ضياء عبدالله الكعبي
أكاديمية وناقدة بحرينية
تتشكّل نصوص الشاعر البحريني علي الشرقاوي الشعرية على امتداد تجربته الأدبيّة بوصفها تناصات ثقافيّة كبرى للقصيدة القناع التي هي قصيدة حياة تكون فيها الذات الشعرية المركز والهامش. إنَّ كتابة الشرقاوي الشعرية تدرّجت من الكتابة الطباقيّة ذات الترميز السياسي الأيديولوجي الانعكاسي التي تحيل إلى كتاباته الشعرية في دواوينه الأولى إلى مرحلة أخرى من الكتابات النصية الترميزية المُغرقة في الغموض والمنحازة إلى سرد الهوامش والترحال وعدم الاستقرار، وإلى تلك الكتابات الصّوفية المسكونة بالبحث عن الكشف والرؤيا والتأويل اللامتناهي. ونستطيع قراءة خطاب علي الشرقاوي الشعري فقط بوصفه خطابًا يخلق من داخله مواقع السلطة والقوة والإزاحة والتفكيك بمراكزه وهوامشه: كتابة صعبة تخرق المجاز وتولّد الدهشة والأسئلة. ويخلق الشرقاوي في مجمل تجربته الشعرية (الفصيحة والعامية) تلك الازدواجيات الثقافية بين نصوص صعبة وكتابات ترميزية، وبين شعره العامي الغنائي البسيط في كونه الكتابة السهلة الممتنعة.
تتناول هذه المقاربة النقدية نماذج مختارة من نصوص الشاعر البحريني علي الشرقاوي وهي: (تقاسيم ضاحي بن وليد الجديدة)، و(مخطوطات غيث بن اليراعة)، و(كتاب الشين)، و(الغاجاراشا، ملحمة الغجر) في سياق التناص الثقافي وتحليل الخطاب من خلال تلك الموازنات الكبرى مع نصوص ثقافيّة شكّلت الذاكرة والمتخّيل الجمعي. وتشتغل هذه المقاربة النقدية على بيان آليات التناص الثقافي في هذه النماذج المختارة وعلاقتها بخطاب علي الشرقاوي وسردياته الكبرى الاستعادية.
في التأسيس النقدي المنهجي: (التناصية الثقافيّة)
تشتغل الدراسات الثقافيّة (Cultural Studies) على تحليل الخطاب الأدبي وغير الأدبي بما في ذلك علاقات السلطة، والهيمنة، والتمثيلات في سياق التحليل الثقافي الذي يستعين بأدوات منهجية متعددة بما في ذلك الإجراءات المنهجية البنيوية وما بعدها. لقد أسهمت نظرية التناص في إثراء الدراسات النقدية عالميًا بعد تعدّد تشعباتها المنبثقة من أصولها الرئيسة، ويمثل مصطلح التناصية الثقافيّة (cultural Intertextuality) واحدًا من أبرز المصطلحات النقدية في سياق الدراسات الثقافيّة التي تشتغل على الخطاب والسياقات الثقافيّة، وتكشف عن النفوذ السياسي والهيمنة ودور الاستعمار وتمثيلات الهوية، محقِّقة بذلك علاقات واسعة بين الأدبي وغير الأدبي. وبعد خروج النظرية النقدية من درس النص الذي بُني على قاعدة أنَّ النص في حالة إنتاج دائمة من نصوص تماثله في جنسه، كان على النظرية نفسها أن تتبنى تصوّر النص في حالة إنتاج من السياقات الثقافيّة التي لها حضورها وتفاعلها في النص1.
