة ، لم يكن غبياً، كان مضطهداً، كان مريضاً، هذا يكفي، أنا مريض أيضاً”. سوف يشكّل مفتاحاً تأويلياً لفهم بعض أحداث الرواية على أساس الوعي الزائف لهذه الإرادة القوية. وكذلك حين يذكر السارد ألبير كامو (صفحة 28- 29) يمتدح تمرده وعنفه و موته الذي سيمزجه بالتراب ومعادنها. ولكنه في نفس الوقت يبدي عدم الرغبة بالموت على شاكلته. وهذا قد يشكّل مفارقة نقدية حيث السارد يتبنى فكر الحداثة ومشروعاتها من خلال نيتشه، بينما يرفض حالة التمرد عند كامو وعبثيتها ما بعد الحداثية. وطبعاً لا يمكنني فهم ذلك على أنه جدل فلسفي كما يرى السارد في الصفحة (27) في الجمع بين المتناقضات، بقدر ما هو تشظٍّ فكري في وعي السارد من جهة، وفي علاقته بالواقع المهزوم من جهة أخرى، بما يشرح الحالة الفصامية كقيمة ما بعد حداثية في جدول إيهاب حسن الذي نقله بيتر بروكر إلى كتابه (الحداثة وما بعد الحداثة. مصدر سابق. صفحة 30).?19?- اعتمدت في مقاربة السادية والمازوشية، هنا، على دراسة (أصول التعذيب في الأدب، برناردت. ج. هروود، ترجمة ممدوح عدوان، مجلة الكرمل، نبقوسيا، قبرص. العدد 9\ 1983).?20?- خليل النعيمي، الرجل الذي يأكل نفسه، مصدر سابق، صفحة 206.?21?- ألبير كامو، الغريب، ترجمة عايدة مطرجي إدريس، دار الآداب، بيروت، طبعة 2013.?22?- خليل النعيمي، الرجل الذي يأكل نفسه، مصدر سابق، صفحة 134.?23?- خليل النعيمي، الرجل الذي يأكل نفسه، مصدر سابق، صفحة 146.?24?- نجيب محفوظ، أولاد حارتنا، دار الآداب، بيروت، الطبعة السادسة 1986.?25?- ميشيل فوكو، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، صفحة 35.?26?- خليل النعيمي، الرجل الذي يأكل نفسه، مصدر سابق، صفحة 225.?27?- جورج طرابيشي، عقدة أوديب في الرواية العربية، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثانية 1987. صفحة 278.?28?- نديم الوزه، انتصار الجسد وهزيمته في روايات حنا مينه، دار بيرم، تونس، الطبعة الأولى 2014. صفحة 39.
نديم الوزه*