تسعى القراءة التناصيّة الثقافيّة إلى بناء سياقات واسعة للدراسة الأدبيّة، والتركيز على الأبعاد التاريخيّة والثقافيّة للنصوص والقضايا مثل: العنصرية، الجندر، الإثنية، الطبقة، في علاقتها بالمنتج الثقافي. إنَّ النظريات السياقية نجحت في إيجاد علاقة بين النصوص الفردية والسياقات المختلفة، وأنظمة القوة، ولدى تلك النظريات نزعة إلى توظيف استراتيجيات النقد الأيديولوجي للكشف عن الأرضيات التاريخيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة في الأدب. ويشتغل التناص الثقافي على البنيات المهيمنة في الخطاب، وتقاطعات النصوص في سلاسلها التزامنية، والعمليات السيميولوجية المؤثِّرة ثقافيًا. وتمهد التناصية الثقافيّة إلى جانب اهتمامها بالسياقات لتأكيد أنَّ القصدية للمؤلف أو الجماعات التي تنتمي إليها أمر حتمي في الدراسات الإنسانيّة، وأنَّ تحليل النص بكونه نصًا منفصلًا عن تلك القصدية يظلُّ عملية ناقصة، كما لو أنَّ النص غير موجود، وتؤكد أنَّ العلاقات التناصية لا تقدم بطريقة سحرية بين نصوص جامدة، بل هي نتاج قصدية المؤلف، ومراعاة الافتراضات الأساسية للمؤلف وماذا يريد؟ ومع هذا التوجه فإننا نلحظ أنَّ الناقد الماركسي التأويلي (فردريك جيمسون) يقترح أنه من الممكن أن يكون التعامل مع النص بوصفه منتجًا ثقافيًا، يمكن أن ينطوي على التحليل النصي حيث الافتراضات الثقافية2.
تفيد التناصية الثقافية من منجزات النقد الثقافي والدراسات الثقافيّة؛ فقد بيَّن هايدن وايت (Hayden White) أنَّ التاريخانيّة الجديدة نظام ثقافي (cultural system) ينظر إلى النص في تناصه مع السياقات الثقافيّة والاجتماعيّة. كما أنّ التاريخانيّة الجديدة تستفيد من مقاربات الباحثين في سوسيولوجيّة الثقافة (socio_culture) ومنظري النسوية والثقافة المادية (cultural materialist) وغيرها من المقاربات الأخرى3. مما يؤكد تقاطع التاريخ في هذه الدراسات وانفتاحه على عدد من الدراسات البينية (Interdisciplinary Studies).
لقد تحوَّل التاريخ في التاريخانية الجديدة (The New Historicism) ودراسات ما بعد الكولونيالية (Post_Colonialicism) من الاهتمام بدراسة المركز إلى دراسة تاريخ الهامشيين وما أسماه بعض الباحثين (بالتاريخ المُفتت). إذ يذكر فرانسوا دوس (F.Dosse) أنَّ خطاب التاريخ الجديد يقدم “تاريخًا ثقافيًا وإثنوغرافيًا بالأساس. وهو وصف باهر للثقافة المادية ضمن مقاربة رومانسية جديدة يجالس فيها المجانين الساحرات، وتحل فيها الهوامش محل المركز وتقدم فيها الجمالية الجديدة وجهًا مغايرًا للسلطة التكنوقراطية المحيطة (…)، وهذا التاريخ يستبطن الأحلام الجوفاء والمكبوتات ليحقِّق إجماعًا حول بناء حداثتنا. ومهمة المؤرخ هي أن يجمع كل أولئك المنحرفين ليأتي بهم إلى محيط خليط حيث لكلِّ واحد مكانه ضمن مجموعة اجتماعيّة خالية من التناقضات”4.
ويمثل خطاب علي الشرقاوي الشعري في امتداداته الإبداعيّة مجالًا واعدًا لاستنطاق سردياته المستعادة بوصفها خطابات تفكك حدود الأنواع الأدبيّة وتتمرد عليها، وتشعرن التاريخ في بلاغة ثقافيّة تحتفي بالهوامش.
(تقاسيم ضاحي بن وليد الجديدة)
وخطاب البداوة/ البحر:
يذكر الناقد علوي الهاشمي أنَّ تجربة الشعر المعاصر في البحرين كغيرها من التجارب الشعرية مثقلة بالكثير من مخزون الذاكرة المعرفية ومصادر الثقافة المختلفة التي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع أو مستويات من المصادر، تمثل نمو تجربة الشعر الطبيعي من نقطة الخاص إلى فضاء العام، ومن المحلي إلى الإنساني، ومن الخصوصي المنغلق إلى المشترك المفتوح. وهذه المصادر الثلاثة هي: مصادر الذاكرة المحلية، فالقومية فالعالميّة5. وفي حديثه عن المرجعيات الثقافيّة لتوظيف الشخصية التاريخيّة (النموذج الواقعي الجديد) يبين أنَّ التفكير الرمزي ساعد على بلورة هذه الذاكرة التاريخيّة المختزلة وتوظيفها بصورة فنية متطورة عن ذي قبل، تعتمد التاريخ إطارًا هيكليًا لصورة الواقع. كما ساعد اقتطاع الشخصية التاريخيّة من سياقها الحدثي على إفراغها من قوانين ظروفها الطارئة وملابساتها العرضية وشحنها بالموقف المعاصر الذي يعبر عن جوهرها الحي المتصل عبر الزمان والمكان، مما يكتشفه فيها الشاعر الجديد6.
إنَّ ثمّة خطًا تطوريًا اتخذه الالتفات إلى الذاكرة التاريخية، كما يرى علوي الهاشمي في شعر المرحلة الجديدة في البحرين، خاصة ضمن إطار توظيف الشخصية التاريخيّة. فهناك انتقال متدرج من حيز”الإشارة” إلى حيز”الصورة”، إلى حيز “القصيدة” فحيّز “المجموعة الشعرية”، ويمثل حيِّز”القصيدة” الحيّز الغالب والمستوى الطاغي على غيره حتى الآن. في حين يمثل حيِّز المجموعة أقلها وأدناها، لأنه يؤشر الأفق الذي يصبو إليه تطوّر التجربة الشعرية الجديدة في هذا المضمار. خاصة وأنه يشتمل على مجموعتين شعريتين (رؤيا الفتوح/ضاحي) كرست كل منها بكاملها لشخصية اعتمد بناؤها الفنيُّ في مجمله عليها، وهو مستوى جديد من مستويات الإبداع الشعري على صعيد الوطن العربيّ كله، فيما يطلق عليه أحيانا “القصيدة-الديوان”. ويسميه علي الشرقاوي “قصيدة حياة” تهتم بمجمل حياة الشخصية وتفاصيلها وأجزائها الصغيرة. ويمثل هذا النوع من القصائد أنموذجًا دالًا على التقاطع بين الشعر والتاريخ في مضمار توظيف (الذاكرة التاريخيّة) التي تلقى اهتمامًا خاصًا متميزًا عن غيرها من مجالات الذاكرة الشعرية ومكوناتها المعرفية الأخرى7.
يصدر الشاعر البحريني علي الشرقاوي في خطابه الشعري عن “رؤية شعرية مؤسَّسة على سؤال اللغة، بوصفها طرحًا بديلًا للرمز في مفهومه العام، بخاصة الرمز الأسطوري المترسب في قاع اللاشعور الجمعي لدى المبدع. وتعد الرؤيا الشعرية لدى علي الشرقاوي من أكثر القصائد احتفاءً بهذا التصوُّر، كونها ترتشف من وحي الواقع، وتتبنى السبيل إلى الرؤيا، وتسعى إلى إثارة المتلقي. إنَّ خطاب الشرقاوي الشعري على درجة عالية من الغموض في خطاب يسعى إلى خرق اللغة وإعادة تفكيكها ثم بنائها بطاقة الاستبصار في مضمراتها القابلة لأكثر من تأويل”8. وتمثل دواوينه قصائد القناع (النصوص المتوازية) مع سردية الشاعر ابتداءً من ديوانه (تقاسيم ضاحي بن وليد الجديدة) انتهاءً إلى ملحمته الشعرية (الغاجاراشا: ملحمة الغجر).
تمتاز قصيدة (تقاسيم ضاحي بن وليد الجديدة) بخصائص جديدة متفردة على المستويين الفكري والفني، وعلى صعيد الشكل والمضمون، والمرجعيات الفكرية الثقافيّة؛ فالقصيدة تطرح لأول مرة مسألة “البداوة” و”البدوي” بوصفها بعدًا تاريخيًا متأصلًا في ضمير إنسان المنطقة وحضارته، تتناوله في إطار من الرؤية الجديدة عبر علاقتها بالماضي والمستقبل معًا. فمن هذا القلب البدوي تنطلق قصيدة الشرقاوي لتتقلب مع البدوي في وجوده وخصائصه النفسية وطباعه وعاداته وأحلامه عبر عدد كبير من الصفات كالوقت البدوي، والصوت البدوي، والخيام، والأنغام، والعود، والكشف، والحدس، والليل، والمواويل، والرحيل، والكهف، والحرف، والسيف، والوتر، والصرخات، والطين، والترياق، والحلم، وهي ما تربو على الأربعين مرة التي يرد ذكر “البدو” خلالها في القصيدة”9.
إنَّ البدوي في انفلاته صوب المغامرة والحركة والمجهل واللامحدود بحثًا عن “الحلم البدوي” يتخذ له من محور الثبات مرتكزًا يحفظ جذوره وانتماءه وأصالته. لقد انتبه علوي الهاشمي إلى طبيعة الخطاب الشعري الثقافي الذي تصدر عنه قصيدة (تقاسيم ضاحي بن وليد الجديدة) في تفكيكها مركزية البداوة/ البحر، وصياغة هذا الخطاب في تشكيلات هذا الحدس البدوي على مستوى التجربة الشعرية في تعابير وصياغات فنية مثل: جدائل الموج، ذاكرة البحر، الوقت البدوي، نسغ المحار، أمواج الخيل، حمحمة البحر، أزهار الموجة، الأوتاد البحرية، محار النخل، محار الأسرار، لقاح الموج، إلى آخر هذه الصور الجزئية التي يتقابل فيها مباشرة محور البحر مع محور الصحراء، مما يفرز خاصية فنية تعبيرية على مستوى الأسلوب في القصيدة. اعتمدت الحركة بين المحورين القطبين على عناصر التوهج الذاتي التي يمتاز بها إرث البدوي وحضارته وكونه النفسي، في اتجاهها من نقطة “الحدس البدوي” إلى أفق “الكشف البدوي”عبر موروث لغوي وثقافي ونفسي وحضاري وفني مثَّلته تجربة علي الشرقاوي10:
“والرملة
هذي الألفُ المقصورةُ واقفة
في البحرِ كان الفجر يحدِّقُ في تكوينِ الطير
_..اشربْ
ودعْ الحدس البدوي الأسفار يديرُ الكأس
_..ها أشعلت بحبات الرمل طريقًا
قلت لذاكرة البحر الممتدة في جذري:
اشتدي”11
تتمثل رمزية الصحراء والبحر الثقافيّة في مركزية صورة البدوي في ديوان (تقاسيم ضاحي بن وليد الجديدة) في تلك الحركة الممتدة طوال النص من خلال تقنيتي الترميز والتكثيف المجازي الدلالي:
ما أصغرني/ وأنا النقطة دار العالم حولي12
الشخصية معادل رمزي لتجربة الشاعر الذاتية (ملامح القصيدة القناع) يتأمل الشاعر من خلاله ذاته في علاقاته بالعالم13:
لقد كان الشاعر حريصًا كما يذكر علوي الهاشمي على إبراز شخصية البدوي، لا بوصفها شخصية تاريخية طارئة، عابرة ومختلفة، بل بوصفها كائنًا أسطوريًا كونيًا متجذّرًا في عناصر الطبيعة الأولى وفي حركتها وتفاعلها وتوالدها الحي وصولًا بها إلى الفكر الأسطوري الذي انبعث عنها بعد ذلك (المفارقات الزمنية). إنَّ الفاعلية التصويرية في “تقاسيم ضاحي بن وليد الجديدة” تتمدد عبر جميع خارطة النص بمختلف تضاريسها ومستوياتها، ضاربة بجذورها في أصغر حقل مفهومي يؤسس بنية النص هو الكلمة أو المفردة، متفرعة منه حتى الفضاء الأخير، أي أنَّ الصورة تبدأ بالكلمة المفردة وتنتهي بالنص في وجوده الكلي. لقد غدت شخصية (ضاحي بن وليد) قناعًا لكون صاحبها “بدويًا بحريًا” كما يسميه النص في “أنا البحر البدوي” أو في “أنا البدوي الضائع في ميناء العالم”. وبالتالي اكتسبت مفردة البدوي” كلّ هذا الغنى الذي يسمح لها بأن تصبح جذر الفاعليات جميعًا، وعلى رأسها الفاعلية التصويرية في توالداتها واتساع دوائرها من خلال شخصية ضاحي بن وليد البدوي الذي هو معادلٌ موازٍ لقناع والرمز والإنسان والأسطورة والخلق والرؤيا14: ما أصغرني/ وأنا النقطة دار العالم حولي”.15
(مخطوطات غيث بن اليراعة) والكتابة الخامسة:
يمارس علي الشرقاوي في (مخطوطات غيث بن اليراعة) تناصًا ثقافيا قائمًا على لعبة المركز والهامش (المتن والأطراف). إنَّ ثمّة تحيّزات ثقافية يؤسسها النص في انحيازه إلى الهوامش في (مخطوطات غيث بن اليراعة) وفي (كتاب الشين). ويشتغل الهامش في (مخطوطات غيث بن اليراعة) بوصفه نصًا شارحًا يعيد تفكيك المتون المكتوبة محدِّثًا كتابة الخرق؛ فعلى امتداد الكتب الثلاثة: رواية حجر بن سحاب، ورواية غصين بن الحدقة، ورواية ع.ش تتوازى متون كبرى: التيه والخوف والحلم والتجلي/ المكاشفة المجاهدة/ العشق واختراق الحلول/ الجذب والبرزخ. وتنتهي هذه المتون الكبرى بالحريق: فمن رواية حجر بن سحاب تشتغل الهوامش في طباق تفكيكي16:
يجمع المستحيل
كومةً
كومةً
وتصب عليه اللغة
ويشتغل الهامش في (مخطوطات غيث بن اليراعة) بوصفه نصًا طباقيًا “هامش قيل: هناك حروف مقصّبة بالتعب غير أنَّ المسمى بابن السحاب يغير أقواله كل يوم وحين يحاججه طرف ويذكره بالمشاوير والأمكنة يتوهّج بين الفراشة والضوء، يصرخ كالمستحيل:
كلامي حديقة نار
وذاكرتي أحصنة
فماذا تريدون من زمن
ليس يسكن في الأزمنة؟”17
تمثل قصائد (مخطوطات غيث بن اليراعة) القصائد الرؤيوية التي تعتمد على علاقة المتن بالهامش في ذلك التخيل السردي الذي يحيل إلى مرجعيات تاريخيّة مختلقة. إنَّ كتابة الخرق هي التي تحدث هذه الطباقات المجازية التفكيكية في خطاب علي الشرقاوي الشعري.
خطاب (كتاب الشين):
القصيدة السمة ولا وعي الصورة المهمشة:
وقف الناقد عبدالقادر فيدوح عند دلالة الإضمار ولا وعي الصورة المهمشة في (كتاب الشين) الذي يؤشِّر من وجهة نظري في تناصاته المؤسسة إلى تلك السَّرديات الموازية للشاعر نفسه؛ أيّ قصيدة القناع التي وجدنا تمثلاتها الكبرى في (تقاسيم ضاحي بن وليد الجديدة). لقد نحت عبدالقادر فيدوح مصطلحًا نقديًا جديدًا هو (القصيدة السمة)؛ أي بتحويل الرؤيا الشعرية من الصورة إلى السمة حين انتقلت القصيدة من النمطية المشار إليها في المرجعية الإبداعية في قصيدة الصورة بمحمولاتها الدلالية إلى القصيدة السمة التي تقوم بالكشف عن أنظمة العلامات، وهي أنظمة قوامها الإبانة عن الجنوح الذي تمارسه الذات، وتسهم في تشكيل المعنى عبر القيم الدلالية المرتبطة بالكلمة. وتؤسّس القصيدة السمة رؤيتها على سؤال اللغة بوصفها طرحًا بديلًا عن الرمز في مفهومه العام، بخاصة الرمز الأسطوري المترسب في قناع اللاشعور الجمعي لدى المبدع. وتتوقف دلالة التأويل بدلالة استنتاج المحذوف من الرؤيا التخييلية للقصيدة السمة الذي يستوجب تقديره من المتلقي بإنتاج دلالة ما، من خلال فاعلية القراءة المنتجة التي تعد النص “أثرًا مفتوحًا متحولًا”18.
الشين أمير الكلام
وسلطان عزف الخيال
به
وإليه
ومنه
سلكت فضاء اللغة19
لقد استلهم علي الشرقاوي حروفه من تلك المرجعيات المندغمة مع بعضها في تلك التخلقات الإبداعية الصوفية والمعرفية “ففي الكيمياء تحلق الطبيعة وكائناتها في فضاء المعرفة المطلقة في حين يترسب الإنسان في حيِّز المعرفة النسبية. أمَّا الأبجدية وحروفها فوسيط بين المعرفتين على عاتقها يضع الشاعر مهمة تقريب النسبي من المطلق بهتك المسافات وهدم الحدود وتبديد الظلمة، تلك الملامح تمثل قمة تحرر الأبجدية من أسر قيدها الإنساني والثقافي بمختلف أبعاده المعيارية”20.
لقد انتبه عبدالقادر فيدوح إلى ذلك التماهي الحاصل في دلالتي الإضمار ولا وعي الصور المهمشة في (كتاب الشين) مع علي الشرقاوي نفسه ” فال (الشين) ضمير المجد، به تبين الأمور، وبه تنكشف الحقائق في هذا الوجود، والشاعر في ذلك يرى مثول الحقيقة فيما ينبغي أن يبحث عنه في الواقع المأمول بفعل اللغة، بوصفهما مصدرًا للانبعاث (…)، والشين (السلطان) و(الأمير) هو الشرقاوي، والشرقاوي هو (السلطان)، وبفضلهما يتمّ (عزف الخيال) و(فضاء اللغة)، وبهما تكمن القرينة الدالة على فعل الخلق من (شين) الشاعر الرائي، الحريص على انبثاق الكون من خلال اللعب بـ(عزف الخيال) و(فضاء اللغة)21.
أوقفني بين خريطة فوضاه
وعاطفة البركان الراكض بالمخلوقات
من الشك إلى الشك وقال:
أنا فوضى الكلمات
الكلمات الكلمات الكلمات
أفوض أيامك يا هذا بإعادة أمواج خلاياي.22
– حين تهجيتُ هواء الدنيا
يا ذات الميمَين الشاخصتين23
و”إذا كان حرف الميم لدى المتصوفة مأخوذًا بصفات الملك في الروحانية والملكوتية، فإنه مستمد في منظور الشرقاوي بصفات الحيرة بين الواقع الوضيع والمطلق المثالي، وكأن الشاعر يعيش حالة ما بين الحضور والغيبة، وفيها تجسدت (ذات الميمين الشاخصتين) في ذات الشاعر بوصفه هائمًا بين مركز الوجودين، (ميم) مركز وجود الواقع المعمول بالاعتلال و(ميم) مركز الواقع المأمول بالإبلاء”24.
الغاجاراشا ملحمة الغجر:
الانحياز إلى سرد الهوامش
في العمل السردي (سيرة المنتهى:عِشْتُها كما اشْتَهَتني!) للروائي الجزائري واسيني الأعرج يغادر السارد (واسيني) الحياة في رحلة العروج بحثًا عن جده الأكبر الرُّوخو الذي ينام في مرقده الأخير بجبل النار. يرى واسيني تابوته مكتوبًا عليه اسمه وتاريخ ميلاده ووفاته بالعربيّة واللاتينية وكلمة صغيرة كان يرددها دائمًا “لقد عشتها كما اشتهتني لأنَّها كانت الأقوى. لم أكن استثناءً عظيمًا في هذه الدنيا، ولم أكن إلهًا صغيرًا، لكني لم أمر على هذه الحياة كغيمة جافة”.لم تحظّ النصوص الأخيرة لعلي الشرقاوي باشتغالات نقدية جادة رصينة على مستوى تحليل الخطاب الإبداعي عنده، وأخص بالذكر تلك النصوص التي تتواشج بعمق لتسفر عن رؤيته الكونيّة الكبرى. وأعد نصه الملحمي (الغاجاراشا، ملحمة الغجر) واحدًا من نصوص التجليات الكاشفة لديه؛ إذ يتقمص الشاعر روح أحد أحفاد الغجر ويروي سرديتهم الكبرى التي يتماهى معها:
” ثلاثون عامًا وأكثر، وأنا في مياه الكلام
أغوصُ وأطفو، ثم أغوص لأطفو لأنظر، ماذا فعلتُ بذاك الغلام
وأذكرُ.. أنسى، ندى الاحتلام
رأيتُ صباي، رأيتُ الذي ما رآه سواي
رأيتُ أبي في دمي، وأمي التي تشبه الأرض
في حلمها، رأيتُ السموات في حالة الابتسام”25.
ينحاز الشرقاوي في هذه الملحمة الكونيّة إلى سرد مغاير يغادر فيه عوالمه الممكنة الواقعية المرجعية والمتخيّلة في مسرحه الأسطوري التاريخي (السموأل)، و(البرهامة)، و(طرفة بن العبد)، و(تراجيديا المحرق) وغيرها. إنَّ ملحمته (الغاجاراشا) هي سردية كونيّة تحتفي بسردياتها الكبرى التي تجد فيها جذورها الأولى وهويتها السردية، وعندما تفقد السَّرد تفقد تلك الجذور. ويشتغل الشرقاوي في هذه الملحمة على سبعة كتب كبرى بما للرقم سبعة من دلالات دينية مقدسة تحيل على بدء الخليقة: (السماوات السبع) و(الأراضي السبع) وبما فيه من دلالات الكمال الروحي. وعلى امتداد هذه الملحمة المطوَّلة في تواريخ الارتحال والهجرات والشتات الغجري تفاجئك نصوص الشرقاوي التي تحاكي جلد المخطوطات العتيقة بأنَّها متمردة تحتفي بهامشيتها، وبأنَّها مغرقة في صوفيتها، ومغرقة كذلك في عناصرها الكونيّة. إنَّ “هذه الورقات المنزوعة من جلد المخطوطات السرية، ليستَ ملحمة تستوطن حفريات الشك، وليست أغنية لفراديس القدمين، هي الجملة قبل تفرع ماء النطق، هي الظن الراكض كالقنفذ من رغبة ما كان إلى عشبه ما سوف يكون، لها بالتاريخ علاقة ماموث الفطرة بالقاموس، لها أرخيتُ الغفلة في هيجان الرأس، ولها أعطيتُ الهذيان عناوين الفتحة والضمة والفاصل والفصل، من الدم/ السرة، أعني سر الأسرار، دخلتُ محاطًا بالغفلة، أمرقُ بين مرايا الطفلة والطفل، مندهش العين ومرتعش القلب، إلى الهم رحلتُ، لأعرف ما لا أعرف، أو أكشف ما أكشف، ولا أرغب في أن أصل المعنى”26، هكذا يعرَّف علي الشرقاوي ملحمته أو سرديته الكبرى!
تمثل سردية الغجر في ملحمتهم الكبرى تواريخ الشتات واللاانتماء والتمرد على الجغرافية التاريخية والعودة إلى المنابع الأولى. ويمثل سؤال الهوية والاختلاف حدود العلاقة بين الأنا (المهمشة) والآخر:
“ألوان باهتة
وفجعت بكفي الزرقاء
بكيت، لماذا لوني مختلف؟!
ولماذا شعري مختلفٌ؟! ولماذا صوتي؟!27”
إنَّ الغجري المرتحل عبر موانئ العالم لا يرتهن إلا إلى تاريخه الذي يصنعه قيد الحاضر، وبالتالي هو كائن لا ذاكرة مرجعيّة تقيده:
“ميناء اللعنة
فليلعن أصلي من شاء ومن سوف يشاء، قد يتشابه لحن كلامي، بلغات الهند، وقد يحمل صوتًا يحمل أصوات البدو الرحل في البحر وفي جوع الصحراء، وقد يغمر صوتي مطر التطواف، إلى ميناء اللعنة لا أعبأ.
أسلافك ما كانوا يدرون بوردة أحلامك أو بوجودك، دعهم في الماضي مرتاحين كغابة لوز لم تدخلها رائحة الكائن، دعهم متصلين بأنغام الريح، ومنفصلين كأغنية خضراء القامة لا تسكن إلا في غرف العشاق المنذورين إلى الغبطة.
نقدًا لا تمنحهم، وكلامًا يتسامى في اللحظة لا . اتركهم في أرض الماضي. أسلافك ليسوا أنت28”.
إنَّ ملحمة الغاجاراشا هي ملحمة الهوامش التي تحتفي بالمجازات الطباقية التفكيكية:
“ابن الهامش الخامس
يا رديف التسكع بين شوارع لحن الفضاء
لك في وردة الشك لحن الأراضي ومن السماء، لك الحلم في حلمه
لك الماء قبل الدخول إلى مائه
أيها الغجري المكعب قد تنتمي الريح للأرض قد تنتمي الأرض
للشمس قد تنتمي الشمس
…..
أرفض الانتماء”29
تتشكّل نصوص الشاعر البحريني علي الشرقاوي الشعرية على امتداد تجربته الأدبيّة بوصفها خطاب تناصات ثقافيّة كبرى للقصيدة القناع التي هي قصيدة حياة تكون فيها الذات الشعرية المركز والهامش. لقد تجاوز الشرقاوي حدود المحاكاة التناصية الطباقية المرجعية إلى كتابة خرق وتفكيك تعيد بناء عوالمه الشعرية بناءً رؤيويًا لشعرنة التاريخ في سردياته الكبرى الاستعادية. إنها نصوص تولِّد المجازات المدهشة في سرد تواريخ الهوامش!
الهوامش
انظر: معجب العدواني، القراءة التناصية الثقافية، ص 46_52..
انظر: المرجع نفسه ص 46_52..
P 93. White, Hayden.»New Historicism.A Comment in H.Aram
دوس، فرانسوا دوس. التاريخ المفتّت، من الحوليات إلى التاريخ الجديد، ص 373.
السكون المتحرك: دراسة في البنية والأسلوب، تجربة الشعر المعاصر في البحرين نموذجا، الجزء الثالث (بنية المضمون)، ص 67.
المرجع نفسه، ص 122.
السكون المتحرك، الجزء الثالث، ص 129.
انظر: فيدوح، عبدالقادر،» دلالة الإضمار ولا وعي الصورة المهمشة في شعر علي الشرقاوي»، من كتاب علي الشرقاوي، دراسات في التجربة والحياة، ص60.
قراءة نقدية في قصيدة حياة، تقاسيم ضاحي بن وليد الجديدة للشاعر علي الشرقاوي، ص 29.
انظر: قراءة نقدية في قصيدة حياة، ص 33. انظر: تقاسيم ضاحي بن وليد الجديدة، ص3.
تقاسيم ضاحي بن وليد الجديدة، ص 14.
المصدر نفسه، ص36.
المصدر نفسه، ص3.
انظر: قراءة نقدية في قصيدة حياة، ص58
تقاسيم ضاحي بن وليد الجديدة، 36.
مخطوطات غيث بن اليراعة، ص141.
المصدر نفسه، ص 19.
انظر:دلالة الإضمار ولا وعي الصورة المهمشة في شعر علي الشرقاوي»، في علي الشرقاوي، دراسات في التجربة والحياة، ص ص 58،59.
كتاب الشين، 14.
حياة الخياري، «الحرف والكيمياء والحداثة: لذة الكتابة آناء كتابة اللذة،مجلة فصول، العدد 94 صيف 2015، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،ص 65.
انظر: دلالة الإضمار ولا وعي الصورة المهمشة في شعر علي الشرقاوي»، في علي الشرقاوي، دراسات في التجربة والحياة، ص ص 68_69.
كتاب الشين،ص 8.
المصدر نفسه، 117.
دلالة الإضمار ولا وعي الصورة المهمشة في شعر علي الشرقاوي»، في علي الشرقاوي، دراسات في التجربة والحياة، ص 81.
الغاجاراشا، ملحمة الغجر، المقدمة.
الغاجاراشا، ملحمة الغجر، المقدمة.
الغاجاراشا، ص 26.
الغاجاراشا، ص 33.
الغاجاراشا، ص 242.
المصادر والمراجع:
– الشرقاوي، علي، تقاسيم ضاحي بن وليد الجديدة، ط1، البحرين، نوفمبر 1982.
– الشرقاوي، علي، مخطوطات غيث بن اليراعة، ط1، المنامة، المطبعة الشرقية،
1989.
– الشرقاوي، علي، كتاب الشين، الطبعة الأولى، البحرين، منشورات نون، يوليو 1998.
– الشرقاوي، علي، الغاجاراشا، ملحمة الغجر، ط1، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت، 2016.
– الخياري، حياة، «الحرف والكيمياء والحداثة: لذة الكتابة آناء كتابة اللذة، مجلة فصول، العدد 94، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2015.
دوس، فرانسوا. التاريخ المفتّت، من الحوليات إلى التاريخ الجديد، ترجمة: حمد الطاهر المنصوري، ط1، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009.
– العدواني، معجب، القراءة التناصيّة الثقافيّة، ط1، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2019.
– فيدوح، عبدالقادر، «دلالة الإضمار ولا وعي الصورة المهمشة في شعر علي الشرقاوي»، من كتاب علي الشرقاوي، دراسات في التجربة والحياة، ط1، دار أفكار للثقافة والنشر، البحرين، 2017.
– الهاشمي، علوي، قراءة نقدية في قصيدة حياة، تقاسيم ضاحي بن وليد الجديدة للشاعر علي الشرقاوي، ط2، البحرين، أسرة الأدباء والكتاب، 2006.
- White, Hayden.”New Historicism.A Comment in H.Aram Veeser.The New Historicism. New York.London:1989, pp. 293-202